الفصل الثاني

الجمال

هيلين : لا ريب أنه أمر عسير أن يكون المرء قبيحًا،
وأن يكون مجبرًا على الحياة في عالم شديد القسوة.
مفستوفيلس : ليس بقسوة أن يكون جميلًا.
(جوته/كليفورد، «فاوست: الجزء الثاني»)

ينبغي أن تتذكري كم كان الناس قبيحين. فلتنسَي ما ترينه على المزهريات. أقدام حنفاء، شفاه مشعرة، ثآليل، حُول، أسنان كجذوع الأشجار … كان الجمال ترابًا ذهبيًّا. (مارك هادون، «ألف سفينة»)

لم يكن ممكنًا أن تُدعى جميلة بل الجمال ذاته. (هنري رايدر هاجارد وأندرو لانج، «رغبة العالم»)

(١) الإفراط والقصور

لنتأمل العبارات التالية عن جمال هيلين من عينات من قرابة ٢٥ قرنًا. ها هو جيدو ديللي كولون يكتب في القرن الثالث عشر: «كانت هيلين مشهورة بالحُسن المفرط» (الكتاب ٨. ١٣٦؛ ديللي كولون/مييك ١٩٧٤: ٨٢).1 إن صياغة جيدو مشوقة: هيلين ليست أجمل امرأة في العالم (إطراء: اعتبار هيلين القيمة المطلقة للأنوثة) ولكنها امرأة تمتلك جمالًا مفرطًا (إشارة إلى مشكلة: وهي أن الفائض، الجمال في هذه الحالة، يعتبر قصورًا فيها).2 وها هو المؤرخ الفني لعصر النهضة جيوفاني بيترو بيلُّوري يجادل بأن هيلين لم تكن تمتلك جمالًا كافيًا: «لم تكن هيلين جميلة كما زعموا، لأنه تبيَّن أن لديها عيوبًا ونقائص حتى إنه يُعتقَد أنها لم تبحر مطلقًا إلى طروادة، ولكنَّ تمثالها أُخذ إلى هناك عوضًا عنها» (بيلُّوري ١٩٦٨: ١٦١). وها هي كارول رتر في عام ٢٠٠٠، التي تتتبَّع تحليلها للغة السوق في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» — الأفعال الواردة فيها من شراء، وبيع، واستلاب، وإبخاس، ومغالاة في تقدير هيلين — مع وصف لحظة ظهور هيلين على المسرح في عرض فرقة شكسبير الملكية للمسرحية عام ١٩٩٠: «كانت خيبة أمل المشاهدين مسموعة … لم يرجع الأمر إلى أنها لم تكن جميلة. بل كان يتعلق ببساطة بأنها لم تكن جميلة بما يكفي» (رتر ٢٠٠٠: ٢٣٣).3 بعد أربع سنوات تفاعل الناقد السينمائي لصحيفة نيويورك تايمز بطريقة مشابهة مع تمثيل ديان كروجر لهيلين في الفيلم الهوليوودي «طروادة»: «إنها ليست أسطورية المظهر بما يكفي لتكون مقنعة بأنها الوجه الذي أطلق ألف سفينة» (ماكجراث). وأخيرًا، بالعودة ٢٤٠٠ عام إلى الوراء، لنتأمل الجوقة الأخيرة في مسرحية يوربيديس «هيلين» التي تتهم هيلين بالإثم، وبتجاهل الطقوس الدينية، وبالزهو بجمالها.4 الفقرة مبتورة وقد لا تكون أصلية. وأهميتها في هذا الموضع هي أنه بالرغم من أن سبب وجود هذه المسرحية هو تبرئة هيلين، تجدها الجوقة ملومة. علامَ هي ملومة؟ يحلل نورمان أوستن المشكلة كالتالي: «عرف شخص ما، سواء أكان يوربيديس أو مضيفًا لاحقًا إلى النص الأصلي، أن هيلين كانت مدانة بشيء ما … ماذا كانت جريمة هيلين؟ جمالها. نعم، تلك هي جريمتها؛ لقد كانت جميلة جمالًا مفرطًا» (أوستن ١٩٩٤: ١٨٢).
تشبه هذه العبارات التعبيرات الاقتصادية عن اقتصاد الوفرة والنقص، الفائض والندرة.5 تُنسب هذه الثنائيات إلى الجمال ولكنها أيضًا من خصائص السرد، مثلما تكشف صياغة جون بولارد في روايته عن هيلين: «هناك من ناحية الكثير الذي يمكن أن يُقال عن هيلين، ومن الناحية الأخرى هو ليس كافيًا» (١٩٦٥: ١٨٥). تؤكد إيفي سبينتزو رأي بولارد عندما تكتب: «ثَمَّة الكثير الكثير والنذر اليسير في ذات الوقت مما قيل عن هيلين» (١٩٩٦: ٣٠٢). في هذا الفصل أود أن أحدد مشكلة جمال هيلين (وإنها مشكلة، لكلٍّ من هيلين والأمم التي تحارب من أجلها)6 وصولًا إلى مشكلة السرد. إن الوفرة والندرة، التشبع والزهد هي أشياء مشتركة بين كليهما، والنتيجة هي ذاتها: الرغبة. في الحياة ندعوها تلهفًا، وفي السرد تُسمى تشويقًا.

تبرهن شخصية شكسبير إينوباربوس على التماثل بين السرد والجمال حينما تُحْدِث محاولتُه لوصف أجمل حاكمة عرفتها مصر القديمة أمام المستمعين إلى المسرحية الأثرَ نفسه الذي تحدثه كليوباترا ذاتها، موضوع المسرحية، على ناظريها: «أما هي فتجعلك تتوق إليها كلما رأيتها» (أنطونيو وكليوباترا ٢. ٢. ٢٣٧). تختبر شخصية شكسبير «تاركوين» الشوق اللانهائي الذي يسببه جمال لوكريس: «امتلاك كل شيء، كل شيء لن يُشبعه/…/فمع كونه متخمًا بالكثير، ما زال يتعطش إلى المزيد» («اغتصاب لوكريس» ٩٦–٩٨). في رواية دِكتيس التي تنتمي إلى القرن الرابع عن حرب طروادة (نسخة لاتينية من قطعة أدبية يونانية ترجع إلى القرن الأول) يقترح بانثوس إعادة هيلين إلى اليونانيين بعد تسع سنوات من اختطافها؛ لأن «ألكسندر (باريس) قال إنه أمضى وقتًا كان كافيًا ليُشبع أي حب كان يكنُّه لهيلين» (فريزر ١٩٦٦: ٥٢). في هذا الموضع أساء بانثوس فهم أثر الجمال: يتوق إليه المرء كلما رآه.

إن هذا الفصل هو فصل عن التمثيل: عن تمثيل جمال هيلين في السرد وفي الدراما. فأي محاولة للتمثيل الأدبي للجمال تستدعي تفصيلًا (أكانت شقراء؟ طويلة؟ ماذا كان لون عينيها؟) وقد ثبت أن كل التفصيلات حول هيلين تثير إشكاليات (كما سنرى)، لأسباب تتعلق بالبنية الثنائية التي رسمت لها خطوطًا عريضة فيما سبق: «التفاصيل … لا تُطلعنا على ما يكفي ومع ذلك فإنها تُطلعنا على الكثير والكثير» (ستيوارت ٢٠٠٥: ٢٧). ما يصح عن كليوباترا يصح عن هيلين ويصح عن السرد نفسه: التفصيل يجعل المرء متعطشًا للمزيد مهما أشبعته. إنه النظير الأدبي للحكة الجلدية، التي تكون فيها خمشة واحدة للجلد الملتهب هي أكثر مما ينبغي ومائة خمشة هي أبدًا غير كافية. بهذا المعنى فإن إشكالية التفصيل السردية المحددة هي إشكالية إنهاء؛ لأن السرد — في إطار محاولته ليصف ويفصل — يسعى إلى أن يحدد بدقة ولأن يكون شاملًا. إن التفصيل هو حقًّا محاولة للوصول إلى الإنهاء (ستيوارت ٢٠٠٥: ٢٦). كما رأينا في الفصل الأول، فإن تاريخ قصة هيلين هو سلسلة من المحاولات لإنهاء تلك القصة، وهو إنهاء تتملص منه هيلين وسردها ويحبطانه باستمرار. قد يُلقي هذا الفصل مزيدًا من الضوء على السبب في أن الإنهاء هو شيء يقاومه الجمال (ليس جمال هيلين وحده).

ثَمَّة سببان لذلك؛ الأول أشرت إليه سابقًا: القاسم المشترك بين الجمال والسرد هو الرغبة. فمن قبيل المفارقة أن الجمال — كممثله اللغوي، التفصيل — يخلق الشيء الوحيد الذي يسعى إلى تلافيه: الاشتياق إلى المزيد. كسائر الرغبات، كوجبة طيبة، أو سيارة جديدة، أو منزل أكبر، فإن إشباع الرغبة يتزامن معه انقضاء الاشتياق. عندما تُدرَك الغاية أو يتحقق الحلم، تنتهي الرغبة؛ فالاشتياق مرتبط بالغاية (سكاري ٢٠٠٥: ٥٠). غير أن الجمال يُحْيِي الاشتياق. ولطالما لاحظ الفلاسفة هذه الحالة الدائرية. تكتب سيمون ويل عن أن الجمال «يقدم لنا عين وجوده. نحن لا نرغب في شيء آخر، فقد استحوذنا عليه، ورغم ذلك «لا نزال نرغب في شيء ما»» (١٩٥١: ١٦٦-١٦٧، أقواس التنصيص الداخلية من عندي).

السبب الثاني لمقاومة الجمال لإنهاء السرد: هو ارتباطه بما هو إلهي، ومتعالٍ، ومطلق (سكاري ٢٠٠٠)، وهو ما يعني أنه غير متكافئ مع الطابع المؤقت للسرد. فالوصف يهدد اللانهائية (ستيوارت ٢٠٠٥: ٢٦)؛ تحاول اللغة أن تختطف اللانهائية نحو محدودية الزمن ولكنها دائمًا ما تفشل في ذلك. تُعرب كارول آن دوفي عن هذا في قصيدتها «جميل» (٢٠٠٢)، التي تضع جمال هيلين جنبًا إلى جنب مع جمال كليوباترا. ترى دوفي أن هيلين وكليوباترا كلتيهما تحيا خارج نطاق الزمن. يستهل القسم الذي يتناول كليوباترا بهذه العبارة: «إنها لم تَهرم أبدًا.» ويلي على الفور تتمة القسم الخاص بهيلين الذي يشتمل على الصمت السردي لخادمة هيلين المخلصة:
رفضت خادمتها، التي أحبتها أيما حب،
أن تتلفظ ببنت شفة
لأي أحد في أي وقت أو مكان،
ولم تكن لتصف
سيماء واحدةً من مُحيَّاها.
(دوفي ٢٠٠٢: ١٠)

رفض الوصف والانقطاع عن الهرم يعبران عن شيء واحد وظاهرة واحدة: تحاشي الزمن، تحاشي التدهور الحتمي، تحاشي الإنهاء.

الهرم والأبدية هما سمتان في كثير من السرديات عن هيلين كما سنرى لاحقًا في هذا الفصل. ولكن أن تكون أبديًّا؛ أي بعيدًا عن متناول الزمن، هو أن تكون بعيدًا عن تناول السرد. فلا عجب أن يكون تمثيل هيلين الجميلة إلى الأبد بهذه الصعوبة.

•••

الجمال — كما يقول بطل مسرحية مارلو التي تحمل نفس اسمه «تامبرلين (الجزء الأول)» — هو «مبعث الإلهام» (٥. ١. ١٤٤) وهي عبارة ثبتت صحتها من خلال جميع مختارات الشعر الإنجليزي. هذه الملاحظة التي تبدو غير مثيرة للجدل تمثل مع ذلك إشكالية كما نرى في الاستنتاج الشرطي الجناسي الذي يطرحه تامبرلين: «لو أن كل الأقلام التي حملها الشعراء منذ الأزل»، يلهمها الجمال، «لو أن كل الجوهر» الذي يحاول الشعراء تحويله إلى شِعر، لو أن كل هذه الأمور نتج عنها قصيدة واحدة فقط عن الجمال، فرغم ذلك — يَخْلُص تامبرلين متحسرًا — سيبقى الجمال شيئًا «لا تستطيع أي قوة أن تستخلصه في صورة كلمات» (٥. ١. ١٦١، ١٦٥، ١٧٣). لا يقدر الشعر على أن يمثل الجمال؛ فالجمال لا يمكن أن تحتويه اللغة.

تتوقع الجوقة في مسرحية إسخيلوس «أجاممنون» ما لاحظه تامبرلين توقعًا مستمدًّا من تجربة. فهم يتذكرون قدوم هيلين إلى طروادة في أبيات تحمل توكيدًا حاسمًا: «وهكذا جاءت، تلك التي في حضرتها سطع بهاء، «جمالٍ لا يقدر فكرٌ أن يُعيِّنَه»» (أقواس التنصيص الداخلية من عندي). بيْد أنهم يجاهدون ذلك الصمت الذي يتطلبه إقرارهم بعجز اللغة، بواسطة أربع محاولات متعاقبة، وقاصرة «لتعيين» هذا «الجمال»:
  • (١)

    سحر هاجع من هدأة صيف عذبة،

  • (٢)

    ثروة نادرة يولع بها؛

  • (٣)

    لحظٌ يُغْدِق وقده الحاني جرحًا وبلسمًا؛

  • (٤)

    زهرة تذيب قلوب الرجال بالعجب والهوى.

(إسخيلوس ١٩٦٨: ٦٨، الترقيم من عندي)
بعبارات أدبية تصف جوقة إسخيلوس خبرة كل أولئك (من محاربين قدماء إلى مؤلفين معاصرين) الذين لقوا هيلين: تجذبهم إليها بلا مقاومة وتُدني من شأنهم. تختار الجوقة أن تقضي وقتًا مع هيلين (خمسة أبيات من الوصف حول جمالها) خلافًا لاعتقادهم (بأن بيتًا واحدًا يُقِرُّ باستحالة قدرة السرد على وصف جمالها).7 إن إغراء هيلين هنا، كما في أماكن أخرى، هو تحديدًا إغراء لغوي. وهذا ليس مُضارَعًا في تاريخ الفن؛ إذ إن اللوحات التي تتناول هيلين قليلة. يصور الرسامون تحكيم باريس؛ الشعراء هم من يصورون (أو يحاولون تصوير) هيلين.

(٢) سرد المطلق

في هذا القسم أود أن أتناول الصعوبة التي يلاقيها السرد — وخاصة سرد طروادة — في وصف الأمور المُطلقة. التفحص في كيفية معالجة الروايات عن حرب طروادة للكمال والانحطاطات سيقدم معيارًا مفيدًا عندما نأتي إلى النظر في كيفية تجسيد تلك الروايات لجمال هيلين.

أحد أساليب الأدب المتكررة عندما يواجه أمورًا بلغت الحدود القصوى هو الإغفال. ببساطة يتخلى المؤلفون عن مسئولية السرد، ممتنعين عن الوصف (أو مصرحين بعدم قدرتهم عليه)؛ لذا يقول جيدو ديللي كولون في «تأريخ دمار طروادة» (١٢٨٧) إنه من «غير المجدي» وصف جمال بوليكسينا «ما دامت فاقت … كل النساء الأخريات» (١٩٧٤: ٨٦). كذلك يتخلى مؤلف «كتاب تمجيد طروادة» (حوالي عام ١٤٠٠ ميلادية) عن سرد جمال بوليكسينا: «ليس هناك رجل لا يكذب/يمكن أن يصف حسنها» (تي إل إن ١٢٠٠٧-١٢٠٠٨).8
في بعض الأحيان يعطي الكُتاب مبرراتٍ لإغفالاتهم. في «طروادة بريطانيا العظمى» (١٦٠٩) يمتنع هيوود عن وصف جمال هيلين لأن ذلك سيتطلب «عالمًا من الأوراق وزمنًا للكتابة» (أنشودة ١٠. ٣٢). يقرن جون ليدجيت في قصيدته «كتاب طروادة» (١٤١٤–١٤٢٠) فشله في وصف المشاعر الفائقة بمبررٍ، بيْد أنه في هذا الموضع ليس المبرر هو الاستحالة. بل على العكس، فقد أُنجزت المهمة حق الإنجاز على يد تشوسر (٣. ٤١٩٢–٤١٩٨). ليدجيت هو نصير متحمس لتشوسر، ويمجد شعره في كلِّ مناسبة، إلا أن إحالة القارئ إلى مصادر أخرى هي طريقة بلاغية طيلة قصيدته «كتاب طروادة». عندما يمتنع عن وصف هيلين طروادة، فهذا (كما يقول) لأنه لا يمتلك براعة بلاغية، لذلك يحيل القارئ إلى وصف جيدو لهيلين:
أنا … أُحيلك إلى جيدو لكي ترى
كيف يصف باتساقٍ جمالَها؛
لتستنتج مما أقول إن وصفه كان افتراضًا.
(٢. ٣٦٨٩–٣٦٩١)
عندما يشرع المؤلفون بالفعل في الوصف، فإنهم لا يصفون الشيء المستهدف تأمله، بل شيئًا آخر، في بعض الأحيان عبر إجراء مقارنة مجردة، وفي بعض الأحيان عبر عملية إحلال يذكر خلالها البديل وحده. يوظف ليدجيت هذه الطريقة في وصف ميديا. ميديا هي أجمل النساء مثلما أن الوردة هي أجمل الأزهار. ثم يعطينا وصفًا موسعًا لأحد شِقَّي المعادلة: ألا وهو الوردة (١. ٢٥٩٩–٦٢٣).9
تنطوي طرق المقارنة الأخرى على تغيير الوسيط إلى عالم الفن. في مسرحية «أجاممنون»، نجد أن جمال إفيجينيا «تجاوز/رؤية رسام» (إسخيلوس ١٩٨٦: ٥٠). بعد ذلك بسبعة قرون، في رواية «إيريهون» (١٨٧٢) يحدد صمويل بتلر أي «رؤية رسام» عندما يعزو منظرًا جميلًا إلى رسامي المناظر الطبيعية من الحركة الكلاسيكية الحديثة: لقد «صنعت صورة جديرة بصورة لسلفاتور روزا أو لنيكولاس بوسان» (١٩٧٠: ٥٠).10 في رواية «توم جونز» لهنري فيلدينج (١٧٢٩) يمتنع فيلدينج عن وصف بريدجيت أولوورثي لأن جمالها قد قُدِّم مؤخرًا: «إن السيدة … لرائع جمالها. وأود أن أشرع في رسم صورتها، بيْد أن ذلك قد أُنجِز بالفعل على يد أُستاذ أكثر قدرة، هو السيد هوجارث ذاته، الذي جَلَسَت أمامه منذ أعوام عديدة» (١٩٧٨: ٧٩). تُكلَّل المقارنات في مواضع أخرى بالنجاح عبر التراكم أو المبالغة. في قصيدته «كتاب طروادة» يعزز ليدجيت قوله بأن لا أحد عانى من الحزن والأسى أكثر من هيلين بقائمة من هؤلاء «اللا أحد»: كليوباترا، ثيسبي، أوريستيلا، جوليا، بورشيا، أرتميس (٤. ٣٦٥٤–٣٦٨٤). يتميز الشاعر المجهول لقصيدة «حصار طروادة» (القرن الخامس عشر؟) كذلك بالبلاغة: كانت هيلين طروادة بالغة الجمال لدرجة أنه «لا يستطيع إنسان أن يحكي عن جمالها» ولا حتى فيرجيل، ولا أرسطو، ولا نختنبو (تي إل إن ٥٣٥–٥٤٦).
أحتفظ بطريقة السرد الأكثر إبداعًا لتكون الأخيرة، وهي المساحة الشاغرة المعبرة عن انعدام التمثيل. تدخل هيلين طروادة إلى رواية لورانس ستيرن «تريسترام شاندي» (١٧٥٩–١٧٦٧) عن طريق الارتباط: فالأرملة وادمان هي شخصية أنثى «مفترسة» جنسيًّا ترتبط بهيلين طروادة من مرحلة مبكرة في الرواية (تيلوت ١٩٨٩: ١٢١). عندما يصل ستيرن إلى النقطة التي عندها يصف الأرملة الجميلة، يقدم لنا صفحة فارغة، ويوعز إلى القارئ: «فلتطلب قلمًا وحبرًا، ها هي ورقة مهيأة بين يديك، فلتجلس، يا سيدي، ولترسمها كما يتراءى لذهنك، فلتجعلها أقرب شبهًا بعشيقتك قدر استطاعتك، بعيدة الشبه عن زوجتك بالقدر الذي سيتيحه لك ضميرك» (ستيرن ٢٠٠٣: ٤٢٢-٤٢٣).11 إنه يستخدم هذه الطريقة في جزء أسبق من الرواية عندما يقدم صفحة سوداء كناية عن موت يوريك (٢٠٠٣: ٣١-٣٢). إن صفحته السوداء — التي تبدو ظاهريًّا أنها إكرام، وتمثيل نصي للحِداد — كالصفحة الفارغة التالية لها، تمثل في الواقع قصور اللغة (وإقرارًا ضمنيًّا بذلك القصور). ماذا الذي يمكن أن يقوله المرء عندما تموت الشخصية التي تحمل اسم يوريك؟ لقد قيل بالفعل ما يمكن قوله، في مسرحية «هاملت» (عند موت شخصية يوريك مهرج الملك رثاه هاملت رثاءً مطولًا، فالشخصيتان متماثلتان، فكأن يوريك ستيرن ينحدر من يوريك شكسبير).

