المقدمة: القصة من البداية

إن «وقائع» الأساطير غير ثابتة. (مالكولم ويلكوك، «رفيق إلى الإلياذة»)

من أين سأبدأ حكايتي، وأين سأُنهيها؟ («الأوديسة» الكتاب التاسع)

(١) البدايات

تبدأ «إلياذة» هوميروس بحرب طروادة وقد بلغت عامها العاشر. تبدأ مجموعة حلقات المسلسل التليفزيوني القصير «هيلين طروادة» (٢٠٠٣) التي كانت تُقدَّم على قنوات الكابل الأمريكية قبل ذلك بثلاثة عقود تقريبًا، بميلاد باريس (والصرخة المرتاعة المُحذِّرة من أخته، كساندرا: «اقتلوه!») يمكننا أن نعود إلى وقت أسبق، بدايةً من زواج بيليوس وثيتيس، كما تفعل قصيدة العصور الوسطى مجهولة المؤلف «سقوط طروادة»، والتي تكرِّس الربع الأول من قصتها لأخيل، بدايةً بالزواج الذي أثمر بطل حرب طروادة. يختار هيرودوت — الذي يكتب كمؤرخ في القرن الخامس قبل الميلاد — أن يبدأ باختطاف آيو (ثم اختطاف أوروبا، ومِيدِيا، وهيلين)، موضحًا كيف دخل الشرق والغرب، الفينيقيون واليونانيون «في صراع» (١٩٦٥: ١٣). يبدأ سجل داريس فريجيوس (القرن الأول الميلادي) بمغامرات جيسون وبحَّاري الأرجو (فريزر ١٩٦٦: ١٣٣-١٣٤)؛ يذكر دِكتيس الكريتي (نسبةً إلى جزيرة كريت) المعاصر لداريس، عرَضًا، أوروبا المخطوفة، ثم يبدأ قصته المحورية في الفقرة الثالثة باختطاف باريس لهيلين (فريزر ١٩٦٦: ٢٤).1 تستغرق كتب العصور الوسطى اللاحقة عن طروادة — حتى تلك التي تزعم أنها تقتفي أثر داريس أو دِكتيس أو تنقل عنهما — ما يصل إلى ثلاثة آلاف سطر لتصل إلى اختطاف هيلين، مُدونةً تاريخ تأسيس طروادة كتمهيدٍ سردي.2

من الجهة الأخرى، تُصوِّر اللوحات دومًا «اختطاف هيلين»، كما لو كانت ثمة لحظة حاسمة واحدة هي التي تسببت في الحرب. من ناحية هناك نقطة وجيهة وهي: أن اختطاف هيلين هو السبب الأخير في سلسلة من الأسباب، ذلك الذي أدى إلى نشوب الحرب، ذلك الذي — كما تقول شخصية يوليسيس للكاتب جيرودو، (في مسرحية كُتبت عشية الحرب العالمية الثانية) — أعطي «الإذن بالحرب» (١٩٥٥: ٦٩). بيْد أن سلسلة الأحداث التي تسبق لحظة الإذن هذه تقدِّم تواليًا معقدًا من العلاقات السببية.

في هذا الفصل أُرتِّب زمنيًّا الروابط في سلسلة الأحداث السببية. فعلى الرغم من أن حرب طروادة هي واحدة من أشهر قصص الملحمة الكلاسيكية، وهيلين طروادة هي الأنثى الأشهر (وصاحبة أسوأ سمعة) في تلك الحرب، فإن قصة هيلين ليست ميسورة الاستبانة ولا ذات ارتباط من ناحية التسلسل الزمني في الأدب التقليدي. فحكايتها — كحكاية حرب العشرة أعوام التي بُدِئت بهروبها (أو اختطافها) — لا توجد إلا في وقائع منفصلة. (في واقع الأمر — كما سنرى لاحقًا — هي ليست قصتها «هي»، مع أنني في الكتاب بأسره سوف أذكر «حكايات هيلين» كصيغة مختزلة ملائمة للنصوص التي تظهر فيها ظهورًا هامشيًّا رغم ذلك.) وأنا هنا أستجمع الأحداث من مصادر أدبية متعددة عبر قرون كثيرة، لأعرضها عرضًا متعاقبًا، مبتدئةً بزفاف بيليوس وثيتيس.

