جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي

«بعيدًا عن اليسار واليمين» و«الطريق الثالث» و«الوسطية» .. إلخ، عبارات تواترت تاريخيًّا مثلما تواترت في عالمنا المعاصر على مدى القرن العشرين بين مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجية. وجاءت الصيغ المتباينة إجمالًا دعوة أو إعلان البراءة من التطرف أو يأسًا من المواقف الحادة أو القاطعة وتوخيًا للاعتدال. وواقع الحال أن دعاتها إما أنهم يتخذون من مقولتهم قناعًا يخفي النوايا، ويدعون الناس إلى التخلي عن مواقف محددة أو انحيازات هنا أو هناك ومن ثم يسهل، بحكم عنصرة القوة، توجيههم إلى حيث يشاء الداعية، وقد تأتي الدعوة تعبيرًا عن أزمة في الفكر ووسائل الإنجاز، وتجسيدًا لحيرة يعانيها أهل الرأي خاصة حين تجف ينابيع الرصيد الفكري، ويتغير الواقع، ولا تجد أحداثُ الحاضر في الأطر الفكرية الجاهزة أو التقليدية تفسيرًا وحلولًا لمشكلات طارئة وملحَّة؛ أي حين تكون البشرية — واقعًا وفكرًا — على أعتاب تحول جذري جديد، وبحاجة إلى إطار فكري جديد تعمل على هديه.

ويمثل فكر «أنطوني جيدنز» تجسيدًا لهذا الوضع المأزوم. وتأتي مؤلفاته التي تجاوزت الثلاثين كتابًا، وكذا ندواته ومحاضراته تعبيرًا عن تنويعات على لحن واحد: دعوة إلى الانصراف عن اليمين وعن اليسار، التماسًا لطريق ثالث. وحري النظر إلى فكر جيدنز في إطار السياق الذي أنبت هذا الفكر، لنعرف العدو الحقيقي الذي يهاجمه، ونستكشف الوجهة التي يدفع الناس إليها، وعناصر القوة أو الضعف أو التناقض أو التردد. ونلتمس هذا في سياقين أو بُعدين: سياق كوكبي وسياق محلي بريطاني.

وبداية أقرر أن كتاباته تعبير عن هم غربي لن يجد فيها القارئ العربي صدًى لهمومه وقضاياه، هذا على عكس ما روَّج له المثقفون العرب من أنهم والبشرية جمعاء وجدوا سبيل الخلاص في «طريقه الثالث» كأنه تضمَّن حلولًا لمشكلات الجنوب، أو أنه الطريق الثالث الأوحد والوحيد، على الرغم من أن الطرق الثالثة كثيرة الآن في الجنوب والشمال: بل يوجد في بريطانيا ذاتها «حزب الطريق الثالث» الذي أُسس عام ١٩٩٠م وهو بطبيعة الحال غير حزب العمال الذي يعمل له جيدنز مفكرًا ومنظِّرًا. ولكن أهمية كتاباته تأتي من كونه كتابًا كاشفًا عن واقع حال الفكر الغربي: التاريخ التطور – الأزمة – الخصائص. وتتمثل قيمتها بالنسبة إلى القارئ العربي — الذي عاش ردحًا طويلًا من الزمن أسير الإطار الفكري الغربي، ويراه مسلَّمة وحقًّا وحقيقة — في أنه يكشف أن الحقيقة ليست هذا الفكر، وأن الفكر الغربي شأن كل الأطر الفكرية في حقيقة مطلقة، بل وجه لواقع نسبي في الزمان والمكان. وتكشف كذلك عن خاصية ذات وجهين، سلبي وإيجابي، في فكر الغرب: الوجه الإيجابي هو فعل التداول والحوار الحر المنتج بشأن قضايا المجتمع بين أهل الرأي. والجانب السلبي هو أن الغرب يعيش أزمة فكر، ولكنها أزمة تضعه على طريق تحول جذري، أو هي مخاض ميلاد الجديد .. وتتهيأ إمكانات التحول وتجاوز الأزمة لتشملنا.

ولكن هذا لا ينفي خصوصية مشكلاتنا وخصوصية فعلنا الغائب أيضًا، ومن ثم ليس علينا أن نكون مجرد صدًى، بل فعلًا إبداعيًّا نشطًا أصيلًا نفكر لأنفسنا في سياقين محلي وكوكبي، ونهتدي إلى طريقنا، وإن اشترك في بعض عناصره مع طرق أخرى.

السياق الكوكبي إلى الجذور

النصف الثاني من القرن العشرين حقبة درامية بكل أبعادها، مؤلفة من فصلين، الحركة والتحول فيهما بين نقيضين تامَّيِ التناقض في الفكر والطموحات والآليات والسياسيات. وامتد أثر هذا إلى الجذور عمقًا، وتجاوز الحدود القومية إلى آفاق كوكبية.