استَبَقَ مؤرخٌ من القرن السادس عشر استخدام ستيرن للمساحة الفارغة لتنوب عما لا يمكن تمثيله. يقر برنارد أندرياس في المخطوط «حياة هنري السابع» من كتابه «تأريخ الملك هنري السابع» (حوالي ١٥٠٠–١٥٠٢) بأنه غير قادر على تصوير معركة بوسورث الملحمية، ويمنحنا عوضًا عن ذلك صفحة ونصف صفحة فارغة: «متروكة بيضاء» (١٨٥٨: ٣٢). كان أندرياس كفيفًا، لربما منذ طفولته، وعادةً ما يلفت الانتباه إلى عدم قدرته على وصف الأحداث التي لم يرها، ولكنه لم يحدث أن قدَّم في أي موضع آخر فقرة اعتذار («اعتذار من المؤلف») وترك صفحات فارغة.

fig1
شكل ٢-١: جوستاف مورو، «هيلين على الأسوار» (رسم على القماش بألوان الزيت) (١٨٢٦–١٨٩٨). وجه هيلين في هذه اللوحة مبهم. متحف جوستاف مورو، باريس، فرنسا/لوروس/جيرودون/مكتبة بريدجمان للفنون. أُعيد نشره بإذن من مكتبة بريدجمان للفنون.
fig2
شكل ٢-٢: السير فريدريك ليتون، «هيلين على الأسوار». أيضًا هيلين لدى ليتون تمتلك وجهًا خاليًا من التعبيرات، أم أن تلك هي نظرة امرأة مكروبة ومجهدة؟ أُعيد نشره بإذن من موقع جيتي إيمدجيز.
وعادةً أيضًا ما يتجاوب عالم الفن مع مفهوم المطلق بصفحة فارغة أو قماش لوحة زيتية يخلو من الرسم. ترسم الأعمال بوتشيللي الفنية قصائد دانتي «الكوميديا الإلهية» بالمعنى الحرفي فراغًا في المقطع الأخير عندما طُلِب إليه أن يصور رؤية دانتي للذات الإلهية.12 وجه هيلين المتلألئة، في لوحة جوستاف مورو «هيلين على الأسوار» (ثمانينيات القرن التاسع عشر)، خالٍ من التعبيرات: كأنه الفراغ (الشكل رقم ٢-١). وكذلك أيضًا هيلين في لوحة السير فريدريك ليتون (الشكل رقم ٢-٢). ويُقال إن زيفكسيس عندما شرع في رسم هيلين في نهايات القرن الخامس قبل الميلاد جمع أجمل خمس فتيات من مدينة كروتوني ليستطيع أن يمزج أفضل الملامح من كل واحدة منهن. إلا أنه عندما صور فرانسوا أندريه فنسنت زيفكسيس وهو يرسم هيلين، ترك قماش اللوحة فارغًا في مركز صورته.13 تأتي فيرجينيا وولف في رواية «إلى الفنار» (١٩٢٧) بنفس الصنيع: فالسيدة رامزي، التي تمثل محاكاتها لشخصية هيلين، هي مثلث من اللون، اللون الأرجواني.14 رأينا في الفصل الأول كيف تكني الفراغات المجازية عن سرديات هيلين. فإذ يواجه الفراغ جمالها، يستحيل نصيًّا مساحةً فارغةً.

(٣) تقديم المطلق

تتنازل شخصيات شكسبير — على وتيرة أدبية تقليدية — عن الشروع في وصف الجمال الاستثنائي. فيقول كاسيو إن ديدمونة هي:
فتاة لا يحيط بجمالها الوصف ولا المبالغة.
فتاة تفوق بمحاسنها الفطرية
أبرع ما يتخيله الكاتبون
وأبدع ما يصوره المصورون.
(عطيل ٢. ١. ٦١–٦٥) [ترجمة خليل مطران، دار مارون عبود، الطبعة الثامنة ١٩٧٤]

ونجد أن إينوباربوس في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» لديه القدرة على وصف كل الأشياء التي تحيط بكليوباترا، وتخضع لتأثيرها، بتفصيل جذل وغزلي. فالنسماتُ التي تُروِّح عنها متيمةٌ، والماء الذي تطفو عليه يلهث بحبها، ولولا أن الطبيعة تنفر من الخواء، لذهب الهواء ليملأ العين من كليوباترا. بيْد أن إينوباربوس عاجز عن وصف شخص كليوباترا المطابق للواقع: «وأما شخصها فقد كان يقصر عن وصفه كل بيان» (٢. ٢. ١٩٧-١٩٨) [ترجمة د. لويس عوض]. إن شكسبير جاد بالطبع في ذلك؛ إذ إن عند هوميروس الذي سبقه، وكذلك عند ستيرن الذي جاء بعده، ألا تَصِف هو مساوٍ لئلا تُجَسِّد. بيْد أن الدراما لا يمكنها ألا تجسد. فالدراما هي التجسيد. وما لا يوصف، كديدمونة وكليوباترا وهيلين، ما زال يتعين تجسيده.

fig3
شكل ٢-٣: هيلين (جاني دي) في دور شبيهة مارلين مونرو في تقديم عام ١٩٩٥ لمسرحية «الطرواديات» على المسرح الملكي الوطني. حقوق الطبع والنشر محفوظة لسيمون أناند. أُعيد نشره بإذن من محفوظات المسرح الوطني وسيمون أناند.
من العديد من المسرحيات التي تعرض شخصية تمثل هيلين، أود أن أذكر أربع مسرحيات تمتلك تقليدًا مسرحيًّا موثقًا: «الطرواديات» ليوربيديس، و«الدكتور فاوستوس» لمارلو، و«ترويلوس وكريسيدا» لشكسبير، و«لن تقع حرب طروادة» لجيرودو (كُتبت في عام ١٩٣٥، وتُرجمت إلى الإنجليزية باسم «نَمِر على البوابات»). قَيَّم كينيث تينان نقديًّا الإنتاج اللندني الأول لمسرحية «نَمِر على البوابات» عام ١٩٥٥ كالآتي: كانت ديان سيلينتو (التي أدت دور هيلين طروادة) «مرتدية على نحو جذاب لما يمكن أن أصفه أفضل وصف بأنه زلة لسان فرويدية» (١٩٨٤: ١٥٦). وقد أُبرزت أيضًا مسألة جاذبية هيلين الجنسية في تقديم لمسرحية «الطرواديات» على المسرح الوطني عام ١٩٩٥، وأخرجتها آني كاستليدين. في هذا التقديم بالملابس العصرية كانت الشخصية التي تمثل هيلين هي شخصية شبيهة بمارلين مونرو (الشكل رقم ٢-٣)، وأدى احتواء خشبة المسرح على نظام الهواء الساخن إلى إعادة تجسيد وضعيتها الشهيرة عند فتحات تهوية مترو أنفاق نيويورك.

تقدم الإنتاجات الثلاثة لفرقة شكسبير الملكية أمثلة مذهلة. بدت هيلين طروادة بأداء لينساي دنكان عام ١٩٨٥، بالكُلية كأميرة رصينة ببشرتها المرمرية ومسلكها الملكي، مقابل ضعف جولييت ستيفنسون البائس في أدائها لشخصية كريسيدا المفعمة بالحياة والأكثر اندفاعًا، وفي المقابل نجد أنه في عام ١٩٦٨ كانت هيلين وكريسيدا شقراوين يصعب التمييز بينهما بصريًّا، وهو قرار هام في اختيار الممثلين أكد ما تناقشه المسرحية بشأن القيمة من ناحية كونها ذاتية ونسبية. في عام ١٩٩٠ دخلت سالي دكستر، في دور هيلين شهوانية، محمولة عاليًا على وسادة ضخمة، وملفوفة في قماش ذهبي براق، يذكرنا بتجسيدها في صورة «هدية» قيِّمة. وعلى مهل دار باريس حولها وفضَّ القماش من حولها في تسلسل «نصفه طقسي، ونصفه الآخر عرضُ تعرٍّ» (رتر ٢٠٠٠: ٢٣٣).

نادرًا ما تورد التقييمات النقدية لإنتاجات القرن العشرين لمسرحية «الدكتور فاوستوس» ذِكر هيلين طروادة، ربما لأن الإنتاجات نادرًا ما تسعى إلى مراعاة المصداقية في تصوير هيلين. يُنظَر إلى هيلين طروادة على أنها شيطان في ثوب امرأة، مثل الزوجة-العاهرة في الفصل الأول، وعادة ما يكون الشيطان الذي جسَّد الزوجة في البداية هو من يجسد هيلين طروادة في النهاية. وعلى الطرف الآخر هناك الجمال الكلاسيكي لجينيفر كوفرديل (١٩٤٦): فهي جديرة بصورة في محفوظات مركز شكسبير (بمدينة ستراتفورد أبون آفون)، رغم ذلك يظل ليس ثمة إشارة لها في التقييمات النقدية (الشكل ٢-٤).
الممثلة الوحيدة التي أدت دور هيلين وجذبت الأنظار كانت ماجي رايت ذات الأربعة والعشرين عامًا عام ١٩٦٨، ولكنها عُوملت دون غيرها بهذه الطريقة، ليس لسبب أدائها التمثيلي، ولا بسبب دورها في لعنة فاوست، ولكن بسبب زيها: فهي لم ترتدِ شيئًا. كان لأول ممثلة عارية في تاريخ ستراتفورد شعر أشقر طويل على شكل ذيل حصان، وإكليل، وسمرة زائفة عن طريق استخدام مستحضرات تجميل ماكس فاكتور (الشكل ٢-٥). ولم تذكر هيلين هذه في كل التقييمات النقدية فحسب ولكن ذكرها ورد كخبر في الصفحات الأولى في معظم الصحف المحلية والوطنية. علل المخرج كليفورد ويليامز ذلك التعري بأنه «كان أفضل وسيلة لتمثيل صورة للجمال الجسدي» (مقتبس من تقييم نقدي مجهول الكاتب في صحيفة «ريدينج إيفينينج بوست»، ٢٨ يونيو ١٩٦٨).15 لو أن اللغة هي رداء الفكر، فإن هيلين العارية هي هيلين التي لا يمكن وصفها.16

(٤) تفصيل وصف هيلين

fig4
شكل ٢-٤: جينيفر كوفرديل قامت بدور هيلين طروادة في مسرحية «الدكتور فاوستوس» لمارلو على مسرح فرقة شكسبير الملكية عام ١٩٤٦. الصورة: أنجوس ماكبيين؛ حقوق الطبع والنشر محفوظة لفرقة شكسبير الملكية. أُعيد نشره بإذن من فرقة شكسبير الملكية.
fig5
شكل ٢-٥: أول ممثلة عارية في تاريخ ستراتفورد (ماجي رايت) في مسرحية «الدكتور فاوستوس» لعام ١٩٦٨ على مسرح فرقة شكسبير الملكية. الصورة بإذن من فرقة شكسبير الملكية/شكسبير بيرث بليس ترست. حقوق الطبع والنشر محفوظة لدوجلاس إتش جيفري. (كل جهد ممكن قد بُذل من أجل الاتصال بصاحب حق الطبع والنشر.)

في هذا القسم أود أن أحاول حصر مظهر هيلين من مصادر كلاسيكية. سيقودنا الموضوع إلى شعر هيلين، وطول قامتها، وحركتها، وثيابها، وثدييها.

شعر هيلين «المتلألئ» من المحتمل أن يكون طريقة شعرية للقول بأنها كانت شقراء.17 هذه سمة تتشارك فيها هيلين مع الآلهة والإلهات: فأرتميس عند هوميروس يُطلق عليها النعت الشكلي «ذات الشعر الجميل» («الأوديسة» الكتاب ٢٠، ص٣٠٦) وهي لديها شعر ذهبي في مسرحية يوربيديس «هيبوليتوس» (يوربيديس ١٩٧٣: ٢٠، البيت ١٣٠). شعر هيلين لا يتلألأ فحسب، بل يتجعد أيضًا. تمتلك هيلين شعرًا جعدًا ذهبيًّا في كتاب يوحنا مالالاس «كرونوجرافيا» (١٨٣١، الكتاب ٥: ٩١) مثلما هو شكلها لاحقًا عند فيرجيل.18 تصور قصائد الفترات اللاحقة دومًا هيلين بشعر جعد ذهبي مشوب بحمرة، ويُظهرها عالم الفن بجدائل من الشعر على طراز ما قبل الرفائيلية.19

يقول أرسطو إن طول القامة هو عنصر ضروري للجمال (ذُكر بواسطة إروين ١٩٩٠: ٢١٠ ن٢٣). هذه أيضًا واحدة من سمات الآلهة والإلهات التقليديين. تورد إليانور إروين ملاحظة تقول بأن «في منحوتة إفريز البارثينون يشغل الآلهة والإلهات الجالسين نفس المساحة الرأسية التي يشغلها البشر الواقفون» (١٩٩٠: ٢١٠ ن٢٣). عندما تسكن قوًى سماوية سيبيل المتنبئة في الكتاب السادس من «الإنياذة»، «بدت أطول قامةً وتكلمت بنبرة لا تنتمي لأصوات الفانين» (فيرجيل ١٩٨١: ١٤٨). يأبى أوديسيوس تعريف الملك ألسينوس له بأنه خالد على أساس أنه لا يمتلك «لا مظهر ولا قَوَام الآلهة الخالدة» («الأوديسة» الكتاب ٧، ص١٠١). القَوَام يمكن أن يشير إلى هيئة الوقوف ووضع الجسم ولكن يمكن أيضًا أن يصف طول القامة (في وضع الوقوف). تعتبر الآلهة طول القامة هبة من هبات الجمال تستحق أن تُسبغ على الفانين. عندما تحمي هيرا وأرتميس، وأثينا بنات بنداريوس اليتيمات، تجعلهن هيرا جميلات، وتعطيهن أثينا مهارات خلق أشياء جميلة، وتجعلهن أرتميس فارعات الطول («الأوديسة» الكتاب ٢٠، ص٣٠٦). المقارنات الخاصة بالطول (بين الفانين والإلهات أو بين الإلهات أنفسهن) هي أمر متكرر. فالأميرة ناوسيكا «فارعة الطول وجميلة كإلهة» («الأوديسة» الكتاب ٦، ص٨٥). يروي لنا فيرجيل في الكتاب الأول من «الإنياذة» أن ديانا «أكثر طولًا من جميع الإلهات الأخريات» (١٩٨١: ٤٣).

لو أن الآلهة والإلهات هم أكثر طولًا، فهم أيضًا يتحركون بطريقة مختلفة. يتعرف إنياس على أمه فينوس في الكتاب الأول من «الإنياذة» لأن «مشيتها وحدها تثبت أنها إلهة» (فيرجيل ١٩٨١: ٤٠).20 عندما يقلد كيوبيد إخانيس في نفس الكتاب، فإنه «يحاكي طريقته في المشي» (فيرجيل ١٩٨١: ٤٨).21 في الكتاب الخامس من «الإنياذة» تتخذ الإلهة إريس هيئة بشرية ولكن المربية لا تنخدع: «انظرن إلى علامات الجمال الإلهي تلك، هاتان العينان المتقدتان، هيئتها الآمرة، طلعتها، «مشيتها»، نبرة صوتها» (فيرجيل ١٩٨١: ١٣٩، الأقواس الداخلية من عندي).
تلاحظ كتب حقبة العصور الوسطى عن طروادة حركة هيلين المتناغمة. فمثلًا في «إلياذة داريس» لجوزيف من إكستر نجد أن هيلين «مرت على الأرض بخفة رشيقة عندما مضت بطريقتها اللامبالية؛ إذ منحت أطرافها الحثيثة والرشيقة توازنًا أنيقًا لجسدها» (جوزيف/روبرتس ١٩٧٠: ٤٤). يلاحظ ييتس في «سيرته الذاتية» القوام والحركة اللذين تتسم بهما مود جوون (التي أُطلق عليها تكرارًا تسمية هيلين):
قوام شديد العظمة حتى إنها بدت من عِرْقٍ إلهي. كانت حركتها جديرة بهيئتها، وفهمت أخيرًا لماذا يُنشِد شاعر العصور القديمة، هائمًا بسيدة ما، قائلًا إنها تخطو كإلهة، في حين لا نتكلم إلا عن الوجه والهيئة. (١٩٧٢: ٤٠)22
أنواع الثياب التي ترتديها هيلين يرد ذكرها مفصلًا في الكتاب الأول من «الإنياذة»، حيث تشمل الأشياء التي نجت من سقوط طروادة ملابس من خزانة ثياب هيلين، وهدايا مهداة إليها من أمها ليدا: «رداء عليه رسومٌ مُدعَّم بشريط ذهبي، وعباءة بحاشية موشَّاة بنقوش لنبات الحرشوف الذهبي» (فيرجيل ١٩٨١: ٤٧).23 إن هذا قدر غير معتاد من التفصيل. عندما ترتدي الإلهات ملابس كهذه، فإنهن يُزينَّنها عادةً بمجوهرات ذهبية: فمثلًا تمتلك كاليبسو نطاقًا ذهبيًّا في «الأوديسة» (الكتاب ٥، ص٧٦)، وفي الكتاب الرابع من «الإنياذة» (فيرجيل ١٩٨١: ١٠١) تمتلك دايدو (مثل هيلين) عباءة بهدب مزركش ومجوهرات ذهبية (مثل كاليبسو): مشبك في شعرها ودبوس زينة عند عنقها. ترتدي هيلين نعلين ذهبيين في مسرحية «أوريستيس» ليوربيديس (١٩٧٢: ٣٥١). وتحكي لنا «الأوديسة» أن هيلين تصنع ملابسها وأنها «منسوجة بإتقان» (الكتاب ١٥، ص٢٢٦).24

تطلعنا التفاصيل المذكورة آنفا — على الرغم من كونها مشوقة — إجمالًا على نذر يسير عن هيلين من الناحية البصرية. في الواقع الكثير من هذه التفاصيل هي كلمات مدبجة، لا تشترك فيها مع شخصيات أخرى فحسب بل أيضًا مع البشر الفانين؛ لذا قد لا يكون الهدف تحديد صورة هيلين ولكن أن تُقْرَن بالآلهة.

الأمر الثابت في وصف هيلين طروادة — من هوميروس إلى القرن الحادي والعشرين — هو غياب التفصيل. يصف هوميروس هيلين بأنها تمتلك «وجه الإلهات الخالدات»؛ فهي ترتدي «ثيابًا براقة» ولديها شعر لامع. وهي عند فيرجيل ترتدي أردية فضية ولديها خصلات شعر مجعدة ذهبية مشوبة بحمرة. إن غياب التحديد هو أمر منطقي: إذ لو أن هيلين هي بلا جدال أكثر نساء العالم جمالًا، فما إن تتح تفاصيل حتى تجعل جمالها أمرًا قابلًا للجدال. وإن ردة الفعل نحو نسخة هيلين طروادة بأداء ديان كروجر — التي ذُكرت في بداية هذا الفصل — توضح هذه المسألة. وكذلك تفعل ردة فعل جيورجيو ميلكيوري نحو مناقشة ييتس لجمال هيلين. كتب ييتس عديد القصائد إلى هيلين (وإلى الشخصية التي تجسد هيلين في حياته، مود جوون) لكنه ارتكب زلة الاستغراق في التأمل في «نوع الجمال المناسب لهيلين» (ميلكيوري ١٩٦٠: ١٢٩). فبعد نبذه لجميلات بوتيتشيلي وروزيتي (فجميلات بوتيتشيلي لديهن «فضول مبالغ فيه»، وجميلات روزيتي تمتلكن «عاطفة مفرطة») يستقر على نساء بيرن-جونز (ييتس ١٩٢٥: ٦٨؛ ١٩٣٧: ١٣٣). لم يكن هذا ليكون اختيار ميلكيوري، الذي يتكلم عن ««خيبة الأمل» في مماثلة جمال هيلين بحسن تكوينات بيرن-جونز الخالية من الحياة» (ميلكيوري ١٩٦٠: ١٢٩، الأقواس الداخلية من عندي).

