الفصل الثالث عشر

الأمير عبد الرحمن أمير الأفغان

(١) استقلال أفغانستان

يبدأ تاريخ أفغانستان بالوضوح منذ استيلاء تيمورلنك عليها، وهو القائد المغولي الشهير الذي دوَّخ آسيا في أواخر القرن الرابع عشر للميلاد، وفتح أفغانستان في جملة فتوحاته وتولاها خلفاؤه بعده، وفي سنة ١٥٠١م استخرجها من دولة آل تيمور ظهير الدين محمد القائد المغولي المعروف ببابر، «بابر» في الهندية «النمر»، سُمِّي بذلك لما ظهر من أعماله الدالة على البطش والشجاعة، وهو من سلالة جنكزخان، وفي عروقه شيء من دم تيمورلنك. ظهر هذا القائد في فرغانة بين سمرقند ونهر الهند، وكان أبوه أميرًا على فرغانة، فطمع هو في الغزو ففتح كابل، ودوَّخ بلاد الهند، وأسس فيها دولة مغولية دخلت أفغانستان في حوزتها.

fig36
شكل ١٣-١: الأمير عبد الرحمن خان (وُلد سنة ١٨٣٠ وتُوفِّي سنة ١٩٠١).

وما زالت أفغانستان تابعة لدولة بابر حتى ظهر نادر شاه القائد الفارسي الشهير بنابليون الشرق (راجع ترجمته في الهلال ٢٢ سنة ٧)، فكان من جملة غزواته أنه فتح قندهار وكابل سنة ١٧٣٧، واكتسب ثقة الأفغانيين فأحبوه وانتظموا في جنده وفي جملتهم شاب شجاع اسمه أحمد خان الدراني من قبيلة العبادلة، وكان يعرف بأحمد خان العبدالي.

fig37
شكل ١٣-٢: تيمورلنك القائد المغولي الشهير.

وظلت أفغانستان في حوزة الفرس عشر سنوات، فلما قُتل نادر شاه سنة ١٧٤٧ اختار الأفغانيون أحمد المذكور أميرًا عليهم، فأصبحت أفغانستان مملكة مستقلة وملكها أحمد العبدالي، وقد سموه أحمد شاه، فتولى حكومتها بضعًا وعشرين سنة، وفتح بلادًا كثيرة أخضعها للأفغان، فأصبحت مملكته تمتد من بحر قزوين غربًا إلى حدود الهند شرقًا، ومن أشهر حروبه واقعة بني بتان قرب دهلي حارب بها قبائل المهراتة من الهنود الوثنيين في ٦ يناير سنة ١٧٦١ والمهراتة يومئذٍ في إبَّان بطشهم، وقد أعجزوا أعاظم السلاطين التيمورية في الهند حتى طمعوا بنزع السلطة من أيدي المسلمين، وكانت جنود الهند في تلك الواقعة ثمانين ألفًا، وجند أحمد شاه ستين ألفًا نصفهم من الأفغان، ولم يكن أحمد شاه يعتمد في حروبه على سواهم، فانهزمت المهراتة شر هزيمة ونكَّل بها الأفغانيون تنكيلا عظيمًا، فطار صيت أحمد شاه في أقطار الهند وهابه الملوك والأمراء، وانتشرت سطوته هناك ففتح بنجاب وكشمير والسند وما والاها.

ثم بلوجستان ومكران وبلخ وغيرها، واتسعت مملكة الأفغان في أيامه اتساعًا عظيمًا، ونالت ثروة وسطوة لم تبلغ لهما قبله ولا بعده، وأحبه رعاياه وأكرموه حتى لقبوه ببابا، وصار اسمه «أحمد شاه بابا».

fig38
شكل ١٣-٣: نادر شاه، الفاتح الفارسي الشهير.