(٢) القصص والسياقات

كانت ثيتيس من النيريدات (إلَهَة من آلِهة البحر) وكان لدى زيوس مطامع غرامية نحوها. وكان بروميثيوس قد كشف، بعد ألف سنة من العذاب، تفاصيل نبوءة تقول بأن ثيتيس ستخلق ابنًا أقوى من أبيه،3 وعند ذلك اختار زيوس أن يُزوِّج ثيتيس للفاني بيليوس. ولأنه كان زفافًا شبه إلهي، وكان علامة على نهاية ألف سنة من النزاع بين زيوس وبروميثيوس، دُعيت آلهة الأوليمب، الذكور منهم والإناث إلى مأدبة الزفاف، باستثناء إريس (إلَهَة النزاع). ونظرًا لما اعترى إريس من استياءٍ لاستبعادها، أفسدت الاحتفالات بإلقاء تفاحة ذهبية إلى المائدة مكتوبًا عليها «للأجمل». فتنافست هيرا (زوجة زيوس)، وبالاس أثينا (ابنة زيوس) وأفروديت (عند هوميروس، هي ابنة زيوس وديون)4 على هذا الوسام. واختير باريس ليفصل في ادعاءات الإلهات الثلاث.
كان باريس اختيارًا واضحًا لهذه المهمة؛ لأنه كان وسيمًا وسامةً استثنائيةً (فكان المنطق أن أكثر الرجال جمالًا سيُميِّز هو ذاته الجمال). تقبَل فينوس — في مسرحية «اتهام باريس» (١٥٨٤) لجورج بيل — ترشيح جونو لباريس لأنه «يبدو من طلعته، أن لديه بعض المهارة في الحب».5 إلا أنه كان ثمة سبب أكثر إقناعًا لاختيار باريس وهو ما يُعرف عنه من النزاهة. ففي مسابقة بين ثور باريس الأثير وآخر (وكان الآخر هو الإله مارس مُتخفيًا)، مَنح باريس الفوز دون تردد إلى مارس.
غير أن باريس أثبت أنه أكثر تحيزًا في الحكم على الجمال الإلهي من حكمه على قوة الثيران؛ إذ عرضت عليه كل إلهة من الإلهات الثلاث رشوة تتفق ومملكتها. فهيرا، إلهة السماء، عرضت عليه السلطان على العديد من الممالك، وعرضت عليه أثينا، إلهة الحرب، المنعة في الحرب، أما أفروديت، إلهة الحب، فعرضت عليه أجمل امرأة. ويتغلب الجمال على القوة. يعلل باريس اختياره في عمل مارك هادون «ألف سفينة» (٢٠٠٢):

لقد كنت ابن مُزارع. لم أرَ قط حدود مملكتنا ناهيك عن مملكة أخرى. كانت البلدان الأجنبية أسماءً من القصائد. كانت الحرب أمرًا حدث على الجانب الآخر من الأساطير … بيْد أن أجمل امرأة هي من العالم … بطبيعة الحال اخترت أفروديت.

في مسرحية جورج بيل، التي كُتبت في القرن السادس عشر، تطالب الإلهتان المُحبَطتان هيرا وأثينا بإعادةٍ للمحاكمة ويَتهم جوبيترُ باريس بإصداره «حكمًا متحيزًا وجائرًا» لأنه لم يأخذ الجدارة في اعتباره (فبالاس أثينا مثلًا كانت واثقة في جمالها «الداخلي»). ويدافع باريس عن نفسه بمنطق اتَّبَعتْه فيما بعدُ شخصيةُ باريس في عمل هادون. لا تعني الثروة شيئًا لشاب ريفي: فالمياه الجارية، والطعام البسيط، والقناعة تُعدُّ ثروة. والسلاح لا جدوى منه لراعٍ لا عدو له. «لذا فضلت الجمال على كليهما».6

إن جمال هيلين هو جمال «الإلهات الخالدات» (الإلياذة ٣. ١٥٨) لأنها هي نفسها نصف إلهة. فأبوها كان زيوس، وأمها كانت الفانية ليدا. في إلياذة هوميروس، تقول هيلين إن كاستور وبولوكس (المعروفين باسم «الديوسكوري») هما شقيقاها (الإلياذة ٣. ٢٣٨)، ويُشار إلى ليدا لاحقًا بكونها أمهم (الأوديسة كتاب ١١، ص١٦٨)؛ إذ اغتصب زيوس — متخفيًا في هيئة بجعة — ليدا، وكانت ثمرة هذا الاتحاد بيضة، أو بيضتين، ومنهما خرجت هيلين وشقيقان توءمان. تعطي هيلين في مسرحية يوربيديس أول ذِكرٍ لليدا والبجعة. في مسرحية «أوريستيس» يشير يوربيديس إلى جمال هيلين الذي يشبه «جمال جناحي البجعة»، كناية عن كلٍّ من عنقها الطويل كعنق البجعة وإلى أصلها (يوربيديس ١٩٧٢: ٣٤٩).