إذن لكي يصف المرء جمال هيلين ينبغي أن يصف أثر هيلين، وتأسيسًا على ذلك الأثر يمكننا أن ندعو مصدره «جمالًا»، ذلك هو موضوع القسم التالي.

(٥) أثر الجمال

في الكتاب الثالث من «الإلياذة» يجلس سبعة عجائز من الناس عند البوابات السكانية. عندما يرون هيلين، يقبلون راضين خوض حرب من أجلها: «لا شك أن الطرواديين والآخيين المدججين لا يُلامون/إن واجهوا المتاعب لأمد طويل في سبيل امرأة كهذه» (٣. ١٥٦-١٥٧). ومع ذلك يغيرون رأيهم على الفور («ورغم كل ما هي عليه، دعوها تغادر على السفن»)، لبُرهة امتلك الجمال سلطانًا قادرًا على نقض آرائهم.

وهذا يتماشى مع وصف هوميروس لتلك الصيغة الأخرى من المطلق: الألوهية. فعند هوميروس تدرك الشخصيات متى كان أحد الآلهة موجودًا معهم (أو شخص ما آخر) بسبب التغيير الذي يقع عليهم: «لقد شعر بالتغيير واجتاحته الرهبة؛ لأنه أدرك أن إلهًا كان معه»، «من الواضح أن الآلهة تلقنك طريقة الكلام الجريئة والمتعالية هذه» (الأوديسة الكتاب ١، الصفحات بين ١٢ و١٤).25
ليس الطرواديون وحدهم هم من يجيبون هيلين بهذه الطريقة. في رواية كوينتوس من سميرنا لنهاية الحرب، تخفي هيلين رأسها — محمرة خجلًا و«مذعورة ومرتعدة» خشية أن ينتهكها اليونانيون — وتلازم النساء الطرواديات الأسيرات إلى السفن. الجنود اليونانيون الذين كانوا قد سبُّوها منذ لحظات «تطلعوا مدهوشين إلى الروعة والحسن الفتان للمرأة التي لا يشوبها عيب. لم يجترئ رجل على أن يتطاول عليها بالشتائم، لا سرًّا ولا علانيةً؛ إذ وجدوا متعة في النظر إليها، كما لو كانوا ينظرون إلى إلهة» (١٩٦٨: ٢٥٠-٢٥١).26

إن هذا التقليد المتعلق بتقديم النساء الجميلات من ناحية أثرهم على الآخرين هو مع غرابته راسخ في الأدب. في قصيدة مارلو «هيرو وليندر» (المنشورة عام ١٥٩٨) لا تؤثر هيرو على الرجال فحسب («ذاك الذي تفضله يحيا، أما الآخر فيموت»؛ ١٢٤) بل وحتى الآلهة (يرى أبوللو شعرها ويعرض عليها تاجه كمَهرٍ، وصار كيوبيد كفيفًا بنظره إلى وجهها) وعالم الطبيعة: أنفاسها جميلة للغاية حتى إن النحل يحسبها خطأً عسلًا، وتبتهج الرياح باللعب على يديها لأنها لا تقدر على الابتعاد عن جمالها، وتنتحب الطبيعة ذاتها لأن هيرو أخذت منها كل الجمال. (على النقيض، يُقدَّم ليندر من ناحية جماله الجسدي: عنقه فاق «بياض كتف بيلوبس. يمكنني أن أروي لك/كم كان صدره أملس وكم كان بياض بطنه»؛ ٦٥-٦٦.) تعرض قصيدة جون أوجل السردية «مراثي طروادة» (١٥٩٤) مبالغةً مسبباتِ الظلام والنور كأنها متوقفة على هيلين: عندما تغلق هيلين عينيها تمسي الأرض ظلامًا، وعندما تفتحهما يغمر ضوءُ النهارِ العالمَ. في إطار إنتاج ويليام بويل لمسرحية «الدكتور فاوستوس» (١٨٩٨) لم يرَ المشاهدون هيلين إلا من ظهرها. كانت ردة فعل فاوست هي التي حددت جمال هيلين (تيديمان ١٩٨٤: ٧٧).

إسخيلوس هو الكاتب المسرحي الوحيد من القرن الخامس قبل الميلاد الذي وصف الأثر الوجداني لغياب هيلين على مينلاوس؛ فهو — غيرُ قادرٍ على الأكل أو الكلام — ينظر إلى تمثال هيلين وتعذبه رُؤًى لها:
هناك يرقد زوجها صائمًا
صامتًا في غرفته المنكوبة …
تكتنفه رؤًى لها
ببهجة زائفة وزائلة.
(«أجاممنون» في إسخيلوس ١٩٦٨: ٥٧)
يمهد مينلاوس في هذا الموضع الطريق لخلفائه مفرطي الإثارة الوجدانية في كتب العصور الوسطى عن طروادة التي فيها يغشى على مينلاوس — ليلازم مخدعه لفترة ممتدة — وينتحب طويلًا ويكاد يموت عندما يكتشف اختطاف هيلين.27
يقود الجمال إلى أثر آخر ملموس سلبًا، أثر يلحق بجسد الشخص الجميل نفسه/نفسها: وهو الاغتصاب. هذا هو مصير جانِيمَادَس، وكليتوس، وعدد لا يُحصى من الفانين وأشباه الفانين اليونانيين (دفع جمال جانيمادس زيوس — في هيئة نسر — إلى أن يختطفه، فيما يختص بكليتوس انظر «الأوديسة» الكتاب ١٥، ص٢٣٠). الجمال هو المبرر الذي أعطاه المغتصبون في أعمال عصر النهضة الأدبية، مثل بيروكليس، في مسرحية «أركاديا القديمة» لسيدني، الذي ينعى على جمال فيلوكليا عُنفَه الجنسي نحوها: «قهرتها، إذ قهرني الحب قهرًا أعظم» (استُشهِد به بواسطة كاتي ١٩٩٩: ٤٦). الاغتصاب هو الحدث الذي تخشاه روزالند في مسرحية «كما تشاء» عندما تهرب هي وسيليا إلى الغابة. ترى روزالند أن الاعتداء الجنسي يتولد مباشرةً عن الجمال الأنثوي:
يا للأسف! ما أشد الخطر الذي سيحيق
بابنتين مثلنا في ترحال بعيد كهذا!
فالجمال يثير اللصوص أكثر من الذهب.
(١. ٣. ١٠٨–١١٠) [ترجمة ج. يونس]

الاسم الذي تستخدمه للتخفي، وهو جانِيمَادَس، هو إشعار بنوع السلب الذي يثيره الجمال.

جمال هيلين يحدده أثر آخر: وهو الحرب التي دارت باسمها. وبإجراء عملية استنباط عكسي، نجد أن الأثر صنع «قيمة لمسببه» (ريتشاردز ١٩٢٥: ٢١). في نسخة بي إف (مترجم مجهول الهوية) لكتاب فاوست بالإنجليزية تُعتبر هيلين «جميلة جمالًا يفوق العادة، لأنه عندما استُلِبَت بعيدًا عن زوجها، أُريقت دماءٌ كثيرة من أجل استعادتها» (الفصل ٤٥؛ تي إل إن ٢٣٤٨–٢٣٥٠ في جونز ١٩٩٤). تُعبِّر شخصية شكسبير ترويلوس عن هذه الرؤية بسخرية مريرة: «لا بد أن تكون هيلين جميلة ما دمتم تلوثونها بدمائكم كل يوم هكذا» («ترويلوس وكريسيدا» ١. ١. ٨٠-٨١) [ترجمة د. عبد الحميد يونس، دار المعارف، الطبعة الثانية]. يعرض فاوست برواية جوته في «فاوست الجزء الثاني» قتل الحارس الغافل، ليس عقابًا له على قلة يقظته ولكن كدليل على سطوة جمال هيلين (سطوة لا ترغب هيلين في الحصول عليها) (٩٢٤٦–٩٢٥٧). هيلين عند لورد دانسني تتخذ الرأي المخالف لرأي جوته، ساردة تأثيرات جمالها بفخر:
«وهل كنتِ مسرورة؟» سألوا هيلين في الجحيم.
أجابت «مسرورة؟! عندما سقطت كل أبراج طروادة،
ومات أبناء بريام، وفقد عرشه؟
وجرت حرب كهذه لم يعرف بمثلها أحد،
بل حتى إن الآلهة شاركت فيها؛ وكل هذا
بسببي أنا وحدي! مسرورة؟! يجب أن أقول إنني كنت كذلك!»
(١٩٣٨: ٦١)

سأعود إلى تعريفات الجمال كأثر وليس كقيمة في نهاية هذا الفصل. أود الآن أن أنظر في أثر جانب محدد (أو جانبين) من جوانب جمال هيلين: وهما ثدياها.

(٦) ثديا هيلين

إذا كان الأثر الذي يؤديه جمال هيلين في بداية الحرب هو توحيد اليونان على القتال من أجلها، فإن الأثر الذي يصنعه ذلك الجمال بعد عشر سنوات هو منع اليونانيين من قتلها. هذا الأثر مُركزٌ عادةً في لحظة درامية واحدة، اللحظة التي يرى فيها مينلاوس زوجته لأول مرة عند خراب طروادة. يبدو أن مينلاوس عزم على (أو كان متوقعًا) أن يقتل هيلين عندما استردها في طروادة.28 يروي لنا إبيكوس أنه عندما أبصر مينلاوس هيلين، ألقى سيفه. أما إيسقراط فيقدم بديلًا: هو أن اليونانيين أقبلوا على هيلين ليرجموها ولكن «ما إن رأوا وجهها، تركوا الحجارة تسقط من أيديهم.» تأتي هذه النادرة التالية من المعلق القديم على مسرحية يوربيديس «أوريستيس» ١٢٨٧، وفيها تتساءل إلكترا المنصتة والمترقبة عند الباب لأصوات قتل (التضحية ﺑ) هيلين: «أذَهبتْ حدَّة سيوفهم عند مرأى جمالها؟» (يوربيديس ١٩٧٢: ٣٤٥). إن «الإلياذة الصغرى» وأريستوفان هما اللذان يغيِّران موضع جمال هيلين المثير للعاطفة من وجهها إلى ثدييها. يقول الأول: «مينلاوس … عندما لمح بطريقة ما ثديَيْ هيلين عاريين، ألقى سيفه» (في هيسيود ١٩٧٧: ٥١٩). تسأل لامبيتو النساء في مسرحية «ليسستراتي»: «ألم يعلق بأذهانكن كيف أن مينلاوس ألقى سيفه حينما فقط رأى لمحة من ثديَيْ هيلين؟» (أريستوفان ١٩٧٣: ١٨٥).29
يسخر بيليوس (والد أخيل) مزدريًا من مينلاوس في مسرحية يوربيديس «أندروماك»:
أنت لم تقتل المرأة.
فهي لم يكن منها إلا أن كشفت ثديها، فرميت أرضًا
سيفك، وتركتها تلثمك، أعطيت العاهرة الخائنة
عناقًا حنونًا، يا لك من زري، أيها المتخاذل الولهان!
(يوربيديس ١٩٧٢: ١٦٦)
من وجهة نظر بيليوس، أن رد فعل مينلاوس يمثل خصيًّا مفتونًا بزوجته (مغزى خمود الذكورة من السيف الساقط جليٌّ.) يدحض مينلاوس هذا الاتهام. لم تكن فورة شهوة هي ما جعله يحجم عن قتل هيلين، ولكن نقيض ذلك: «التحكم في الذات» (يوربيديس ١٩٧٢: ١٦٧). يقدم كوينتوس من سميرنا رواية مطولة عن اجتماع شمل الزوجين. كان مينلاوس:

يخطط لقتلها … بيْد أن أفروديت البهية كبحت قواه، وضربت السيف من يده، وأوقفت بطشه. بددت عنه [أفروديت] غيرته السوداء وألهبت في قلبه وعينيه رغبة عذبة. حل عليه ذهول مباغت، وعندما رأى جمال هيلين الصارخ، لم يطاوعه قلبه على ضرب عنقها بسيفه. (كوينتوس ١٩٦٨: ٢٤٤)

أخذًا في الحسبان ذِكْرَ تَدَخُّل أفروديت (تدخل أفروديت يعني عادةً تحميل مسئولية «الرغبة» بعبارة لطيفة على عاتق الإله) من السهل أن نتخيل الموضع الدقيق «لجمال هيلين الصارخ».

تلحظ «الإلياذة الصغرى» — المقتبس منها آنفًا — الكيفية التي صار بها ثديا هيلين «بطريقة ما» «عاريين»، ولكنها لا تتكهن بهذه الطريقة. يفترض بيليوس في مسرحية يوربيديس أن الانكشاف لم يكن صدفة من نسج الأقدار. فهيلين تبعًا لصياغته تدير الحيلة — «فهي لم يكن منها إلا أن كشفت ثديها» — والأدب ينحاز مرة تلو الأخرى إلى بيليوس. حتى إن رواية مارجريت أتوود «البنلوبية» تعيد ترديد صياغة بيليوس عندما تشكو بينيلوبي المضطهدة قائلةً إن «كل ما كان على (هيلين) فعله أنها كشفت واحدًا من ثديَيْها الفذَّين، فصار جاثيًا على ركبتيه … ضارعًا أن يعيدها» (٢٠٠٥: ٢١). فبأخذ أن باريس كذلك يرى ثديَيْ هيلين عندما يسقط رداؤها منفتحًا منها في «قصائد البطلات» لأوفيد (١٩٩٠: ١٥٦) في الحسبان تكون هيلين إما قليلة الانتباه نحو الثياب أو أنها تستخدم التعري بطريقة تكتيكية. والأمر الأخير هو الأرجح؛ ففي رواية كولوثوس لواقعة تحكيم باريس نجد أفروديت تُبرِز صدرها لباريس.

وتبدي فينوس — في «إلياذة داريس» لجوزيف من إكستر التي ترجع إلى العصور الوسطى — وجهها وثدييها لباريس. وتناشده، وهي تنزع غطاء رأسها لتكشف عن وجهها، قائلة: «لا ترفض وجهًا كوجهك في جماله» (٢: ٦٠٦ / ٧؛ جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١١٥). ثم تزيح عباءتها لتكشف جسدها: «كان جسدها عاريًا، والتمع ثدياها العاريان في جمال مكتمل» (٢: ٦٠٨ / ٧؛ جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١١٧).30 ومع ذلك تقاوم هيلين لاحقًا نفس النزعة: «إنها تود أن تظهر وجهها وثديَيْها العاريين (يبدو أن وجهها وثدييها، مثل أفروديت، هما أكبر علامات الجمال لديها) ولكن حس العفة لديها يزجرها ويكبح جماح هذين الفيضين مكتملي النضج!» (٣. ٢٣٧–٢٣٩؛ جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٥). تعترف هيلينا في قصيدة إدوارد دودين (١٨٧٣) قائلة: «وهكذا أُنحي الرداء جانبًا/وأكشف عن ثديَيْ هيلين» فالانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب في هذا الموضع يُظهر أنها تستبدل حالة النزعة الشخصية بحالة اعتبار الذات شيئًا، وهو فعل سيُنقذ حياتها (أهي تعرف ذلك؟) (١٩١٤: ٣٤).31
في نسخة ستيفن فنسنت بينت (١٩٢٠) يقع إﻳﺘﻴﺲ في حب هيلين الشابة، التي يظهر ثديها بالمصادفة عاريًا:
وقف إﻳﺘﻴﺲ محدقًا؛
يرى في كل الأشياء وجهًا رائعًا،
وكيف ترك رداؤها القصير أحد ثدييها الناضرين عاريًا.
(١٩٢٠: ٦)
(لاحظ أن الرداء القصير، وليس هيلين، هو الذي كشف الثدي.) في عام ١٩١١ تتفكر هيلين في قصيدة سارة تيزدال في كيفية إنقاذها لحياتها؛ إذ تتوقع قتل مينلاوس لها عقابًا على فعلتها:
ومع ذلك فلن يذبحني. سأقف برأس منتصبة وأنظر في عينيه،
كاشفةً له وللشمس عن صدري.
لن تواتيه القوة على تلطيخ
تلك البشرة ناصعة البياض بالدماء
إذ سوف يسقط السيف المتعطش
وسيبكي ويمسك بي بين ذراعيه.
(١٩٣٧: ١١)

قرارها هو أن تفعل أكثر من مجرد حفظها نفسها، أو أن يكون حفظها نفسها هو غاية في حد ذاته؛ فهي تريد أن تحيا كي تستطيع أن تجعل بلاد اليونان تحبها ثانية، وأن تسترد اعتبارها إن لم يكن سمعتها، وقدرتها على إحداث رد فعل يشمل عموم اليونان: «سوف أرجع إلى أسبرطة محمولة على صدره./وسأستمر في الحياة حتى أُخضِع بلاد اليونان ثانيةً!» (١٩٣٧: ١١). ينتقل الحديث عن الصدر من كونه متعلقًا بثديَيْ هيلين إلى صدر مينلاوس. إلا أن الصورة غريبة: كيف تعود المرأة محمولة على صدر زوجها وليس كما هو متوقع — وإن كان تعبيرًا مبتذلًا — على ذراعه؟ من المحتمل أن تكون العبارة تجسيدًا (ركيكًا) لعبارة «في قلبه».

يتلقى ثديا هيلين المتفردان في قصيدة «لوكريتيوس» لتينيسون (١٨٦٨) أكثر التناولات الأدبية جدارة بالتذكر، حيث لا يُعتبران فقط بمثابة عرض ألعاب نارية بل كقاذفي لهب — مُصممين ليخمدا التوهج الذي هيجاه:
ثم، ثم، من الكآبة المطلقة برز الثديان،
ثديا هيلين، وصُوِّب سيف نحوهما ليخترق
محيطًا بهما، لوهلة يكون فوقهما وأخرى تحتهما،
وثالثة بينهما، ولكنه تَرَدَّى خَجِلًا
من كل ذلك الجمال؛ وبينما كنت أحدق،
تفجرت منهما نار، النار التي خَلَّفَت إيليون بلا سقفٍ
ولفحتني حتى استيقظت.
(١٩٣٦: ٨٠٨)
بعد أن كان «الوجه» الذي دفع ألف سفينة إلى الحرب، صار جمال هيلين الآن متركزًا في جزء واحد من تركيبتها الجسدية (يأبَى السيف الذي أُعطي صفة بشرية أن يخترق ثديَيْها، «خَجِلًا من «كل ذلك الجمال»»؛ الأقواس الداخلية من عندي) وذلك الجزء البنيوي منفصل عن بقية الجسد على نحو محرج. ليست هيلين هي من ظهر للوكريتيوس، بل ثدياها.32

أعدت زوجة لوكريتيوس — التي يهملها زوجها — شرابًا سحريًّا مفرط القوة للمحبة ليعالج انشغال زوجها الذهني. وفي تلك اللحظة جرى ببساطة إعادة توجيه اختلال التوازن في حياته، لا إعادة التوازن إلى حياته؛ فهو «غارق في ولعه» لا بثلاثمائة من اللفائف السداسية ولكن بالعواصف البرقية والأحلام الشهوانية. توضح مفردات الطِّباق المستخدمة خلال القصيدة ميل لوكريتيوس نحو ألا يرى في الطبيعة إلا نزعة نحو «التضارب» — فما كان بالأمس «مغبرًا وجافًّا» يصبح اليوم «مجمعًا صاخبًا لقنوات المياه» — وليس التوافق (دانزيج ١٩٦٧: ٥٧٩–٥٨٢). فالأمور التقابلية والتكافلية ليس لها مكان في فلسفته الجامدة: فكما يعتقد، «ذو الطبيعتين ليس من الطبيعة.»