المشهد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، قطبان أيديولوجيان يبسطان هيمنتهما وبينهما صراع ومنافسة أو حرب صامتة وصِفت بالباردة، بعد أن خمد أُوَار حرب ساخنة مأسوية النتائج والدلالة. والمشهد الثاني في العقد الأخير، قطب واحد أوحد جبار متكبر له المشيئة، إلى حين. البداية فكر متماسك ويقين هنا وهناك أمل في التحرر وإصلاح ما فسد ومراجعة إنجازات العقل. والنهاية شك وسيولة فكرية وافتراس شرس بالمستضعفين من البشرية. البداية تجديد العهد في الاحتكام إلى العقل الذي اهتزَّ عرشُه إثر حربين عالميتين وتجديد الثقة بالنظرية. والنهاية سقوط الإيمان باليقين والعقل وبالأنساق الفكرية المطلقة. البداية جهد للتنمية والإعمار وإعادة البناء في إطار نظريتين متصارعتين: معها النظم الحاكمة باسم الاشتراكية، مثلما سقطت الاشتراكية ومجتمع المساواة، والليبرالية ومجتمع الرفاه. والنهاية أزمة هنا وهناك؛ سقطت الليبرالية وارتدَّت أو تحولت إلى ما يسمى بالليبرالية الجديدة ودولة الحد الأدنى من حيث الرعاية أو الرفاه الاجتماعية، ودولة الحد الأدنى أيضًا من حيث القوانين المنظمة لحركة ودور ونشاط رأس المال. البداية عالم يثق في النظم والقوانين على الصعيدين المحلي والدولي، والنهاية عالم شارد مغترب مضطرب أو كما يصفه جيدنز «عالم منفلت».

وهكذا يعيش العالم الآن أزمة عميقة الجذور تجسدها حالة السيولة الفكرية أو الشواش الفكري: جفت ينابيع التقليد بكل معانيه وأزمانه، وتداعت أركان النظام والنظريات المطلقة والأنساق الفكرية الجامدة، وتعيش الإنسانية بغير رؤية نظرية مرجعية هادية تتصف بالدينامية السريعة تسترشد بها في حركتها. وتجاوز البعض وأعلن سقوط الأنساق الفكرية جميعها مطلقة أو نسبية، وارتدَّ البعض الآخر بعد أن أصبح خاوي الوفاض من أي جديد يهديه، ارتدَّ إلى متاع فكري أصولي موروث يستعين به على خواء حياته، وهو في الحالتين غريب ومغترب، عاطل من آلية الفكر والفعل اللذين يربطانه بالواقع؛ ذلك أن الإنسان/المجتمع يتحرك لزومًا في تطوره الاجتماعي والتاريخي والإنتاجي، وبحكم وعيه بنفسه وبوجوده وفق إطار أو نسق ثقافي/فكري مرحلي أو نسبي، يحقق له التكيف الفردي والاجتماعي وفق مستوى حضارة العصر، ويهيئ له قوة دفع لحركته المستقبلية التنافسية. ويمثل هذا النسق مرجعيته المرحلية في تشخيص وتحليل الظواهر من حوله. إنه يتحرك لزومًا من نسق إلى نسق، وليس في حالة سيولة تُفقده الهداية والرشاد. وطبيعي أن لحظة الانتقال هي لحظة آلام مخاض التغيير، وكانت دائمًا لحظة محدودة الحدود، محلية الطابع.. أما الآن فالتغيير عالمي النطاق والظواهر المطروحة كوكبية الوجود .. والأخطار الماثلة ماحقة للإنسان كنوع بشري .. المستقبل المأمول محفوف بالأخطار واحتمالات تخلف البعض وهيمنة البعض الآخر، بحكم إنجازات العلم والتقانة، قرين الفعالية الاجتماعية هي احتمالات هيمنة شاملة على المستقبل بعيد المدى .. الاحتكار تجاوز الاقتصاد إلى احتكار المصير الإنساني جملة.

وفي ظل حالة السيولة والشواش الفكري يلتمس الإنسان/المجتمع طريقًا للخلاص هنا وهناك، ولكن في إطار من الشك وعدم اليقين. ويتجلى هذا واضحًا في العديد من النزاعات الفكرية الموسومة بالبعدية أو بالجديدة أو بالنهاية أو شبيه: مثل ما بعد المودرنز وما بعد الحداثة، وما بعد توافق واشنطن .. إلخ، أو الليبرالية الجديدة واليسار الجديد والاشتراكية الديمقراطية الجديدة، أو الكينزية الجديدة وحزب العمال الجديد .. أو نهاية التاريخ ونهاية الاشتراكية .. أو شبه إقطاعي وشبه رأسمالي .. وجميعها مسميات تعني انصرافًا عن ماضٍ، ومستقبلًا غائمًا، وأملًا في جديد غير محدد المعالم والطريق.

الفصل الأول دراما النصف الثاني من القرن العشرين؛ انتصار لحركة التحرر الوطني سياسيًّا «أو هكذا!» ووعدٌ بانتصار الحريات وأملٌ في التنمية والرخاء عن اليسار واليمين. والفصل الثاني أزمة وردْفة وتبعية الضعفاء للأقوياء، واتساع الهوَّة بين الفقراء والأغنياء داخل المجتمعات وفيما بين المجتمعات. الفصل الأول رفضٌ قاطع لأن تكون آلية السوق هي الحاكمة لمصائر الشعوب والمجتمعات لما يمثله هذا من أخطار مدمرة. والفصل الثاني دعوة الليبرالية الجديدة لأن تكون الحاكمية لآلية السوق المتحررة من كل القوانين والضوابط. الفصل الأول إيمانٌ عميق بأن القوى العاملة خاصةً البروليتاريا لا تزال على طريق الصعود وأنها الأمل في التغيير.

الفصل الثاني انحسار دور البروليتاريا أو ذوي الياقات الزرقاء وظهور قوى عاملة كبيرة وفاعلة من بين ذوي الياقات البيضاء. بل تغيرٌ كيفي في قوى الإنتاج وأدوات وإدارة الإنتاج. والمفارقة الصارخة أنه في عصر فيض المعلومات وأدوات المعرفة تتفاقم أزمة السيولة الفكرية وتتفاقم حالة افتقاد النسق المرجعي.