لربما كان شقيقا هيلين هما شقيقتها كلتمنسترا أو شقيقها بولوكس (بوليديوكيس). والقول الأكثر شيوعًا أن بولوكس هو توءم كاستور، في أيٍّ من الحالتين كان لليدا زوج من التوائم: الصبيَّان كاستور وبولوكس، والفتاتان كلتمنسترا وهيلين.7 تكشف رواية الشاعر جوزيف من إكستر لحرب طروادة — كما أوردها في القرن الثاني عشر — بطريقة مؤثرة عن أن الفارق الوحيد بين الشقيقين التوءمين هو مخاوفهما المختلفة: «خشي كاستور موت بولوكس، وخشي بولوكس موت كاستور» (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٥١). ثمة روايات متباينة عن ولادات ابنَي زيوس الديوسكوري. وفيما يختص بوصف ميلاد هيلين من بيضة نحن ندين بالفضل إلى سافو (القطعة الأدبية ١٦٦؛ ١٩٥٥: ١٠٠)، على الرغم من أنه عند سافو اعتنت ليدا ببيضة اكتشفتها لا أكثر.8 في عمل جيدو ديللي كولون (١٢٨٧)، هيلين — مثل شقيقيها — هي ابنة زيوس وداناي (المجلد ٤، ٨–١٥؛ ديللي كولون/ميِك ١٩٧٤: ٣٢). تخبرنا «الملحمة القبرصية» أن أُم هيلين كانت نمسيس (إلهة الأقدار أو العدل).9
في أعمال هوميروس بأسرها، تُدعى هيلين ابنة زيوس أو طفلة زيوس. يُقال ذلك في «الأوديسة» لمينلاوس، فلكونه زوج هيلين، هو «في أعين الآلهة، زوج ابنة زيوس» (الكتاب ٤، ص٦١). ومع ذلك، ينأى هوميروس بنفسه عن تسمية هيلين بالإلهة. من أجل ذلك يتعين علينا أن ننتظر حتى مسرحية «أوريستيس» ليوربيديس، التي فيها يظهر أبوللو في نهاية العمل التراجيدي ليبين السبب الذي دعاه إلى «انتشالها» و«إنقاذها من سيف (أوريستيس)»:
من زيوس وُلِدَت خالدةً، وينبغي أن تظل خالدةً،
مُبجَّلةً كالإلهة التي تُنقذ أرواح البحَّارة،
مُتوَّجةً بجنب أخويها في ثنايا السماء.
(يوربيديس ١٩٧٢: ٣٥٩)

في مسرحية «الطرواديات» ليوربيديس تتهم أندروماك غاضبةً هيلين بأن لها الكثير من الآباء (الرمزيين) بيْد أنها تُنكر أن زيوس كان واحدًا منهم:

أبدًا لم تكوني ابنة زيوس!
لقد كان لكِ آباء كثيرون؛ أحدهم كان وبال الانتقام،
والبغض كان التالي، ثم القتل، والموت، وكلُّ بلاء
تولِّده هذه الأرض. سأقسم أن زيوس لم ينجبك قَط
ليُحكم قبضة الموت على عشرات الآلاف في الشرق والغرب!
(يوربيديس ١٩٧٣: ١١٥)
في القصيدة السردية من أوائل العصر الحديث «الاغتصاب الأول للجميلة هيلين»، المنسوبة إلى جون تروسِل، تسمع هيلين لأول مرة عن اغتصاب زيوس لأمها عندما تُغتَصب هيلين ذاتها على يد ثيسيوس. كانت هيلين في كل النسخ لم تبلغ بعدُ عندما اغتصبها ثيسيوس، على الرغم من الاختلاف في تحديد عمرها بدقة. فجعلها الكتَّاب التقليديون (هيلانيكوس من ليسبوس، وديودور الصقلي، وبلوتارخ، وباوسانياس، وهيجينوس) بين السابعة والثانية عشرة من العمر. واقترح الكتَّاب اللاحقون نطاقًا عُمريًّا بين التاسعة والرابعة عشرة. في «طروادة بريطانيا العظمى» (١٦٠٩) يقول توماس هيوود إن هيلين كانت تبلغ التاسعة (المقطع التاسع، حاشية هامشية)؛ ويقول جوته إنها كانت في العاشرة من عمرها (فاوست الجزء الثاني ٦٥٣٠). والأكثر تحديدًا هو جون تروسِل حين قال إنها تكاد تبلغ «ثمانية و«عشرين شهرًا»» (١٦٠ شهرًا = ثلاث عشرة سنة وثلث السنة).10
في معظم الروايات «اغتصاب» ثيسيوس هو «اختطاف» يليه تسليمه هيلين لأمه لرعايتها. بالتأكيد تبالغ الحلقات المسلسلة القصيرة «هيلين طروادة» في إبراز حقيقة أن غريزة هيلين الجنسية الوليدة تجذبها — بقدر واضح من الإحباط — نحو رجل (ثيسيوس) يرفض أن يلمسها. باوسانياس — الذي يحقق في الاختطاف على أنه اغتصاب — يفصل كذلك نتيجة هذا الاختطاف: مولد إفيجينيا، التي أُعطيَت على الفور إلى خالتها كلتمنسترا كي تُنشَّأ تنشئة بلا خزي.11
تُنقَذ هيلين من ثيسيوس بفضل شقيقيها وتعود إلى أسبرطة حيث يتنافس خُطَّاب من كل أنحاء اليونان (مع استثناء واحد: أخيل) على طلب يدها. ويُقْسِم الخُطَّاب يمينًا على مساندة الفائز النهائي.12 السبب في فوز مينلاوس غير واضح، وذلك على ضوء التصوير الأدبي له والمُتفِق على أنه ليس وسيمًا ولا بارعًا. وفي رواية هيسيود يُحضر معه أعظم الهدايا (قصيدة «قوائم النساء» في هيسيود ١٩٧٧: ١٩٩)، وفي مسرحية برنارد درو (١٩٢٤) هو الوحيد الذي يصرح بحبه لهيلين، وفي رواية ليندا كارجِل (١٩٩١) تنجذب هيلين إلى مينلاوس لأنه يبدو غير مبالٍ بها.
لا يوجد علاقة سببية مباشرة بين تحكيم باريس وبين وصوله لأسبرطة. كان باريس — كراعي أغنام على جبل إيدا — مولعًا بالحورية وينون (التي منها — كما في بعض النسخ — أنجب ابنًا يُدعى كوريثوس). وهناك يُمضي باريس وقتًا كافيًا حتى يُعرَف أنه ابن بريام المنبوذ، وليعود إلى طروادة كأمير، ويهجر وينوُن (التي تُنظَم فيها قصيدة خاصة بها عام ١٥٩٤: قصيدة توماس هيوود «وينوُن وباريس») ثم يزور أسبرطة. عندما يُصاب باريس بعد ذلك في حرب طروادة، يُؤتى به إلى جبل إيدا للاستشفاء بواسطة مهارة وينوُن في استخدام الأعشاب. فترفض وينوُن. وذاهلةً لموته تضحي بنفسها في محرقة مأتمه.13