إن حلم لوكريتيوس المفرط في السخونة تخمده بحقٍّ النار (رغم أنه لا يستطيع أن يتبيَّن تلك الازدواجية)؛ فنفس مصدر الإثارة لديه هو أيضًا وسيلة إخمادها. إن ثديَيْ هيلين الناريين هما العِلة والعلاج. مثلما تمتلك الطبيعة النور والنار «الخلَّاقين»، يمكنها استخدام القوة نفسها بطريقة تدميرية في البرق، وكذلك أيضًا ثديا هيلين «القادران على الإطعام» يمكن أيضًا أن يُدمِّرا (دانزيج ١٩٦٧: ٥٧٩).33
للرمزية المزدوجة للثديين — كأغراضٍ للخصوبة وكأغراض شهوانية دنيوية — تاريخ معقد. لم يكن ثديا هيلين متعلقَيْن دومًا بالشهوة. فبحسب الروايات أضفت هيلين القدسية على كأس عند ليندوس بجزيرة رودس، كان مصممًا على شكل ثديها. ثديها هنا مقدس وموضع توقير وليس ماديًّا.34

من المرجح أن هيلين كانت إلهة إخصاب قبل أن تتخذ شكلًا بشريًّا كملكة أسبرطية (على الرغم من أنه من المحتمل أن يكون التأثير في الاتجاه العكسي: الملكة الأسبرطية تحولت شيئًا فشيئًا إلى إلهة إخصاب). إن أوجهًا عديدة من قصتها — على سبيل المثال، الاختطافات المتعددة (التي نوقشت في الفصل الأول) — تُلاقي تأويلًا منطقيًّا في خاصية تعدد الشركاء من الرجال التي تتمتع بها إلهات الإخصاب. ظهر الثديان بصورة متكررة في معبودات الإخصاب القديمة. لقد أرضعا وأطعما (الكنايات الدينية والزراعية جلية)، وتضاعفا (كالإلهة أرتميس متعددة الأثداء بأفسوس) وتغير مظهرهما: كان في بعض الأحيان يُرمز إليها — أو تُقْرَن ﺑ — ثمار البلح، أو التين، أو جوز البلوط، أو الأزهار، أو جِرار العسل (في إشارة إلى الصلة بين إخصاب الإلهات والنساء من جهة وبين مملكة النبات من الجهة الأخرى). عندما أُبعِدَت جايا الإلهة الأم وإلهة الأرض المرتبطة بالأمومة بواسطة الآلهة الكلاسيكية المتمركزة حول الذكورة مثل زيوس، تبدَّل ببساطة رمز الإخصاب. تورد مارلين يالوم مثالًا لمنحوتة خشبية من القرن السابع عشر قبل الميلاد تصور زيوس وهو يمط ثدي هيرا مثلما قد تفعل الإلهة نفسها. من المرجح أن أيقونة العذراء مريم المُرضِعة هي محاولة لجعل الديانة المسيحية الحديثة العهد مألوفة بربطها بالديانات الأقدم التي يسيطر فيها رمز الأمومة. إن مشاهد إرضاع الإلهة إيزيس لابنها حورس هي على الأرجح النماذج الأصلية التي صُنعت على حذوها «أيقونة العذراء المرضعة» في العصور الوسطى (يالوم ١٩٩٧: ١١).

من المحتمل أن الثدي الذي كشفته هيلين كان صغيرًا. فحسب مارلين يالوم، لم تكن الأثداء الكبيرة شيئًا مرغوبًا فيه من الناحية الجنسية (أو لم تُجسَّد في الفن كشيء مرغوب) حتى أعمال روبنس في القرن السابع عشر (يالوم ١٩٩٧: ١٠٢). وفي حين سكت هوميروس عن ذكر حجم ثدي هيلين، إلا أنه عند الثناء على الأثداء في دراما أثينا الكلاسيكية كانت تُوصف بأنها «تشبه التفاح». تتفاخر فتاة شابة في مسرحية أريستوفان «برلمان النساء» قائلةً: «أثداؤنا مستديرة كالتفاحات» (أريستوفان ١٩٧٨: ٢٥٣).35 إن العبارة التي صاغها المترجم «ثديا هيلين» في السطر المذكور آنفًا من مسرحية «ليسستراتي» تعني حرفيًّا في النص الأصلي «تفاحات هيلين». قدرت الثقافة الأثينية الأثداء الصغيرة، مثلما قدرت الأعضاء التناسلية الذكورية الصغيرة، معتبرة أن الأعضاء الجنسية الكبيرة تشابه الأعضاء التناسلية للحيوانات، بيْد أن الأثداء «التي تشبه التفاح» تشير إلى التماسك والاستدارة تمامًا مثلما تشير إلى الحجم، وهي بذلك تمثل عبارة مختصرة تعبر عن شباب هيلين.
قد تمتلك هيلين أيضًا جمالًا يخلط بين الذكورة والأنوثة، وهي ليست الكيفية التي ننظر بها عادةً إلى المرأة الأجمل على الإطلاق في الأعمال الأدبية، حيث التركيز هو على «الخصائص الأنثوية». تربط كارول آن دوفي في قصيدة «جميلة» هيلين بشخصيات بارزة مثل كليوباترا، ومارلين مونرو، والأميرة ديانا.36 دعونا في هذا السياق نلقِ نظرة على تمثال أنطونيو كانوفا النصفي لهيلين وأسلوب المزج بين الخصائص الذكورية والأنثوية في الفن الغربي.

(٧) المزج بين الخصائص الذكورية والأنثوية

في البداية صادفت صورة لمنحوتة كانوفا لهيلين في موقع الإنترنت الخاص بجامعة إميننت (الشكل ٢-٦). إلا أنه كان لديَّ الاختيار من بين العديد من مواقع الإنترنت (وبعض الكتب) التي كان يمكنني نسخ أو تنزيل الصورة منها، والتي اتفقت كلها على تعريف التمثال بأنه يخص هيلين. الوجه بالفعل أنثوي، ويتسم بالرصانة والجمال ومحاط بخصلات شعر مجعدة ذهبية مشوبة بحمرة. وجه الغرابة الوحيد هو غطاء الرأس، وهو عبارة عن قلنسوة فريجية، لا ترتديه النساء ولا غير الطرواديين. يتضح في الواقع أن هذه الصورة ليست لهيلين على الإطلاق؛ إنها تمثال نصفي لباريس من نحت كانوفا.
fig6
شكل ٢-٦: تمثال نصفي لباريس من نحت كانوفا، في متحف الفن، شيكاجو. هذا التمثال النصفي شديد الشبه بتمثال هيلين النصفي بشكل ٢-٧.
إذن، كيف يبدو شكل هيلين في منحوتة كانوفا؟ هناك عدد أقل من النسخ المطابقة للأصل لمنحوتته لهيلين، قد يكون سبب ذلك أن المنحوتة (في شكلها الأشهر) ليست معروضة للجمهور، وأنها ما زالت مستقرة في قصر ألبريزي في مدينة البندقية حيث كلفت مالكة القصر الأصلية (إيزابيلا ألبريتسي) كانوفا بمهمة نحت هذه القطعة الفنية التي أتمها عام ١٨١٢. قد يكون ندرة عدد الصور المأخوذة للمنحوتة قد أدى إلى الخطأ في التعرف على منحوتة باريس لكانوفا على أنها منحوتة هيلين لكانوفا. إلا أنه على الرغم من ندرة إمكانية الوصول إليها قد تؤدي إلى استمرار الخطأ في التعرف على المنحوتة، فهي ليست كافية في حد ذاتها لإحداث ذلك الخطأ. إذا ما قارنَّا بين منحوتة هيلين لكانوفا مع منحوتته لباريس، فسنجد أن هناك نذرًا يسيرًا من الاختلافات الفارقة بين الاثنين؛ فخصلات شعر هيلين المجعدة أطول، وتصنع جدائل تصل إلى كتفها، بينما ترتفع خصلات شعر باريس كثيرًا لتصل إلى قلنسوته. تمتلك كلا الشخصيتين شفتين رفيعتين وتامَّتين وذقنًا دائرية، ولدى كليهما أنف تقليدية، وإن كان أنف هيلين أطول ومعقوفًا أكثر، مبتدئًا عاليًا بين عينيها بينما يمتلك أنف باريس انحناءة تشبه على نحو أكثر منحدر تزلج (في هذا الصدد، تبدو الصورة الجانبية لباريس «أنثوية» أكثر بمعايير يومنا هذا). وكلاهما لديه عينان خاليتان من السواد تحدقان بعيدًا. وترتدي هيلين قلنسوة صغيرة، ويرتدي باريس قلنسوة فريجية. هل يستطيع المرء بسهولة أو بثقة أن يميز بين الاثنين، إلا عن طريق غطاء الرأس؟ وإذا لم يكن لدينا سوى منحوتة واحدة فحسب هل كنا لنتعرف على من تجسده بثقة؟ ليس أمرًا جديدًا أن يكون نوع الجنس شيئًا مصطنعًا، ولكن هل ينطبق ذلك أيضًا على الجمال؟37

للخلط بين المذكر والمؤنث، وتصوير أحدهما على أنه الآخر، تاريخ طويل ويحظى بالاحترام في الفن الغربي. فالمزج بين الخصائص الذكورية والأنثوية كان بُغْيَةً نحتيةً عند اليونان، تجسدت في منحوتات الصبيان المُلحاء من المراهقين إلى من تجاوزوا الثامنة عشرة. قد يجادل المرء في أن هناك فارقًا بين الصبيان المتخنثين وبين الإناث المتشبهات بالصبيان. وهذا ليس ما تقوله كاميلي باليا: «إن نوع الجنس في العقلية الهيلينية هو في تدفق حر، حتى إن نوع الجنس في التماثيل المهشمة يمكن أن يكون أمرًا محل شك. لقد كان وقوع أخطاء في تحديد الهوية أمرًا معتادًا» (١٩٩١: ١٢٤).

fig7
شكل ٢-٧: تمثال نصفي لهيلين من نحت مدرسة كانوفا، «حقوق الطبع والنشر محفوظة لصور في آند إيه»، متحف فيكتوريا وألبرت، لندن.

لا يحتاج الفن لأن يكون يونانيًّا كلاسيكيًّا كي يجسد الذكور والإناث تجسيدًا يمزج بين الخصائص الذكورية والأنثوية. تمتلك منحوتة ديفيد لدوناتيللو في عصر النهضة الإيطالية ملامح أنثوية، في شعره الذي يصل طوله إلى الكتف، وقبعته المائلة بطريقة جذابة، وبنيته الجسمانية وابتسامة تبدو كابتسامة الموناليزا التي يسبقها زمنيًّا (باليا ١٩٩١: ١٤٦-١٤٧). يمتلك تمثال «جوليانو دي ميديشي» لمايكل أنجلو رقبة «ملتوية، كرقبة الإوزة وأنثوية» (باليا ١٩٩١: ١٦٣). الملاك في لوحة «عذراء الصخور» لليوناردو مفرط في الأنوثة حتى إن «الدارسين الذين يرون اللوحة للمرة الأولى يصرون على أنه امرأة» (باليا ١٩٩١: ١٥٦). وتستمر الميوعة في المراحل التالية. فوجه إليزابيث سيدال، الذي كان عند دانتي جابرييل روزيتي هو وجه هيلين، صار عند بيرن جونز الوجه المعبر عن الجمال الذكوري (باليا ١٩٩١: ١٢٢).

«إنه فتًى يا سيدي. ليس فتاةً. إن كان يحيرك الاختلاف فربما حري بك التعامل مع كليهما بحرص.» هكذا يحذر الشرطي وهو يكشف النقاب عن نهاية مسرحية «ما رآه كبير الخدم». في الواقع يشير عدم القدرة على معرفة الفارق بين ذكر وأنثى، بدءًا من الأدب الكلاسيكي إلى المرحلة المبكرة من الأدب الحديث، إلى الوجود في حضرة جمال رائع، بل وحتى إلهي. يخبرنا فيليب فيلاكوت أن ديونيسوس في مسرحية يوربيديس يمتلك «جمالًا غضًّا، ويكاد يكون أنثويًّا» («الباكوسيات» ليوربيديس ١٩٧٣: ١٩١). في الكتاب الثامن من «التحولات» لأوفيد تمتلك أطلانطا «قسمات لو أنها لصبي لكانت قد وُصِفَت بأنها كقسمات الفتيات، ولكن إذا امتلكتها فتاة فهي كقسمات صبي» (١٩٥٥: ١٨٧).38 تشبه هيلين الجميلة عند داريس شقيقيها التوءمين المليحين (فريزر ١٩٦٦: ١٤٢). وطيلة سوناتات شكسبير، الشاب المليح يشبه المرأة. في السونيتة ٥٣ يحاول الشاعر أن يصف جمال الشاب: «على صفحة وجه هيلين تجمعت كل فنون الجمال،/وأنت على الحلي اليونانية مرسوم من جديد» [ترجمة بدر توفيق، سوناتات شكسبير الكاملة]. يماثل الشاب في جماله جمال هيلين لو كانت رجلًا، إنه هيلين في صورة رجل.39 تقدم قصيدة مارلو السردية القصيرة الأوفيدية «هيرو وليندر» هذه المعلومات عن ليندر: «أقسم البعض أنه فتاة في لباس رجل/إذ كان في مظهره كل ما يشتهيه الرجال» (٨٤-٨٥). مثلما تفسر ديمبنا كالاجان، كان الجمال الذي يحمل السمات الذكورية والأنثوية معًا أو الخنثوي هو الجمال المثالي: «كان مفهوم أن تلك الهويات الجنسية المنصهرة، من وجهة نظر جمالية، هي تجليات لجمال تجاوَز تمايز الجنس بجمعه بين أفضل السمات لدى كلا الجنسين» (٢٠٠٧: ٣٥). ونحن حينما ننظر إلى هيلين التي تحمل السمات الذكورية والأنثوية معًا لا ننظر إلى «أنثى فاتنة» مثيرة ولكن إلى ما يدعوه كيت هسكيث هارفي توريةً «فتًى طرواديًّا».40
هذا التقليد الذي يحمل السمات الذكورية والأنثوية للجمال تصطبغ به قصيدة العرس التي ألفها هيوود احتفاءً بزواج الأمير الناخب لإقليم بالاتين والأميرة إليزابيث («نصر بالزواج») (١٦١٣). في مديح لجمال الأمير ينشد هيوود:
لقد حاز لأعوامه
وجماله على اسم ذائع الصيت،
فيشبهونه جميعًا بفينوس، أو بابنها.
اتشح بطلاوة ممتزجة في سيماه،
و«بيْد أن ديدنه بيَّن نوع جنسه»،
قد تخطئ العين الناظرة المتعجلة
ملاحظة أنه يحمل جمالًا أنثويًّا في مظهر رجالي.
(الأقواس من عندي)
مثلما في الخطأ في التعرف على هوية منحوتة باريس/هيلين لكانوفا، الزي — قلنسوة باريس الفريجية، و«ديدن» كونت بالاتين — هو ما يحدد النوع.41
عند مارلو وشكسبير، لا تقارن هيلين بالمُثُل الرجولية المحتذى بها بل وبالآلهة الذكور. في «الدكتور فاوستوس» هيلين ليست أجمل من سيميلي أو أريثوسا ولكن أجمل من «جوف (جوبيتر)» عندما ظهر لسيميلي أو عندما انغمس في الملذات مع أريثوسا:
أنتِ أبهى من جوبيتر ذي البهاء
عندما ظهر لسيميلي سيئة الطالع،
وأبدع من مَليك السماء
في أحضان أريثوسا اللعوب اللازوردية.
(٥. ١. ١٠٦–١٠٩)

شكسبير أيضًا في مسرحيته «ترويلوس وكريسيدا» يقارن هيلين بإله، بأبوللو: في مقابل هسيونيه ظفر الطرواديون بمَن «يبدو ما لأبوللو من شباب ونضرة ذابلًا/أمام شبابها ونضرتها» (٢. ٢. ٧٨-٧٩) [ترجمة د. عبد الحميد يونس].

ومع أنه قد يبدو في البداية أمرًا غير تقليدي فإن مقارنة هيلين برجل، أو بمُثُل الجمال الذكورية، هو أمر منطقي تمامًا. إن هيلين تحدد مقاييس الجمال الأنثوي؛ فمقارنتها بأنثى أخرى هي مقارنة لا معنى لها؛ لأن هيلين تؤسس التصنيف الذي على أساسه تُقدَّر النساء الأخريات. فلكي يصف المرء هيلين، يجب أن يخرج عن التصنيف. المزج بين الخصائص الذكورية والأنثوية هو تصنيف مستقل تمامًا لأنه ليس معتمدًا على آخر (حيث إن الذكورة تُعرَّف بالتضاد مع الأنوثة والعكس بالعكس).

أود الآن أن أتناول موضوع هيلين من ناحية كونه الحقيقة المطلقة للجمال عبر تفصيلة غريبة تتصل بملامح الوجه تلتحق بالسرديات الخاصة بهيلين عام ١٥٧٨، تفصيلة غير اعتيادية وغير متوقعة لدرجة أن دورها، ومصادرها، وما يلحق بها يتطلب الاهتمام: هذه التفصيلة هي الندبة التي في وجهها.

(٨) ندبة هيلين

في مستهل مسرحية «يوفيوس» (١٥٧٨) لجون ليلي يخبرنا الراوي أن هيلين كان عندها ندبة في ذقنها. إنه يستخدم هذا كدليل على الطريقة التي يزداد بها الجمال من خلال وجود نقيصة:
إن أجمل الورود لها شوك، وأنعم مخمل به ثغرة، وأصفى دقيق به نخالة … وصحيح … أن في كل الأجسام الكاملة هناك شائبة تجلب من كل النواحي هوًى إلى الأعين ولا تجلب نفورًا من أي ناحية إلى الذهن. لقد كان لفينوس شامة على خدها، وهو ما جعلها أخف روحًا، وكان لهيلين ندبة على ذقنها دعاها باريس cos amoris «حجر الحب»، ولأريستبوس بثرة، ولليكرجوس كيس دهني (بثرة).
قد تكون تلك تفصيلة ابتدعها ليلي، أيضًا لا يوجد مرجع معروف يشير إلى بثرة أريستبوس أو إلى كيس ليكرجوس الدهني، التي من ثم تبدو أنها من اختراع ليلي.42 بيْد أنه خلافًا لبثور الرجال، تدخل وسوم النساء التراث السردي؛ فكل المصادر الأخرى التي تشير إلى ندبة هيلين تعقب زمنيًّا مسرحية «يوفيوس» وتظهر في عبارات أو سياقات تظهر بوضوح أن مصدرها هو مسرحية «يوفيوس». في الجزء الثاني من «ويتس كومونوِلث» (١٦٣٤) يقتبس فرانسيس ميريس الفقرة مقرًّا بأن مصدره هو نص ليلي. تقتبس رواية روبرت باري «معتدل» (١٥٩٥) من نص ليلي بطريقة تكاد تكون حرفية (بدون إقرار بذلك) وتحيل مثل ليلي العام إلى موقف محدد. يرى بريسكوس «راعية غنمه الحسناء جالسة بالقرب من نبعٍ صافٍ» حيث يجعل لباس رعيها المُبتذَل المنسدل لها:
هيئة جميلة … أخف روحًا بكثير: فوجود شائِبَة في كل مظهر كامل، يجلب هوًى إلى الأعينِ، وليس نفورًا إلى الذهنِ: ألم يدعُ باريس الندبة التي كانت في ذقن هيلين cos amoris (حجر الحب)، وكذلك دعا مارس الشامة التي كانت على خد فينوس.

يعيد ريتشارد براثويت في «مبعوث الطبيعة» (١٦٢١) صياغة الفكرة الوجدانية الخالِجَة، ولكن التعاقب من شامة فينوس إلى ندبة هيلين يوحي بتأثير ليلي: «ليس شامة فينوس ولا ندبة هيلين،/هو ما يستحث العاطفة.»

في «ملابس الحِداد» (١٥٩٠) لجرين تقول الأخت الثانية مخاطِبةً:

إن المرء ليجد آفة في أنقى الورود، وفي أشد الفروع قوة يجد يرقات، وفي أسطع شمس يجد غيمًا، وأعظم جمال به شائبة. فلقد كان لهيلينا ندبة، وليدا كان عندها كيس دهني، ولايس كان عندها بقعة في حاجبها، وليس هناك أحد كامل بل هناك بعض النقائص: بيْد أنه مُسلَّمٌ بأن كل هذه النقائص هي شيء يزين المرء مثلما سمى باريس ندبة هيلين «حجر الحب».

تبدأ الفقرة وتنتهي بتأثير ليلي، إلا أنه في الوسط يضيف جرين أمثلة من عنده، مُحيلًا كيس ليكرجوس الدهني إلى والدة هيلين، ليدا، ووسمة أريستبوس إلى خليلته لايس من كورنثيا.