وشهد الفصل الثاني تغيرًا مفصليًّا في مسار تطور ودور وفعالية المجتمعات وفي علاقة القوى بينها، وهو التغير الموسوم بالعولمة، وإن كانت الكلمة غير محددة المعنى والمدلول شأن كلمات أخرى كثيرة تزخر بها حياتنا الثقافية. تغير المشهد العالمي، ودفع هذا التغير بجميع الأطر الفكرية إلى الخلف بعد أن أفْلت الواقع الحياتي من بين محدداتها ومعاييرها.

وإذا كانت العولمة لها ركائزها وتجالياتها العلمية والتقانية وتجالياتها الوظيفية للمجتمعات وللوعي الإنساني، إلا أن لها أيضًا تجليات ونتائج وظيفية تمثل الركيزة لقوى الليبرالية الجديدة. أولى هذه النتائج هي حركة نقل الأموال والمضاربات السريعة في العالم. وثانيتها أنها دعمت طرازًا جديدًا من النظام الشمولي الكوكبي على عكس كل ما يُشاع عن سقوط الشمولية؛ إذ إن الشمولية ليست نظامًا مستبدًّا سياسيًّا، بل هي، وكما حدد جيدنز، قوة أو نظام أو قطب له هيمنة على مجالات الاقتصاد والثقافة والإعلام والقوة العسكرية والعلاقات الدولية.

ولكن العولمة تتعدد وتتباين معانيها مع تباين مقاصد المتحدثين عنها والداعين إليها أو إلى مناهضتها. فهي حينًا زعم بأن الكوكب قرية واحدة تهاوت فيها الحدود القومية مع إعلان وفاة أو نهاية الدولة — الأمة — القومية. والعولمة أيضًا تدويل للحياة الاقتصادية والسياسية سقطت معه الحواجز الحمائية، وهي الحدود المفتوحة للشركات المتعدية القومية لدخول استثماراتها المالية ومنتجاتها، وتكريس للاستسلام لآليات السوق الحرة المتحررة من الضوابط والقوانين الاجتماعية. ويرى البعض الآخر العولمة في ضوء التحولات العلمية التقانية وتجلياتها، من حيث حالة التماسُّ والاتصال المباشر بين الناس أفرادًا وجماعات على صعيد الكوكب، وتأثيراتها السلوكية والثقافية الممتدة إلى أعماق الوعي الباطني للإنسان، وتدفق حر آني للمعلومات له انعكاساته على وعي الفرد وثقافة المجتمع والعلاقات بين الحكام والمحكومين. ويراها هؤلاء خلفًا جديدًا لاقتصاد جديد هو اقتصاد المعرفة وما له من تجليات نافذة إلى كل جوانب الحياة.

وتتجلى أيضًا حالة الشواش الفكري لدى اليسار واليمين من خلال توجهات وكتابات الكثيرين من المفكرين الضالعين في عملية التغيير أو التجديد أو لنقُل محاولات الترميم، إذا صح هذا الوصف، أو الالتفاف على الواقع والحديث بلغة مقبولة ظاهريًّا للتعبير عن أهداف تقليدية مضمرة.

ولنقرأ معًا ما قالته «سوزان جورج» في كلمتها تحت عنوان «موجز تاريخ الليبرالية الجديدة» أمام مؤتمر «السيادة الاقتصادية في عالم مُعوْلَم»، الذي عُقد في ٢٤–٢٩ مارس ١٩٩٩م، حيث تُجْمل في حديثها تشخيصًا لواقع حال العالم في المشهدين الأول والثاني، وتقول: «عقب الحرب العالمية الثانية، كان كل مفكر اقتصادي أو سياسي إما كينزي المذهب وإما ديمقراطيًّا اشتراكيًّا، وإما اشتراكيًّا ديمقراطيًّا مسيحيًّا، وإما يمثل لونًا من ألوان الطيف الماركسية. أما فكرة أن السوق ستكون صاحبة الدور الرئيسي في اتخاذ القرارات الاجتماعية والسياسية؛ أو فكرة أن الدولة سوف تتنازل طوعًا عن دورها في الاقتصاد؛ أو أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى ستكون لها حرية كاملة، وأن النقابات سيأفل دورها وأن المواطنين سيتمتعون بحماية أقل كثيرًا مما كانت عليه الحال عقب الحرب العالمية الثانية .. هذه الأفكار لو قيلت لبدا صاحبها مجنونًا.»

وتضيف: أصدر الباحث الكبير «كارل بولاني» رائعته «التحول العظيم» عام ١٩٤٤م. والكتاب نقد شرس لضراوة مجتمع القرن اﻟ ١٩ الصناعي المرتكز على السوق الحرة. وله مقولة نبوءة؛ إذ قال إن «السماح لآلية السوق بأن تكون المدير الأوحد الموجِّه لمصير البشرية وللبيئة العالمية .. يعني تدمير المجتمع. وإنما الأولوية للمجتمع على النظام الاقتصادي.»

وتستطرد قائلة: «الآن النقطة المحورية في الليبرالية الجديدة السائدة تتمثل في: آلية السوق هي التي توجه قدر ومصير البشر. الاقتصاد؛ بمعنى الشركات العملاقة وحركة الأموال والمضاربات، هو المحدد لقوانين المجتمع وليس العكس.»

وأبرز فلاسفة الفكر الاقتصادي للِّيبرالية الجديدة وزعيمهم «فريدريك فون هاييك»، ومن تلامذته «ميلتون فريدمان»، صاحب مقولة «المجتمع العالمي قرية». والسيدة الحديدية «مارجريت تاتشر» رئيسة وزراء بريطانيا في السابق، والملقبة باسم السيدة «تينا – Tina» وهي الأحرف الأولى من مقولتها المشهورة: «لا بديل» There is no Alternative؛ أي لا بديل عن الرأسمالية في صيغة الليبرالية الجديدة والسوق الحرة الطليقة، وكأن الليبرالية الجديدة قانون طبيعي أو قوة طبيعة مثل الجاذبية، ولا سبيل أمام البشر للفكاك منها، والتي وصفها «فوكوياما» بعبارة: نهاية التاريخ.