ثمة روايات متعددة عن السبب في زيارة باريس لأسبرطة. فطبقًا لبعض الكُتَّاب، أخذه مينلاوس هناك. في نسخة ألكيداماس (في بدايات القرن الرابع قبل الميلاد) — وهي نسخة لا تحتوي على تحكيم باريس — يذهب باريس إلى أسبرطة لأنه سمع عن جمال هيلين (ليندساي ١٩٧٤: ١٥٧). وفي العديد من كتب العصور الوسطى عن طروادة (التي أيضًا تُغفِل تحكيم باريس) السبب الذي يدفع باريس إلى زيارة أسبرطة هو ذيوع شهرة جمال هيلين. وفي نصوص أخرى، يصبح الهدف من الذهاب إلى اليونان هو اختطاف «بالمقابل» ثأرًا من استلاب اليونانيين لهسيونيه؛ ففي «جيست هيستوريال» (القصة التاريخية لدمار طروادة) من العصور الوسطى، على سبيل المثال، يخطط الطرواديون لقتل اليونانيين، واحتلال الأرض، ثم الإمساك بسيدة ما يمكن مبادلتها بهسيونيه. أكرم مينلاوس وفادة باريس قبل أن يُضطر للمغادرة (تخبرنا الملحمة القبرصية أن مينلاوس دُعي ليحضر جنازة عائلية في كريت). ويشدد دِكتيس على أن باريس وهيلين قريبَين (كلاهما ينحدر من نسل آلهة) ومينلاوس منزعج لأن قريبه قد آذاه (فريزر ١٩٦٦: ٢٧، ٢٤).

فيما يكاد يصل إلى كل النصوص يطرح التساؤل عن مغادرة هيلين، مُختارةً أو مُرغمةً، من أسبرطة مع باريس. وفي نصوص عدة من العصور الوسطى يرسو باريس ورجاله على جزيرة كيثيرا أثناء احتفال ديني. ويتيح هذا له الفرصة ليتفحص هيلين في المعبد. يقع باريس، غير المستعد لجمالها، من فوره في الحب. أما هيلين، مدفوعة بالفضول لرؤية كيف يبدو الزائر الطروادي، فتستمر في التظاهر بالتعبد لتراقبه. ثم تُقبِل عليه تغازله/فتقع في حبه. في قصائد «البطلات» لأوفيد ١٦ و١٧ (رسالة من باريس إلى هيلين وردُّ هيلين)، نقرأ عن المفاتحة بالحب الممتزجة بإراقة الخمر. يريق باريس خمره على المائدة ويخط في السائل المُراق: «هيلين إنني أُحبكِ.» وفيما بعدُ تُصوَّر هذه الواقعة في القصيدة الملحمية «ملكة الجن» لسبنسر ٣. ٩. ٣٠. ١–٩ وفي الفيلم الهوليوودي طروادة (٢٠٠٤).

