الزائرون

دلفت ملدريد إلى المطبخ، وألقت نظرة على الساعة التي أشارت عقاربها في ذلك الحين إلى الثانية إلا خمس دقائق، وكانت تظن قبل دخولها أنها ستشير على الأقل إلى الثانية والنصف. جاء ولفريد من الباب الخلفي عبر حجرة الغسيل وقال: «أليس من المفترض أن تكوني بالخارج لمؤانستهم؟»

كانت جريس زوجة أخيه ألبرت وأختها فيرا جالستَين تستظلان بظل سقيفة مرأب السيارة تصنعان مفارش كروشيه للمائدة، وكان ألبرت بالخارج خلف المنزل جالسًا إلى جوار رقعة من الأرض زرعها ولفريد فاصوليا وطماطم وخيارًا، وكل نصف ساعة كان ولفريد يذهب إلى الأرض ليرى أي الطماطم ناضجة بالقدر الكافي لقطفها، فكان يقطفها قبل أوانها ويضعها على عتبة نافذة المطبخ كي لا تصل إليها الحشرات.

قالت ملدريد وهي تصب لنفسها كأسًا من الماء: «كنتُ معهم بالفعل.» وأردفت بعد أن تجرعت كأس الماء: «وربما أصحبهم في جولة بالسيارة.»

«فكرة سديدة.»

«كيف حال ألبرت؟»

كان ألبرت قد أمضى معظم ساعات نهار أمس — أول أيام الزيارة — مستلقيًا على الفراش.

«لا أعرف.»

«إن كان مريضًا فسيقول بلا شك.»

قال ولفريد: «هذه هي طبيعته، وهذا ما لا يعترف به قطُّ.»

كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها ولفريد أخاه منذ أكثر من ٣٠ عامًا.

كان ولفريد وملدريد متقاعدَين عن العمل، وكان بيتهما صغيرَ الحجم بما لا يتناسب مع حجميهما، لكنهما انسجما مع المكان بسلاسة. لديهما مطبخ لا تزيد مساحته عن الرواق بكثير، وحمامٌ حجمه متوسط تقريبًا، وغرفتا نوم تمتلئان عن آخِرهما إذا وُضِعَ في كلٍّ منهما سرير كبير ومنضدة زينة، وغرفةُ معيشة تحوي أريكة كبيرة على بُعد خمسة أقدام من تليفزيون كبير، مع طاولة منخفضة في حجم التابوت بين الأريكة والتليفزيون، وشرفةٌ خارجية صغيرة ومغلَقة بألواح زجاجية.

وضعت ملدريد طاولةً في الشرفة الخارجية لتقديم الوجبات عليها للزائرين، وعادةً ما تتناول هي وولفريد الطعام على الطاولة الموضوعة أسفل نافذة المطبخ. إذا قام أحدهما وتجوَّل في المكان، فدائمًا ما لا يبارح الثاني مكانه. كان من المستحيل أن يعيش خمسة أشخاص في هذا المكان، حتى لو كان ثلاثة منهم نحفاء نحافة هؤلاء الزائرين.

من حُسن الطالع أن الشرفة الخارجية تحوي أريكة تُفرَد إلى سرير، وكانت فيرا — أخت زوجة أخيه — تنام عليها. وقد كان حضور فيرا مفاجأةً بالنسبة لملدريد وولفريد؛ فعندما كان ولفريد يتحدث عبر الهاتف في المكالمة التي علم فيها بشأن الزيارة (فبحسب زعمه، لم يكتب أحد من أفراد عائلته خطابًا قط) — وكما قال هو — لم يأتِ أحد على ذِكر أخت زوجة أخيه، بل تعلَّق الأمر كله بزيارة ألبرت وزوجته وحسب. ظنت ملدريد أن ولفريد ربما لم ينتبه أثناء المكالمة لأنه كان متحمسًا جدًّا. وعندما كان ولفريد يتحدث مع ألبرت عبر الهاتف من لوجان بأونتاريو إلى إلدر بساسكاتشوان، ويتلقى نبأ زيارة أخيه، غمره شعورٌ بالسعادة وطفق يُعرِب عن حفاوته ودهشته وطمأنته لأخيه.

صاح عبر الهاتف: «تعالَ على الفور، يمكننا استضافتك ما شئتَ، لدينا متَّسَع كبير. ستسعدنا استضافتك، ولا تعبأ بتذاكر العودة. تعالَ إلينا واستمتع بالصيف.» ولعل في تلك الأثناء بينما كان يُعرِب عن حفاوته الشديدة تكلَّمَ ألبرت عن أخت زوجته.

قال ولفريد على سبيل المزاح، عندما التقى جريس وفيرا لأول مرة: «كيف تميِّز بينهما؟ أم أنك تعاني دائمًا؟»

قال ألبرت دون أن ينظر إليهما: «إنهما ليستا توءمَين.» وكان ألبرت قصير القامة نحيلًا يرتدي ملابس داكنة بدا فيها وكأنه يزن أكبر من وزنه الحقيقي كالأيكة الكثيفة، وكان يرتدي ربطة عنق صغيرة وقبعةً كقبعة رعاة البقر، لكن هذه الأشياء كلها لم تُضْفِ عليه مظهرًا أنيقًا؛ وكانت وجنتاه الشاحبتان متدليتَين على جانبَي ذقنه.

قالت ملدريد بودٍّ للسيدتين النحيلتين الشَّيباوين اللتين كان النمش منتشرًا في بشرتيهما: «إن الشبه بينكما كبير.» وأخذت تفكِّر فيما يمكن أن تفعله الأراضي الزراعية ببشرة السيدات؛ فشعرت بالتباهي بجمال بشرتها الذي عوَّضَها عن سمنتها. وقبل الزيارة كانت قد وضعت صبغة مؤقتة على شعرها جعلته يميل إلى اللون الذهبي، وارتدت سروالًا فاتح اللون وبلوزة تتماشى معه، وكانت جريس وفيرا ترتديان ثوبين لهما ثنيات فضفاضة على صدريهما غير الممتلئين، وسترتين صيفيتين. «الشبه بينكما كبير، أكبر من الشبه بين زوجي وأخيه.»

كانت على حق، فولفريد له رأس كبير وبطن ضخم بارز، ووجه قلق ومتحمس، وتعبيرات وجه متقلبة، ويبدو كرجل يعشق المزاح والدردشة، وهكذا كان فعلًا.

قال ولفريد: «من حُسن الحظ أنكم جميعًا نحفاء، يمكنكم جميعًا النوم في سرير واحد، وبالطبع سينام ألبرت في المنتصف.»

قالت ملدريد ملتفتة إلى فيرا: «لا تعيروه بالًا، لدينا أريكة رائعة تُفرَد إلى سرير إذا لم يكن لديكِ مانع من النوم في الشرفة الخارجية. الشرفة لها مصراع على نوافذها، وتهب عليها أرَقُّ النسمات من جميع الجهات.»