وكان «ريجان» في الولايات المتحدة و«مارجريت تاتشر» في بريطانيا أكبر زعيمين يعملان في تناسق على إنجاز سياسات الليبرالية الجديدة.

وتعتمد هذه السياسات، كما صرحت تاتشر، على «الداروينية الاجتماعية التي ترى الصراع محور ومبرر الوجود بين الأمم والمؤسسات والأفراد، وأن المنافسة تفرق بين الذئاب والخراف، وبين الرجال والعيال، وبين الصالح والطالح. المنافسة آليتنا لتدبير الموارد الطبيعية أو البشرية أو المالية مع أكبر قدر من الفعالية والكفاءة.»

وتستطرد تاتشر، المتحدثة باسم الليبرالية الجديدة فتقول:

«مهمتنا بلوغ المجد في سياق اللامساواة، وأن نرى كيف أن المواهب والقدرات تجد متنفسًا وتعبيرًا لها من أجل فائدة الجميع. لا نعبأ بالمتخلفين في مارثون المنافسة .. الناس غير متساوين بالطبيعة؛ وهذا خير .. لا فضل للضعفاء ذوي الحظ السيئ في التعليم؛ ومن ثَم فإن ما يصيبهم يستحقونه، لأن الخطأ خطؤهم وليس خطأ المجتمع.»

ولنتذكر هذه القيم لليبرالية الجديدة عن اللامساواة وعن المنافسة والفعالية والكفاءة لدى الأفراد .. إلخ. ذلك أن جيدنز حين نعرض لمقولاته نراه يؤكدها ولكن في ثوب لغوي مغاير.

وبعد رونالد ريجان وجورج بوش جاء بيل كلينتون رئيسًا للإدارة الأمريكية، وهو الذي قال في خطاب له «الزملاء الأمريكيون، لقد اهتدينا إلى طريق ثالث.» وكان مستشاره هو أنطوني جيدنز. وبعد حزب المحافظين برئاسة مارجريت تاتشر ثم جون ميجور جاء توني بلير رئيسًا لوزراء بريطانيا بصحبة معلمه الروحي أنطوني جيدنز. وهكذا وكأن القدر ألقى على أنطوني جيدنز مهمة اكتشاف مخرج في ضوء «لا بديل عن الرأسمالية وصيغة الليبرالية الجديدة وسقوط النظام الحاكم باسم الاشتراكية.» وتهيأت بذلك فرص صنعت من جيدنز نجمًا ساطعًا في سماء الفكر العالمي، دعمته أجهزة الإعلام، بحيث طبقت شهرته الآفاق دون سواه. ويرى البعض أن جيدنز هو الرابع بين مؤسسي علم الاجتماع السياسي بعد ماركس ودور كاييم وفيبر. وأثارت كتبه حوارات ساخنة داخل الغرب ولا تزال. وتباينت الآراء بحدة في تطرفها يمينًا ويسارًا، كأن فِكَره مناسبة ليترسخ اليمين واليسار من خلال الحوار.

كان هذا هو السياق الكوكبي الذي انبثق عنه فكر جيدنز. ولكن ماذا عن السياق المحلي البريطاني حتى تبين لنا أبعاد المواجهة وحقيقة الخصوم الذين يتصدى لهم جيدنز حين يدعو إلى التخلي عن اليسار و«عن اليمين»، ثم إلى أي جهة يدفع بالقارئ.

السياق المحلي

بات توني بلير زعيمًا لحزب العمال وأنطوني جيدنز هو المفكر والمنظِّر الاجتماعي والسياسي للحزب نفسه. والمعروف أن هذا الحزب من سلالة الاشتراكية الديمقراطية التي بدأت جذورها كطريق وسط أو ثالث في أواخر القرن اﻟ ١٩. وكانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الأصل أحزابًا ماركسية. وأسس الرعيل الأول اتحاد الديمقراطيين الاشتراكيين Social Democrats (SFD)-Federation ليمثل الطبقة العاملة في بادئ الأمر. وانحل هذا الاتحاد وتشكَّلت بديلًا عنه لجنةٌ تمثل العمال عام ١٩٠٠م وتحولت هذه فيما بعد إلى حزب العمال البريطاني. واتخذ الحزبُ في البداية — تحت رعاية وتوجيه سيدني ويب «١٨٥٩–١٩٤٧م» وزوجته بياترس ويب «١٨٥٨–١٩٤٧م» — نهجًا عُرف باسم الفابية. وهذه سياسة متمايزة عن النهج الماركسي، تتمثل عناصرها في التحول أو التطور التدريجي نحو الاشتراكية واتخاذ الطريق البرلماني وليس التحول الثوري العنيف.

مع حالة النمو والانتعاش في أوروبا الغربية بفضل مشروع مارشال لإعادة التعمير وتنشيط التجارة تراجع التيار اليساري داخل حزب العمال البريطاني. ورأى الحزب إمكان الإصلاح والتطوير في إطار التوافق مع الرأسمالية والاعتماد على الداخل. واتجه الحزب إلى التأكيد من جديد على نظام دولة الرفاه الذي بدأ قبل الحرب ثم أُوقف بسببها. وأصدر عالم الاقتصاد والاجتماع البريطاني وليم هنري بيفريدج «١٨٧٩–١٩٦٣م» تقريره عام ١٩٤٢م تحت عنوان «تقرير عن الضمان الاجتماعي والخدمات المتحدة»، أعلن فيه صراحةً الحربَ ضد الفقر والجهل والمرض والفساد السياسي والبطالة. وأن دولة الرفاه هي الأداة المنوط بها هذه المسئولية. والجدير ملاحظته هنا أن هذا التقرير، تحديدًا ينتقده جيدنز في معرض رفضه المتكرر لدولة الرفاه باعتبارها اليمين؛ إذ يرى جيدنز أن هذا التقرير يركز على مسائل سلبية تمامًا. يقول جيدنز: حري بنا اليوم أن نتحدث عن «الرفاه الإيجابي». الذي يسهم فيه الأفراد والإدارات .. وأن يكون الرفاه أداته لخلق الثروات.