تغادر هيلين مع باريس، وتُشدِّد كل النصوص على أن باريس أخذ هيلين ونفائسها. بدايةً من «الإلياذة»، فنفائس هيلين ملازمة لهيلين ذاتها. يستخدم هوميروس هذه الصيغة «هيلين وكل ممتلكاتها» (الإلياذة ٣. ٧٠)، وتتكرر صيغة مماثلة في قصة دِكتيس وفي كتب العصور الوسطى عن طروادة. أما شخصية هيلين ذات السخرية اللاذعة في رواية جون إرسكين «الحياة الخاصة لهيلين طروادة» فتُنكِر زَعْمين بالسرقة: «باريس لم «يستلبني» … بل كان الأمر برغبتي الكاملة. بيْد أنه إن كان سرقني، فأُفضِّل أن أعتقد أنه لم يكن لديه أي قدرٍ باقٍ من الاهتمام بالمتعلقات» (١٩٢٦: ٤٩).

تُطلِعُنا «الملحمة القبرصية» (ولاحقًا هيرودوت) أن باريس استغرق ثلاثة أيام في العودة إلى طروادة مصطحبًا هيلين. تُبيِّن نصوص العصور الوسطى تقدُّمها نحو طروادة، حيث تلقى بريام وتتزوج باريس في احتفال في اليوم التالي.

في «الإلياذة» يَقْدُم أوديسيوس ومينلاوس إلى طروادة في مهمة من أجل هيلين (٣. ٢٠٥–٢٠٨). في قصة دِكتيس يُرسل ٢٥ مبعوثًا إلى طروادة، لكن الطرواديين لا نية لديهم لإعادة هيلين لأنهم سيكونون مرغمين على التخلي عن الثروة التي جاءت معها (فريزر ١٩٦٦: ٢٦-٢٧). بعد ذلك يقترحون إعطاء واحدة من ابنتي بريام، كساندرا أو بوليكسينا، إلى مينلاوس بالإضافة إلى مهر «لتحل محل هيلين» (٥٢). في قصيدة هادون عام ٢٠٠٢ يبين الملك بريام معضلته (أو بالأحرى الحل الوحيد الممكن، الذي من أجله «لا» يصبح الأمر معضلة) في سلسلة من التساؤلات البلاغية: «ماذا كان ينبغي أن أفعل؟ أُعيدُها؟ أُوبِّخ ابني وأُشيع إذلاله على العالم؟» هيكتور في مسرحية جيرودو عاقد النية على «إعادة هيلين»، ولكن كما يوضح يوليسيس، «الإساءة إلى القدر لا يمكن سحبها» (١٩٥٥: ٧٠).

اتُّخِذت الاستعدادات للحرب. في قصة دِكتيس تُفصَّل هذه الاستعدادات: استغرقت صناعة الأسلحة وإعداد الخيول سنتين، واستغرق تجهيز السفن خمس سنين (فريزر ١٩٦٦: ٣٣). وكما ورد في معظم الروايات، استغرق مجمل الاستعدادات عشر سنين. في السنة التاسعة من التحضيرات أرسل اليونانيون مبعوثًا ثانيًا (دِكتيس في ترجمة فريزر ١٩٦٦: ٤٢، ٤٨). عندما جمع أجاممنون قوات تحالف عموم اليونان في الخليج عند أوليدة، تبدلت الريح المواتية، وأُجبِر الرجال على البقاء في أوليدة لأشهر، وتفشَّى الطاعون. ويكشف العراف كالخاس عن أن أرتميس (ديانا) غاضبة؛ في «الملحمة القبرصية» غضبها سببه أن أجاممنون قتل ذكر أيل تعتبره مقدَّسًا وتفاخر بأنه «فاق حتى أرتميس» (في هيسيود ١٩٧٧: ٤٩٣). وينصح كالخاس بأن غضب أرتميس سيسكن بالتضحية بإفيجينيا ابنة أجاممنون. ومن ثمَّ يرسل أجاممنون خطابًا إلى زوجته، كلتمنسترا، في موكناي طالبًا أن تَقدُم إفيجينيا إلى أوليدة لتتزوج من أخيل. وتفلح الخدعة، وتصل إفيجينيا، ويُقطَع عنقها. في بعض الروايات تنتشل أرتميس إفيجينيا وتستبدلها بذكر أيل في اللحظة الأخيرة، آخذة إفيجينيا إلى أرض الطوريين على سواحل البحر الأسود («الملحمة القبرصية» في هيسيود ١٩٧٧: ٤٩٥؛ دِكتيس في فريزر ١٩٦٦: ٣٥).14 فتتغير الريح، ويُبحِر اليونانيون صوب طروادة.