لا أحد يعلم إن كانت الأختان قد استوعبتا من الأساس مزحة ولفريد.

قال ألبرت: «لا بأس بذلك.»

ولأن ألبرت وجريس ناما في الغرفة الاحتياطية التي عادةً ما كانت ملدريد تنام فيها؛ اضطُر ملدريد وولفريد أن يتشاركا سريرًا كبيرًا، ولم تكن هذه عادتهما. وفي الليل، راوَدَ ولفريد أحد أحلامه المروعة التي كانت سببًا في انتقال ملدريد إلى الغرفة الاحتياطية من الأساس.

صرخ ولفريد مذعورًا: «امسك!» هل كان على متن قارب البحيرة يحاول أن يسحب غريقًا من الماء؟

«ولفريد، استيقِظْ! كفاك صياحًا وبثَّ رعب في قلوبنا.»

قال ولفريد: «أنا مستيقظ، لم أكن أصيح.»

«إذنْ أنا من كان يصيح!»

كانا مستلقيَين كلٌّ على ظهره. تنهَّدَا بعمق، ثم أدار كلٌّ منهما ظهره للآخَر، وأمسك كلاهما برفق — ولكن بإحكام — بالغطاء العلوي وهما يستديران.

قالت ملدريد: «أليست الحيتان هي التي تعجز عن التقلُّب عندما تصل إلى الشاطئ؟»

قال ولفريد وكلٌّ منهما يولي الآخر ظهره: «ما زال بإمكاني التقلُّب، لعلكِ تظنين أن هذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع القيام به.»

«لا تتحرك من مكانك، فكلهم يسمعوننا.»

في الصباح سألتهم: «هل أيقظكم ولفريد من نومكم؟ فهو لا يكفُّ عن الصراخ في نومه.»

أجابها ألبرت: «لم أخلد إلى النوم على أية حال.»

•••

خرجت ملدريد ودَعت السيدتين إلى ركوب السيارة. قالت: «سنقوم بجولة بالسيارة، وننعم بالنسيم البارد في ظل هذا القيظ.» جلست السيدتان بالمقعد الخلفي لأنه لم تكن هناك فسحة بالأمام حتى لسيدتين نحيلتين مثلهما.

قالت ملدريد بمرح: «أنا السائق الخاص لكما! إلى أين تودان الذهاب جنابكما؟»

قالت إحداهما: «إلى أي مكان يطيب لك.» عندما لا تكون ملدريد تنظر إليهما فإنها لا تستطيع الجزم أيهما تتحدث.

جالت بهما حول وينتر كورت وطريق تشيلسي درايف لمشاهدة البيوت الجديدة بمناظرها الطبيعية البديعة ومسابحها، وبعدها صحبتهما إلى نادي الصيد والألعاب الرياضية حيث شاهَدْنَ طيور الزينة وعائلة الغزلان وحيوان الراكون، والقط بوبكات البري الحبيس. شعرت ملدريد بالتعب وكأنها قادت سيارتها إلى تورونتو، وأحَسَّتْ بالحاجة إلى شيء يُنعِشها ويُعِيد لها طاقتها، فاتجهت بالسيارة إلى ذاك المكان الواقع على الطريق السريع لشراء الآيس كريم. طلبت الأختان مخروطين صغيرين بمذاق الفانيليا، أما ملدريد فطلبت مخروطًا من نكهتين؛ الزبيب بالرُّم وكريمة اللوز. جلسْنَ حول طاولة من طاولات التنزه الخلوية يلعقن الآيس كريم وينظرن إلى حقل ذرة.

قالت ملدريد: «يزرعون الكثير من الذرة في هذه الأنحاء.» كان ألبرت يعمل مديرًا لصومعة حبوب تعمل بالآلات قبل أن يُحَال للتقاعد؛ ولذا افترضت ملدريد أن المحاصيل ربما تثير اهتمامهما. «هل يزرعون الكثيرَ من الذرة غربًا؟»

فكَّرَتا في الأمر، وقالت جريس: «حسنًا، ليس كثيرًا.»

قالت فيرا: «كنتُ أتساءل.»

قالت ملدريد بمرحٍ: «عمَّ تتساءلين؟»

«تُرَى هل عندكم كنيسة خمسينية هنا في لوجان؟»

ركبن السيارة مرة أخرى، وبعد أن ضللن الطريق لبعض الوقت، عثرن على الكنيسة الخمسينية. لم تكن واحدة من أجمل الكنائس في المدينة، كانت بناية عادية من أحجار إسمنتية، مطلية أبوابها وأُطُر نوافذها باللون البرتقالي، ومُعلَّقةً عليها لافتةٌ باسم الكاهن وأوقات إقامة القداس. ولم تكن هناك أية أشجار ظليلة على مقربة من الكنيسة، ولا شجيرات أو أزهار، بل ساحة جافة. ربما يذكِّرهما هذا المشهد بمدينة ساسكاتشوان.

قالت ملدريد وهي تطالع اللافتة: «الكنيسة الخمسينية. هل هذه هي الكنيسة التي تترددون عليها؟»

«نعم.»

«لا نتردد أنا وولفريد على الكنيسة، وإذا ذهبنا، أعتقد أننا سنقصد الكنيسة المتحدة. هل تودان الترجُّل والتحقق مما إذا كانت مفتوحة أم لا؟»

«كلا.»

«إذا كانت مغلَقة، يمكن أن نحاول البحث عن الكاهن. إنني لا أعرفه شخصيًّا، لكنني لا أعرف الكثيرين من سكان لوجان على أية حال، أعرف فقط الذين يلعبون البولينج، والذين يلعبون الورق في رابطة المحاربين البريطانيين. خلاف ذلك لا أعرف الكثير. هل تحبَّان أن نذهب لرؤية الكاهن؟»

أجابتا بالنفي، فكَّرَتْ ملدريد في الكنيسة الخمسينية، وظنت أنها الكنيسة التي يتكلم فيها الناس بالألسنة، ففكرت في الاستفادة من قضاء عصر ذلك اليوم معهما والتأكد من ظنها؛ لذا فقد سألتهما: هل هذا صحيح؟

«نعم، هذا صحيح.»

«ولكن، ما الألسنة؟»

خيم الصمت عليهما لحظة ثم قالت إحداهما بصعوبة: «إنه صوت الرب.»

قالت ملدريد: «يا إلهي!» أرادَتْ أن تسهب في أسئلتها — هل كانتا تتكلمان بالألسنة أيضًا؟ — لكنهما أشعرتاها بالتوتر، وكان من الواضح أنها أصابتهما بالتوتر أيضًا. تركتهما تتطلعان إلى الكنيسة لدقائق معدودة، ثم سألتهما ما إذا كانتا قد اكتفَتَا، فجاء ردهما بالإيجاب وشكرتاها.