في مسرحية «حب شيشرون» (١٥٨٩) يُؤَوِّل جرين الندبة أو يعيد تصنيفها على أنها غمازة: «يُلقي لينتولوس ببصره على حبيبته، فيبصر غمازة في وجنتها كانت بالنسبة له «حجر الحب».» وهذا هو أيضًا تأويل توماس هيوود في مسرحيته «فتاة المبادلة الحسناء» (١٦٢٥)، حيث يعطي فرانك وصفًا تجسيديًّا لمحبوبته فيليس (فتاة العنوان الحسناء) سالكًا طريقًا يبدأ من جبينها وشعرها إلى وجنتيها (اللتين بهما شامة، كتلك التي لفينوس) وهو يحاول إنكار مصادر الإغراء عند فيليس:

لم تكن شامة فينوس أكثر طبيعية، ولكن ماذا في ذلك، أنا أدونيس، ولن أقع في الحب … دعنا نهبط: ذقنها، يا هيلين، هيلين، أين غمازتكِ، يا هيلين؟ لقد كانت غمازتكِ هي التي فتنت باريس، وبدون غمازتكِ لن أحبكِ يا هيلين.

إن غياب المصادر التي تشير إلى ندبة هيلين قبل مسرحية ليلي «يوفيوس» يقود المرء إلى أن يستنتج أن التفصيلة كانت من اختلاق لِيلي، على الرغم من أن هيوود كان دارسًا جيدًا للكلاسيكيات القديمة وقارئًا متعطشًا لنسخ العصور الوسطى للسرديات المختصة بطروادة (قصيدته «طروادة بريطانيا العظمى» (١٦٠٩) تعتمد اعتمادًا كبيرًا على كتب العصور الوسطى المختصة بطروادة). من أجل ذلك نحن نحتاج إلى تناول المصادر التراثية التي توارثها ليلي.

تتوافر رواية داريس فريجيوس لحرب طروادة — التي يُزْعَم أنها رواية شاهد عيان كتبها محارب طروادي ولكنها في الحقيقة قصة خيالية43 — في مخطوطة لاتينية من القرن السادس. كانت رواية داريس ذات تأثير هائل طوال العصور الوسطى، إلى جانب رواية شاهد العيان المعاصر له اليوناني دِكتيس. (رواية دِكتيس أيضًا كانت قصة خيالية رغم أنها قُدِّمَت على أنها سردية منسوبة لشخص قاتَلَ في طروادة.) تشمل رواية داريس سلسلة من اللوحات الوصفية للمحاربين اليونانيين والطرواديين وزوجاتهم. يروي لنا داريس: «كانت هيلين جميلة، مخلصة، ساحرة. كانت تمتلك أجمل ساقين وفم. كان لديها بين حاجبيها علامة فارقة (notam)» (داريس ١٨٧٣: ١٤، القسم ١٢، ترجمتي). ماذا كانت هذه العلامة الفارقة؟ آر إم فريزر يترجمها «علامة جمال»، وهو ما قد تعنيه جيدًا (١٩٦٦: ١٤٢). ولكن دعنا في الوقت الحالي نتركها على أنها علامة فارقة بالمعنى العام.
قد نلاحظ أن داريس يركز تكرارًا على الحواجب. بريسئيس تمتلك حاجبين «متصلين فوق عينيها الجميلتين» (فريزر ١٩٦٦: ١٤٤). قد نلاحظ أيضًا أن بوليكسينا موصوفة بألفاظ ربما كنا توقعنا أنها تنطبق على هيلين: «تفوق كل الأخريات جمالًا» (فريزر ١٩٦٦: ١٤٣). إلا أن هناك قدرًا من التداخل بين كل النساء؛ ففي حين أن «ساقَي» هيلين هما الأفضل، «قدمَا» بوليكسينا هما الأفضل (cruribus optimis؛ pedibus optimis؛ داريس ١٨٧٣: ١٤، ١٦). كلٌّ من بوليكسينا وبريسئيس موصوفتان بأنهما، مثل هيلين، طيبتا السريرة أو مخلصتان (simplicis؛ داريس ١٨٧٣: ١٤، ١٦، ١٧). بريسئيس، مثل هيلين، ساحرة (blandam؛ داريس ١٨٧٣: ١٤، ١٧). ومن ثَمَّ فإن هناك عددًا من الصفات العادية التي يُعاد توظيفها. هذه اللوحات الوصفية ليست في أعمال دِكتيس، وربما لم تكن في أعمال داريس الأصلية (المفقودة).

تُظهر مخطوطات داريس التي ترجع إلى القرن السادس تأثير راهب سوري من القرن السادس يُدْعى يوحنا مالالاس، كان يكتب باليونانية، يحتوي عمله («كرونوجرافيا») أيضًا على لوحات وصفية. هيلين عنده لديها شعر ذهبي مجعد، وثديان جميلان، وحاجبان جميلان، وأجمل وجه، أما حاجبا بريسئيس فمتصلان. بوليكسينا لديها كل شيء جميل، قدمان صغيرتان، وعينان كبيرتان (١٨٣١: ٩١، ١٠١، ١٠٦). هذه اللوحات الوصفية السردية في أعمال مالالاس وداريس كانت ذائعة الصيت إلى أبعد الحدود، إلى درجة أن مقتطفات مخطوطة للوحات الوصفية تداولتها الأيدي منفصلة.

يصف جوزيف من إكستر، الذي تعود كتاباته إلى عقد الثمانينيات من القرن الثاني عشر، هيلين بإسهاب. يورد جوزيف ملاحظات يقول فيها إن ذقن هيلين كان بارزًا بروزًا طفيفًا، وإنها كانت تمر بخفة على الأرض في سيرها، وإن بقعة منفردة انتثرت بجرأة بين حاجبيها، مقسمةً لهما إلى قوسين رفيعين (جوزيف/روبرتس ١٩٧٠: ٤٤). لقد مُنِحَت هذه البقعة المنفردة في الواقع وصفًا مزدوجًا: فهي أولًا labes (سمة، بقعة) وبعد ذلك بأربعة كلمات هي macula (سمة، شائبة؛ ٤. ١٩١-١٩٢). بريسئيس مجددًا لديها حاجبان متصلان وبوليكسينا هي أجمل امرأة في طروادة (جوزيف/روبرتس ١٩٧٠: ٤٣، ٤٢). الرجال — في هذا الموضع وفي مواضع أخرى من التراث المخطوطي — لديهم نقائص: فنسطور لديه أنف معقوف، وبيروس يتلعثم في نطقه، وهيكتور لديه لثغة وحول (جوزيف/روبرتس: ٤٣، ٤١).44
لدى هيلين في قصيدة بِنوا «قصة حب طروادة» (١١٨٤ ميلادية) سمة في منتصف حاجبيها، «وهو ما لاءمها ملاءمة كبيرة» (تي إل إن ٥١٣٣–٥١٣٦؛ بنوا ١٩٠٤: ٢٦٥-٢٦٦). إذن من عبارة محايدة في كتابات داريس وجوزيف (اللذين يخبراننا ببساطة أنه كان عندها سمة بين حاجبيها) يصبح ذلك الآن شيئًا محمودًا، فتصبح السمة مصدر قوة. (من المرجح أن هذا هو السبب في أن بعض المترجمين للعملين الأسبقين يترجمونها على أنها موضع جمال.) حاجبا بريسئيس في قصيدة بنوا متصلان ولكن هذا «لا» يلائمها (تي إل إن ٥٢٧٩-٥٢٨٠؛ بنوا ١٩٠٤: ٢٦٥-٢٦٦)، مرة ثانية تتحول عبارة محايدة إلى رأي ذي قيمة، في هذا الموضع هو رأي سلبي.45 (يخبرنا بِنوا في قصيدته معلومة إضافية مفادها أن كلًّا من بوليكسينا وهيلين تمتلكان حاجبين جذابين.)
تتخذ الأمور شكلًا أكثر تحديدًا مع جيدو ديللي كولون في «تأريخ دمار طروادة» (حوالي عام ١٢٨٧). فالآن صار لدى هيلين «سمتان»: غمازة في منتصف ذقنها وندبة بين حاجبيها: «ندبة صغيرة ورقيقة صارت تعبر عنها بطريقة رائعة» (ديللي كولون/مييك ١٩٧٤: ٨٢؛ «ندبة صغيرة ورقيقة أصبحت بطريقة رائعة تمثلها»، في عمل ديللي كولون/جريفين ١٩٣٦: ٨٣). هذه السمة — والإشارة — الأخيرة تُنسب إلى داريس. بيْد أنه في الحقيقة أن جيدو هو من يحول «علامة» داريس المذكورة على نحو عام (علامة جديرة بالذكر) إلى «أثر جرح» واضح. نرى في هذا الموضع أن ما كان على الأرجح شامة عند داريس، وجوزيف، وبنوا يتحول إلى ندبة (شكل رقم ٢-٨).46
عندما نصل إلى تشوسر، نلقى حاجبي كريسيدي المتصلين، وهو ما يعتبره الشاعر شائبة محسومة في جمالها: «وما عدا أن حاجبيها قد التقيا/ليس هناك عيب البتة يمكنني أن أرتئيه» (٥. ٨١٣-٨١٤).47 وكانت قد قورنت في موضع سابق من هذه القصيدة بكلٍّ من هيلين وبوليكسينا: كريسيدي «وكانت أبهى حسنًا لناظرها مما كانت هيلين أو بوليكسينا في أي وقت كان» (١. ٤٥٤-٤٥٥). المقارنة مقبولة منطقيًّا في سياق العرف السائد في العصور الوسطى الذي يجري فيه دائمًا التشديد على جمال بوليكسينا الفائق. تمثل بوليكسينا لطروادة ما تمثله هيلين لليونان: المرأة الأكثر جمالًا. وجمال كريسيدي — حسب قول تشوسر — يفوق كلتيهما. ثالوث النساء يحتوي بداخله أيضًا نهاية القصيدة: وهو أن الرجال الذين يحبون رموز الجمال تلك سيُقتَلون (بينسون ١٩٨٠: ١٣٧).
fig8
شكل ٢-٨: جيدو ديللي كولون، «تأريخ دمار طروادة». يورد جيدو ذكرًا لغمازة في ذقن هيلين وندبة بين حاجبيها، إلا أن الرسام لم يُشْمِل هذه التفصيلات. أُعيد نشره بإذن من مؤسسة مارتن بودميه، كولوني (جنيف).

تورد رواية «جيست هيستوريال» (القصة التاريخية لدمار طروادة) المجهولة (إذ لا يُعرف تاريخها، من المحتمل أن يكون في العقد الأول من القرن الخامس عشر!) ذِكر ذقن هيلين ذي الغمازة نقلًا عن جيدو لكنه يُغفِل ذكر الندبة: «كان اختيار ذقنها المطلق أن يكون أسفل وجنتيها،/مع غمازة كاملة الدقة، محبب رؤيتها» (تي إل إن ٣٠٥٩-٣٠٦٠).

نصل أخيرًا إلى تفصيلة غريبة في قصيدة ليدجيت «كتاب طروادة». يقدم ليدجيت سلسلة من اللوحات الوصفية ليونانيين وطرواديين، مستقاة كما يطلعنا، من داريس:
ومجمل ما أصفه هو مما أذاعه داريس،
بلغة يونانية، مبتدئًا من عند جسد،
هيلين كما سمعتموني قبلُ أقول،
عن جمالها وحُسْنِها،
كيف يُعَبِّر جيدو بمهارة (حاك ما قاله، في حيز صغير،
«خط بمحاذاة وجهها»،
وهو ما أصبح — كما كتب — آية حسنها،
التي تزينُ جمالها كل يوم
مثلما يصف داريس)
(٢. ٤٥٢٢–٤٥٣١، أقواس التنصيص الداخلية من عندي)
ماذا يعني خط بمحاذاة وجه المرء؟ يفسر «قاموس اللغة الإنجليزية الوسيطة» هذا بأنه «ندبة» أو «حِبار: وهو أثر ضربة السوط على الجلد.» استخدام ليدجيت للكلمة في القصيدة هو الاستشهاد الأول؛ من المحتمل أن يكون المعنى مبنيًّا على كلمة جيدو cicatrix التي تُترجَم «أثر جرح»، مع أن جيدو يضعه بين حاجبي هيلين. (سيمر ما يربو على العشرين عامًا قبل أن يظهر الاسم في أدب اللغة الإنجليزية الوسيطة ثانيةً، بمعنى أثر ضربة سوط على الوجه.) يشير تعبير «بمحاذاة وجهها» إلى أنها علامة بالغة، وإذا كانت كلمة endelonge تشير إلى الاتجاه العرضي عوضًا عن الطولي، فقد يرجح كونها على الذقن.

أعتقد أنه من المحتمل رؤية عملية اندماج تجري في النصوص الواردة آنفًا. فالعلامة بين الحاجبين تتحول إلى شامة، والشامة تصبح ندبة، والندبة تصبح مندمجة مع الغمازة، ومن ثم تهبط حتى تصل إلى الذقن.

من الأهمية بمكان ملاحظة أن هناك انسيابية في اللوحات الوصفية بين التنقيحات المتنوعة: فكساندرا وملك فارس في كتابات ليدجيت قد أصابا بثرات شخصية أجاممنون عند الكتَّاب الآخرين؛48 في رواية «جيست هيستوريال» (القصة التاريخية لدمار طروادة) مجهولة الفترة الزمنية أصاب كساندرا الحول الذي يختص به هيكتور عند جوزيف من إكستر. تؤدي اللوحات الوصفية دور مجموعة أدوات تصوير مع عدد من التفصيلات قابلة لإعادة الترتيب. بيْد أن تسلسل الشامات والندبات لا يبدو متعلقًا بترتيبات جديدة مقصودة بقدر ما هو متعلق بأخطاء متدرجة في الفهم أو الترجمة ربما يكون ليلي توارثها.49

وأنا أطرح هذا كاقتراح احتمالي وليس كاعتقاد راسخ ومثْبت. ولكن سواءٌ أكان ليلي قد توارث الندبة أو ابتدعها، فإنه اعتمدها لسبب ما. ذلك السبب سيصبح جليًّا في القسم التالي.

(٩) وضع المطلق في موضع المقارنة

إن حكاية هيلين هي حكاية الجمال، وحكاية جمال هيلين هي حكاية اللغة. وكما يلخص نيل فورسيث هذا المفهوم: «جمال النساء هو أيضًا جمال الكلمات» (فورسيث ١٩٨٧: ١١). أود في هذا الموضع أن أفكر في جانب معين من جوانب اللغة: وهو اللغة الشعرية أو المجازية.

تدور الاستعارة المجازية — بشكل ما — حول المُزَاوَجَة الحادة.50 تؤكد اللغة الشعرية (المجازية) على أن شيئين مختلفين هما في الواقع نفس الشيء وتأتي بهما في اتحاد عابر وحاد. سوف تؤدي المقارنة بين شيئين متشابهين إلى الحشو أو التكرار اللغوي، وهي معضلة وضحها سبنسر (وهو شاعر كان مولعًا بالجمال، واللغة، والوحدة، والمزاوجة) في الكتاب الأول من القصيدة الملحمية «ملكة الجن» عندما يقارن مورفيوس، إله النوم، بشخص نائم. بعث أرشيماجو بروحٍ إلى هاديس لتجلب حلمًا مزيفًا من مورفيوس ليحتال به على فارس الصليب الأحمر. عندما تصل الروح، تجد مورفيوس نائمًا: «مثلما يكون المرء وهو يحلم» (الكتاب ١، ١. ٤٢. ٧). إلا أن مورفيوس لا يمكن أن يكون «مثل» شخص نائم لأنه «هو ذاته» إله النوم. ومن ثَمَّ فإن مورفيوس هو المقياس الذي يتحدد به «حالة كون المرء نائمًا»؛ فهو المطلق الذي يُعرَّف من خلاله السُّبات.51 (الكتاب ١، ١. ٤٢. ٧). وهكذا فإنه يتجاوز حدود اللغة، التي تعتمد على النسبي (غير المطلق)، وتعتمد على أن هناك رتبتين، وأن هناك اتصالًا لحظيًّا بين شيئين منفصلين (سواءٌ أكان ذلك في الاستعارة الشعرية أو في نظرية البنيوية). ومثلما هو مورفيوس عند سبنسر، فإن الرب عند ميلتون يفوق حدود اللغة: فالرب هو ببساطة «الكينونة»؛ فهو جلي، وهكذا فإن الرب عند ميلتون يتحدث بلا مجاز (وهو ما قد يكون صالحًا لاهوتيًّا وفلسفيًّا إلا أنه أمر كارثي شعريًّا، كما أثبتت أجيال من قارئي «الفردوس المفقود»). ومثلما هو الحال مع مورفيوس أو الرب، فهيلين كذلك تتجاوز حدود اللغة ولنفس السبب: إذ إنها مطلَقة لكونها مثال الجمال.52
طرح لوقيانوس معضلة الجمال المطلق في القرن الثاني الميلادي: «نحن لا نبحث في الوقت الحالي عن الجمال ليس إلا بل عن الجمال السامي … نحن في طور البحث عن شيء محدد، وهو الجمال الأسمى، وهو ما يجب أن يكون بالضرورة «أوحد»» («هيرموتيموس» في كتابات لوقيانوس ١٩٠٥، المجلد ٢: ٦٧). إن الجمال المطلق مفرد — «أوحد» — لكن اللغة ليست كذلك: فاللغة جمعٌ. ونحن نستحضر معضلة ليدجيت عندما جابه جمال هيلين:
ومن المؤكد أنني إن كنت سأسرد عن
هيئتها، وبنيتها، وملامحها وكذا، وكذا،
مثلما يفعل جيدو بترتيب وجدية،
من الرأس إلى القدم، لأستنبط بوضوح،
إنني لا أملك الكلمات الإنجليزية التي يمكن أن تكفي؛
فهي لن تكون كافية، فلغتنا ليست كلغته.
(٢. ٣٦٧٤–٣٦٧٩)

بعبارة أخرى: «لا يمكنني أن أصف كل ملامحها كما يفعل جيدو؛ فاللغة الإنجليزية لا تملك المقدرة على الاضطلاع بذلك.» يلمح ليدجيت إلى أن المشكلة في اللغة الإنجليزية (أما اللاتينية فيمكنها أن تنجح في ذلك). في الحقيقة اللغة اللاتينية أيضًا لا يمكنها ذلك: قد يكون لدى جيدو وصف مسهب لكن تفاصيله تنبئنا عن هيلين أكثر قليلًا مما يفعل ليدجيت. لا تكمن المشكلة في لغة بعينها، بل تكمن في اللغة بالعموم. فالأشياء التي بلغت الحدود القصوى من أي نوع هي منفردة، ومطلقة، وثابتة، واللغة قائمة على الجمع والنسبية.

كي يتحدث المرء عن هيلين، التي تمثل الجمال المطلق، يجب عليه أن يقحمها في موضع مقارنة (كما يشير بن مورجان، خلال اتصال شخصي بيننا). يمتلك السرد الميثولوجي والأدبي طرقًا متعددة لفعل هذا. فيمكنه أن يأتي لها ببديل («الأيدلن (الطيف)» في التقليد اليوناني، ونسخة شكسبير المشابهة كريسيدا).53 ويمكنه أن يضفي عليها طابعًا جنسيًّا وأن يجعلها مختطفة، مقحمًا بذلك جسدها في منظومة من العلاقات الجسدية، دافعًا بها من حال المطلق إلى الحال الواقعي الملموس. على مدار العصور الوسطى، تقدم النسخ الكثيرة لحكاية طروادة اختطاف هيلين على أنه مقدمة سردية؛ فهو دومًا خارج نطاق الجزء الرئيسي للنص. يجعل «كتاب تمجيد طروادة» هذا أمرًا صريحًا: بعد أكثر من ٣٠٠٠ سطر من بداية الكتاب، يقول الشاعر بعد أن انتهى من وصف اختطاف هيلين: «الآن أصغوا إلي، عظماء وصغار على السواء!/لأنه من الآن تبدأ هذه القصة» (تي إل إن ٣٢٩٣-٣٢٩٤). «تبدأ» القصة؟ ماذا يعتقد أنه كان يفعل على مدى ٣٠٠٠ سطر؟ لكنه يدرك أنه بالاختطاف وحده يمكن لحكاية هيلين أن تُسْرَد.