ولكن الممالك القائمة بقوة سلطانها أو أميرها فقط لا تلبث إذا هو مات أن تسقط حتى يقوم من يقيمها بعده، خلافًا للحكومات المؤسسة على النظام والمقيدة بالشورى، فإن موت الملك قلَّما يؤثر فيها. ومات أحمد شاه سنة ١٧٧٣ فخلفه ابن له اسمه تيمور، وكانت قصبة المملكة قندهار فجعلها كابل وهي لا تزال قصبة أفغانستان إلى الآن. وكان تيمور هذا حكيمًا عاقلًا فاجتهد في استبقاء ما خلفه أبوه من العز فبقيت المملكة سعيدة طول أيامه، وتُوفِّي بعد عشرين سنة، وخلَّف ٢٣ ولدًا، خلفه منهم ابنه الخامس شاه زمان، وقام النزاع بين الإخوة فتضعضعت المملكة وخرج كثير من الولايات من حوزتها، وصار القواد يختطفونها والأعداء يسطون عليها مما يطول شرحه، حتى أفضى الأمر إلى انقسامها، فاستولى على كابل أحد القواد من قبيلة الباركزائية واسمه دوست محمد (جد عبد الرحمن أمير الأفغان) في أوائل القرن الماضي، وطمحت مطامع نابليون بونابرت في أثناء ذلك إلى أواسط آسيا فبعث الجواسيس إلى أمرائها وملوكها وفي جملتهم شاه الأفغان، فخاف الإنكليز عاقبة تلك الدسائس فبعثوا سفيرًا إلى الشاه سنة ١٨٠٩ لمقاومة دسائس بونابرت، وكان ذلك أول علاقات الإنكليز بالأفغان، ثم سطا الفرس على الأفغان فحاصروا هرات سنة ١٨٣٧ وتحرك الروس فخاف الإنكليز على أغراضهم، فأرسلوا سفيرًا اسمه بارنس ليقيم في كابل، وازدادت العلائق بعد ذلك بين دوست محمد وإنكلترا، وكُتِبت المعاهدات وإنكلترا تنصره على كل مهاجم أو منازع، وكان دوست محمد شاه هذا حكيمًا ينظر في شئونه بعين الحكمة والدراية فاستفاد من علائقه الحسنة مع إنكلترا فائدة كبرى.

وتُوفِّي دوست محمد عام ١٨٦٣ ونذكر من أولاده ثلاثة، وهم: أفضل خان، وأعظم خان، وشير علي خان، وكان هذا أصغرهم، ولكن أباه اختصه بولاية العهد من دونهم فشق ذلك على أخويه، وقام النزاع بين الإخوة وشبت الحروب الداخلية، فكان النصر حليف شير علي خان حتى قبض على أخيه أفضل خان (والد الأمير عبد الرحمن) وألقاه في السجن، وكان عبد الرحمن شابًّا لا يزيد عمره على العشرين عام، ففر إلى بخارى ثم عاد إلى أفغانستان، وانضم إلى جيش عمه أعظم خان، وحارب معه حتى تمكن من دخول كابل بجيشه ظافرًا، ثم طارد شير علي خان وتغلب عليه في مواقع كثيرة.

ثم عاد شير علي ومعه القبائل والأحزاب فأخرج عبد الرحمن من كابل، فأراد الالتجاء إلى الهند فمنعه حاكمها من الدخول إليها فاحتمى بروسيا نكاية بإنكلترا، وأقام عبد الرحمن بين سمرقند وتشقند عشر سنوات، والحكومة الروسية تجري عليه راتبًا يزيد على مائة وخمسين جنيهًا في الشهر.

(٢) الأمير عبد الرحمن

هو عبد الرحمن خان بن أفضل خان بن دوست محمد خان، وُلد عام ١٨٣٠ ونشأ منذ نعومة أظفاره بين الفتن والحروب بما قام من التنازع على النفوذ في أفغانستان بين الروس والإنكليز. ناهيك بما استحكم من الخصام بين والده أفضل خان، وأعمامه أولاد دوست محمد خان، لكن عبد الرحمن يناضل عن والده نضالًا حسنًا، واشتهر بالشجاعة والإقدام، ولم تبقَ بقعة في أفغانستان لم تتلوث أرضها بدماء قتلاه. حتى إذا حمي وطيس الحرب بعد دخول الإنكليز لجأ هو إلى الروسيين وتلك عادة أمراء الأفغان في مثل هذه الأحوال. فأجرى القيصر عليه الرواتب والوظائف حتى كانت سنة ١٨٨٠ وخلت كرسي الملك في كابل فأقامه الإنكليز عليها على أن يراعي جانبهم.