واتجه اليسار الأوروبي بعامة إلى العمل داخل إطار التوافق مع الرأسمالية. وعزز هذا الاتجاه أن اليسار الأوروبي فقد الثقة تدريجيًّا في النظام السوفيتي كنموذج رائد، خاصة بعد أحداث المجر في الخمسينيات وقمع القوات السوفيتية للتمرد داخل المجر. ثم بعد ذلك غزو القوات السوفيتية لتشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨م، هذا علاوة على افتضاح الوجه الاستبدادي للستالينية وأثارها الاجتماعية والفكرية.

ولكن خلال الربع الأخير من القرن العشرين؛ أي خلال الفصل أو المشهد الثاني لواقع حال العالم، تزايد السخط داخل حزب العمال، وقال جيمس كالاهان عبارته المشهورة: «لم يعد بالإمكان التزام النهج القديم» وشهدت بريطانيا أحداث «شتاء السخط أو الغضب» عام ١٩٧٩م. وصعدت التاتشرية وسياسة الليبرالية الجديدة مقترنة بالعصا الغليظة ضد العمال، وسحقت إضراباتهم وفككت نقاباتهم.

واشتدت معاناة الحركة العمالية البريطانية بعد أن مُنيت بالهزيمة عام ١٩٨١–١٩٨٢م، حين حاول طوني بن مقرطة وردكلة «إضفاء طابع ديمقراطي وراديكالي على الحزب» عن طريق منح القواعد سلطات أكثر. وتولى زعامة الحزب من بعده نيل كينوك Niel Kinnock، الذي أعاد الحزب إلى وضع غير منحاز لليسار. ومهد كينوك بذلك الأرض لزعامة توني بلير ولأمركة حزب العمال الجديد. ويقول عنه «دانييل سنجر» أصبح بلير في حاجة إلى تسويق النموذج الأمريكي داخل الحزب وداخل بريطانيا تحت اسم «الطريق الثالث» أو «لا يمين ولا يسار» ويضيف وكما عبر معلمه الروحي أنطوني جيدنز بقوله: «زلزلت التاتشرية أركان المجتمع البريطاني.» ولكن مع استعادة الحوار السياسي .. ومع المزيد من التفكير الحر .. يمكن أن تغدو بريطانيا الشرارة التي تنطلق منها عملية إبداعية بين الولايات المتحدة والقارات الأوروبية.

وهكذا تغير حزب العمال فكرًا مثلما تغير اسمًا وبنية؛ إذ أصبح مع توني بلير حزب العمال الجديد، ليؤكد التمايز عن تاريخه. واختفت صورة العامل من قيادته لتحل صورة رجل المال والأعمال. والجدير بالذكر هو ما أورده دانييل بن سعيد في ورقة تحت عنوان «وسط جديد باسم الطريق الثالث»، قال: «لاحظت صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون أنه عند انعقاد مؤتمر حزب العمال الأخير لم تعد طرقات منطقة بلاك بول تزخر بعمال المناجم في سترات العمل «الأفرول»، بل ازدحمت برجال الأعمال الكبار وكبار المحامين والمستشارين والإداريين، وكل منهم يرتدي سترات الاحتفالات الرسمية، ويحمل هاتفه النقال. وأن أبرز الشخصيات القريبة من توني بلير من أغنى أغنياء بريطانيا، والنخبة الاجتماعية من أرقى درجات السلم الاجتماعي أصحاب ومديري البنوك والمؤسسات الصناعية والمالية الكبرى.»

الطريق الثالث وأصولية السوق

نذر جيدنز جهده لإطلاق هذه الشرارة. وتُمثل جهوده الفكرية محاولة في هذا الاتجاه. والتمس بجهوده صوغ معادلة بين واقع حال يسار مهزوم مأزوم، ويمين مأزوم ولكنه متربع على قمة السلطة ويؤكد أنه نهاية التاريخ ولا بديل عنه. أزمة اليسار ليست في انتشاره؛ فالتيارات اليسارية كثيرة هنا وهناك في الغرب تحت مسميات لأحزاب ومنظمات أهلية عديدة، ولكن المشكلة التي تواجه اليسار — بكل ألوان الطيف — هي القدرة على تقديم إطار فكري جديد بديل يحوز الثقة ويبدو متماسكًا ومواكبًا للتطور الكوكبي. وتتمثل أزمة اليمين أيضًا في سقوط أُطُره الفكرية الموسومة بالتقليدية بل والجديدة التي مضت أو قضت من دون أن يشير إليها أو يلحظها أحد. ونذكر هنا كمثال توافق واشنطن الذي وُلد ميتًا مع ما أثاره من أزمات مدمرة.

ونشير في هذا الصدد إلى ما قاله جوزيف ستيجليتز Stiglitz Joseph في ورقة له تحت عنوان «نحو توافق جديد للطريق الثالث».
في ٩ مايو ٢٠٠١م والجدير بالذكر أن ستيجليتز هو أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد، وشعل منصب رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون، وشغل قبل ذلك منصب الاقتصادي الأول في البنك الدولي، وكان رائد إنجاز توافق واشنطن ثم رائدًا بعد ذلك لمحاولة إنجاز ما يُعرف باسم «ما بعد توافق واشنطن» Post Washington Consensus.

