الفصل السابع والثلاثون

الشيخ محمد عبده

(١) ترجمة حياته

(١-١) نشأته الأولى

نشأ الفقيد في قرية صغيرة (محلة نصر) من أبوين فقيرين، فلم يمنعه ذلك من الارتقاء بجدِّه واستعداده حتى بلغ منصب الإفتاء وأصبح علمًا في الشرق وقطبًا من أقطاب الدهر سينقش اسمه على صفحات الأيام، ويبقى ذكره ما بقي الإسلام.

fig73
شكل ٣٧-١: الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية(وُلد سنة ١٢٥٨ وتُوفِّي سنة ١٣٢٣ﻫ/١٩٠٥م).

وُلد عام ١٢٥٨ﻫ وأبوه يتعاطى الفلاحة، وقد أدخل فيها أولاده إلَّا محمدًا؛ لأنه توسم فيه الذكاء فأراد أن يجعله من الفقهاء، فأدخله كُتَّاب القرية تردد إليه حينًا، ثم أرسله إلى الجامع الأحمدي في طنطا أقام فيه ثلاث سنوات، ثم نقله إلى الجامع الأزهر فقضى فيه عامين لم يستفد فيهما شيئًا، وهو ينسب ذلك بالأكثر إلى فساد طريقة التعليم.

ثم انتبه لنفسه ولم يرَ بُدًّا من تلقي العلم، فاستنبط لنفسه أسلوبًا في المطالعة، وأعمل فكرته في تفهم ما يقرؤه، فاستلذَّ العلم واستغرق في طلبه فأحرز منه جانبًا كبيرًا على ما يستطاع إدراكه بتلك الطريقة.

واتفق أن ورد على مصر سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م السيد جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام، وصاحب الترجمة لا يزال في الأزهر وقد أدرك الثلاثين من عمره، وتولى جمال الدين تعليم المنطق والفلسفة فانخرط الفقيد في سلك تلامذته مع جماعة من نوابغ المصريين تخرجوا على جمال الدين، فخرجوا لا يُشقُّ لهم غبار كأنَّ الرجل نفخ فيهم من روحه، ففتحوا أعينهم وإذا هم في ظلمة وقد جاءهم النور، فاقتبسوا منه — فضلًا عن العلم والفلسفة — روحًا حيةً أرَتهم حالهم كما هي؛ إذ تمزقت عن عقولهم حُجب الأوهام فنشطوا للعمل في الكتابة، فأنشئوا الفصول الأدبية والحكمية والدينية، وكان صاحب الترجمة ألصق الجميع به، وأقربهم إلى طبعه، وأقدرهم على مباراته، فلما قضي على جمال الدين بالإبعاد من هذه الديار، قال يوم وداعه لبعض خاصته: «قد تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفي به لمصر عالمًا.»
fig74
شكل ٣٧-٢: جمال الدين الأفغاني.

وتقلب الفقيد في بعض المناصب العلمية بين تدريس في المدارس الأميرية، وتحرير في الوقائع المصرية، وكتابة في الدوائر الرسمية. حتى كانت الحوادث العرابية فحمله أصحابها على السير معهم وهو ينصح لهم أن لا يفعلوا وينذرهم بسوء العاقبة. ولما استفحل أمر العرابيين اختلط الحابل بالنابل، وسيق الناس بتيار الثورة وهم لا يعلمون مصيرهم، فدخل الإنكليز مصر والشيخ محمد عبده في جملة الذين قُبض عليهم وحوكموا، فحُكم عليه بالنفي؛ لأنه أفتى بعزل توفيق باشا الخديوي السابق، فاختار الإقامة في سوريا فرحب به السوريون، وأُعجبوا بعلمه وفضله، فأقام هناك ست سنوات، فاغتنموا إقامته بينهم، وعهدوا إليه بالتدريس في بعض مدارسهم.

وانتقل من سوريا إلى باريس فالتقى فيها بأستاذه وصديقه جمال الدين، وكانا قد تواعدا على اللقاء هناك، فأنشآ جريدة العروة الوثقى وكتابتها منوطة بالشيخ، فكانت لها رنة شديدة في العالم الإسلامي، ولكنها لم تعش طويلًا، وتمكَّن الشيخ في أثناء إقامته بباريس من الاطلاع على أحوال التمدن الحديث، وقرأ اللغة الفرنساوية على نفسه حتى أصبح قادرًا على المطالعة فيها، ثم سعى بعضهم في إصدار العفو عنه فعاد إلى مصر، فولَّاه الخديوي السابق القضاء، وظهرت مناقبه ومواهبه فعُيِّن مستشارًا في محكمة الاستئناف، وسمِّي عضوًا في مجلس إدارة الأزهر، وعُيِّن أخيرًا مفتيًا للديار المصرية سنة ١٣١٧ﻫ وما زال في هذا المنصب حتى توفاه الله في ١١ يوليو ١٩٠٥ ولم يعقب ذكرًا يبقي به اسمه، ولكنه خلف آثارًا يخلد بها ذكره.

(٢) مناقبه وأعماله

كان ربع القامة، أسمر اللون، قوي البنية، حاد النظر، فصيح اللسان، قوي العارضة، متوقد الفؤاد، بليغ العبارة، حاضر الذهن، سريع الخاطر، قوي الحافظة، وقد ساعده على إحراز ما أحرزه من العلوم الكثيرة الدينية والعقلية والفلسفية والمنطقية والطبيعية، وتلقى اللغة الفرنساوية وهو في حدود الكهولة في بضعة أشهر، وكان شديد الغيرة على وطنه حريصًا على رفع شأن ملَّته، وذاع ذلك عنه في العالم الإسلامي، فكاتبه المسلمون من أربعة أقطار المسكونة يستفتونه ويستفيدون من علمه، وهو لا يردُّ طالبًا ولا يقصِّر في واجب.