ومن ثم يمكن للأدب أن يأتي لها ببديل أو أن يجعلها مُختطَفة. أو يمكنه أن ينالها بضُر: وأعتقد أن هذا هو ما يكمن وراء الاستحداث المتعذر تعليله على خلاف ذلك من جعل هيلين غير مكتملة جسديًّا بإعطائها ندبة في ذقنها. إن إفساد جمالها بهذه الطريقة يقحمه في موضع نسبي، وهو الأمر الذي يمكن بعد ذلك تكراره. لا يوجد سند من نص كلاسيكي معتبر يذكر أن هيلين بها ندبة، ولا يوجد هناك حاجة لذلك؛ إذ إن تقليد «الأيدلن (الطيف)» يفي بنفس الغرض، وهو تقديم شيء يمكن قياس هيلين مقابله. ومن المحتمل أن يكون هذا كما تلحظ إليزابيث دوتون (كما ذكرت عبر اتصال شخصي بيننا)، هو السبب في أن الدراما تواجه صعوبة أقل في تجسيد هيلين: فالدراما هي بالفعل شكل من أشكال الإتيان ببديل، إذ كما ندرك فإن الممثل يجسد الشخصية.

المطلق (أو الكمال) هو لفظ (ومبدأ) محبب لدى توماس هيوود. عندما يرى إدوارد الرابع جين شور ويقع في حبها، فيقول: «لم أطالع مطلقًا/امرأة من كل ناحية بهذا الكمال» (الجزء الأول من إدوارد الرابع). في مسرحية «تحدٍّ في سبيل الجمال» (١٦٣٦) تعتقد الملكة إيزابيلا المتكبرة والمتغطرسة أنها «منقطعة النظير» في الجمال. يختلف اللورد بونافيدا، أحد رجال الحاشية الملكية الناصحين، مع هذا مستندًا على أن الطبيعة لا تتعامل مع الأشياء المطلقة (الكاملة):
لم تسفر الطبيعة عن شيء بلغ حد الكمال،
إلى حد أنها لم تصنع له قرينًا. ولو ابتدأنا بالجمال،
إذا كانت اليونان قد قدمت حسناء كهيلين، فإن طروادة
قد ضارعتها ببوليكسينا.54
ويختتم بقولٍ يخلو من الحكمة:
سيدتي، رغم أنه جديرٌ بي أن أعترف أنك نادرة الوجود …
لكنكِ لا تفوقينهُنَّ جمالًا، فلربما يأتيكِ العالم الرحب بمَنْ تنافسك.

تأمر الملكة إيزابيلا تبعًا لذلك بإقامة تحدي الجمال الذي أخذت منه المسرحية اسمها، وهو تحدٍّ لنظرية بونافيدا عن النسبية الجمالية.

•••

إن قصة هيلين هي قصة عن الاحتواء والتفكك، عن الحركة من الخارج إلى الداخل، عن الغزو. هذا ملاحَظ في كل مرحلة من مراحل سرد حرب طروادة. وهي تبدأ بإبعاد باريس وهو إبعاد الغرض الوحيد منه عودته. (كانت هيكوبا قد حلمت بأنها سوف تلد جمرة مشتعلة وأن تلك الجمرة ستدمر طروادة، وحينما وُلِد باريس، تُخُلِّيَ عنه على جانب تل. وأنقذه ونشَّأه الرعيان، ولاحقًا عُرفت هويته ورُحِّب بعودته إلى العائلة الملكية الطروادية.) وتؤسَر هيلين الأسبرطية، ويُؤتى بها من اليونان إلى طروادة. يُدخِل اليونانيون حصان طروادة دفاعًا عنها ويدخل الحصان عبر بوابات طروادة. هذه الحركة من الخارج إلى الداخل تتلخص بتكرار في السرد، وهو ما يصبح مثلًا على الاحتواء والتفريط، على الحيز المسيطر عليه وعلى تفكك ذلك الحيز.

في بؤرة ذلك السرد نجد هيلين — كصورة كاملة للجمال — هدامة من الناحية اللغوية؛ إذ إنها تعوق السرد. وهذا ينطبق على كل نساء الأدب ذوات الجمال فائق الوصف، من بريتومارت ذات النور الإلهي إلى كليوباترا الفاتنة والشهوانية. وعندما يُغشى السرد بالمطلق، يتوقف هنيهة وينغمس في ردة فعل مستغرِقة. في رواية داريس للقاء الأول بين هيلين وباريس، نجد أنهما «قضيا بعض الوقت لا يفعلان شيئًا سوى التحديق أحدهما في الآخر، وكلٌّ منهما مأخوذٌ بجمال الآخر» (فريزر ١٩٦٦: ١٤١). في نسخة جوزيف من إكستر لعمل داريس، يسير باريس على الشاطئ، محاولًا أن يجتذب انتباه هيلين. حينما يراها، نجده «يتوقف، غافلًا عن الاستمرار في هرولته» (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٥). يتوقف السرد في القصيدة الملحمية «ملكة الجن» لسبنسر لعشرة مقاطع شعرية عن الوصف عندما تلتحق بيلفوبي بالقصيدة. «إنها لحظة مميزة من السكون والصمت الكهنوتيين، كما لو أن لقطة فيلم قد تجمدت أمام أعيننا» (باليا ١٩٩١: ١٧٨). إن القياس الذي عقدته باليا مع السينما وثيق الصلة. فعندما يرى مينلاوس (جيمس كاليس) هيلين (سيينا جيلوري) على شرفة الحصن أثناء القتال في المسلسل التليفزيوني «هيلين طروادة» (٢٠٠٣)، تتوقف الحركة ٤٠ ثانية ريثما يتفرس مينلاوس في ملامحها ويهيم بها. في هذا الموضع نرى السبب في تعطل السرد كلما دخلت هيلين إلى المشهد، وهو ما لاحظناه في الفصل الأول. تعثر السرد، وتجمد اللقطة السينمائية، التكرار اللغوي، واختلال الأوزان الشعرية: كل ما سبق ليس مجرد أثر ناتج عن الجمال ولكنه خاصية محدِّدة للجمال؛ ببساطة ليس الأمر أن الجمال يوقف السرد ولكن أن الجمال هو ذاته «لحظة توقف، لحظة هدوء» (كيروان ١٩٩٩: ٦٧).55 يتفكك نسيج المسرحية/القصيدة/اللوحة/الفيلم تفكُّكًا وقتيًّا لأن المطلق خارج عن حدود الزمان؛ فهو منفصل، وقائم بذاته، ومستقل.
تُشتق الكلمة الإنجليزية Absolute وتعني «مطلق» من الفعل اللاتيني absolvere (ينفك). بما أن solvere بمفردها تعني «ينفك»، فالجزء المضاف ab في absolvere يعمل كمؤكِّد، مشددًا على انعدام الرجعة في الانفصال (ومؤديًا إلى المعنى الوارد في «قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية» (٢. ٢) لكلمة absolute أنها تعني «متكامل، مكتمل»). عندما يرى آدم في ملحمة ميلتون الشعرية حواء، يعلق قائلًا:
ومع ذلك حين أقترب من جمالها،
تبدو لي مكتملة اكتمالًا مطلقًا
ومتكاملة في ذاتها.
(الفردوس المفقود ٨. ٥٤٦–٥٥٨) [ترجمة حنا عبود، الهيئة العامة السورية للكتاب، ٢٠١١]
إن كلمة Absolvere توكيدية فيما يختص باكتمال الفعل الذي تعبر عنه، انعدام رجعة يمكن أن يُلاحَظ على أنه امتناع عن الانتساب إلى سلسلةٍ ما من الأفعال. ترتكز كلمة Absolvere على إمكانية فعل ما يمكن أن ينهي التسلسل برمَّته ويبدأ الزمن مجددًا. (لكلمة Absolution (وتعني عتقًا/إبراءً/تحريرًا من ذنب) نفس الأصل؛ Absolution بهذا المعنى تفصل العاصي/العاصية عن أفعاله/أفعالها السابقة وعن التسلسل السردي السالف الذي وقعت فيه تلك الأفعال.)
هذان المدلولان لكلمة absolute (مطلق) يأتيان معًا في مسرحية «نَمِر على البوابات» لجيرودو. فهيكتور، الكاره للحرب والمصمم على أن حرب طروادة لن تحدث، يسأل: «ما الذي قدمته [هيلين] لنا، مُستحِقٌّ نزاعًا مع اليونانيين؟» (١٩٥٥: ١٦). يجيب عالم الرياضيات قائلًا بأن هيلين قدمت معايير جديدة للمقاييس الرياضية:

ليس هناك بعد الآن أقدام وبوصات، أو أوقيات، أو أرطال، أو ميليجرامات، أو فراسخ. هناك فقط وزن خطوة هيلين، أو طول ذراع هيلين، أو مدى نظرة هيلين أو صوتها، وحركة الهواء وهي تمر هي مقياس الرياح.

إنه لا يستخدم كلمة «مطلق» بالإنجليزية أو بالفرنسية، إلا أن ذلك هو ما يصفه. بعد ذلك يعرض بريام رأيه:

يكفيك أن تنظر إلى هذا الحشد، وسوف تفهم ماذا تكون هيلين. إنها تمثل نوعًا من الحل من الخطايا. لكل واحد من هؤلاء الرجال العجائز … لكل الفشلة العجائز، لقد كشفت عن أنه كان لديهم دومًا توقٌ خفي نحو إعادة استكشاف الجمال الذي فقدوه، لو كان الجمال طيلة حياتهم قريبًا وفي متناولهم على الدوام مثلما هي هيلين اليوم، لما كانوا خادعوا رفاقهم، أو لما باعوا بناتهم، أو لما أنفقوا إرثهم على الخمر. إن هيلين تشبه بالنسبة لهم مغفرة إلهية: بداية جديدة لهم، لمستقبلهم بأكمله. (جيرودو ١٩٥٥: ١٧)

من السهل، للوهلة الأولى، الوقوع في فخ فهم إجابة بريام على أنها بديل أو تصحيح لإجابة عالم الرياضيات. بيْد أن حجته من الناحية الاشتقاقية مطابقة: فالمطلق هو «نوع من الحِل من الخطايا.»

لقد كنت أحاول أن أبرهن على أن المطلق يستلزم أن يُوضع موضع النسبي قبل أن يصبح ممكنًا أن يُجسَّد وأن ندبة هيلين تؤدي هذا الغرض. إلا أنه هناك وسيلة أخرى لصياغة هذا: وهي أنه لما كان بالمطلق نقيصة، ولما كانت هذه النقيصة لا أهمية لها، هذا ما يجعلنا نعرف أننا في حضرة الكمال.56 هذه هي رؤية ليلي: «هناك شائبة تجلب من كل النواحي هوًى إلى الأعين ولا تجلب نفورًا من أي ناحية إلى الذهن» (أمثلته هي عن الورود، والدقيق، والنسيج الكتاني). وهذه هي أيضًا رؤية فرانسيس ميريس، مستخدمًا ثلاثية مختلفة من الأمثلة مقتبسة أيضًا من ليلي: «مثلما أن هناك بقعًا في فراء أجمل نمر أرقط، ولأبهى الثياب حاشية، ومثلما يُصنع من القالب الصَّلْد أكثر الأحذية راحة، كذلك أعظم الجمال إذهالًا به بعض ما يشوبه» (١٦٣٤).57 وهي رؤية إينوباربوس لكليوباترا: «إنها تبدو في عجزها هذا آية في الجمال.» (ألفاظ لويس عوض في ترجمته) إذا كانت هيلين تمثل الجمال المطلق، فإن ما يجعلها مطلقة ليس كونها مثالية ولكن لأنها ليست كذلك، وأن النقيصة — وياللمفارقة — تبدو مثالية.58 وكذلك فإن الندبة تجعل مما قد يكون بطريقة أخرى نمطًا للجمال المفرط متفردًا.

وسواءٌ أكان المطلق مثاليًّا بلا عيب أو كان مثاليًّا على نحو مشوب بعيب، فإن المطلق فريد من نوعه، فذ، أوحد. وإذا كانت هيلين خارج حدود الزمن، فلا يمكن أن تهرم، مما يسبب معضلات عندما تكون الحرب الجارية من أجلها واقعة في الزمن، إذ امتدت عشر سنين. يفطن معظم الكتَّاب الذين يكتبون عن هيلين إلى أن التساؤل الخاص بتقدمها في العمر (أو عدم حدوث ذلك) ينبغي أن يُطرح في مرحلة ما. دعونا نتفحص بعض هذه الأعمال قبل العودة إلى مسألة اللغة والمطلق.

(١٠) هيلين والشيخوخة

يخبرنا إبيكوس أن إدومينيوس ظل على حبه لهيلين حتى لما استحال شعرها رماديًّا (بولارد ١٩٦٥: ٣٤). يماثل دور الشعر الرمادي في هذا الموضع الدور الذي تقوم به الندبة عند ليلي، وهو كونه علامة نسبية تعزز الجمال. ترثي هيلين في «تحولات» أوفيد بتعاسة أكبر فقدانَها لشبابِها: فتذرف الدمع «يوم رأت في المرآة التَّجاعيد التي سبَّبتها الشَّيخوخة، وتساءلت في نفسها كيف أمكن أن تُختطف مرتين» (١٩٥٥: ٣٤٠-٣٤١). هذا جزء من تركيز أوفيد على التحول. وخيم مثاله، الذي أكسبته ترجمة آرثر جولدينج «للتحولات» عام ١٥٦٧ رواجًا، بظلاله على كُتَّاب بدايات الفترة الحديثة: فاقتُبِس مراتٍ عديدةً (بواسطة أوستن ساكير في «الأربوني» [١٥٨٠]، وبواسطة توماس آدم في «الشيطان الأسود» [١٦١٥]، وبواسطة توماس هيوود في «العصر الحديدي الجزء الثاني» [١٦٣٢]، وبواسطة فرانسيس ميريس في «ويتس كومونوِلث» [١٦٣٤])، وبصورة متكررة في السياقات التي تتناول «ذكرى السابقين». ففرانسيس ميريس مثلًا يتخذ هيلين موضوعًا للرثاء: فهيلين «في مرآتها الجديدة أبصرت وجهها الهرم، وبمُحيًّا مبتسم، هتفت: «أيها الجمال أين توهجك؟»» جورج بيل يدعو هيلين ببساطة «زهرة ذابلة» («حكاية طروادة»، ١. ٤٧٩) وهي حالة يتوسع إدوارد جرانت في تفصيلها بإسهاب في «سابقة للآباء» (١٥٧١):
هيلينا (زهرة الحسن تلك، وأهم جوهرة حازها الجمال)، في سنها (يعني شيخوختها) قاست ممَّا يشبه التشوه. التي من أجلها (لما كانت في زهرة أعوامها النضرة) كان اليونانيون والطرواديون في اضطراب في حرب العشرة أعوام التي درات بينهم، ولكن عندما شاخت ومضت بها الأعوام لم تكن العداوة لتقع بين رعاة الماشية ولا رعاة الخنازير ولا راكبي البغال ولا رعاة الخيل في سبيل أن يستمتعوا بها.59
هيلين عند توماس هيوود في «العصر الحديدي الجزء الثاني» (١٦٣٢)، مثل شخصية هيلين في قصيدته «طروادة بريطانيا العظمى» (١٦٠٩)، شخصية شديدة القنوط من آثار الشيخوخة المدمرة حتى إنها تنتحر. هيلين عند ويليام موريس تُعرب ثلاث مرات عن قلقها من الأثر الضار للتقدم في العمر على جمالها ذائع الصيت (١٩١٥: ٤٤، ٤٥، ٤٦). في رواية مارجريت جورج «هيلين طروادة» (٢٠٠٦) تحتفي هيلين بالشيخوخة على أنها «خلاص من إسار جمالي» (٥٩٦). عنوان قصيدة إدجار فاوست «هيلين، الكِبَر» (١٩٠٣) المقصود منه بوضوح أن يسترعي انتباهنا، ربما حتى كجمعٍ بين متناقضين لفظيين. تلتمس هيلين في القصيدة من فينوس أن تُنْعِم عليها ثانيةً بجمالها: «ثم، إن كان مزاجكِ يشاء، فلتُعجِّلي بموتي!» الموت شابةً وجميلةً مفضَّل على أن ترى صورتها المنعكسة المُسنة في المرآة. آر سي تريفيليان يعرض لحظة فجيعة تُذكر بكتابات توماس هاردي في «هيلين» (١٩٣٤) عندما تقتلع هيلين شعرتها البيضاء الأولى؛ يدلف باريس ويقول بعبارة نبيلة إن طروادة ستفنى قبل أن يستحيل شعر هيلين فضيًّا: يعني «مطلقًا»، وعند ذلك:
فتحت هيلين
راحة يدها الصغيرة وتنهدت: «لقد بدأ ذلك يحدث بالفعل،
انظر، إنه يتساقط.»
(١٩٣٤: ١٦)

في قصيدة إيفا سالزمان «شقيقة هيلين» (٢٠٠٤)، تبدي كلتمنسترا ملاحظة ساخرة: «إن أي امرأة لَتُقدِم على قتل ألف جندي، كيلا تتقدم بها السن.»

في رواية المراهقين «إيريك» (١٩٩٠) وهي نسخة من أسطورة فاوست في قالب رسوم هزلية ساخرة، ينال إيريك أخيرًا أمنيته وهي أن يرى أجمل امرأة في العالم. تكون خيبة أمله بالغة عندما يجد امرأة مكتنزة ولديها «بدايات شارب»، ومُثقلة بسبعة أطفال.

ولكنها ذكرت أن وجهها دفع بألف سفينة إلى الحرب.» قال رينسويند: «هذا ما يُطلق عليه وصف استعارة بلاغية» … «على أية حال، لا ينبغي أن تصدق كل ما تقرؤه في الكتابات الكلاسيكية … إنهم لا يتحرون الدقة فيما يعتبرونه حقائق؛ فهم لا يسعون إلا إلى ترويج بضاعتهم من الأساطير. (براتشيت ٢٠٠٠: ٩٣، ٩٥)

وفي المقابل، يؤكد ثلاثة كتَّاب على شباب هيلين الدائم. في «الحرب على طروادة» لكوينتوس من سميرنا تسأل الحورية وينوُن باريس عن حبيبته الجديدة: «يقول الناس إنها دائمة الشباب» (١٩٦٨: ١٩٨). يقر مينلاوس في رواية جون إرسكين «الحياة الخاصة لهيلين طروادة» أنه لا يفهم كيف تظل هيئة هيلين على أحسن ما يكون، ويستنتج بعد ذلك أنها خارج حدود الزمن، كالموسيقى أو البحر (١٩٢٦: ٢٧٣، ٢٨٠). في رواية بن جونسون الهزلية يحاول المحتال فولبوني — متخفيًا في هيئة مشعوذ — أن يبيع مستحضر تجميل مقاومًا للشيخوخة على أنه قد استُخدِم من قبل أفروديت وهيلين طروادة:

إنه المسحوق الذي جعل من فينوس إلهة، وأُعْطيَت إياه من قِبَل أبوللو، فأبقاها شابة إلى الأبد، وأزال تجاعيدها، وقوى لثتها، وجعل بشرتها ممتلئة، وصبغ شعرها؛ ومنها انتقل إلى هيلين طروادة، ولسوء الطالع فُقد إبان خراب طروادة: إلى أن استُعيد الآن في عصرنا هذا، لحسن الحظ على يد جامع شغوف للأثريات. (فولبوني ٢. ٢. ٢٣٦–٢٤١)

إن سخرية الرواية الهزلية — مثلما هو الحال في معظم إعلانات مستحضرات التجميل — تَكْمن بالطبع في بطلان ادعائها بأن أي امرأة يمكن أن تكون «شابة إلى الأبد».60

يستغل الكُتَّاب المذكورون آنفًا موضوع علاقة هيلين بالزمن إما على نحو عاطفي أو ساخر؛ فهو موضوع إما معروف، أو مقبول، أو مرفوض، أو مُؤَوَّل تأويلًا أخلاقيًّا، أو مستخدم في الرثاء، أو يُحاكَى بطريقة ساخرة. وفي القرن العشرين انخرط كاتبان — روبرت بروك وسي إس لويس — في الموضوع على نحو أكثر توسعًا.