«حرب» العشرة أعوام الطروادية هي حصار. في دِكتيس لا تجري معارك في الشتاء، وثمة أوقات هدنة بالأسابيع والشهور لدفن الموتى وإقامة الألعاب المصاحبة للشعائر الجنائزية، بل إن اليونانيين يحرثون الأرض ويزرعون المحاصيل، وينهبون المستوطنات الفريجية للحصول على المؤن (فريزر ١٩٦٦: ٦٢). ونظرًا لمرور عشر سنوات من الاستعداد وعشر سنوات من الحصار، أصبحت هيلين في مرحلة الكهولة بحلول وقت سقوط طروادة. في حديثها الأخير في «الإلياذة» تقول: «في هذه الأيام يمر عليَّ العام العشرون منذ أن جئت من المكان الذي كنت فيه» (٢٤. ٧٦٥-٧٦٦).

يورد ستسيكورس أن أفروديت كانت غاضبة من تينداريوس (والد هيلين)؛ لأن تينداريوس نسي أن يقدم الأضحية لها، لذا جعلت ابنتيه «هاجرتين لزوجيهما» (مُعلِّق قديم على مسرحية «أوريستيس» ليوربيديس، ٢٤٩، في هيسيود ١٩٧٧: ١٩١). تلك هي النسخة القصيرة. توجد نسخة أكبر تتعلق ببيت أتريوس. كان أتريوس (والد أجاممنون) شقيقًا لثيستيس؛ تنافس كلا الشقيقين على من الذي ينبغي أن يرث عرش أرجوس. وبعيدًا عن دافع التنافس (ولكنه بلا شك زاد من حدَّته) أغوى ثيستيس زوجة أتريوس؛ فنفاه أتريوس (الذي صار في ذلك الوقت ملك أرجوس)، ثم استدعاه إلى مأدبة مُعدَّة من لحم اثنين من أبنائه. في هول الصدمة، لعن ثيستيس بيت أتريوس. وكان ولدا أتريوس هما أجاممنون ومينلاوس، تزوج كل واحد منهما من واحدة من ابنتَي تينداريوس: كلتمنسترا وهيلين. كانت كلتمنسترا تخون أجاممنون (أثناء حرب طروادة) مع إيجيسثوس (ابن ثيستيس) وهي وإيجيسثوس قتلا أجاممنون عندما عاد منتصرًا من طروادة، دليلًا على لعنة العائلة. (يُلِم هوميروس بموت أجاممنون ولكن لا يبدو أنه يعرف عن أسطورة بيت أتريوس.)

قضت هيلين عشر سنين في طروادة بينما رحى الحرب دائرة. ويروي تراث لاحق — استهله ستسيكورس في القرن السادس قبل الميلاد — أن الآلهة أرسلت «أيدلن» (طيفًا) إلى طروادة، في حين قضت هيلين الحقيقية مدة الحرب في مصر (ومن ثَمَّ فإن نسخة هيلين الطروادية تُعتبر هي النموذج الأول لزوجات ستيبفورد الخانعات الخاضعات في رواية «زوجات ستيبفورد»).15 لا توجد لدينا قصيدة ستسيكورس التي تحتوي على الاستشهاد، ومع ذلك فيمكننا الوصول إلى محتوياتها بطريقة غير مباشرة من مراجع في كتاب «فيدروس (وتعني المحاورة)» لأفلاطون (قسم ٢٤٣أ-ب) وكتاب «الجمهورية» (قسم ٥٨٦ﺟ). في كتاب «فيدروس» (المحاورة) يخبرنا أفلاطون أن ستسيكورس افترى على هيلين في قصيدة ملحمية قصيرة لاذعة، ومن أجل ذلك أُصيب بالعمى. وأسفرت قصيدته التي تراجع فيها عما قال عن استعادته لبصره:

عندما فقد بصره لتكلُّمه بالسوء عن هيلين، ستسيكورس … كان فطنًا بما يكفي لأن يدرك السبب؛ فألف لتوِّه القصيدة التي مطلعها: إنْ هذا إلا حديث إفك. فأنتِ أبدًا/لم تركبي البحرَ،/ولا رأيتِ أبراج طروادة. (قسم ٢٤٣؛ ١٩٧٣: ٤٤-٤٥)

في القرن الخامس قبل الميلاد سجل هيرودوت رواية مصرية مغايرة لا يرد فيها ذكر رواية «أيدلن» (الطيف):