•••

فكَّرَتْ ملدريد في أنها لو كانت قد تزوَّجَتْ من ولفريد في شبابهما، لعرفت أكثر عن عائلته وما تتوقعه من أفرادها. ملدريد وولفريد تزوَّجَا وكلٌّ منهما في أواخر مرحلة منتصف العمر، بعد فترة من التودُّد لم تتجاوز ستة أسابيع، ولم يكن قد سبق لهما الزواج من قبلُ؛ فقد كان ولفريد كثير الترحال، أو هكذا زعم. كان يعمل على قوارب البحيرة وفي معسكرات معالجة الأخشاب، وساعد في بناء البيوت وضَخِّ الغاز وتقليم الأشجار، وامتد عمله من كاليفورنيا وحتى يوكون، ومن الساحل الشرقي إلى الغرب. أمضت ملدريد معظم حياتها في مدينة ماكجو التي تبعد عن لوجان حيث تعيش حاليًّا مسافة ٢٠ ميلًا، وكانت ابنة وحيدة، وتلقَّتْ دروسًا في الرقص الإيقاعي (الكلاكيت)، ثم أُرسِلت للدراسة في كلية إدارة الأعمال، ومن كلية إدارة الأعمال انتقلت للعمل في مصنع تول شو في مدينة ماكجو، وسرعان ما أمست حبيبة السيد تول صاحب المصنع، وظلَّتْ على علاقة به.

وفي الأيام الأخيرة من حياة السيد تول قابلت ملدريد ولفريد. كان السيد تول محتجزًا في مستشفى الأمراض النفسية المطل على بحيرة هورون، وكان ولفريد يعمل حارسًا هناك. كان السيد تول يبلغ من العمر اثنين وثمانين عامًا، ولم يكن يستطيع التعرُّف على ملدريد، لكنها واظبت على زياته على أية حال، وكان يناديها باسم سادي، وهو اسم زوجته. كانت زوجته قد قضت نحبها آنذاك، لكنها كانت على قيد الحياة عندما كان السيد تول وملدريد يخرجان في نزهات ويقيمان بالفنادق معًا، ويقضيان أوقاتهما في الكوخ الذي اشتراه السيد تول لملدريد على شاطئ أمبرلي، وخلال الفترة التي عرفته فيها، لم تسمعه يتكلم قطُّ عن زوجته سوى بطريقة جافة وبنفاد صبر. والآن، وهو في المستشفى، كان عليها أن تسمعه وهو يقول لسادي إنه يحبها، ويطلب منها أن تغفر له. وإذ تظاهَرَتْ بأنها سادي، قالت ملدريد إنها سامحته. كانت تخشى أن يزِلَّ لسانه باعترافٍ ما عن امرأة سوقية داعرة اسمها ملدريد، ومع ذلك، لم تكفَّ عن زيارته. لم يكن قلبها ليسمح لها بأن تتخلى عنه، كانت هذه مشكلتها دائمًا. ولكن عندما يظهر الأبناء أو البنات أو أخوات سادي، كان يتعين عليها أن تختفي، ولمَّا فُوجِئت بأحدهم ذات مرة، اضطُرَّت أن تطلب من ولفريد أن يساعدها على الخروج من مخرج خلفي، وبعد أن تسلَّلَتْ، جلست على حجر إسمنتي إلى جوار الباب الخلفي ودخنت سيجارة، وسألها ولفريد عمَّا ألمَّ بها من خطب. كانت مستاءة، ولم يكن لديها أحد في ماكجو تفضي إليه بمكنون صدرها، فأخبرته بما حدث، بل وأطلعته حتى على الرسالة التي تلقَّتْها من أحد المحامين يطلب فيها منها إخلاء كوخ أمبرلي. وطوال الفترة التي قضتها مع السيد تول كانت تحسب أن الكوخ باسمها، لكنه لم يكن كذلك.

انحاز لها ولفريد، وعاد إلى الداخل ليتجسس على عائلة السيد تول التي جاءت لزيارته، وأخبرها أنهم جلسوا يحدقون في العجوز المسكين كالغربان الواقفة على سياج. لم يوضِّح لملدريد ما كانت تعرفه بالفعل: أنها كان يجب أن تضع في اعتبارها السيناريو الأسوأ الذي كان على وشك الحدوث. هي نفسها قالتها.

«كان عليَّ الاختفاء من حياته عندما كان ذلك في صالحي، حين كنت لا أزال أملك بعض المميزات.»

قال ولفريد بعقلانية: «لا بد أنك كنت تهيمين به عشقًا.»

أجابته ملدريد بحزن: «لم يكن حبًّا قط.» تجهَّمَ ولفريد وشعر بحرج شديد. فأحَسَّتْ ملدريد أنها يجب ألَّا تسترسل، ولم تستطِع أن تشرح على أية حالٍ السرَّ وراء افتتانها بالسيد تول خلال الفترة التي كان فيها أحسن حالًا، عندما كانت حاجته لها ماسة لدرجةٍ جعلتها تظن أنه سيغير مسار حياته تمامًا من أجلها.

زهقت روح السيد تول في منتصف الليل. اتصل ولفريد هاتفيًّا بملدريد في السابعة صباحًا ليُعلِمها بنبأ وفاته.

قال لها: «لم أُرِدْ أن أُوقظَكِ، لكنني أردتُ أن تعرفي الخبر قبل أن تسمعيه على الملأ.»

وبعدها دعاها لتناول العشاء معه في أحد المطاعم، ولأنها كانت معتادة على السيد تول وآدابه، دُهشت من سلوكيات ولفريد على المائدة. أحست بتوتره؛ فقد انزعج لأن النادلة لم تحضر كئوس الماء. قالت له ملدريد إنها ستستقيل من عملها، وإنها تريد أن تبعد عن ماكجو، وربما ينتهي بها المقام إلى الغرب.

قال ولفريد: «ولِمَ لا ينتهي بك المقام في لوجان؟ لديَّ بيت هناك. إنه ليس بالبيت الكبير، لكنه يسع شخصين.»

فاستوعبت الموقف كله؛ توتره الشديد، واستياءه من النادلة، وتصرفاته الحنونة معها، الأمر كله مرتبط بها. سألته إنْ سبق له الزواج من قبلُ، وإلا فلِمَ لَمْ يتزوج؟

قال إنه كان مشغولًا دومًا وكثير الترحال، وإضافةً إلى ذلك، ليس من السهل أن يلتقيَ المرء بامرأة طيبة القلب. كانت على وشك التأكد مما إذا كان يعي الموقف كاملًا، وتوضِّح له أنها لم تتوقَّع شيئًا من وصية السيد تول (وبالفعل لم تحصل على شيء)، لكنها استشَفَّتْ في آخِر لحظة قبل أن تقول شيئًا أن ولفريد من الرجال الذين يشعرون بالإهانة من أمر كهذا.