ويعبر حديثه عن الأزمة والحيرة إذ يقول: «إنَّ من كانوا يحلمون بأن يحقق توافق واشنطن نجاحًا وهيمنة هم أنفسهم الدين يعملون من أجل — ما بعد توافق واشنطن — ويوضح أن أيديولوجية اليمين تجسدت في «توافق واشنطن» المعبِّر عن النزعة الأصولية للسوق لدى الليبرالية الجديدة، ويضيف:

«ولم تكن هذه النزعة أكثر نجاحًا من الاشتراكية، وإن مضت أخطاؤها من دون أن يشير إليها أحد.» ويستطرد قائلًا: «وحققت بلدان شرق آسيا نجاحات مذهلة حين التزمت سياسة مخالفة لما يفرضه توافق واشنطن واقتصاد السوق الحرة المسمى الليبرالية الجديدة .. خاصة أن أزمة ١٩٩٧م التي عانت منها البلدان حدثت من جراء نصائح صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية .. لقد حان الوقت لتأسيس توافق «طريق ثالث» جديد ينبذ نظرة الليبرالية الجديدة التي انبثقت عن توافق واشنطن، ويعمل من أجل نظرة متوازنة بين السوق والحكم، ولا يخلط بين الوسيلة «الخصخصة والتحرير» والغايات».

صعد نجم أنطوني جيدنز واقترن اسمه بالطريق الثالث أو الاشتراكية الديمقراطية في ثوب جديد، كما يحلو له أحيانًا أن يسميه. ويمثل الطريق الثالث مشروعه الفكري، ويتميز جيدنز بأن له قاموسه اللغوي ومفاهيمه المميزة مما يوجب الإلمام بمختلف جوانب فكره ومدلولات مصطلحاته قبل الحكم عليه. ويستهل جيدنز مشروعه الفكري «الطريق الثالث» برؤية تشخيصية لواقع حال العالم الجديد بعد التقليدي، الذي بدا في رأيه منذ عقدين اثنين أو أكثر قليلًا. يصف العالم فيقول: «نحن نعيش في عالم مخرب مدمر بشكل جذري ويحتاج بالتالي إلى أدوية وعلاجات جذرية راديكالية.»

ويقول في إحدى محاضراته:

«ونحن نودع القرن العشرين أرى أننا لسنا إزاء عالم على قدر عالٍ من التنظيم والقدرة على التنبؤ وخاضع ليسطرتنا، بل على العكس؛ إذ إننا إزاء عالم شارد مضطرب، أو إن شئت فقل عالم منفلت؛ ومن ثَم فبدلًا من الحديث عن زيادة الدمج الكوكبي حريٌّ بنا أن نناقش التحولات الأساسية التي طرأت على أسلوب عالمنا واستبيان حقيقتها. إن هذه التحولات لا تتضمن فقط تحولات في وعينا الباطني وفي هويتنا.»

وينظر إلى الواقع الجديد نظرة شك: ويرى المستقبل أكثر إثارة للشك في النفس؛ إذ يقول: «نحن في مستهل زلزلة للمجتمع العالمي من أساسه .. ونحن لا نعرف إلى أين سيمضي بنا»؛ ولهذا يرى في ضوء هذه الأزمة وحالة الشك والغموض الحاجة إلى إنشاء موقع وسط راديكالي مبني على الاعتراف بأن الحاضر في حالة فيض وعملية دفق، وأن نشرع في إعادة تجميع الاهتمامات التقليدية التي يمكن للوسط الراديكالي أن يحفزها ويحركها.»

ويمهد الأرض لمشروع الطريق الثالث بانتقاد اليسار-التقليد، ويصفه ﺑ «الشبح الذي ثار قلقه وقلق الغرب، وهو الاشتراكية بكل ألوان طيفها، وقد عاد إلى عالمه السفلي واختفى ..» وفي عبارة أخرى متكررة يقول: «إن الاشتراكية التي طننت أنها ستدفن الرأسمالية دفنتها الرأسمالية .. التي أصبحت هي المطلق ولا بديل عنها.» ويقول في تبرير ذلك: «لا يسع أي امرئ إلا أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن العالم في آخر القرن العشرين لم يتحول على نحو ما تنبأ له مؤسسو الاشتراكية وقتما التمسوا توجيه حركة التاريخ .. لقد اعتقدوا أننا كبشرية كلما زادت معرفتنا بالواقع الاجتماعي والمادي، زادت قدرتنا على التحكم فيهما وفاء لمصالحنا .. ويمكن للبشر أن يصبحوا سادة مصيرهم ولكن جاءت الأحداث غير مصدقة لهذا.»

وينتقد اليسار الذي يقرر أن القوى العاملة المطحونة هي القوة المحركة للتاريخ نحو غاية مرسومة، فيقول: «ينبغي التخلي عن فكرة أن ثمة قوًى منوط بها إنجاز أهداف مرسومة للتاريخ بما في ذلك الفكرة الميتافيزيقية التي تزعم أن التاريخ صنعة المعوزون.» بيد أننا إذا أبدلنا كلمة «المعوزون» بعبارة «المنتجون المظلومون أصحاب المصالح المهضومة» سوف يتغير المعنى ويتجلى تناقضه حين يقرر في حديثه عن أسباب العنف الاجتماعي: «إن العنف ينشأ ببساطة في أغلب الأحيان من صدام المصالح والصراع من أجل السلطة. ومن ثم نرى أن هناك كثيرًا من الأوضاع المادية التي يتعين تغييرها بكل صرامة، والنضال ضدها والحد منها.» وطبيعي حين يدور الصراع سوف تتعدد الرؤى ومناهج العمل ويظهر يسار ويمين.