داخل السياج هناك معبدٌ مُكرَّسٌ لأفروديت الغريبة. حدسي الشخصي ينبئني أنه بُني تكريمًا لذكري هيلين ابنة تينداريوس، لا لأنني سمعت أنه قيل إنها قضت بعض الوقت في بلاط قصر بروتيوس فحسب، ولكن أيضًا بسبب وصف أفروديت ﺑ «الغريبة»، وهو لقب لم يُعطَ أبدًا لهذه الإلهة في أيٍّ من معابدها الأخرى. لقد سألت الكهنة عن قصة هيلين، وأجابوني أن باريس كان في طريقه للعودة من أسبرطة مع عروسه المسلوبة، عندما صادفه طقس سيئ في مكان ما من بحر إيجة، ساق سفينته إلى مصر، وفي النهاية استمرت العاصفة بنفس السوء، فوجد نفسه على الساحل، وتمكَّن من الوصول إلى الشاطئ. (١٩٦٥: ١٧٠-١٧١)

لا يبدو أن هيرودوت قد عرف قصة «أيدلن» (الطيف)، إلا أنه يتفق مع ستسيكورس في أن هيلين قضت مدة الحرب في مصر. هذه الرواية المغايرة هي الأساس لمسرحية يوربيديس «هيلين» (القرن الخامس قبل الميلاد)، ولقصيدة إتش. دي. (هيلدا دوليتل) الحداثية «هيلين في مصر» (١٩٥٢–١٩٥٤)، ونسخة عام ١٩٢٨ من أوبرا ريتشارد شتراوس «هيلين المصرية». اقتبس سبنسر فكرة قصة هيلين المصرية في متتالية فلوريميل/مارينيل في القصيدة الملحمية «ملكة الجن» (١٥٩٠).16
في [مسرحية] إسخيلوس «أجاممنون» يطلق على هيلين وصف «بوليندروز»: الزوجة ذات الأزواج الكثيرين. إذا ذكرنا كل أزواجها في الأساطير المتباينة أو من يُحتمل كونهم أزواجها معًا، المجموع هو ١١: ثيسيوس، ومينلاوس، وباريس، وديفوبوس، وهيلينوس (الذي أبعده ديفوبوس)، وأخيل؛ وفي كتابات بلوتارخ، هيلين مهددة من إينارسفوروس، وإيداس، ولينسيوس؛ وكوريثوس هو أحد المتسابقين (على الزواج من هيلين) في كتابات بارثنيوس، ويظهر يوربيديس هيلين تتغلب بذكائها على محاولات ﺛﻴﻮﻛﻠﻴﻤﻴﻨﻮس للزواج منها.17 توجد أيضًا روايات متباينة عن عدد الأبناء الذين كانوا لهيلين: من ثيسيوس ولدت إفيجينيا، ومن مينلاوس ولدت هيرميون ونيكوستراتوس (هيسيود هو المرجع فيما يختص بهذا الأخير، بيْد أن مصادر أخرى تقول بأن نيكوستراتوس كان ابن مينلاوس من جارية). وتمنحها «الملحمة القبرصية» ثلاثة أبناء من مينلاوس وتذكر واحدًا من باريس: وهو أجانوس. وتذكر روايات أخرى أن لها ثلاثة أبناء من باريس، ودِكتيس على سبيل المثال، يذكر أسماء كوريثوس،18 وبونوموس، وإدايوس. وذكر كُتَّاب من سوفوكليس في القرن الخامس قبل الميلاد إلى يوحنا تزيتزيس القسطنطيني في أواخر القرن الثاني عشر، أبناء آخرين لها (أوزوالد ١٩٠٥: ٣٤ن). في عام ١٦١٩ يكشف مبحث توماس جاتاكر «عن الطبيعة واستخدام الاقتراع» أن باريس وهيلين أنجبا ابنة و«حَسَما الخلاف بينهما» حول تسميتها (كان الخلاف حول ما إذا كان ينبغي تسميتها ألكسندرا تيمنًا بأبيها19 أو هيلين تيمنًا بأمها) بإجراء قرعة. وسُميت هيلين.

على الرغم من هؤلاء الأبناء المتعددين أو المتباينين، فإن الانطباع الغالب والمستقر في الكتب الأدبية أن هيلين أنجبت طفلًا واحدًا فقط: وهي ابنة، تُدعى هيرميون. في الكتاب الرابع من «الأوديسة» يستعد أفراد أسرة مينلاوس وهيلين للاحتفال بزيجتين: زيجة هيرميون إلى نيوبتوليموس، وزيجة ميجابينثيس ابن مينلاوس غير الشرعي. لا توجد إشارة بأن هيلين ومينلاوس، أو هيلين وشخص آخر، أنجبا أي أبناء آخرين. في الأعمال الأدبية عن حرب طروادة تظهر هيلين كإنسان لا عائلة له: فأخواها غائبان عن طروادة (يقول كُتَّاب العصور الوسطى إنهما ماتا في الطريق)، وأمها تشنق نفسها في غمار معاناتها من عار هيلين (هيلين في أعمال يوربيديس ١٩٧٣: ١٣٩)، كما أنها ليس لها إلا ابنة واحدة في ثقافة تعظِّم الخصوبة.

