الفصل السادس والثلاثون

كتبتْ صحيفة صباحية كبرى في افتتاحيتها صباح اليوم التالي: «لندن، أيضًا، حصلت على نصيبها من الندوب، ولندن فخورة بها. لقد جاءت غارة «الرعب» الألمانية الأخيرة والضخمة ومرَّت. أغار على لندن قبل الفجر هذا الصباحَ أسطولٌ من ستة عشر منطادَ زيبلن وأربعين طائرة. وأُسقطت سبعة من تلك الوحوش السابقة وتحطمت في أجزاء مختلفة من المدينة، واثنان في إسيكس، وآخَر في نورفولك. وبالنسبة إلى الطائرات، فقد أُسقطَت تسع عشرة طائرة، ولم تردْ أنباء عن بقيتها حتى الآن. إن الضرر الذي يلحق بالأرواح والممتلكات، رغم أنه قد يبدو كبيرًا، إلا أنه أقل بكثير مما كان متوقعًا. وهذه الخسائر التي تكبَّدناها سوف نتحملها بكل فخر وثبات. نحن نقف الآن على اتصالٍ وثيق أكثر من أي وقتٍ مضى مع حلفائنا الشجعان. نحن، أيضًا، نحمل آثار المعركة في قلب بلدنا.»

توقف طومسون لإنهاء إفطاره، وترك الفقرة الافتتاحية وانتقل إلى أخرى أكثر تحديدًا.

حيث استطردت الصحيفةُ قائلة: «إن الخسائر في الأرواح، على الرغم من أنها مؤسفة، ليست كبيرةً، بقدر ما وصلت إلينا التقديرات. فقد قُتل ٣١ مدَنيًّا، وأُدخل مائة واثنان إلى المستشفيات، ومما يُثير الفضول، أن عسكريًّا واحدًا فقط قد فقدَ حياته. إننا نأسف بشدةٍ لإعلان وفاة الضابط الشاب المتميز الكابتن رونالد جرانيت، ابن شقيق السير ألفريد أنسيلمان. فقد أُلقيت قنبلة على سطح منزله في ساكفيل ستريت، فدمَّرت الشقة التي كان يقيم فيها. كما مات خادمه معه. أما بقية شاغلي المبنى الآخرين فكانوا، لحسن حظهم، غير موجودين به في هذه الليلة.»

انزلقت الصحيفة من أصابع طومسون. ونظر عبر نوافذ غرفته، نحو نهر التيمز. وفي مقابله تمامًا، كانت هناك مدخنة متهدمة وأربعة جدران سوداء، لا يزال الدخان يتصاعد منها، لتذكيره بالمأساة الكبرى. فنظر إلى الصحيفة مرةً أخرى. لم يكن هناك أي خطأ. لقد كان حكم محكمة أعلى من محكمته!

ومن ثَم توجه إلى مكتب الحرب قبل الساعة العاشرة صباحًا بقليل. وقد ازدحمت الشوارع بالناس وتوافدتْ حشودٌ حول كل مكان من الأماكن التي ألقيت فيها القنابل. بالقرب من قوس بال مول، وقف الناسُ بالآلاف، في محاولةٍ للاقتراب من حُطام منطاد زيبلن الضخم، الذي منع تمامًا كل حركة المرور عبر سانت جيمس بارك. وتوقف طومسون للحظة في الجزء العُلوي من ميدان ترافالجار ونظر حوله. لقد كان كلام الصحيفة صحيحًا بالفعل. إذ حصلت لندن على نصيبها من النُّدوب، ومع ذلك لم يكن هناك شيء في وجوه الناس يدل على الخوف. إذا كان هناك أي شيء، فقد كان هناك جوٌّ في كل مكان أكثر حيويةً وأكثر قوة. لقد أصبح الإحساس بخوض الحرب يقترب أخيرًا من أعمدة الصحافة اليومية. كان هذا هو الشيء الحقيقيُّ الذي تفاعل معه حتى اللندني البسيط. من كوكسبر ستريت إلى نصب نيلسون التذكاري، اصطفَّ الرجال في طابور طويل، وشقوا طريقهم إلى مكتب التجنيد.

أجرى الأدميرال كونيرز زيارته الصباحية المعتادة إلى مقرِّ البحرية الملكية، وتناول الغداء في ناديه وعاد إلى المنزل ذلك المساءَ في حالةٍ من الانفعال المكبوت. ووجد زوجته وجيرالدين بمفردهما، فاتخذ في الحال موضعَه المفضل على بِساط المدفأة.

وقال: «من بين المفاجآت الأخرى في الأربع والعشرين ساعةً الماضية، تلقَّيتُ واحدةً اليوم كادت أن تحبس أنفاسي. لها علاقة بشخص تعرفانه كلاكما.»