وبدلًا من ذلك قالت: «أتعرف أنك لن تكون أول مَن يطارحني الغرام؟»

أجابها: «كفى، لن نتطرق إلى هذا الموضوع بالبيت أبدًا، اتفقنا؟»

وافقت ملدريد، وسرها رؤية تحسُّنٍ سريع في سلوكه تجاه النادلة، بل إنه في الحقيقة تجاوز توقعاتها حيث اعتذر إليها عن نفاد صبره منذ قليل، قائلًا إنه عمل في مطعم في فترة من الفترات، وأخبرها عن مكان المطعم الذي كان يعمل به؛ على طريق ألاسكا السريع. ووجدت الفتاة صعوبةً في التملص منه لتقديم القهوة لروَّاد المطعم الآخرين.

ولمْ يطرأ تحسُّن آخَر على آداب ولفريد على المائدة. وخمَّنَتْ ملدريد أن هذه واحدة من خصاله — كعازب — التي يتعيَّن عليها أن تتكيف معها.

قالت ملدريد: «من الأفضل أن تُطلِعَني على مكان ولادتك وغيره من معلومات.»

قال لها إنه وُلد في مزرعة ببلدة هوليت، لكنه رحل عنها بعد ثلاثة أيام من ولادته.

قال ضاحكًا: «كثير الأسفار!» ثم ترك الهزل، وأخبرها أن أمه ماتت خلال ساعات من ولادته، وأن خالته هي التي تعهَّدَتْه بالرعاية. وكانت خالته متزوجة من رجل يعمل بالسكك الحديدية، وكانوا كثيري الانتقال، وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره تُوفِّيت خالته. ثم تطلَّعَ إليه زوج خالته سائلًا: «إنك لفتًى ضخم الجثة، ما مقاس حذائك؟»

أجاب ولفريد: «تسعة.»

«إذنْ فأنت كبير بالقدر الكافي لتكسب قوت يومك بنفسك.»

قال ولفريد: «كان لديه هو وخالتي ثمانية من الأطفال؛ فلا لومَ عليه.»

«هل لديكَ أي إخوة أو أخوات في عائلتك الأصلية؟» طرحت ملدريد عليه هذا السؤال وهي تفكر بأريحية في حياتها الخاصة وما كانت عليه منذ زمن بعيد؛ صورة أمها وهي تمشِّط شعرها المجعد في الصباح، والهرة الصغيرة بانسي التي اعتادت أن تُلبِسها ملابس دميتها، وتضعها في عربة الدمية وتطوف بها حول البناية.

«كانت لديَّ أختان متزوجتان أكبر مني، لكنهما تُوفِّيتا. ولي أخ وحيد انتقل للعيش في ساسكاتشوان، يعمل مديرًا لصومعة حبوب تعمل بالآلات. لا أعرف كم يكسب من عمله هذا، لكن أتخيل أن عمله مجزٍ؛ فقد التحق بكلية إدارة الأعمال مثلك تمامًا، وهو مختلف عني كثيرًا.»

•••

في اليوم الذي قضاه ألبرت في الفراش، أراد إسدال الستائر، ورفض الذهاب إلى الطبيب. لم يفهم ولفريد منه ما الخطب، بينما قال ألبرت إنه متعب وحسب.

قالت ملدريد: «لعله متعب، فَلْندعه يسترِحْ.»

لكن ولفريد ظل يتردد على الغرفة الاحتياطية التي يستلقي فيها أخوه جيئة وذهابًا طوال اليوم، يتكلم ويدخِّن ويسأل ألبرت عن حاله. أخبر ألبرتَ أنه عالج نفسه من صداع نصفي لَعِين بتناول كُرَّاث طازج من البستان في الربيع، فقال ألبرت إنه لا يعاني من الصداع النصفي، حتى إن كان يود إسدال الستائر. وأضاف أنه لم يُصَبْ قطُّ بصداع قوي طوال حياته، ففسَّرَ له ولفريد أنه قد يصاب بصداع نصفي دون أن يعرف — أي دون أن يشعر بألم فعلي — ولذا فربما أن هذا هو ما يعانيه ألبرت، فأجابه ألبرت أنه لا يفهم كيف يمكن أن يحدث ذلك.

في فترة مبكرة من ظهيرة ذلك اليوم، سمعت ملدريد ولفريد يُحدِث جلبة ببحثه عن شيء في حجرة الملابس، ثم خرج منها وناداها.

«ملدريد! ملدريد! أين زجاجة الخمر تكساس؟»

«في البوفيه.» أجابته وأخرجتها له كي لا يفتِّش في الأواني الخزفية الخاصة بأمها. كانت داخل صندوق طويل مزيَّن بنقش ذهبي بارز وعليه وسام جوقة الشرف. حملها ولفريد معه إلى غرفة النوم، ووضعها على منضدة الزينة كي يراها ألبرت.

«ما هذه في رأيك؟ وكيف تراني حصلت عليها؟»

كانت زجاجة من الويسكي سعة جالون تحتوي على نسبة ٧٠٪ كحولًا، فاز بها ولفريد في بطولة رمي الأسهم في أوين ساوند التي أقيمت في فبراير منذ ثلاث سنوات. وصف ولفريد الرحلة المروعة من لوجان إلى أوين ساوند حيث كان يقود السيارة بنفسه، وظلَّ أعضاء الفريق يطلبون إليه التوقُّفَ عند كل مدينة يصلون إليها، وألَّا يحاول أن يمضيَ قدمًا. وهبَّتْ عاصفة ثلجية قوية من جهة بحيرة هورون، فغطتهم الثلوج وأحاطت بهم إحاطةَ السوار بالمعصم، وظهرت شاحنات وحافلات أمام أعينهم على حين غرة وراء السديم الأبيض، ولم يكن هناك مجال للمناورة لأن الطريق كان محاطًا بتراكمات جليدية بطول ١٠ أقدام. ظل ولفريد يقود السيارة عاجزًا عن الرؤية وهو يشق طريقه عبر الدروب المنحدرة والثلج المتراكم. وأخيرًا، على الطريق السريع رقم ٦، ظهر ضوء أزرق أمامه، ضوء أزرق دوَّار، منارة، ضوء إنقاذ؛ لقد كانت جرافة الثلج تسير أمامهم، وكانت الثلوج تعود لتغطيَ الطريق بالسرعة نفسها التي تزيحه بها الجرافة تقريبًا، ولكن من خلال السير على مقربة من الجرافة، تمكنوا من الوصول سالمين إلى أوين ساوند، وهناك شاركوا في البطولة، وحقَّقُوا الفوز.

سمعت ملدريد ولفريد يسأل أخاه: «هل سبق أن مارست لعبة رمي الأسهم من قبلُ؟»

قال ألبرت: «كقاعدة عامة، لعبة رمي الأسهم تُمارَس في الأماكن التي تقدِّم الخمور، وكقاعدة عامة، لا أرتاد هذه الأماكن.»

«حسنًا، هذا الذي أمامك خمر، لكنني لا أفكر في احتسائه أبدًا، وإنما أحتفظ به ليذكِّرني بشرف الفوز.»