ثم أخذوا بناصره وعضدوه وبالغوا في تقريبه بالهدايا والرواتب، وفي جملة ذلك راتب مقداره ١٨٠٠٠جنيه في العام فضلًا عن النياشين والرتب، ولقبوه السير عبد الرحمن خان. وجهزوه بكثير من الأسلحة والمدافع، وجعلوا من مقتضى المعاهدة المبرمة بينهم وبينه أن يمدوه بالمال وينصروه بالرجال عند الحاجة، وأنشئوا له في كابل ترسانة للأسلحة وأمدوه بالعَمَلة والمهندسين، حتى صاروا يعتقدون أنه صنيعهم وخادم مصالحهم. أما هو فلم يكن يعترف بذلك ولا يريد أن يعترف به، بل كان يعتبر نفسه مخالفًا لإنكلترا، ويؤيد ذلك أنه أراد أن يرسل سفيرًا من قبله يقيم في لندن كما تفعل سائر الدول المستقلة. على أنه كثيرًا ما صرح بصداقته لإنكلترا جهارًا، ومن جملة ذلك أنه التقى باللورد دوفرين في بندي في ربيع عام ١٨٨٥ فأعرب الأمير عما في نفسه من الاحترام لجلالة الملكة ورجال حكومتها، وكانوا في وليمة جمعت جمًّا غفيرًا من رجال الدولتين، فاستل الأمير عبد الرحمن سيفه من غمده المرصع، ولفظ خطابًا قال في ختامه إنه سيقتل عدو إنكلترا بحد ذلك السيف.

ولم يكن جلوسه على كرسي الملك كافيًا لتأييد سلطانه فحارب حروبًا كثيرة قبل أن استتب الأمر له، من جملتها أن أيوب خان أحد منازعيه ثار في قندهار فأرسل إليه عبد الرحمن جندًا عادوا خاسرين، فلم يرَ بُدًّا من اقتحام الوغى بنفسه فحمل عليه وقهره، ففرَّ أيوب إلى بلاد إيران، وعاد عبد الرحمن وقد سكر بخمر الظفر وحكم رعاياه بعصا من حديد، فنفر الوجهاء منه فساء الظن بهم وخيِّل له أنهم يتآمرون على خلعه، ولم يهدأ له بال حتى قتل كلَّ من ظنه من أعدائه أو كان وجيهًا محبوبًا يخشى منه على نفوذه. فازداد الناس كرهًا له ورعبًا منه، ولكنهم لم يحركوا ساكنًا؛ لما يعلمونه من شدته واستبداده.

على أن ذلك لم يمنع ظهور ثورات أخرى بل ربما كان داعيًا لها؛ فإن النازية حاربوه مرارًا ولم ينجُ من مطامعهم إلا بسفك الدماء.

وفي سنة ١٨٨٨ حاربه ابن عمه إسحاق خان، وكان حاكمًا في أفغانستان تركستان وسبب حربه أن عبد الرحمن دعاه إلى كابل دعوة ظاهرها حبِّيٌّ، فخاف إسحاق تلك الدعوة؛ لما يعلمه من عاقبة المدعويين قبله فاعتذر عن القدوم، فأعاد الدعوة وتفنن بأساليب التجمل فلم ينخدع إسحاق وظل على عزمه، فاتهمه عبد الرحمن بالعصيان وأنفذ جيشًا للقبض عليه فشتته إسحاق وطمع بكابل فحمل عليها، فأسرع عبد الرحمن لملاقاته وحاربه، ففرَّ إسحاق إلى بلاد الروس، وأقام في سمرقند هو وأنصاره تحت رعاية روسيا وحمايتها وهي تنفق عليهم وتبالغ في إكرامهم.

ثم ثار عليه الهرارية بين كابل وهرات، وهم من أهل الشيعة فحاربهم فتعقبوه، ولكنه تغلب عليهم واستتب له الملك ثم أصيب بمرض النقرس، ولا يزال يتردد عليه العام بعد العام حتى ذهب بحياته سنة ١٩٠١.