سألته الليدي كونيرز: «هل تقصد المسكين كابتن جرانيت؟ لقد قرأتَ عنه في الصحف، أليس كذلك؟»

تابع الأدميرال قائلًا: «ليس للأمر علاقة بجرانيت، ذلك المسكين. اسمَعا، كنتُ أسيرُ، إذا سمحتما، لبضع ياردات مع الرجل المسئول عمَليًّا اليوم عن إدارة الحرب. وعند زاوية بال مول، قابلنا طومسون وجهًا لوجه. فأومأت برأسي وكنا سنمرُّ ونُكمل طريقنا، لكن ما أدهشني هو أن رفيقي توقف ومد كلتا يدَيه. وهو يقول: «طومسون، صديقي العزيز، لقد جئت إلى مكتبك اليوم، لكنهم أخبروني بأنك كنت منشغلًا للغاية. لا أجد أي كلمة أخرى للتعبير عن امتناني سوى هذه … شكرًا! عندما نكتب تاريخنا، فسيعرف البلد ما هي مدينة لك به. أما في الوقت الحاضر، فشكرًا!»»

شهقت الليدي كونيرز وهي تقول: «الميجور طومسون؟»

وردَّدت جيرالدين: «هيو؟»

ابتسم الأدميرال.

وتابع: «ثم استأنفنا سيرنا، وقلت لسيادته: «ألم يكن ذلك طومسون، مفتش المستشفيات الميدانية؟» فسخر مني بكلِّ بساطة. وقال: «عزيزي كونيرز، أنت بالتأكيد كنت تعلم أن هذا كان مجردَ ستار، أليس كذلك؟ إن طومسون هو مدير إدارة المخابرات العسكرية بأكملها. لديه رتبة عميد في انتظاره عندما يودُّ في أي وقت أن يحصل عليها. لكنه يُفضل أن يظل مجهولًا ومتخفيًا قدر الإمكان؛ لأن ذلك يُساعده في إنجاز عمله.» الآن اسمعا! لقد قرأتما في جميع الصحف بالطبع، أنَّ قواتنا تلقَّت تحذيرًا بما كان سيحدث في الليلة الماضية، وأن سبب نجاحنا كان لأن كلَّ ضوء في لندن قد أطفئ وكل منصة مدافع زُوِّدت بطاقم مزدوج؟ حسنًا، إن التحذير الذي تلقيناه كان بفضل طومسون، ولا أحد غيره!»

صاحت الليدي كونيرز: «يا للعجب، لقد كنا شبه خائفتَيْن من إخبار والدك أن هيو سيأتي لتناوُل العشاء معنا!»

كانت جيرالدين قد تسللَت من الغرفة. فأصدر الأدميرال صوتًا من أنفه.

وقال: «آمُل أن تُرجح جيرالدين كفة العقل. لقد كنت أعتقد دائمًا أن طومسون رجل جيد، لكن جيرالدين بدَت وكأنها منجذبة تجاهَ ذلك الشاب جرانيت. مسكين! لا يمكن للمرء أن يقول أيَّ شيء عنه الآن، سوى أنه كان فقط النمط العادي للجندي الشابِّ المتفاخر، غير المناسب ليحمل شمعةً لرجل مثل طومسون.»

اندهشت الليدي كونيرز بعضَ الشيء.

وغمغمت: «إن لديك تقديرًا موفَّقًا للغاية، يا سيمور.»

تأخر طومسون على العشاء بضعَ دقائق، لكن حتى الأدميرال عذَرَه في ذلك.

وقال بينما يتَّجهون إلى غرفة الطعام: «بما أنه لا يوجد معنا أحد غريب، يا طومسون. يا لها من صدمة تلك التي أصابني بها مديرُ مكتب الحرب اليوم! لقد نجحتَ في التخفِّي للغاية. مفتش المستشفيات، حقًّا!»

ابتسم طومسون.