•••

خلال الزيارة، اتخذت جلستهم نمطًا منتظمًا؛ ففي فترة الظهيرة، اعتادت جريس وفيرا الجلوس في مرأب السيارة، تحيكان مفارش كروشيه للطاولة، وكانت ملدريد تجلس معهما بين الحين والآخَر. أما ألبرت وولفريد، فكانا يجلسان وراء البيت إلى جوار الخضراوات. وبعد العشاء، يجلسون معًا في الخارج في إضاءة خافتة بعد نَقْل كراسيهم إلى المرج الموجود أمام أحواض الزهور. وتواصل جريس وفيرا حياكتهما طالما كان بإمكانهما الرؤية بوضوح.

أُعجِب ولفريد بالكروشيه.

«بكم تبيعان المفرش الواحد؟»

قال ألبرت: «بمئات الدولارات.»

قالت جريس: «إنها تباع لصالح الكنيسة.»

قال ولفريد: «كانت بلانش بلاك أبرع سيدة تصنع المشغولات بالكروشيه، وأكفأ خيَّاطة عرفتها في حياتي، وأفضل مَن أمسك بالإبرة لصنع المشغولات من أي نوع، وأكثر الطاهيات كفاءةً.»

قالت ملدريد: «يا له من اسم!»

«كانت تعيش في ولاية ميشيجان. كان ذلك عندما مللت العمل على متن القوارب، وحصلت على وظيفة هناك في مزرعة. وكانت تستطيع أن تصنع الألحفة أو أي شيء من هذا القبيل، وتخبز الخبز والكعك الشهي وأي شيء، لكنها في الواقع لم تكن جميلة الشكل ولا متسقة القوام.»

بعد ذلك أُلقيت على مسامع الزائرين قصة سبق أن سمعتها ملدريد من قبل، كان يقصها ولفريد كلما أثير حديث عن الفتيات الجميلات والفتيات غير الجميلات، أو الخبز أو حفلات جمع التبرعات، أو الغرور. قصَّ ولفريد أنه هو وصديق له ذهَبَا لحضور واحد من حفلات جمع التبرعات التي تُباع فيها علب الطعام، حيث يزايد المرء على علبة أثناء وقت مستقطع من الرقص، وكانت العلب تحتوي على طعام الغداء، وكان مَن يرسو عليه المزاد يتناول الطعام بصحبة الفتاة التي أعَدَّت الطعام الموجود في العلبة. أحضرت بلانش بلاك غداءً في علبة، وكذا فعلت فتاة جميلة تُدعَى الآنسة بيوكانن، فتسلل ولفريد وصديقه إلى الغرفة الخلفية، وقاما بتبديل غلافَي العلبتَين، ولمَّا حان وقت المزايدة، زايد رجل يُدعَى جاك فليك — كان شديد الغرور بنفسه ومفتونًا بالآنسة بيوكانن — على العلبة التي ظن أنها لبيوكانن، بينما زايد ولفريد وصديقه على العلبة التي حسبها الجميع لبلانش بلاك، وأُعطِيت العلبتان للمزايدين، ومما صدم جاك فليك اضطراره مجالسة بلانش بلاك، أما ولفريد وصديقه فكانت الآنسة بيوكانن من نصيبهما، وبعدها تطلَّع ولفريد في العلبة فلم يجد فيها سوى شطائر مدهونة بمعجون وردي اللون.

«وحينها ذهبتُ إلى جاك فليك واقترحتُ عليه أن يبادلني الغداء والفتاة. لم أُقدِم على هذه الخطوة طمعًا في الطعام وحسب، بل لأنني رأيت كيف كان سيعامل هذه الفتاة المسكينة، فوافق هو على الفور، وجلسنا معها. أكلنا دجاجًا محمَّرًا، ولحمًا مدخنًا وبسكويتًا، وشطيرةً بالبلح. لم آكل في حياتي كما أكلت يومها. كما كانت تخفي في أسفل العلبة قارورة ويسكي صغيرة؛ وعليه جلست وتناولت الطعام واحتسيت الويسكي ناظرًا إلى جاك وهو يتناول الشطائر المدهونة.»

لا بد أن ولفريد شرع في سرد قصته تقديرًا للسيدات اللائي جعلتهن مهارتهن في الحياكة بالكروشيه أو الخبز أو خلاف ذلك يتفوَّقْنَ على غيرهن ممَّن يتمتعن بالجمال، لكن ملدريد لم تعتقد حتى أن جريس وفيرا يطيب لهما تصنيفهما ضمن فئة أمثال بلانش بلاك التي لم تكن جميلة، كما أن ذِكْره قارورة الويسكي كان خطأً منه. كما كان خطأً أثَّر عليها هي سلبًا؛ إذ أخذت تفكِّر كم هي بحاجة إلى احتساء شراب في هذه اللحظة، وسرحت بخيالها في كل أشكال الخمور التي يمكن أن يتخيَّلها إنسان؛ أولد فاشوند، وبراون كاو، وبينك ليدي.

قال ولفريد: «من الأفضل أن أذهب وأتفقد مكيف الهواء لعلِّي أستطيع إصلاحه، سنموت من الحر الليلة إن لم أصلحه.»

ظلت ملدريد جالسة، وفي البناية المجاورة كان هناك ضوء أزرق ينبعث من جهاز يُصدر صوتًا عاليًا يشبه الصرير، ويصيد الحشرات.

قالت: «أعتقد أن هذه الأجهزة تُحدِث فارقًا في مكافحة الحشرات.»

قال ألبرت: «إنها تشويهم.»

«لكن ضجيجها يزعجني.»

حسبته لن يرد عليها، لكنه قال أخيرًا: «إذا لم تُحدِث ضجيجًا، فلن تستطيع قتل الحشرات.»

عندما عادت ملدريد إلى البيت لتصنع بعض القهوة (باعتبارها شرابًا جيدًا لا مانع لدى أبناء الكنيسة الخمسينية من احتسائه)، تناهى إلى مسامعها صوت مكيف الهواء وهو يطن. فنظرت داخل غرفة النوم، ورأت ولفريد مستلقيًا وغارقًا في النوم ومنهكًا.

«ولفريد؟»

قفز من مكانه قائلًا: «لم أكن نائمًا.»

«ما زالوا جالسين بالخارج أمام المنزل، خطر لي أن أعد القهوة.» ولم تستطِع أن تمنع نفسها من إضافة: «يسعدني أن العطل الذي كان بمكيف الهواء ليس خطيرًا.»

•••

في اليوم قبل الأخير للزيارة، قرروا زيارة بلدة هوليت التي تبعد عنهم ٤٥ ميلًا ليروا المكان الذي وُلِد فيه ولفريد وألبرت. كانت هذه فكرة ملدريد، وقد ظنت أن ألبرت قد يقترح تلك الفكرة، وكانت بانتظار اقتراحه لأنها لم تُرِدْ أن ترغمه على القيام بأي شيء يشق عليه، لكنها طرحت الفكرة أخيرًا. قالت إنها ظلت تحاول لفترة طويلة أن تُقنِع ولفريد بأن يصحبها إلى ذلك المكان، لكنه قال إنه سيضل الطريق، خاصةً وأنه لم يرجع إليه منذ أن رحل عنه رضيعًا. كانت البنايات كلها قد اختفت، وكذا المزارع؛ هذا الجزء كله من البلدة تحوَّلَ إلى محمية.