(٢-١) صفاته وأخلاقه

هو ربعة، ممتلئ الوجه، حاد البصر، متناسب الملامح كما نرى في الرسم. يتكلم الفارسية، والبوسنية، وبعض العربية. قال بعض الذين جالسوه أنه حسن المحاضرة، فصيح الكلام، محتشم صحيح القياس مع مبالغة وإطراء، وتظهر فيه هذه الصفات خصوصًا إذا وقف على منبر الخطابة، فإنه يؤثر على سامعيه تأثيرًا شديدًا، ومن غريب ما يروونه عنه مما يندر في أمراء تلك الأصقاع أنه معتدل المزاج، لا نهمٌ ولا شرهٌ، لا يشرب الخمر إلا قليلًا، ويكره الأفيون ولا يقبله إلا إذا اشتد به الألم من مرض أو نحوه فيتخذه مسكنًا، ولكنه شديد الإعجاب بنفسه، كثير التحدث بما أوتيه من النصر، حتى جعل نفسه قرينًا للإسكندر الكبير، فهو يعتقد أنه متصل بهذا الرجل العظيم بحلقات كثيرة تفصل بينهما، لكنها بالية لا يُعبَأ بها.

ويؤخذ من بعض أحاديثه أنه مطلع على كثير من أخبار الأمم، قوي الذاكرة، وشديد الحذر من الأجانب، فلا يأذن لأحد أن يجتاز بلاده لتجارة أو نحوها إلا في أحوال خصوصية، ولكنه مع ذلك كثير الإكرام للنزيل لا يذَّخر وسعًا في سبيل راحته.

(٢-٢) حكومته

هي ملكية مطلقة، وتقسم مملكته إلى أربع إيالات: كابل، وتركستان، وهرات، وقندهار، وأضاف إليها مقاطعة بدكشان وما يتبعها. يتولى كل ولاةٍ والٍ يسمونه «حاكمًا»، وكان يسمى في أيام شير علي خان «نائب» ويتولى القضاء قاضٍ، وبعض المفتين أو المحتسبين وهم الشرطة يجرون على نظامات لو روعيت لم يكن بها بأس.

وأما جنده فقد نظمه شير علي خان سنة ١٨٦٩ على نظام الجند الأوربي، وكان قد أهمل هذا النظام فأعاده عبد الرحمن، وعنده فضلًا عن الجند النظامي عدد كبير من الأهالي، وفيهم الفرسان والمشاة ينجدونه عند الحاجة. أما عدد الجند فلا يمكن تحديده لاختلاف الروايات في شأنه، فقد قدروه سنة ١٨٩٦ بخمسين ألف ماشٍ تحت السلاح وأربعين كوكبة من الفرسان، وأما سنة ١٨٩٠ فقد بلغ جند الأفغان ٢٠٠٠٠٠ مقاتل، وعنده من الأسلحة النارية ست بطاريات جبلية تجرها البغال، وبطارية تجرها الأفيال، ومراكز الجند في هرات ومزارع الشريف وقندهار وجلال آباد، وتُصنع الذخيرة في ترسانة كابل بإدارة بعض الإنكليز، يُصنع فيها في كل يوم ١٠٠٠٠ فشكة من فشك مارتيني و١٠٠٠٠ من فشك سنايدر و١٥ بندقية، ويصنع فيها مدفعان في كل أسبوع.

fig39
شكل ١٣-٤: الأمير عبد الرحمن في أثناء سياحته ببلاد الهند سنة ١٨٨٥، إلى يمينه دوك كابوت وإلى يساره ماركيز دوفرين.
ومما يذكره الإنكليز من علائقه الحسنة بإنكلترا زيارته الهند سنة ١٨٨٥ لحضور المجلس الأعلى «دربار» الذي عُقد في روال بندي في شمالي الهند الغربية على أثر المؤتمر الذي تشكل يومئذٍ من روسيا وإنكلترا بشأن الحدود الشمالية لأفغانستان بعد احتلال روسيا لمرو، وقد جرى أمير الأفغان في هذا الأمر على مقتضى مصلحة الإنكليز فأكرموه واحتفلوا باستقباله في روال بندي احتفالًا شائقًا على النمط الشرقي، وقدموا له سيفًا مرصعًا، وفي (ش ١٣-٥) صورته في أثناء ذلك الاحتفال.