وقال موضحًا: «كان هذا عُذري المنطقي، الذي يُسهل لي التنقل بين فرنسا وإنجلترا في بداية الحرب. ليس هناك سرٌّ معيَّن حول منصبي الآن. لقد خُضت معركةً صعبة للغاية للحفاظ عليه، معركة صعبة للغاية لجعلِه مفيدًا. حتى الليلة الماضية، على أي حال، لم يبدُ لي أن الإنجليز كانوا يدركون أننا في حالة حرب. والآن، آمُل أخيرًا أن نخلع القفازات.» وتابع قائلًا، بعد ذلك بقليل: «هل تعلم أنهم في فرنسا يعتقدون أننا مجانين. بصراحة، في منصبي، لو كان لديَّ القوانين الفرنسية لتدعمني، أعتقد أن الحرب كانت ستنتهي اليوم. لكن نظرًا إلى أن الحال لدينا مختلف، عندما بدأت حتى منصبي كان مَدْعاةً للسخرية. كان علينا أن نخضع طوال الوقت، للسلطات المدَنية. لقد أرادوا تغريم الجاسوس عشرة شلنات أو محاكمته قانونيًّا للحفاظ على السلام! لم أضطرَّ قطُّ إلى الكفاح من أجل أي شيءٍ صعبٍ في حياتي مثلما اضطُرِرت إلى الكفاح مرةً أو مرتَيْن من أجل ملف الرجال في سجن تاور. في بداية الحرب كنا نقبض عليهم متلبسين تمامًا. وكل ما كان عليهم فعله هو الاستسلام للسلطات المدنية، ثم يعرضون على قاضٍ ابتدائيٍّ يبحث في القوانين ليرى كيفية التعامل معهم.»

قال الأدميرال بجدِّية: «هناك أشياء كثيرة للغاية ستصبح مادة للقراءة غير المعتادة بعد انتهاء الحرب. وأتخيل أن إدارتي السابقة ستُوفر بعض الأخبار المثيرة. ومع ذلك، فإن أخطاءنا ذاتها هي مبرِّرنا. لقد كنا مستعدين للحرب مثلما الليدي كونيرز هناك مستعدة للعبِ كرة الرجبي لفريق أكسفورد.»

وافق طومسون على ذلك بقوله: «لقد استغرقنا جزءًا كبيرًا من العام حتى نُدرك ما تعنيه الحرب. حتى الآن هناك أشخاص يلتقي بهم المرء كلَّ يوم ويبدو أنهم يعيشون منفصلين عن الواقع.»

قال الأدميرال وهو يُصدر صوتًا من أنفه: «لا بد أن غارة الليلة الماضية ستُفيق القليل منهم. كنت أودُّ أن أُريَ هؤلاء الشياطين أين عليهم أن يُلقوا بعضًا من ألعابهم الصغيرة. هناك رجل أو رجلان كانا يضعان القوانين منذ وقت ليس ببعيد، وكان يجب قصفُ منازلهم.»

ضحكت جيرالدين برقة.

وقالت: «أعتقد حقًّا أن أبي يشعر بالتعطش للدماء عندما يتحدث عن بعض سياسيِّينا، أكثرَ مما يشعر به تجاه الألمان.»

قال السير سيمور في إصرار: «إن بعض أسوأ أعدائنا موجودون داخل الوطن، بأي حالٍ من الأحوال، ولن نواصل الحرب أبدًا حتى نتخلص منهم.»

استفسر طومسون: «أين أُسقطت أقربُ قنبلة من هنا؟»

أجاب السير سيمور: «زاوية سانت جيمس ستريت. كان هناك منزلان في بيركلي ستريت مشتعلان، وثقبٌ في سقف منزل في هاي هيل. ولم تنفجر القنبلة هناك، رغم ذلك. أمر محزن ما حدث للشابِّ جرانيت، أليس كذلك؟ يبدو أنه الرجل العسكريُّ الوحيد الذي عانى على الإطلاق.»

ارتجفت الليدي كونيرز من فرط التعاطف.

وغمغمت: «لقد كان أمرًا مروعًا للغاية.»

تابع الأدميرال قائلًا: «لقد كان ضابطًا شابًّا واعدًا للغاية، على ما أعتقد، وموته مؤسفٌ للغاية. ويحزنك عندما تتذكر أنه كان هنا بالأمس فقط، المسكين!»

نهضت جيرالدين ووالدتُها من مكانيهما، بعد بضع دقائق. ونظرت جيرالدين إلى طومسون وهو يفتح الباب.

وقالت راجية: «أنت لن تتأخَّر، أليس كذلك؟»

قال الأدميرال، وهو ينهض أيضًا: «يمكنكِ أن تأخذيه معك، إذا أردت، فهو لا يتناول المشروب، والسجائر في غرفتك. يجب أن أتولَّى الرئاسة في اجتماع تجنيدٍ في هولبورن في غضون ربع ساعة. إن السيارة تنتظر الآن. سوف تعذرني لأني مضطرٌّ إلى الانصراف، أليس كذلك، يا طومسون؟»

قال الأخير: «بالطبع. أنا نفسي يجبُ أن أغادر مبكرًا. يجب أن أعود إلى مكتب الحرب.»

أخذت جيرالدين ذراعه وقادته إلى غرفة الجلوس الصغيرة.