يُخفق معظم الروايات في إخبارنا عما فعلته هيلين بعد ذلك: ماذا حدث عندما استردها مينلاوس، وإذا كانت قد عاشت هي وزوجها في سعادة إلى الأبد. يصور يوربيديس الاعتقاد السائد: أن هيلين كانت ستُعطى إلى مينلاوس لتُقتَل (عقوبة تتوقعها هيلين نفسها في أشعار كوينتوس اللاحقة) ولكن مينلاوس يلين عندما يرى زوجته.20 يبتدع كوينتوس من سميرنا تلاقيًا مؤثرًا وواقعيًّا من الناحية النفسية. يتبادل الزوجان الحديث في الفراش عن الغفران والنسيان. ثم: «انهمرت عبرات حسرة عذبة من عينَي كليهما. يرقدان متجاورين في غبطة، ويسترجع قلباهما زواجهما» (١٩٦٨: ٢٥٣). يبتدع المؤلفون اللاحقون عقوباتٍ غاشمة. في كتاب ويليام موريس «مشاهد من سقوط طروادة» (طبعة ١٨٦٠–١٨٦٥) يُجْهِز مينلاوس على ديفوبوس (زوج هيلين الطروادي بعد موت باريس) في سريره، ثم يغتصب هيلين على الملاءات الملطخة بالدماء. ويفكر مينلاوس في رواية سي إس لويس في الاغتصاب ولكنه يقرر ألا يفعل ذلك (١٩٥٩، نُشِر ١٩٦٦). في حلقات المسلسل التليفزيوني «هيلين طروادة» عام ٢٠٠٣، أجاممنون هو الذي يغتصب زوجة أخيه مخالفًا احتجاجات شقيقه عديمة الجدوى.
في كتاب موريس هيوليت «الوجه الجالب للخراب» (١٩٠٩) تنتحر هيلين عندما تسقط طروادة.21 يروي لنا تراث تقليدي أن هيلين شُنِقَت في وقت لاحق على شجرة في رودس. بعد طرد ابن مينلاوس غير الشرعي لها من أسبرطة، تلوذ فرارًا إلى صديق في رودس حيث تأخذ حاكمة رودس — امرأة ترمَّلت جراء حرب طروادة تتوق إلى الانتقام — بالثأر بشنقها (بوسانياس المجلد ٢. ٣. ١٩ في ١٩١٨: ١٢٣). إلا أنه عند معظم الكتَّاب الكلاسيكيين هناك مساحة غير موثقة لا نعلم عنها شيئًا بين استرجاعها عند نهب طروادة وبين موتها. الأمر متروك لشعراء القرن العشرين لسد الفجوة. يُظهِر كتاب «هيلين طروادة: مسرحية» (١٩٢٤) لبرنارد درو مينلاوس وهيلين يعيشان في هناءة إلى الأبد على غرار القصائد الغنائية. يصور روبرت بروك الزوجين في سن الشيخوخة، فيه مينلاوس المسن يكرر تكرارًا مملًّا رواية قصة ظفره في طروادة وهيلين عجوز متيبسة الساق وحادة الصوت. يقدم كتاب هنري بيترسن «هيلين، ما بعد طروادة» (١٨٨٣: ٤٩) صورةً لهيلين تتحمل مينلاوس المضجر الغني؛ لأنه على الأقل موجود («يا لباريس المسكين، لقد مات!»).
وبحسب الروايات التراثية أن هيلين تزوجت أخيل في الحياة الآخرة. يروي لنا فيلوستراتوس أن بوسيدون صنع لهما جزيرة جديدة. (وعند فيلوستراتوس أيضًا أن أخيل وهيلين قضيا مدة الحرب كلها هناك؛ رايت ٢٠٠٥: ١٤٤.) يتناول دبليو إس لاندور العلاقة بين هيلين وأخيل، وهيلدا دوليتل، وإدوارد بولوير ليتون الذي يكتب عن أن «الشهرة والجمال يقترنان معًا/في جزيرة الأرواح المبتهجة» (١٨٦٦: ٢٢٥).22

إن الفترة بعد سقوط طروادة هي أكبر الفجوات في المرويات عن هيلين. إلا أنها ليست الوحيدة. في هذه المقدمة، قدَّمتُ لمحةً عن حكاية هيلين في موجز مرتب زمنيًّا، محاوِلةً أن أجعل السرد مترابطًا قدر الإمكان. وبعد أن أنشأنا هذه الحكاية المترابطة، يمكننا الآن أن نتفحص الفجوات فيها. وهذا هو موضوع الفصل الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