تصنع قصيدة روبرت بروك «مينلاوس وهيلين» المُشكَّلة من سوناتات ثنائية مقابَلةً بين هيلين الجميلة التي من أجلها ذهب مينلاوس النبيل إلى الحرب («الفارس المثالي أمام الملكة المثالية») وبين الزوجين الطاعنين في السن بعد سنين عديدة (مينلاوس أصم، ثرثار، مستغرق في ذكريات الماضي عن طروادة، وهيلين امرأة سليطة حادة الصوت، و«غائرة العينين»). تركز السونيتة الأولى — الزاخرة بالأفعال المفعمة بالحياة وألفاظ النبل والشجاعة — على الجمال والفروسية، والأبطال العظماء والرائعين، والحرب في سبيل الشرف. تظهر السونيتة الثانية ما سبق على أنه خيال شعري بتقويض الجملة الافتتاحية في السونيتة الثانية للسونيتة الأولى: «كم كان خيال شاعر.» موضوع السونيتة الثانية ليس من الموضوعات التي يهتم بها الشعر؛ يشدد بروك على ما «لا يقوله لك» الشاعر. وما يغيب عن التقديمات الشعرية، ويغيب عن كل السرديات التي تتناول طروادة، هي التتمة المحبطة لتلك الأحداث الأسطورية: «أعوام الزواج الطويلة»، الأطفال، المناكدة، ثقل السمع، القصص المطولة المكررة. نجد مينلاوس «يتساءل متعجبًا لماذا مضى، شطر طروادة»: اللفظة الرومانسية «شطر طروادة» هي الأثر الوحيد الباقي من المسعى المشرف الغابر، وهي بنية شعرية تبدو في غير موضعها في هذه السونيتة الثانية مثلما يبدو الخيال المحمل بالفروسية الذي توحي به. إلا أن ما يُفسَّر في البداية على أنه قصيدة حادة مناهضة للحرب (أكان هذا يستحق القتال من أجله؟) تختتم برؤية حانقة تنم عن مفارقة أن باريس هو الرابح لموته لأنه تجنب ابتلاء الشيخوخة: «وهكذا تذمر مينلاوس؛ وضجت هيلين؛ واستمر باريس في نومه إلى جوار سكاماندر.»61
في عام ١٩٥٩ بدأ سي إس لويس قصة/رواية قصيرة عن هيلين ومينلاوس في نهاية حرب طروادة، «بعد عشرة أعوام». تُروى الحكاية من وجهة نظر مينلاوس. تبدأ بأفكار مينلاوس في الانتقام من هيلين بينما هو محتجز في جوف الحصان الخشبي، وتكون نهايتها أن … في الحقيقة هي لا تنتهي، لم يكن لويس قادرًا على إكمال القصة، التي ببساطة تنقطع، بدون حتى علامة وقف. تبقى القطعة الأدبية المكونة من ١٩ صفحة (في خمسة فصول) إلى جانب تعليقات وُضعت من قبل روجر لانسيلين جرين وألاستير فاولر اللذين كان لويس يتراسل ويتحدث معهما عن الصعوبات التي كان يواجهها في إنجاز القصة. تركزت محادثاتهم على الحبكة؛ أعتقد أنه الجمال هو الذي يكْمن في قلب صعوبات واجهها لويس في سرده.62

إن شخصية مينلاوس عند لويس، مثل معظم شخصيات مينلاوس في الأعمال المختلفة، ليست شخصية ذكية، ولكن الفارق هنا أن مينلاوس يعرف ذلك، ومحاولاته لتحليل الحرب، واللوعة، والانتقام، وزواجه، والسياسة، وأجاممنون تمنحه تعاطفًا سرديًّا. إن خططه المبهمة للانتقام من هيلين تتشابه من ناحية التوقف السردي الفجائي مع شخصية الملك لير: «سيصنع بها الويل …» (لويس ١٩٦٦: ١٢٨)؛ فهو يخطط لاغتصابها، أو لتقديمها إلى العبيد ليغتصبوها، أو للتضحية بها («لا اغتصاب، لا عقوبات؛ فقط قتل مهيب، جليل، حزين، ويكاد يكون مؤسفًا، مثل قربان»؛ ١٢٨)؛ أو لإنقاذها («أأدمر غنيمة كتلك؟» ١٣١). وفي أحيانٍ لا يمكنه أن يدعوها إلا بوصفها «المرأة» (١٢٩).

في القسم الثاني من القصة عندما يصل مينلاوس إلى الغرف الداخلية في القصر، يتعرف على هيلين من صوتها وحده:

لم يكن ليحلم أبدًا أنها ستكون في هذا الحال؛ لم يحلم أبدًا أن شحمها كان سيتجمع في ذقنها، ولا أن الوجه يمكن أن يكون مكتنزًا جدًّا ولكنه مع ذلك مهزول، ولا أنه سيكون هناك شعر رمادي في صدْغَيْها وتجاعيد عند زوايا عينيها. وحتى طولها كان أقل مما كان يُذكر. (لويس ١٩٦٦: ١٣٤)

سرعان ما حل الخزي محل إشفاقه على زوجته المنفصلة عنه: «لقد كان يحلم أن تخلده الحكايات على أنه الرجل الذي استرد أجمل امرأة في العالم، أكان ذلك ما فعله؟» (١٣٤). ردة فعل أجاممنون نحو هيلين المسنة هو براجماتي وسياسي على حد سواء؛ فهو يخشى ألا يصدق الجيش أن الملكة المأسورة هي هيلين. «سيظنون أنك تحتفظ بهيلين أخرى جميلة — هيلين التي في أحلامهم — في موضع أمين بعيدًا عن الأنظار.» ولذلك يجهز لصعود مينلاوس وهيلين على متن السفينة بسرعة وبدون جلبة، تاركين إياه ليتعامل مع الوضع (ربما عبر خداع الجنود بإعطائهم أي سجينة أخرى على أنها هيلين. «هناك بعض الفتيات اللواتي يمتلكن جمالًا رائعًا»؛ ١٤١).

في الفصل الخامس من القصة تهبط هيلين ومينلاوس إلى بر مصر، حيث يزعم مضيفهما المصري أن رفيقة مينلاوس ليست هيلين. تسلك القصة — أو كانت ستسلك — اتجاهًا عكسيًّا لأسطورة «الأيدلن (الطيف).» كانت فرضية لويس — كما يكشف روجر لانسيلين جرين — أن شبح هيلين كان في مصر وأن هيلين الحقيقية كانت في طروادة. (في رواية ستسيكورس كانت الآلهة قد أرسلت شبحًا إلى طروادة بينما سكنت هيلين ريف مصر.) تنقطع القصة عند اللحظة التي يعرض فيها المصري الذي اعتنى بهيلين لعشرة أعوام اتهامه. تُعزف الموسيقى، وتتوهج الشموع. «قال العجوز: «تقدمي يا ابنة ليدا.» وعلى الفور جاءت. خارجة من ظلام المدخل.» أعتقد أنها ليست مصادفة أن يتوقف السرد في القصة عندما يكون لزامًا على لويس أن يصف هيلين، وهي المرأة الجميلة التي من المفترض أن تظل جميلة إلى الأبد. كما يشرح جرين، كانت تأتي من المدخل:

هيلين الجميلة التي كان مينلاوس في الأصل قد تزوجها — إن جمال هيلين كان فائقًا إلى درجة أنه لا بد أنها كانت ابنة زيوس — فتاة الأحلام التي ظل مينلاوس يرسم صورتها في مخيلته طوال السنوات العشر لحصار طروادة، وهي الصورة التي تمزقت بكل قسوة عندما وجد هيلين في الفصل الثاني. (لويس ١٩٦٦: ١٤٧)

إلا أن لويس كان قد وضع نفسه في مأزق. قد يكون في مقدوره أن يصف هيلين المسنة، لكنه لا يمكنه أن يصف هيلين الخالدة. مرة أخرى يقف تجاوز الجمال لحدود الزمن حجر عثرة أمام قدرة السرد على تناوله. ففي هذا الموضع هو يوقف السرد، ليس لعشرة مقاطع شعرية (مثلما في قصيدة «ملكة الجن» الملحمية) أو لخمسين سطرًا (مثلما في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا») أو لأربعين ثانية (مثلما في الحلقات التليفزيونية المسلسلة التي ظهرت عام ٢٠٠٣ «هيلين طروادة»)، بل هو توقف دائم. لا يمكن أن يحصل جمال هيلين على تكريم أعظم من هذا. إن فشل لويس هو فوز للشخصية محور روايته.

نحن بحاجة هنا للعودة إلى مسألة المطلق، وتحديدًا معضلة تجسيد المطلق في الواقع. إذا كانت المسيحية على نحو فيه مفارقة هي أكثر الديانات ماديةً (لأنها تسلم بتجسد إلهٍ متعالٍ في جسد مادي)، فقصة هيلين على نحو مماثل تُحِل المتجسد في الواقع (ومن خلال «الواقع» يمكن للمرء أن يدرك كلًّا من جسد هيلين والسرد الذي يُدون فيه ذلك الجسد). إذن هناك معضلة سابقة على معضلة تمثيل هيلين: وهي الوجود.

إن كون جمال هيلين ليس معضلة تمثيل بل معضلة وجود يزداد وضوحًا؛ إذ إنه — على الرغم من الأمثلة التي قدمت طوال هذا الفصل — لا توجد لدى السرد مشاكل تمثيلية مع الجمال. فالشاب في سوناتات شكسبير تُفرَد له مساحة من الشعر الغنائي. والإلهات الجميلات — أفروديت، وهيرا، وأثينا — قد وُصِفن. وكذلك جرى وصف لوكريس. وبما أنه لقرون عديدة كان الجمال الأنثوي عادة ما يُساوى بالمكر الأنثوي، يمكن للأدب أن يصف الأول من خلال الثاني. عندما تُجهِّز هيرا لصرف انتباه زيوس بإغوائه في «الإلياذة»، تتجمل مستخدمة وسائل تجميل هي: الاغتسال، وملطف للبشرة («زيت زيتون حلو»)، وعطر، وعطر إلهي (أمبروسيا)، وتمشيط الشعر، وثوب مُصمَّم («غزلته لها أثينا»)، ومجوهرات (مشبك، وحزام، وأقراط، وثياب، وصندل جميل). لا يختص الوصف بجمالها الأصلي، بل بجمالها المصطنع: «وما إن كست جسدها بكل هذه الزينة» (١٤. ١٧٢، ١٧٨-١٧٩، ١٨٧) [ترجمة المركز القومي للترجمة بتصرف]. في ملحمة حربية هذا المشهد هو مشهد لتسلح «أنثوي» (ويلكوك ١٩٧٦: ١٥٩). درع النساء هو الجمال؛ فالجمال هو شيء يمكن للمرء أن يكتسي به.

وعلى ذلك فيمكن تمثيل الجمال، حتى وإن كان جمالًا إلهيًّا؛ فالمعضلة في جمال هيلين ليست معضلة ظهور بل معضلة وجود.

ولكن إذا كان جمال هيلين يشكِّل معضلة وجود (نصف بشرية، نصف إلهة) ومعضلة أخلاق (الوضع الأخلاقي للجمال) فهو يشكِّل أيضًا معضلة سياسية على نحو لا يشكله جمال لوكريس رغم تأثيراته السياسية. فقصة لوكريس من الناحية الروائية ليست «عن» جمالها ولكن عن عفتها. (عند ليفيوس، مثلما عند شكسبير، طهرها هو الذي أثار ثائرة تاركينيوس.) ولكن جمال هيلين مقحَم على نحو مستمر في السياسة، مثلما يوضح تباحث المجلس الطروادي في مسرحية شكسبير «ترويلوس وكريسيدا»، حيث التساؤل المحوري ليس «ما قيمة جمال هيلين؟» بل «كيف يُقدِّر المرء قيمة ملك؟»

يمكننا النظر في هذه المسألة من خلال مقابلها الظاهري، القبح. وأنا أقول مقابل «ظاهري» لأنه بالنسبة لبعض واضعي نظريات علم الجمال، مقابل الجمال ليس القبح ولكنه الانفصال بين الوجود والقيمة (كيروان ١٩٩٩: ٥٠). هذا يقدم تعريفًا مفيدًا للجمال — الاتحاد بين الوجود والقيمة — الذي يعد السمة المميِّزة للجدال حول شخصية هيلين في مسرحية شكسبير «ترويلوس وكريسيدا» (٢. ١). إن علاقة الجمال بالقيمة — بقطبَي الزمن والتجاوز — تتوازى مع علاقتها مع ثنائي مزدوج آخر: الذاتية والموضوعية.

(١١) الجمال: الذاتية والموضوعية

لا يمكن لأحد أن يشكك في الادعاء الجازم بأن الوردة جميلة. كذلك القول بأن العمارة الكلاسيكية الحديثة جميلة من المستبعد أن يسبب خلافًا، بما أن الشكل والتناسب عنصران أساسيان للجميل متفقٌ عليهما منذ فيثاغورث، وأفلاطون، وبوليكليتوس، وجالينوس، وأوغسطينوس. فالجميل يمتلك خصائص وموضوعية قابلة للتحديد.

هذا ليس صحيحًا في حالة الجمال، الذي هو ذاتي بالكلية، مثلما تشير عبارات مكررة مثل «الجمال مقرون بعين الناظر» أو «العين وما تشتهي والقلب وما يهوى.» تصوغ شخصية ثيسيوس عند شكسبير الأمر بتحديد أكثر (وبشاعرية أكثر): «أما العاشق … يرى جمال هيلين في جبهة غجرية» («حلم ليلة صيف» ٥. ١. ١٠-١١) [ترجمة د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، إصدار عام ١٩٩٢]. المقصود بعبارات أخرى أن بشرة سمراء ستبدو في جمالها مماثلة لجمال هيلين في عين عاشقٍ مُحبٍّ. وبما أن حديث ثيسيوس هو عن الخيال، فجليٌّ أن الجمال ليس شكلًا موضوعيًّا بل حالة ذهنية.

ومع ذلك نستمر في الحديث عن الجمال كما لو أنه موضوعي، كما يوضح ليساندر في نفس المسرحية؛ إذ يسوغ تغيُّر وفائه العاطفي من هيرميا إلى هيلينا على أساس التقدير الموضوعي للجمال:
لا ليست هيرميا حبيبتي بل هيلينا!
أفلا أتخلى عن غراب في سبيل حمامة؟
إن عقل الإنسان يتحكم في إرادته،
والعقل يقول إنكِ أجدر منها.
(٢. ٢. ١١٣–١١٦) [ترجمة د. محمد عناني (بتصرف يسير)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، إصدار عام ١٩٩٢]

هيلين هي «أجدر» لأنها أجمل (أو أكثر وداعة)، «حمامة» مقارنة إلى «غراب». إن اعتماد المنطق لتفسير الأفعال والمشاعر هو من طبيعة حالات حقبة ما بعد التنوير، لكننا نجد أن شخصيات شكسبير التي تنتمي إلى عصر ما قبل ديكارت تفكر أيضًا بهذه الطريقة.

يستهل إيمانويل كانط كتابه «نقد مَلَكة الحكم» (١٧٩٠) كما يلي:

لكي نعرف إن كان أي شيء جميلًا أو لا، فنحن لا نحيل إلى تمثُّله للموضوع بوساطة الفهم مع نظرة إلى المعرفة، بل نحيل بوساطة الخيال … إلى تمثُّل الذات وشعورها باللذة أو الألم. (١٩٦٤: ٢٨٠-٢٨١) [ترجمة سعيد الغانمي، ٢٠٠٩، ص١٢٣]

تدعم العلاقة بين الجمال والخيال (الذاتية) من جهة وبين مقابلهما المتصل بهما، الجمال ومَلَكَة الحكم (الموضوعية) من جهة أخرى العمل الفني. على سبيل لمثال: «ينبغي تمييز الموضوعات الجميلة عن المناظر الجميلة للموضوعات.»

يكشف دمج ليساندر للخيال مع المنطق — أو بالأحرى البراعة اللفظية في إخفاء الأول تحت قناع الثاني — عن الاضطراب الذي نشعر به عندما يسيطر علينا ما يدعوه شكسبير الخيال، ويدعوه كانط «التمثل المفرد»، وندعوه الذاتية. ها هو ما يقوله كانط:

عن طريق حكم الذوق أصف الوردة التي أتطلع إليها بأنها جميلة. غير أن الحكم الذي ينتج عن المقارنة بين عدد من التمثلات المفردة: «الورود عمومًا جميلة» لم يعد يُوصف بأنه حكم جمالي خالص، بل هو حكم منطقي يتأسس على حكم جمالي. (١٩٦٤: ٢٨٩) [ترجمة سعيد الغانمي، ٢٠٠٩، ص١٣٧]

بتغييرنا لعبارة «أرى أن الوردة جميلة» (رد فعل شخصي) إلى «الورود جميلة» (عبارة موضوعية) نحن ننتهج نفس أسلوب الاستنباط التراكيبي كحال ليساندر عندما يبرر تغير شعوره بأنه النبذ المنطقي للغراب (الذي هو من الواضح أنه أسود) والتحول إلى الحمامة (التي هي من الواضح أنها بيضاء). ويكرر ثانية في الفصل الثالث تبريره لمعاملته لهيرميا مستخدمًا نفس المنطق، قائلًا لهيلينا: «لم أكن قادرًا على الحكم حين أقسمت لها (يقصد هيرميا).» وهو ما ترد عليه هيلينا باقتضاب: «ولستَ قادرًا، فيما أرى، حين تتخلى عنها الآن» (٣. ١. ١٣٤-١٣٥) [ترجمة د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢]. ونحن على غرار ليساندر نستخدم باستمرار لغة موضوعية لوصف حدث ذاتي. وعلى غرار ليساندر نحن «نعرف» متى يكون الشخص جميلًا. (أو «لا نعرف»: فما تحتج عليه هيلين هو أن ليساندر «لن يعرف ما يعرفه الكل ولن يبصر إلا رأيه.») [ترجمة د. محمد عناني]

يمزج ألكسندر بوب الذاتية والموضوعية في عبارة مأثورة أنيقة:
أحكامنا كساعاتنا، لا
تعمل أيٌّ منها كالأخرى، غير أن كلًّا منا يعتقد أن رأيه هو الأصوب.
(مقال في النقد، ٩-١٠ في بوب ١٩٦٣)

ما تتفرد به حالة جمال هيلين أن كل الأحكام متماثلة؛ إذ لربما كان جمالها ذاتيًّا ولكنَّ هناك إحساسًا بأنه حالة موضوعية في اعتقاد الجميع، فلا أحد في الأدب الكلاسيكي ولا في أدب العصور الوسطى ينكر أن جمالها يستحق القتال من أجله.

هذا يعيدنا إلى تمثيل الجمال بواسطة تأثيره على الآخرين، وهي مسألة بدأنا بها هذا الفصل. لقد كان لفلاسفة علم الجمال محاولات عديدة لوضع تعريفٍ للجمال، بَيْدَ أن أكثر هذه المحاولات نفعًا من وجهة نظري ينبع من فيلسوف يشتهر بنقده الأدبي. يكتب آي إيه ريتشاردز في «أساسيات النقد الأدبي»: «نتحدث دائمًا عن الأشياء [الجميلة] كما لو كانت توجد فيها صفات معينة، بينما واجبنا أن نقول إن الأشياء تُحدث فينا تأثيرات من أنواع معينة» (١٩٢٥: ٢١) [ترجمة محمد مصطفى بدوي، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى ٢٠٠٥، ص٧١]. نُشر هذا النص المرجعي في عام ١٩٢٤. نجد مطابقة لرؤية ريتشاردز في أعمال جون إرسكين، أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا. لقد كان هناك الكثير من الأمور المشتركة بين هذين الأستاذين في اللغة الإنجليزية اللذين كان محيط شاسع يفصلهما؛ فكلاهما كان لديه شغف بالفلسفة (درس ريتشاردز علم الأخلاق بجامعة كامبريدج) وكلاهما كان على اتصال بالجوانب الإنسانية للأدب (إذ كان إرسكين منقطعًا على إدخال مقررات تحضيرية في العلوم الإنسانية التقدمية في أقسام اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة). كان إرسكين أيضًا كاتبًا روائيًّا، ونشر في عام ١٩٢٥ رواية «الحياة الخاصة لهيلين طروادة».