ونحن لا يسعنا إلا أن نقرر أنه على حق؛ إذ ينتقد نظم الحكم الاشتراكية ويصفها بالبيروقراطية، وينتقد المفكرين الاشتراكيين لهذه النظم بالجمود، وأن الواقع وقضاياه تجاوز الأطر الفكرية لليسار ولليمين «التقليديَّين». ولكن لنا أن نتساءل، هل سقوط النظم الإدارية أو نظم الحكم يعني سقوط التوجه الفكري جملة نحو عدالة اجتماعية أو تغيير علاقات المجتمع؟ وهل نقده لرؤية الاشتراكيين عن أن المعرفة ستجعل البشرية سيدة مصيرها .. هل هذا النقد منصبٌّ على المعرفة واستخدامها وتوظيفها بشكل مطلق أم على قوى صاحبة مصالح تستثمر المعارف تحقيقًا لمصالحها من دون بقية المجتمع؟ وهذا من شأنه أن يولِّد صراعًا وحراكًا اجتماعيًّا تتباين وتتصارع بشأنه الرؤى والأفكار يمينًا ويسارًا.. أو محافظون وراديكاليون دعاة تغيير.

والجدير ملاحظته أنه في نقده للاشتراكية والإعراب عن سعادته بعودة الشبح إلى عالمه السفلي يرى أن الاشتراكية غرست قيمًا وأفكارًا تجسد أماني ومعاني ترسخت في وجدان الناس. لذلك يتعين — حسب رأيه — مع محاولة إعادة هيكلة فكر الغرب ونهجه في الحياة؛ أن يضفي الطريق الثالث معاني جديدة على تلك القيم والأفكار حتى يتحرك الناس معه؛ أي ينتحل القيم التي غرستها الاشتراكية. وهذه هي إحدى المهام الأساسية في كتابات جيدنز.

ولكن جيدنز بقدر وضوحه وقسوته الشديدين في نقده لليسار بكل صوره ومشاربه نجده غامضًا في نقده لليمين، ليس اليمين عنده هو الليبرالية الجديدة، ولا العولمة بمعنى السوق الكوكبية للمضاربات والحدود المفتوحة للشركات متعدية القومية، ولا العنف الموجَّه ضد الشعوب الرافضة للهيمنة، ولكن اليمين موضوع النقد والهجوم هو دولة الرفاه الكينزية التقليدية، ثم بعض أساليب الحداثة الغربية في الإنتاج؛ إذ تراه — عن حق — يرفض ما اصطُلح على تسميته النزعة الإنتاجية Productiveism، والتي تعني أنانية المصالح في السعي إلى أقصى قدر من الربح من خلال المزيد من الإنتاج من دون اعتبار لتدمير الطبيعة. أي إنه يرفض هنا الإنتاجية لأسباب أيكولوجية وليس لأسباب إضافية تتعلق بالاستقرار والعدالة الاجتماعية. ويطالب بديلًا عن ذلك بالإنتاجية Productivity؛ أي الإنتاج في مصالحة مع الطبيعة. ويفيض في نقده وهجومه ضد دولة الرفاه، التي تمثل عنده التقليد الكينزي حيث يطالب اليمين — أي الليبرالية الجديدة — بتغييرها، بينما يطالب اليسار — الاشتراكي الديمقراطي — بالمحافظة عليها.

وهكذا تحول اليمين إلى راديكالي يدعو إلى التغير، بينما تحول اليسار إلى محافظ. ويقرر أن الليبرالية الجديدة تولد وتنشط عمليات راديكالية من أجل التغيير تحفزها عمليات التوسع الدءوب لأسواق دون توقف. ويقول: «الليبرالية الجديدة إحدى القوى الرئيسية التي اكتسحت التقليد ..» ويؤكد مرارًا في كتاب «الطريق الثالث» أننا نعيش في عالم «لا بديل فيه عن الرأسمالية .. أي الليبرالية الجديدة .. النموذج الأمريكي.» ويدعو إلى «الإفادة من ثقافة مقاولي المشروعات لما تتصف به من دينامية في السوق ومخاطرة في العمل وروح المسئولية لمشروعات الأعمال.»

ويقرر كذلك أن دولة الرفاه خَلَقت مجتمع متعطلين متواكلين على الإعانات الاجتماعية، والمطلوب اقتصاديات دينامية «رأسمالية» وأشخاص يتحلَّون بروح المخاطرة وإعادة التأهيل، وكأنه يقول للمتعطل «لا تبتئس من البطالة وإنما كن نشطًا مخاطرًا لإعادة تأهيل نفسك، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك، إنها الداروينية الاجتماعية الجديدة التي أسلفنا الحديث عنها بلغة مارجريت تاتشر، ولكن بلغة جديدة، أو لنقُل إنها الليبرالية الجديدة وراء قناع إنساني.» ونراه يقول صراحة في كتابه «الطريق الثالث ومنتقدوه»: «يسلم كتاب الطريق الثالث بإطار العمل السياسي لليبرالية الجديدة، خاصة ما يتعلق منه بالسوق الكوكبية؛ إذ إن الطريق الثالث يأخذ العولمة مأخذ التسليم. وأن الشيء المؤكد أنه أغفل الصراع ضد مظاهرة التفاوت في الدخل والثروة والسلطة.»