جلبت جريس وفيرا مفارش الطاولة معهما لحياكتها بالكروشيه، وتساءلت ملدريد كيف لم تشعر أيٌّ منهما بالدوار وهما منكبَّتَان على الحياكة في سيارة متحركة. جلست في وسطهما في المقعد الخلفي، وشعرت بأنها منحشرة بينهما، مع أنها كانت تعلم أنها السبب في هذه الوضعية لسمنتها. وقاد ولفريد السيارة وجلس ألبرت إلى جواره.

دائمًا ما يميل ولفريد للجدال أثناء القيادة.

سأل قائلًا: «ماذا يعيب المراهنة؟ لا أعني المقامرة، لا أعني أن نذهب إلى لاس فيجاس ونُضيع كل ما نملك من مال على تلك الألعاب والماكينات. لكن الحظ يمكن أن يكون حليفك في المراهنات، فذات مرة قضيت شتاءً مجانًا في مدينة سو، فزت بنفقاته في إحدى المراهنات.»

قال ألبرت: «سو سانت ماري.»

«دائمًا ما نطلق عليها اسم سو، وقتها نزلت من على متن كاملوبس لقضاء الشتاء في المدينة؛ كاملوبس ذاك القارب العتيق المروع. وذات ليلة في الحانة، كان روَّاد الحانة يستمعون لمباراة هوكي على المذياع، كان ذلك قبل التليفزيون، وكانت النتيجة ٤ لصالح سدبري ولا شيء لسو.»

قال ألبرت: «كدنا نصل إلى المنعطف الذي سيخرجنا عن الطريق السريع.»

قالت ملدريد: «انتبه للمنعطف يا ولفريد.»

«أنا منتبه.»

قال ألبرت: «ليس هذا المنعطف، بل التالي.»

«كنت أساعدهم في الحانة، أسقي الجعة مقابل إكرامية، لأنني لم أكن أحمل بطاقة اتحاد العمال، وإذا بذلك الرجل المتبرم يسب فريق سو، فقلت إنهم ربما ينجحون في الخروج من كبوتهم والفوز بالمباراة.»

قال ألبرت: «انعطف من هنا.»

انعطف ولفريد فجأة. «قال لي الرجل: راهن على ما تدَّعيه إن شئتَ! راهن على قولك هذا! كان الرهان ١٠ مقابل ١، ولم يكن لديَّ المال، لكن صاحب الفندق حيث كانت الحانة كان رجلًا شهمًا، وكنت أمد له يد العون، فقال لي: اقبل بالرهان يا ولفريد! امضِ قدمًا، واقبل بالرهان!»

قرأَتْ ملدريد لافتة مكتوبًا عليها «محمية هوليت»، انطلقت بهم السيارة بمحاذاة مستنقع مظلم.

قالت ملدريد: «يا إلهي! المكان موحش جدًّا هنا، والمياه راكدة لا تتحرك في هذا الوقت من العام.»

قال ألبرت: «هذا هو مستنقع هوليت، يمتد لمسافة أميال.»

خرجوا من منطقة المستنقع، فأحاطت بهم من الجانبين أرض مقفرة، وتربة سوداء متقلقلة، وحفر وأشجار مقتلَعة من جذورها، كان الطريق وعرًا جدًّا.

«قال سوف أساندك، وهكذا غامرت وقبلت بالرهان.»

قرأت ملدريد لافتات الطرق الجانبية: «طريق مسدود، لا توجد أدوات صيانة لجرف الثلوج بعد هذه النقطة.»

قال ألبرت: «يجب أن ننعطف جهة الجنوب الآن.»

قال ولفريد: «الجنوب؟ حسنًا، الجنوب. وهكذا، قبلت بالرهان، أتعرفون ماذا حدث؟ صمد فريق سو وهزم سدبري ٧–٤!»

ظهرت بركة ضخمة في الأفق، وعمود برج مراقبة، ولافتة مكتوب عليها: «نقطة مراقبة الطيور البرية.»

قالت ملدريد: «طيور برية، تُرَى ماذا يمكن أن نرى هناك؟»

لم يكن ولفريد ليتوقف عن الثرثرة. «إنكِ لا تميزين بين الغراب والصقر يا ملدريد! هزم فريق سو فريق سدبري ٧–٤ وفزت برهاني. تسلَّل ذلك الرجل إلى الخارج بينما كنت منشغلًا، لكن مدير الفندق كان يعلم أين يعيش، وفي اليوم التالي حصلت على مائة دولار. وعندما استُدعيت للعودة إلى متن قارب كاملوبس، لم يكن بجيبي سوى النقود التي كانت معي عندما نزلت عن القارب قبل الكريسماس؛ وهكذا أمضيت الشتاء مجانًا في مدينة سو.»

قال ألبرت: «يبدو أن هذا هو المكان.»

سأل ولفريد: «أين؟»

«هنا.»

«هنا؟ أمضيتُ إجازة الشتاء مجانًا من رهان واحد فقط.»

انحرفوا عن الطريق ومنه إلى حارة وعرة نوعًا ما حيث رأَوْا أسهمًا خشبية على عمود. «درب هوثورن. درب شوجر بوش. درب تاماراك. ممنوع تجاوز المركبات الآلية لهذه النقطة.» أوقف ولفريد السيارة، وخرج هو وألبرت، وترجلت جريس كي تُخرِج ملدريد، ثم عادت أدراجها إلى السيارة. كانت الأسهم كلها تشير إلى الاتجاه نفسه، وحسبت ملدريد أن بعض الأطفال ربما عبثوا بها، ولم ترَ أية دروب في الأفق على الإطلاق. وها هم خرجوا من أرض المستنقعات المنخفضة ليجدوا أنفسهم محاطين بتلال صغيرة وعرة.

سألت ألبرت: «أهنا كانت مزرعتك؟»

أجاب ألبرت مشيرًا أعلى التل: «كان البيت هناك بأعلى، وكان الطريق يمتد إلى هناك، والحظيرة كانت بالخلف.»

كان ثَمَّةَ صندوق خشبي بُنِّي اللون على العمود تحت الأسهم، فتحَتْه وأخرجَتْ منه حفنة من النشرات زاهية الألوان، وتصفحتها.

«تحتوي هذه النشرات على مختلِف الدروب.»

قال ولفريد وهو يومئ برأسه باتجاه الأختين الجالستين بالسيارة: «ربما تودان قراءة شيءٍ ما طالما أنهما لن تترجلا من السيارة. ربما ينبغي عليك سؤالهما.»