مستعرضًا جمال زوجة أبيه مع عروسه التي تزوجها منذ وقت قريب، يقول أوريستيس في رواية إرسكين:
إنما الجمال هو أثرٌ — أثر الاستحسان الفائق … عندما نكون أكثر حكمة سنقول إن تلك النساء جميلات، وليس أنهن يمتلكن جمالًا، أو بالأحرى، سنقول إنهن يحدثن الانطباع المحبب المسمى بالجمال. (١٩٢٦: ٢٩٣)63
قبل رواية إرسكين بثلاثين عامًا، كان هنري رايدر هاجارد وأندرو لانج قد ناقشا هذه المعضلة بنجاح في رواية «رغبة العالم» التي كانت على النقيض غير ناجحة (نُشِرت بالتسلسل عام ١٨٩٠، بينما نُشرت في كتاب عام ١٨٩٤).64 يقدم الكاتبان هيلين ليس فقط على أنها جميلة وإنما على أنها الجمال المطلق؛ «الجمال ذاته»65 وهما يصنعان ذلك عبر المزج بين الذاتية والموضوعية. عندما تطل هيلين، يذهب لب الجمع المحتشد عشقًا. ومع أنهم متفقون في رد فعلهم، فإن كل رجل يراها بطريقة مختلفة: فالبعض يراها تمتلك عينين زرقاوين، وآخرون يرونهما بُنِّيَّتين، والبعض يراها شقراء، وآخرون يرونها بُنِّيَّة الشعر:
عندما يتطلعون إليها، لا يستطيع أيٌّ منهم أن يلاحظ هيئة جمالها، إذ تبدو لواحد سمراء وللآخر شقراء، ولكل رجل منهم أظهرت حُسنًا مختلفًا … لذا بدا لكل رجل أنها وحدها كانت مُنية قلبه. (هاجارد ولانج ١٨٩٤: ٩٨)66
من الأجدى أن نفكر في الجمال ليس كقيمة وإنما كأثر. نجد صياغات لهذا الاستنتاج عبر القرون في أعمال بتراركا، وفيرينزيولا، وجيوردانو برونو، والسير توماس براون، وسبينوزا، وأديسون، وشيللر، وباسكال، وهيوم. الكلمة نفسها في اليونانية تذكرنا باستمرار بهذا: kalos/kallis (جميل)، التي يربطها فيتشينو بكلمة kaleō، التي يعرف معناها بأنه «أستدعي». واشتقاقه هو اشتقاق كاذب؛ فهو تلاعب بالألفاظ أكثر من كونه اشتقاقًا لفظيًّا حقيقيًّا. ومع ذلك فهناك رابط بين kaleō (أستدعي، أستحضر) وبين حجة أفلاطون القائلة بأن الجمال هو استحضار من عالم آخر، استدعاء للروح من الرب (فيتشينو ١٩٨٥: ٨٦. ٥. ٢). يقر ديونيسيوس المجهول (أواخر القرن الخامس الميلادي) بنفس الأمر عندما يكتب أن «الجمال … يستدعي kaloun كل الأشياء إلى ذاته (ومن أجل ذلك أيضًا سُمِّي جمالًا)» (١٨٩٧: ٤، القسم ٧). الجمال عنده — مثلما هو عند فيتشينو بعد ذلك — مرادف للاستدعاء؛ فهو شيء يمتلك تأثيرًا.
ولكن إن كان الجمال هو أثر، فإنه أثر نحن من نصنعه، مثلما أدرك ييتس عندما وصف هيلين طروادة عنده، مود جوون. فجمالها حرك حشودًا، ولكن على نحو متبادل كان ذلك الجمال ««بطريقة ما صنيع الحشد»، مثلما أن دخول البابا إلى كاتدرائية القديس بطرس هو صنيع الحشود» (ييتس ١٩٥٥: ٣٦٤، الأقواس من عندي/كاتدرائية القديس بطرس هي المقر الرسمي لبابا الكاثوليك). يستفيض ييتس في وصفه لمود جوون في هذه الفقرة. إنه يصف ما نتوقع أنه سيصفه: قوامها،67 وجهها المبهم، وما يرتبط بجمالها («البهجة والحرية»). بيْد أنه يضيف:

أيضًا، كان هناك عنصر في جمالها حرك عقولًا مكدسة بحكايات وقصائد جيلية (أيرلندية) عتيقة؛ إذ بدت كما لو أنها عاشت في حضارة قديمة كانت كل الأشياء الأسمى فيها، سواء تلك التي تختص بالعقل أو تلك التي تختص بالجسد، تُعَدُّ جزءًا من شعائر احتفالية عامة. (١٩٥٥: ٣٦٤)

هذا الاتصال بين الجمال السامي والماضي هو أمر يلاحظه ييتس في موضع آخر في «السيرة الذاتية»: «لم يَجُلْ أبدًا في خاطري أنني سأرى امرأة على قيد الحياة بهذا القدر الفائق من الجمال. جمال انتمى إلى اللوحات الشهيرة، إلى الشعر، إلى ماضٍ أسطوري ما» (١٩٧٢: ٤٠). في كل أرجاء شعر ييتس يجسد جمال هيلين التناقض بين «ماضٍ نبيل» و«حاضر عادي» (ميلكيوري ١٩٧٨: ١٢٠). إذا ما استرجعنا مقدمة هذا الفصل التي تتحدث عن الجمال كشيء — مثل السرد — يثير شوقًا كبيرًا، فستبدأ الصلة بين جمال هيلين والحنين إلى الماضي والوطن في الترسخ في موضعها؛ إذ إن ييتس ليس وحده من يتفاعل مع الجمال كشيء يستدعي — أو يولد شوقًا إلى — ذكريات ماضٍ (قومي).

(١٢) الجمال والحنين إلى الماضي

تُستهَل قصيدة بو الأولى «إلى هيلين» (١٨٤٩) بمقابلة بين جمال هيلين وعودة أوديسيوس إلى الوطن:
إن جمالك يا هيلين هو لي
كتلك القوارب النيقية من الماضي البعيد
التي بلطف فوق البحر العطر تجوب
عائدة بالرحال المنهك المتعب من الترحال
إلى شاطئ وطنه.

في المقطع الشعري الثاني يعيد «شعر هيلين الذهبي المشوب بحمرة» و«وجهها الكلاسيكي» الشاعر إلى «الوطن/إلى الرفعة التي كانت تُدعى اليونان/والعظمة التي كانت تُدعى روما.» هيلين التي يقصدها بو ليست التي تمثل الجمال المدمر بل القارب الآمن، وفي المقطع الشعري الثالث تربط القصيدة بين بحث أوديسيوس الفعلي عن الوطن وبين بحث الشاعر الوجداني عن المنابع الشعرية؛ إذ تندمج شخصية هيلين في شخصية سايكي (وفي مفهوم الروح). كانت اليونان تمثل لبو ما كانت تمثله أيرلندا لييتس، لكن البلد ليس على نفس أهمية عاطفة الشوق والفكرة المتكررة في ملحمة «النوستوي (العودة للوطن)». (كما أنها فكرة ليست قاصرة على الكتَّاب قريبي العهد الذين تناولوا هيلين.)

الملحمة تمثل بالطبع نوعًا من الحنين إلى الماضي. فهوميروس يقارن تكرارًا بين القدرة الجسدية لأبطاله وبين القوة الأقل «مثلما هم الرجال في الوقت الحاضر» («الإلياذة» ٥. ٣٠٣-٣٠٤؛ ١٢. ٣٨٣؛ ٢٠. ٢٨٧). في كتابات هوميروس، وفي «الحرب على طروادة» لكوينتوس من سميرنا، وكتب العصور الوسطى عن طروادة، تشتاق هيلين بطرق مختلفة إلى زوجها، وإلى ابنتها، وإلى إخوتها، وإلى بلدها. ومن المواضع التي استأثرت بالاهتمام في هذا السياق هو اللحظة التي وردت في كتابات كوينتوس من سميرنا عندما تُعادَل هيلين نفسها باليونان من ناحية كونها موضع أشواق الرجال المشتاقين إلى وطنهم. لقد دُمِّرَت طروادة وأبصر الجنود اليونانيون هيلين أخيرًا بينما تسير إلى سفنهم بجانب الطرواديات المأسورات:

وقفت باديةً أمامهم، مشهد اشتاقوا كلهم إلى رؤياه، تمامًا مثلما يجوب رجال عبر البحر المضطرب، ويتراءى لهم وطنهم الأم بعد زمن طويل استجابةً لصلواتهم، فيمدون — هاربين من البحر ومن الموت — أيديهم صوب موطنهم، بابتهاج لا حد له في قلوبهم. (١٩٦٨: ٢٥٠-٢٥١)

يسوق إيسقراط نفس الفكرة: عندما تُختطَف هيلين، يشعر اليونانيون بالخسران «كما لو كان وطنهم بأسره قد سُلِب»؛ بالمثل يشعر الطرواديون بالفخر بانتزاعهم هيلين «كما لو كانوا قد غزوا [اليونان]» (القسم ٤٩؛ ١٨٩٤: ٣٠٢). في هذه النقطة يدرك كوينتوس وإيسقراط ما يُفصِّله لاحقًا فلاسفة الجمال، وهو أن الجمال عاطفة وصِلة (أو مجموعة من الصلات) أكثر من كونه شيئًا. فما يوصف بأنه مكان جميل (على سبيل المثال) هو بالأحرى ذكرى «مرحلة من الزمن» (كيروان ١٩٩٩: ١٠). وهذا يوضح السبب في أن الأشياء أو الوقائع الجميلة؛ كسيمفونية موسيقية أو مشهد، لا تحتفظ بجمالها في ظل ظرف مختلف. تتأمل شخصية تيس من عائلة ديربيرفلز (في رواية هاردي التي تحمل اسمها) الحياة التي عاشتها في إقليمَيْن زراعيين مختلفَيْن كثيرًا والمحبة والأحزان التي لاقتها في كليهما، وتستحث راوي حكايتها على أن ينتبه إلى أن «الجمال بالنسبة لها — مثلما بالنسبة لكلِّ من لهم شعور — لا يكمن في الشيء بل فيما رمز إليه الشيء» (هاردي ١٩٧٨: ٣٧٣). وما يرمز إليه جمال هيلين — كما يدرك كوينتوس — هو اليونان.68

الحنين إلى الماضي (وتعني حرفيًّا الألم شوقًا إلى الوطن) هو — رغم المحدودية التي يُعبر عنها في أصل الكلمة — موازٍ دقيق للجمال؛ فهو بالمثل ليس شوقًا لشيء ولكنه شوق متصل بالشيء، في الحقيقة عاطفة الشوق ذاتها. كما توضح سوزان ستيوارت: «الحنين إلى الماضي هو حزن بلا شيء يقع عليه … فالماضي الذي يبتغيه ليس له وجود إلا كقصة.» وفي مركز الحنين إلى الماضي هناك غياب، والإحساس بالحنين إلى الماضي هو الإحساس الراهن بما مضى، «نقص مُستشعر» (ستيوارت ٢٠٠٥: ٢٣). الجنة الوحيدة — كما قال بروست — هي الجنة التي فُقدت.

يقارن فلاديمير جانكلفتش الحنين إلى الماضي بالحب (١٩٧٤: ٢٨٨)، ولكن ربما يكون من الأدق مقارنته بالجمال. يقدر مديح بتراركا في الجمال في السونيتة ٧٧ — التي يتحدث فيها عن لوحة سيمون مارتيني للجميلة لورا — الرسم تحديدًا لقدرته «على أن يثير الشوق في صدر الناظر؛ تحقيق تلك الرغبة ليس جزءًا من شأنه» (شويزر ٢٠٠٤: ٦٩). يحلل فيليب شويزر هذه السونيتة في نقاشه حول المرحلة المبكرة من القومية الحديثة والذكرى. يلاحظ أنه في هذا العهد كانت استحالة تحقيق الرغبة مقومًا أساسيًّا هامًّا من مقومات الشعر والرسم على السواء. لم تكن ملاحظة غياب الحوار في الرسم والنحت ملاحظة تشير إلى تقصير (نقد)، بل إلى شعور بالشوق (تمنٍّ). «فيما يتعلق بدوناتيللو وجمهوره، كان الشوق المثبط نحو ما لا يمكن استعادته هو اسم آخر للجمال» (شويزر ٢٠٠٤: ٦٩).

يقتفي شويزر أصل تلك الرابطة، التي ترجع إلى أوائل الحقبة الحديثة، بين القومية والجمال، والشوق من حيث كونه القاسم المشترك بينهما، إلى سعي جون بيل للعثور على موضوع جديد للإعجاب من الناحية الجمالية بعد انحسار منابع الجمال التي كانت تتبع كنيسة الروم الكاثوليك في إنجلترا: الأديرة، والأيقونات.

يدين بيل في المقام الأول إلى بتراركا بإدراك بسيط. إن النظرة التي تَشْخَص لمرأى قطعة فنية جميلة وتكاد تنبض بالحياة والنظرة التي تسبر غور الماضي العتيق هما شيء واحد وهما نفس النظرة. فكلتاهما تثمر إرضاءً جماليًّا ينبع من الشوق إلى ما لا يمكن استعادته. (شويزر ٢٠٠٤: ٧١)

لم يحصر تعليق شويزر القيمة في وصف ما ينتمي إلى أوائل الحقبة الحديثة فحسب بل يمكن تطبيقه كنظرية على النصوص الكلاسيكية. فجمال هيلين ليس منفصلًا عن خسارتها، أو الخسارة التي تتهددها، لأنه في الغياب يختبر المرء الشوق. هذا يفسر جزئيًّا اختطافاتها المتعددة، فلا يمكن أن تصبح موضوعًا للحنين إلى الماضي إلا بكونها في حالة تداول متواصل؛ فهي تنتقل من تينداريوس إلى ثيسيوس، إلى مينلاوس، إلى باريس، إلى ديفوبوس، إلى أخيل … هذا التداول المتواصل يستبق رؤية ماركس للقيمة حيث — في الرأسمالية — تحقق البضائع القيمة ببساطة عندما لا تتوقف عن التداول. والجمال — كما رأينا أعلاه — مرتبط وجوديًّا بالقيمة وغير منفصل عنها في العالم الكلاسيكي، حيث تبادل الرجال الأغراض الجميلة قبل اختراع النقود.

ماذا يحدث عندما تُسترجع هيلين على يد مينلاوس؟ إذا كان الجمال يُحدَّد عبر الشوق، فهل هي الآن لم تعد جميلة؟ ربما يكون ذلك صحيحًا؛ فغياب السرد عن هيلين بعد خراب طروادة هو أمر ملحوظ؛ إذ لم يعد هناك حكاية لتُروى. بيْد أن الكتاب الرابع من «أوديسة» هوميروس يظهر هيلين بعد أن تخلد إلى الراحة في أسبرطة؛ لا يخبو في هذا الكتاب جمالها في عينَي تليماخوس (أو في عينَي الشاعر). قد يعني هذا أنها لا تزال مهددة بالاختطاف. ما سُلب مرة يمكن أن يُسلب مجددًا (ومجددًا)، وثقة مينلاوس في وفاء زوجته تبدو هشة مثلما نرى في الروايات المتعارضة للزوج وزوجته، التي يروي فيها كلٌّ منهما لتليماخوس حكاية عن والده في طروادة؛ إذ تقص هيلين واقعة تتعرف فيها على أوديسيوس المتخفي في طروادة، وتمنحه سبيلًا لمعلومات، وتحفظ سره. هذه حكاية عن هيلين كمخلصة لليونان؛ امرأة تقاسي الحنين للوطن والماضي ويدفعها هذا الحنين:

لقد كنتُ بالفعل أشتاق للعودة إلى الوطن مجددًا. لقد عانيت تبدلًا في الرأي والمشاعر، إذ أشعر بالندم على العمى الذي أنزلته عليَّ أفروديت عندما اجتذبتني إلى طروادة من بلدي العزيز وجعلتني أهجر ابنتي، وغرفة عرسي، وزوجًا لم ينقصه شيء من ذكاء أو طلعة. (الكتاب ٤، ص٥٢)

إن هذا لهو حنين إلى الوطن والماضي في أبلغ صوره، إذ لا يوجد أي موضع آخر في الأدب بخلاف هذا الموضع يُظهر مينلاوس على أنه ذكي أو حسن الطلعة.69 في ذاك الوقت يروي مينلاوس حكاية عن تجربته هو وأوديسيوس في جوف حصان طروادة. في روايته، تقلد هيلين أصوات زوجات المحاربين اليونانيين. وتغري الرجال كي «يخرجوا أو يعطوا جوابًا سريعًا من الداخل» (الكتاب ٤، ص٥٣). وهذه حكاية عن هيلين كخائنة لليونان؛ امرأة تتلاعب بحنين اليونانيين وشوقهم إلى زوجاتهم ووطنهم، شوق عارم حتى إنه يستحثهم على تصديق المستحيل: وهو أن زوجاتهم في طروادة أو أن الحصان الخشبي في اليونان.70 لقد أعيت القصتان ونظرتاهما المتناقضتان عن هيلين أقلام المعلقين. بيْد أننا نخطئ عندما نركز على ما بهما من تباين على حساب ما يجمعهما. وما يجمعهما هو استعراض للحنين إلى الوطن.71
إذا كان الحنين إلى الوطن أو الماضي هو شوق، تمامًا مثلما هو الجمال، فكلاهما يستلزم غيابًا.72 هذا يعيدنا إلى الغياب الذي يكْمن في قلب السرديات التي تتناول هيلين، وهو فرع من الغياب الذي نجده في قلب الجمال: الإحساس بغموض أو مجهولية الشخص الذي يملك الوجه الجميل. المثال الأشهر على ذلك هو ابتسامة موناليزا ليوناردو دافنشي، بيْد أن كاميل باليا تتتبع مواضع ابتسامتها في تراث من المنحوتات والرسوم: تمثال داود لدوناتيللو، يليه تمثال النصر لمايكل أنجلو، ومن ثَم إلى فروكيو، وصولًا إلى موناليزا ليوناردو وأخيرًا إلى «ملاك بيرنيني الذي يحمل السمات الذكورية والأنثوية معًا ويطعن القديسة تيريزا على نحو شيطاني» (باليا ١٩٩١: ١٤٩). ليس في الأمر مصادفة أن تكون هذه الأمثلة هي أيضًا أمثلة باليا على الخنوثة، كما ذُكر سابقًا. تؤكد باليا على أن الميوعة الجنسية في هذه المنحوتات والرسوم ليس مردها إلى الحالة الفسيولوجية المبهمة بقدر ما يتعلق بإبهام الابتسامة. فالابتسامة تدل على — أو تخفي — خواءً تجده باليا أيضًا في البطلتين الأدبيتين لورا وبياتريس المنعزلات، الحالمات، المكتفيات ذاتيًّا وفي رسوم روزيتي لإليزابيث سيدال: «ما الذي يدور بخلد الموناليزا؟ «لا شيء» بالطبع.» إن خواءها يمثل خطرها ويمثل خوفنا؛ فهي تمثل زيوس، وليدا، والبيضة مجتمعين في شخص واحد، إلهة خنثى أخرى تستمتع بنفسها في «وجود محض» (باليا ١٩٩١: ١٥٤، أقواس التنصيص من عندي).73

في الرسوم التي تصور هيلين نجدها توجه نظرها إلى بعيد، على نحو يوحي بشرود الذهن والترفع. حتى هيلين في لوحة إيفيلين دي مورجان، التي يبدو ظاهريًّا أنها تحدق بنرجسية في مرآة يدها، هي في الحقيقة لا تنظر إلى انعكاسها. فعيناها لا تتلاقيان مع المرآة في خط إبصار واحد. هناك سبب عملي لهذا — فالآلهة والإلهات لا يمكنهم التحديق في أنفسهم — ولكنه أيضًا جزء من التقليد التمثيلي لهيلين في الفن والأدب الذي بُحث في هذا الفصل وفي الفصل السابق: الخواء. مساحة الوصف الغائبة؛ غياب القص الشفوي للحكايات في الأمسية، سكون هيلين كالجماد على شرفة الحصن في الكتاب الثالث من «الإلياذة»؛ صفحة عنوان كتاب «مجموعة» كاكستون إصدار عام ١٥٩٧، التي لا تشير لهيلين؛ حذف اسم هيلين من الشخصيات الدرامية في «الجزء الثاني من العصر الحديدي» لهيوود؛ الصفحة الفارغة من «تريسترام شاندي» لستيرن؛ المساحة الخالية من الرسم في قماش اللوحة في مركز لوحة فرانسوا أندريه فنسنت؛ هيلين العارية التي قامت بدورها ماجي رايت؛ رواية سي إس لويس القصيرة التي ينقطع فيها السرد و«مشاهد» ويليام موريس غير المكتملة؛ مثلث السيدة رامزي الأرجواني في رواية فيرجينيا وولف؛ صمت خادمة هيلين في قصيدة كارول آن دوفي؛ الاسم غير الموجود على غلاف قرص الفيديو الرقمي (دي في دي) لفيلم بيترسن «طروادة»، ذلك هو خواء المجهولية. تسيطر المجهولية على علاقات كل الشخصيات مع هيلين في الخيال — وعلى كل مساعي المؤلفين لوصف هيلين إذ يحاولون ملء المساحة غير الموثقة التي لا نعلم عنها شيئًا — محولةً معضلة وجودية («وجود محض») إلى معضلة تمثيلية. لا يمكننا أن نعرف هيلين، ولكن يمكننا محاولة وصفها. ويمكننا أن نتظاهر بأن الأمر الأخير يكافئ الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