ولكن حديث جيدنز عن الرأسمالية يتسم بالتردد، ويتراوح ما بين التأييد والمناهضة والدعوة إلى إصلاحها. ولعل هذا صدى لحالة الشك العميقة في نفسه والتي صرَّح بها مرارًا خاصة عند النظر إلى المستقبل. مثال ذلك أنه في الإجابة عن سؤال دولة الرفاه المقترحة قال: «الأشكال التقليدية غير مقبولة ولا صالحة .. وليست عندي إجابة بسيطة عن سؤالك هذا؛ لأننا جميعًا مشغولون بالبحث عن الإجابة في هذه اللحظة.»

ويسأل في المدخل «بعيدًا عن اليسار واليمين»: إذا كانت الاشتراكية وهنت وضعفت، هل معنى هذا أن يهيمن النظام الرأسمالي من دون تحديات؟ ويجيب: «لا أظن ذلك؛ إذ إن الأسواق الرأسمالية الطليقة التي لا يكبح جماحها شيءٌ لا تزال تفرز نتائج مدمرة .. ويظل نقدها أمرًا مهمًّا.» ويقول في كتاب «تجليات الحداثة»: «لا تزال الرأسمالية يقينًا نظامًا طبقيًّا. وأن صراع الحركات العمالية لا يزال وثيق الصلة بما يمكن أن نسميه «ما بعد الرأسمالية». ولكن يجب ألا ينحصر تفكيرنا في الحركة العمالية وحدها كقوة دينامية في الحداثة.» «ص ١٥٨–١٦٢». ويقول في معرض حوار معه: «لا أزال أعتقد أن الرأسمالية حياتها محدودة متناهية، هذا على الرغم من أنه ليس بوسع أحد أن يرى بديلًا عن الرأسمالية أو عن مجتمع السوق الآن. لا أحد في حدود علمي لديه بديل متماسك. هذه ليست ذروة التاريخ، ولا يمكن أن تكون نهاية التاريخ: أن نعيش في عالم يهيمن عليه التقلب الاقتصادي وبورصة سوق الأوراق المالية، لا يمكن في رأيي أن يكون النهاية المرغوبة للحياة. لا بد من أن هناك سُبلًا ممكنة لكي نعيش حياة تنأى بنفسها عن هذا .. لم يعد هناك أي نقد اشتراكي للرأسمالية، ولكن لا يزال علينا أن ننظر للرأسمالية نظرة ناقدة.»

ويوجز تصوره عن مشروعه الفكري «الطريق الثالث» في إجابته عن سؤال: ما الذي يميز الطريق الثالث عن الطرق السياسية الأخرى؟ إذ قال: «تعترف سياسة الطريق الثالث بأن القضايا التي تتجاوز حدود التقسيم بين يمين ويسار في السياسة أكبر مما كان في السابق. إنها تعمل في عالم أصبحت فيه آراء اليسار القديم بالية، وآراء اليمين الجديد قاصرة ومتناقضة .. وقاعدة الوسط لم تعد ساحة للتوافق بينهما. وإنما ساحة لقوة سياسية جديدة .. توصف بالوسط النشط الراديكالي.»

ويضيف قائلًا: «وحري ألا نخلط «الطريق الثالث» بالاستخدامات الأخرى السابقة؛ إذ تشير سياسة الطريق الثالث إلى إطار للتفكير وإلى صوغ سياسة هدفها ملاءمة الديمقراطية الاشتراكية مع عالم تغير تغيرًا أساسيًّا على مدى العشرين أو الثلاثين عامًا الأخيرة. إنه الطريق الثالث، بمعنى أنه محاولة لتجاوز كل من الأسلوب القديم للديمقراطية الاشتراكية، وأيضًا الليبرالية الجديدة .. إنه استجابة جديدة برجماتية إزاء القضايا السياسية اليوم.»

وهكذا يظل كتاب «بعيدًا عن اليمين واليسار» وكتاب «الطريق الثالث» وغيرهما من كتب أنطوني جيدنز تنويعات على لحن واحد ضمن مشروع فكري أو محاولة اجتهادية وليست بنية لنظرية متكاملة. إنها جميعًا تدخل ضمن ما قاله جيدنز نفسه: «محاولة لاستحداث فلسفة سياسية ليسار الوسط، بحيث تتجاوب مع التغيرات الكبرى والجارية التي تغير العالم.» ويمثل الطريق الثالث، كما يرى البعض، ظاهرة مُصاحبة أو عرضيَّة في سياق تاريخي معين وقابل للتغيير وفي إطار الحوار الجاد المتاسًا لنهج عمل وبنية نظرية نسقية تخرج بالإنسانية — مع اعتبارات ظروف الزمان والمكان — من عالم الشواش الفكري السائد.

وإذا كان يحدثنا جيدنز عن الثقة النشطة وعن العنصر الإنساني الإيجابي الفاعل والمحب للمخاطرة وعن ديمقراطية الحوار؛ فطبيعي أن يتجلى هذا بوضوح في مجال الفكر الاجتماعي السياسي. وطبيعي أيضًا، وقد أكد جيدنز صراع المصالح، أن تتباين تيارات الفكر وينشأ يمين ويسار يتجاوزان السابق من حيث الفكر والقضايا وأسلوب العمل، ويستوعبان عالمنا الجديد: يمينًا ويسارًا بفكر جديد ومنهج عمل جديد لقضايا جديدة، ويتصفان بالاستجابية الفورية التي يحدثنا عنها جيدنز، استجابية فورية إزاء واقع عالمي سريع التغيير يستلزم أعلى قدر من الدينامية في الفعل وفي الفكر، وأوسع نطاق من التعاون داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات.

معنى هذا أن يكون فكر جيدنز شرارة لانطلاق فكر إنساني تنويري جديد للشمال وللجنوب بعيدًا عن تراث المركزية الغربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