قالت ملدريد: «إنهما مشغولتان.» حدَّثت نفسها أنه ينبغي أن تذهب إليهما وتقول لهما أن تفتحا النوافذ كي لا تصابا بالاختناق، لكنها قررت أن تدعهما يكتشفان الأمر بنفسيهما. كان ألبرت قد شرع في صعود التل، وتبعته هي وولفريد بمشقة وعناء عبر نبات عصا الذهب الذي لدهشتها كان أيسر في المشي عليه من الحشائش؛ فهي نباتات لا تعرقل السائر عليها، وكان لها ملمس ناعم كالحرير. كانت تعرف نباتات عصا الذهب والجزر البري، لكن ما تلك الأزهار البيضاء الصغيرة المنثورة على الأجمة الخفيضة، وتلك الأزهار الزرقاء ذات البتلات الخشنة، وهذه الأزهار القرمزية الشبيهة بالريش؟ دائمًا ما يسمع المرء عن أزهار الربيع، وعشب الحوذان والزهرة الثلاثية وأذَريُون الماء، لكن ثَمَّةَ أزهارًا كثيرة مجهولة الهوية في نهاية فصل الصيف. وكان هناك أيضًا ضفادع صغيرة تقفز من تحت أقدامهم، وفراشات صغيرة بيضاء، ومئات من الحشرات التي عجزت ملدريد عن رؤيتها، لكنها شعرت أنها تقتات على ذراعيها المكشوفتين وتلسعهما.

راح ألبرت يمشي جيئة وذهابًا على العشب، وانعطف وتوقَّفَ ونظر حوله، ثم شرع في المشي مرة أخرى، كان يحاول أن يميِّز حدود البيت. نظر ولفريد إلى العشب متجهمًا وقال: «إنهم لا يتركون لك الكثير.»

سألَتْ ملدريد بوهن: «مَن؟» واقتلعت نبات عصا الذهب لتهوِّيَ به على وجهها.

«مسئولو المحمية، لا يتركون حجرًا واحدًا من أحجار الأساس على حاله، ولا حفرة لسرداب أو طوبة أو عارضة خشبية واحدة، ينبشون كل شيء ويطمرون مكان حفرهم، ويجرون ما نبشوه بعيدًا.»

«حسنًا، أعتقد أنهم لا يستطيعون ترك كومة من الحطام فيتعثر الناس بها.»

سأله ولفريد: «أمتأكد أن هذه هي البقعة التي كان عليها البيت؟»

أجابه ألبرت: «هنا تقريبًا، وواجهته كانت جهة الجنوب. كانت البوابة الأمامية هنا.»

قالت ملدريد باهتمام يضارع ما تبقَّى لها من جهد: «لعلك واقف على عتبة المنزل يا ألبرت.»

لكن ألبرت قال: «لم يكن لدينا عتبة للبوابة الأمامية قطُّ، فهي لم تُفتَح سوى مرة واحدة بحسب ما أتذكر، وكان ذلك لنعش أمي، وحينئذٍ وضعنا بعض الكتل الخشبية على الأرض لعمل عتبة مؤقتًا.»

قالت ملدريد إذ رأت أجمة على مقربة من المكان الذي كان يقف فيه: «هذه زهرة ليلك، هل كانت تُزرَع آنذاك؟ لا بد أنها كانت تُزرَع آنذاك.»

«أعتقد أنها كانت تُزرَع.»

«هل هي بيضاء أم أرجوانية اللون؟»

«لا يمكنني الجزم.»

جال بخاطر ملدريد أن هذا هو الفارق بينه وبين ولفريد؛ فولفريد كان يعطيها إجابة لسؤالها، سواء تذكَّرَ أو لم يتذكر، كان سيقول إجابة محددة ثم يصدق ما قال. الإخوة والأخوات سر غامض بالنسبة لها؛ فها هما جريس وفيرا يتحدثان كما لو كانا فَمَيْن في رأس واحد، وها هما ولفريد وألبرت لا يربط بينهما رابط.

•••

تناولوا الغداء في مقهًى على الطريق، ولكن لم يكن المقهى مرخَّصًا، وإلا لطلبت ملدريد جعة دون أن تعبأ بصدمة جريس وفيرا فيها، أو تعبأ كيف يحدِّق ولفريد فيها؛ فقد كانت تعاني الحر الشديد بالفعل، وكان وجه ألبرت متوردًا، وعيناه تلمعان بنظرة تشع تركيزًا، وبدا ولفريد مشاكسًا.

قال ألبرت: «كان هذا المستنقع أكبر بكثير، لقد جففوه.»

قالت ملدريد: «كي يستطيع الناس الوصول إلى هذا المكان والتمشية ورؤية أشياء مختلفة.» كانت لا تزال تحمل النشرات الخضراء والصفراء في يدها، فبسطتها وعاينتها.

قرأت فيها: «صيحات صاخبة، وصرخات، وأصوات صرير يتردد صداها في هذه الأجمة. هل تميِّز أيًّا من هذه الأصوات؟ معظمها يصدر عن الطيور.» وتساءلت: عمَّن غير الطيور يمكن أن تصدر إذن؟

قال ألبرت: «خاض رجل في مستنقع هوليت وظل هناك.»

أحدث ولفريد فوضى عارمة بصلصة الطماطم وصلصة مرق اللحم، ثم غمس البطاطس فيها بأصابعه.

وتساءل: «إلى متى ظل هناك؟»

«إلى الأبد.»

سأل ولفريد مشيرًا إلى البطاطس المقلية في طبق ملدريد: «هل ستتناولين هذه؟»

فقسَّمَتْ ملدريد البطاطس بينها وبين ولفريد، وسألت ألبرت وهي تدفع بنصف البطاطس في طبق ولفريد: «إلى الأبد؟ هل كنتَ تعرفه؟»

«لا، كان ذلك منذ فترة طويلة جدًّا.»

«هل تعرف اسمه؟»

«لويد سالوز.»

سأل ولفريد: «مَن؟»

قال ألبرت: «لويد سالوز، كان يعمل في مزرعة.»

قال ولفريد: «لم أسمع به من قبلُ.»

سألت ملدريد: «ماذا تعني أنه خاض في المستنقع؟»

«عثروا على ملابسه على قضبان السكك الحديدية، وهذا ما قالوه، إنه خاض في المستنقع.»

«وما الذي يدفعه للخوض في المستنقع عاريًا؟»

فكَّرَ ألبرت لبضع دقائق ثم قال: «ربما أراد أن يعيش لحظات مثيرة.»

«وهل ترك حذاءه أيضًا؟»

«أعتقد ذلك.»

قالت ملدريد سريعًا: «ربما انتحر، هل بحثوا عن جثته؟»

«بحثوا بالفعل.»

«أو ربما قُتِل. هل كان لديه أعداء؟ هل كان متورطًا في خطبٍ ما؟ ربما كان مدينًا أو متورطًا في مشكلة لها علاقة بفتاة.»

قال ألبرت: «لا.»

«هل عثروا على أي أثر له؟»

«لا.»

«هل كان هناك أي شخص مشتبه به بالجوار آنذاك؟»

«لا.»