(٢-٣) حياته في بيته

اطلعنا على رسالة للدكتورة هملتن طبيبة بيت الأمير عبد الرحمن نقتطف منها ما يأتي تتمة لما ذكرناه من مناقب هذا الأمير، قالت:
اعتقاده في النساء: لم أسمعه يتكلم عن زواجه إلا قليلًا، وكان ذلك بمناسبة ذكر زواجه الأول الذي تم وله من العمر ثمانية عشر عامًا، فقد قال لي: «قد يتزوج الرجل غير مرة لأسباب تدعوه إلى ذلك، ولكن قلبه لا يعرف إلا زوجة واحدة وتلك زوجته الأولى»، وقال لي إنه لكي يكاتب خطيبته الأولى ويراسلها تُعلَّم الكتابة والقراءة؛ فلهذا يجل تذكارها ويقدس أيامها؛ فقد اقتطفت المنون زهرة شبابها في نضرة عمرها، وهي بنت عمه الأمير محمد أعظم خان، وأقول: إنها لو كانت كأفراد العائلة فإنها تستحق الشهرة التي نالتها في اللطف والجمال.

وفي السنوات الأخيرة لم يكن يحفل الأمير بالنساء، ولا يسمح لهن بحضور مجلسه إلا في القليل النادر، وإذا سمح لهن بذلك فإنما يعاملهن كما يعامل الأطفال الصغار لا كما يستحق أن يعامل من في يده تربية الناشئة الجديدة، والحق يقال إن تربية النساء الأبناء ليست موكولة هناك إلى الأمهات؛ إذ لا يكاد يقدر أحد أنجال الأمير على المشي حتى يُسَلَّم إلى المعلم يتولى تربيته ويبقى تحت رعايته حتى يصير رجلًا، وأتذكر أنني أبديت له استغرابي من هذه الطريقة، فقال: «ليت شعري كيف يكون حال أولادنا لو تركناهم إلى تربية نسائنا؟ وكيف ينشأ الولد الذي يتربى بين أحضان هاته النسوة!» ولما قلت له: إن النساء الإنكليزيات يتولين تربية أبنائهن في زمن الصغر حتى يقدرن على الذهاب إلى المدرسة، تبسم، وقال: «كيف يمكنك أن تقارني بين سيدة أوربية وسيدة شرقية؟!» ولم أقدر على إقناعه بأن نساء الأفغان إذا تعلمن وتربين وأطلقت لهن الحرية، أصبحن كنساء أوروبا؛ لأنه كان يرى أن الزمن لم يأتِ لهذه الحركة، وأن نساء الأفغان لا يصلْنَ إلى درجة المرأة العربية حتى قال ذات مرة: «أيُّ دليل أظهره نساؤنا على رغبتهن في التعليم أو ميلهن إلى المعارف؟! هل طلبن منك أن تعلميهن شيئًا من الأعمال التي تقومين بها؟ ألا يحتقرنك ويرين علمك ومعارفك من سقط المتاع؟! ألا يتحسرن عليك بدلًا من أن يغبطنك؟!» فلم أقدر على الجواب، ولكني لا أزال أعتقد أنه لو مُهِّد لهن سبيل التعليم، وأُطلقت لهن حرية الفكر، فإنهن يترقين شيئًا فشيئًا.

fig40
شكل ١٣-٥: الأمير عبد الرحمن بلباسه الرسمي.
اعتقاده في الدين: جمع الأمير عبد الرحمن في صفاته الأخلاق المتضادة؛ فبينما تظنه متمسكًا بعادات قومه وعقائد شعبه تراه يبدي لك رأيًا أو يبرهن لك قضية لا يصدران إلا عن استقلال فكر وحرية ضمير مع ثبات عليه وتمسك به مهما حاول أحد إقناعه.