وبدأت الحديث، وهي تُجلسه في مقعدٍ بجانبها وتقول: «أترى، أنا أسرقك بأسلوب مكشوف للغاية، لكنك حقًّا شخص مراوغ، وفقط هذا الصباح، في خضمِّ ذلك الدويِّ الفظيع للقنابل، عندما وقفنا على السطح ونظرنا إلى لندن والنيرانُ تشتعل فيها، لم أستطع التوقف عن التفكير … أو على الأحرى التذكر … كم كانت المدة قصيرةً منذ أن كنت أنا وأنت وجهًا لوجه مع ذلك الرعب الآخر وأنت أنقذتَ حياتي. هل تعلم، لا أعتقد أنني قد قلت لك أبدًا «شكرًا لك» … ليس على النحو اللائق، على أي حال.»

أجاب وهو يبتسم: «أعتقد أن الكلمات قد تذهب. لقد كانت مدةً مروعة بينما هي مستمرة، لكنها سرعان ما انتهت. كان أسوأ جزءٍ منها هو رؤية هؤلاء الآخرين، الذين لم نتمكن من مساعدتهم، ينجرفون مع التيار.»

قالت بهدوء: «لولاك لانجرفتُ معهم. لا تظن أنني لا أعرف ذلك. لا تظن أنني لا أشعر بالندم في بعض الأحيان، يا هيو، لأنني لم أكن أثق بك أكثرَ من ذلك. أنت محقٌّ بشأن أشياءَ كثيرة. لكن، يا هيو، هل ستُخبرني بشيء ما؟»

«بالتأكيد!»

«لماذا تعمدتَ الصمت تقريبًا عندما تحدث والدي عن موت الكابتن جرانيت المسكين؟»

أجاب طومسون: «لأنني لا أستطيع أن أتفق مع ما قاله. أعتقد أن موت جرانيت بهذه الطريقة بالضبط كان أفضلَ شيء يمكن أن يحدث له ولنا جميعًا.»

ارتجفت وهي تنظر إليه.

وغمغمت قائلة: «ألستَ قاسيًا قليلًا؟»

أكد لها بحزم: «أنا لستُ قاسيًا على الإطلاق. اسمحي لي أن أقتبس كلمات رجل عظيم: «ليس لديَّ أعداءٌ سوى أعداء بلدي، وليس لدي أيُّ رحمة لهم».»

«ما زلت تعتقد أن الكابتن جرانيت …»

«لم يعد هناك أيُّ شك في ذنبه الكامل. كما تعلمين أنت نفسك، فإن الرسالة المشفَّرة التي تُحذر أفرادًا محددين في لندن من الغارة القادمة، مرَّت بين يديه. حتى إنه جاء إلى هنا لتحذيرك. وكانت هناك تهمٌ أخرى ضدَّه كان من الممكن إثباتها حتى النهاية. وبينما نحن بصدد هذا الموضوع، يا جيرالدين، اسمحي لي أن أنهي الأمر تمامًا. إذ قبل وقت قصير فقط واجهته بجريمته، ومنحتُه عشرة أيام كنت آمُل خلالها أن يتبنى المسار المشرف الوحيد المتبقيَ له. لقد جازفتُ بتركه حرًّا، لكن خلال الجزء الأخير من الوقت كان يُراقَب ليلًا ونهارًا. وإذا كان قد عاش حتى هذا الصباح، فلم تكن هناك قوة على الأرض يمكن أن تمنع دخوله سجن تاور، أو أي قاضٍ، مهما كان رحيمًا، كان من الممكن أن يُنقذه من الإعدام رميًا بالرصاص.»

قالت في تلعثم: «إنه أمر مروع للغاية، ومع ذلك … أشعر بالخجل الشديد، يا هيو، لأنني لم أكن أثقُ بك بشكل مطلق.»

فتح محفظته فاحمرَّ خداها فجأة. وأخرج الخاتم في صمت.

وسألها: «هل ستثقينَ بنفسكِ الآن وأخيرًا، يا جيرالدين؟»

ومن ثم مدت إصبعها.

وهمست: «سأصبح فخورةً جدًّا وسعيدة جدًّا لاستعادته مرةً أخرى. أشعر حقًّا كما لو أنني تصرفتُ كطفلة حمقاء، ولا أحب هذا الشعور على الإطلاق؛ لأنه في هذه الأيام يجب أن يكون المرء أكثرَ جديةً في العادة، أليس كذلك؟ هل سأصبح قادرة على تعويضك، يا هيو، هل تعتقد ذلك؟»

انحنى ليلتقي بشفتَيها.

وتجرأ قائلًا: «هناك تعويضٌ يمكنكِ تقديمه، يا عزيزتي. هل تتذكرين اقتراحي خلال إحدى مآدب الغداء التاريخية لليدي أنسيلمان؟»

ضحكت وهي تنظر في عينيه للحظة ثم نظرَت بعيدًا.

وقالت: «كنتُ أتساءل عما إذا كنتَ قد نسيتَ ذلك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