قالت ملدريد: «لا بد أن هناك تفسيرًا منطقيًّا، فإذا لم يَمُتِ المرء، فلا بد أنه يواصل حياته في مكانٍ ما.»

أخرج ألبرت الهامبرجر بشوكته خارج الشطيرة ووضعه على صحنه، حيث بادر بتقطيعه إلى أجزاء صغيرة. فلم يكن قد تناول أي شيء بعدُ.

«ظن الناس أنه كان يعيش في المستنقع.»

قال ولفريد: «كان عليهم البحث في المستنقع إذن.»

«خاضوا المستنقع من الجانبين، وقالوا إنهم سيلتقون في المنتصف، لكنهم لم يلتقوا.»

سألت ملدريد: «لماذا؟»

«لا يمكنك الخوض في هذا المستنقع هكذا ببساطة، لم يكن ذلك ممكنًا آنذاك.»

سأل ولفريد بإصرار: «هل حسبوا أنه هناك إذنْ؟ هل هذا ما حسبوه؟»

قال ألبرت على مضضٍ: «أغلبهم.» فبدا الازدراء والدهشة على وجه ولفريد.

«علامَ كان يقتات؟»

وضع ألبرت سكينه وشوكته وقال بكآبة: «اللحم.»

وفجأةً، بعد أن كانت ملدريد تشعر بالحر الشديد، شعرت بقشعريرة في ذراعيها.

سألت بنبرة أكثر إذعانًا واستغراقًا في التفكير من ذي قبلُ: «ألم يرَه أحدٌ قط؟»

«زعم اثنان ذلك.»

«مَن هما؟»

«أحدهما امرأة كانت في الخمسين من عمرها عندما عرفتها، وكانت فتاة صغيرة عندما رأته. رأته عندما عادت لتجلب البقر، رأت شخصًا طويل القامة أبيض البشرة يجري وراء الأشجار.»

سأل ولفريد: «أكانت قريبة بالقدر الكافي لتميِّز إن كان رجلًا أم امراة؟»

أخذ ألبرت سؤاله على محمل الجد.

«لا أدري كم كانت قريبة.»

قالت ملدريد: «هذه أحدهما، مَن كان الآخَر؟»

«كان صَبِيًّا يصطاد، وكان هذا بعدها بسنوات. نظر لأعلى فوجد رجلًا أبيض البشرة يراقبه من الضفة الأخرى، فحسب أنه رأى شبحًا.»

سأل ولفريد: «هل هذا كل شيء؟ لم يكتشفوا ما حدث قط؟»

«نعم.»

قالت ملدريد: «أعتقد أنه ميت الآن على أية حال.»

فقال ألبرت: «مات منذ زمن بعيد.»

حدَّثَتْ ملدريد نفسها أنه لو كان ولفريد هو الذي يقص هذه القصة، لاتخذت القصة مسارًا آخَر، ولوضع لها ولفريد نهاية بشكل أو بآخَر. كان ليزعم أن لويد سالوز عاوَدَ الظهور عاريًا كيوم ولدته أمه مطالِبًا برهانه، أو أنه عاد في حلة مليونير بعد أن خدع بعض رجال العصابات الذين سلبوه أمواله. في قصص ولفريد، تأكَّدْ أن الأجزاء الكئيبة السوداوية ستفسح المجال لشيء أفضل، وإذا أتى أحدهم سلوكًا بعينه، فثَمَّةَ تفسير واضح لسلوكه دائمًا. وإذا كان ولفريد إحدى شخصيات قصصه، وهو ما يحدث عادةً، فلا بد أن يكون الحظ حليفه دائمًا بشكل أو بآخَر؛ فيفوز بوجبة شهية أو زجاجة ويسكي أو مبلغ من المال، ولكن لا الحظ ولا المال كان لهما دور في هذه القصة، فتساءلت لِمَ قصَّ عليهم ألبرت هذه القصة، ومغزاها بالنسبة له.

«ما الذي جعلك تتذكر هذه القصة يا ألبرت؟»

فور أن طرحَتْ سؤالها، أدركت أنها ما كان ينبغي أن تتكلم؛ فلم يكن الأمر يعنيها.

قالت: «أرى أن لديهم فطائرَ التفاح أو الزبيب.»

قال ولفريد بصوت أجش: «لا توجد فطائر تفاح أو زبيب في مستنقع هوليت ذاك! أنا سأتناول فطيرة تفاح.»

التقط ألبرت قطعةً من الهامبرجر البارد ثم وضعها تارةً أخرى وقال: «هذه ليست قصة، بل حدث حقيقي.»

•••

أزالت ملدريد أغطية وفُرش السرير الذي نام عليه الزائرون، ولم تفرش غيرها. واستلقت إلى جوار ولفريد في ليلتهما الأولى بمفردهما.

قبل أن تخلد إلى النوم، قالت لولفريد: «ما من شخص عاقل يذهب ليعيش في مستنقع.»

قال ولفريد: «إذا أردتِ العيش في مكان كهذا، فإن أفضل خيار سيكون الغابة حيث لن تجدي مشكلةً في إشعال النار إنْ شئتِ.»

يبدو أنه استعاد روح دعابته، لكن بكاءه أيقظها ليلًا، لم تُصَبْ بالدهشة لأنها رأته وهو يبكي من قبلُ، عادةً ليلًا. كان من الصعب أن يجزم أحد بكيفية معرفتها ببكائه؛ فهو لم يكن يُحدِث أي ضجة، ولم يكن يتحرك. لعل هذا نفسه هو الشيء غير المألوف، فقد كانت تعرف أنه مستلقٍ إلى جوارها على ظهره وعيناه مغرورقتان بالدموع التي تبلِّل وجهه.

«ولفريد؟»

فيما سبق، عندما كان يوافِق على إطلاعها على سبب بكائه، كان السبب يبدو عجيبًا جدًّا بالنسبة لها، يبدو سببًا ارتجله في لحظتها، أو مجرد سبب لا يمتُّ إلا بصلة ضعيفة للسبب الحقيقي، أو لعل هذا هو أقصى ما يستطيع التعبير عنه.

«ولفريد.»

«من المرجح أنني وألبرت لن نلتقيَ مرة أخرى أبدًا.» قالها ولفريد بصوت عالٍ دون أن تدمع عيناه، ودون أن يشيَ صوته بالرِّضَى أو الندم.

قالت ملدريد: «ما لم نذهب إلى ساسكاتشوان.» وكانا بالفعل قد تلقيا دعوةً لزيارة ساسكاتشوان، ولكنها ظنت آن ذاك أن احتمال ذهابها إلى تلك المدينة يساوي بالضبط احتمال ذهابها إلى سيبيريا.

أضافت ملدريد: «يومًا ما.»

قال ولفريد: «نعم، ربما يومًا ما.» التقط نفسًا طويلًا وبصوت عالٍ بدا علامةً على الرِّضَى، «لكنه ليس الأسبوع القادم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