وكان كثير الشغف بالمجادلات الدينية، حتى إنه طالما كان يتهمني بأني مشركة لا أعبد إلهًا واحدًا، وكان لا يصغي كثيرًا إذا أردت أن أشرح له حقيقة اعتقادي، وأتذكر أني تكدرت من هذه التهمة وظهر على وجهي التأثر الشديد، فقال وهو يبتسم: «خففي عنك وطأة الانقباض أيتها السيدة؛ لأننا إنما ننظر إلى المسألة من وجوه مختلفة، وأرجو أن تضعي هذا الإناء الصيني — وكان بالقرب مني — على المائدة.» ثم قال: «اجلسي أمامي» وسألني: «ماذا ترين من النقش على هذا الإناء؟» فقلت: «إني أرى صورة تنين أخضر فاغر فاه محملق بعينيه وله ذنَب طويل.» فأجابني على الفور قائلًا: «هذا كلام لا حقيقة له؛ فإن المنقوش على الإناء صورة بحر وأسماك ومغارة تتكسر عليها المياه وتحوم حولها أشباح صغيرة أظنها حشرات أو ما أشبه ذلك، والآن أرجو أن تصغي أيتها الطبيبة وتعلمي أنني لا أمزح، بل إنني حقيقة أرى ما وصفته لك ولا أرى ما ترينه أنت؛ لأنني لا أبصره ولم يقع تحت نظري، فإذا أنا أنكرت وجود البحر والأسماك فهل يقتضي ذلك أن نتشاجر ونتقاتل؟» ولا خلاف؛ فإنني فهمت كل ما أراد أن يعبِّر عنه، لأن مثل هذا التعبير ظاهر جليٌّ، ولكنني استغربت صدوره منه، وزاد عجبي حينما رأيته بعد ذلك قد اضطجع على كرسي كبير وأسند رأسه على وسادته، ثم قال: «هكذا نحن في هذه الدنيا؛ ننظر إلى الأمور من وجه واحد، ولكن سوف نرى بأعيننا الوجهين في العالم الآخر، بل سوف نعلم أن كل نظر إلى جهة واحدة باطل وخطأ مبين.»

fig41
شكل ١٣-٦: حبيب الله خان أمير الأفغان.

قلت: إن الأمير كان ذا شغف بالمجادلات الدينية، إلا أنه كان لا يحب أن يسمح لي تفسيرًا عن معتقداتي، وفي ذات يوم أخذ برتقالة وعلَّقها في سلسلة ساعة ثم طلب مني خيطًا من الصوف، وكنت جالسة بالقرب منه أنسج شيئًا من القماش، ومع رغبتي في عدم قطع الخيط لم أتأخر عن إجابة طلبه، ثم قال: «والآن أحضري لي خيطًا من الحرير وسلكًا دقيقًا من الحديد»، ثم ربط كل خيط بالبرتقالة وأنا واقفة أنظر إليه ولا أدرك ما يريد، ثم قال: «انظري أيتها الطبيبة، إنني حينما أعلق هذه البرتقالة بأحد هذه الخيوط لا تقع، ولكنها ليست كلها متساوية في القوة؛ فأحد هذه الخيوط أمتن من الآخر، انظري إلى الخيط الصوفي وإلى سلسلتي الذهبية فهما متساويان متبادلان في تأدية المطلوب، وهذا مثال الأديان وقيمتها؛ فبعضها أنقى وأطهر وأعلى، وهو بذلك أمتن سببًا وأقوى رابطة، ولكنها كلها تربط الإنسان بالخالق القادر المبدع سبحانه وتعالى، حتى أدنى الأديان وأحطها أنفع من لا شيء، فهذا الخيط الحريري لا يدوم طويلًا بل ينقطع حالًا، وهذا السلك الحديدي يفلت من البرتقالة كغيره، فتمسكي بدينك؛ فإن الأفضل أن يكون لك دين ولو فيه خطأ من أن لا تديني بشيء.» انتهى.

(٢-٤) نظر الإنكليز إلى عبد الرحمن

قال أحد كتبة الإنكليز يصف علاقة الأمير عبد الرحمن بإنكلترا: «إن علاقة هذا الأمير بنا لا يصح أن نعتبرها مُرضية وإن ظهرت لنا كذلك. نعم، إنه يسايرنا في كل ما نرجوه من نفعه ويقابل سفراءنا بالإكرام والتعظيم، وقد أرسل ابنه لزيارتنا في لندن، ولكن القرائن الأخرى تدلنا على أنه كثيرًا ما ساير ألدَّ أعدائنا في الهند، ولا أظنه لو وُفِّق في سعيه معهم إلا راميًا بصداقتنا عرض الحائط، وغاية ما يقال في هذا الرجل أنه صديق حميم وحليف مفيد للهند طالما كانت حكومة الهند شديدة البطش، وأما إذا ضعفت فإنه من أشد الجيران خطرًا عليها، قال: وأما خليفته حبيب الله خان فإننا لا نتوقع منه غير السكينة والمسايرة وهو لا يرى منا إلا كل مساعدة ونصرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