ناهيك بما عهد إليه من المشروعات الوطنية، فقد كان القوم لا يُقْدِمون على عمل كبير إلا رأَّسوه عليه أو استشاروه فيه، فرأس الجمعية الخيرية الإسلامية، وألَّف شركة طبع الكتب العربية، وشارك مجلس شورى القوانين في مباحثه، وآخر ما عُهد إليه تنظيم مدرسة يتخرج فيها قضاة الشريعة ومحاموها، فضلًا عما اشتغل فيه من التأليف والتصنيف، وما كان يُستشار فيه من الأمور الهامة في القضاء أو الإدارة بالمصالح العامة والخاصة، وبالجملة فقد كان كنز فوائد للقريب والبعيد بين إفتاء ومشورة، وإحسان وكتابة، ومداولة ووعظ، وخطابة ومباحثة، ومناظرة واستنهاض، وتحريض وتنشيط، وغير ذلك.

(٣) إصلاح الإسلام

على أن عظمته الحقيقية لا تتوقف على ما تقدم من أعماله الخيرية أو العلمية أو القضائية، وإنما هي تقوم بمشروعه الإصلاحي الذي لا يتصدى لمثله إلا أفراد لا يقوم منهم في الأمة الواحدة مهما طال عمرها إلا بضعة قليلة، وهذا ما أردنا بسطه على الخصوص في هذه العجالة.

(٣-١) العظمة الحقيقية

تختلف العظمة شكلًا وأثرًا باختلاف السبيل الذي يسعى صاحبها فيه أو الغرض الذي يرمي إليه، فمنهم العظيم في السياسة أو الحرب أو العلم أو الدين، ومن العظماء من يوفق إلى إتمام عمله، ومنهم من يرجع بصفقة الخاسر من نصف الطريق أو ربعه أو عشره، على أن أكثر العظماء إنما يأتون العظائم لمجرد الرغبة في الشهرة الواسعة، ويغلب أن يكون ذلك في رجال الحرب، وهؤلاء تنحصر ثمار أعمالهم في أنفسهم أو أهلهم أو أمتهم، على أنهم لا يستطيعون نفعًا لأنفسهم إلا بضر الآخرين، اعتبر ذلك في سِير كبار الفاتحين كالإسكندر وبونابرت وغيرهما، فكم سفكوا في سبيل عظمتهم من الدماء أو ارتكبوا من المحرمات، وكان النفع عائدًا على أنفسهم أو أمتهم ولم يطل مكثه فيهم إلا قليلًا.

وأما رجال العلم فعظمتهم تقوم بما ينيرون به الأذهان من الأصول العلمية، أو يكتشفونه من أسباب الأمراض والوقاية منها، أو يضعونه من النظامات والقوانين أو غير ذلك، ونفعهم يشمل القريب والبعيد، الرفيع والوضيع، ولا يسفكون في سبيل نشره دمًا ولا يرتكبون محرمًا، وهو باقٍ ما بقي الإنسان وينمو بنموِّ المدنية.

وأما رجال الدين ومن جرى مجراهم من واضعي الشرائع والأحكام فتأثيرهم أوسع دائرة وأعمُّ شمولًا؛ لأنه يتناول البشر على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، وعليهم يتوقف نظام الاجتماع وآدابه وأخلاق الناس وعاداتهم وعلائقهم بعضهم ببعض، وعلماء الدين فئتان:
  • الفئة الأولى: واضعوا الشرائع كالأنبياء أو من في معناهم ممن ينسبون أعمالهم إلى ما وراء الطبيعة.
  • والفئة الثانية: المصلحون الذين يُصلحون الدين بعد فساده؛ لأن الدين إذا مرَّ عليه بضعة قرون فسد وتغيَّر شكله وانقلب وضعه تبعًا لمطامع الذين يتولون شئونه، فتفسد الأمة وينحط شأنها حتى يقوم من يصلحه ويعيده إلى رونقه.
ووضع الأديان عمل شاقٌّ قلَّ من يفوز به، والإصلاح الديني لا يقلُّ مشقة عنه، وربما كان إدخال دين جديد أيسر من إصلاح دين قديم؛ فالديانة المسيحية لم تكلف البشر في قيامها من الدماء أكثر مما كلفتهم في إصلاحها، على أن ما يضيعه رجال الدين في نشره من الدماء، يعوضونه بسرعة انتشاره؛ اعتبر ذلك في الفرق بين النصرانية والإسلام في قيامهما، ويقال نحو ذلك في الإصلاح؛ فقد طلبه وسعى فيه غير واحد من رجال النصرانية، فلم يتفق منهم إلى إصلاح كبير غير لوثير؛ لأن أهل السياسة نصروه، ولا بد من استعداد الأذهان لقبول الإصلاح وتهيئة الأسباب الأخرى، فكم نهض من المصلحين بالسيف فغلبوا على أمورهم وذهب سعيهم عبثًا، وأقربهم عهدًا منَّا صاحب مذهب الوهابية في نجد؛ فقد استفحل أمره في أوائل القرن الماضي، وأراد في الإسلام نحو ما أراده لوثير في النصرانية فلم يوفَّق إلى غرضه؛ لأن الجنود المصرية غلبته وفلَّت عزيمته. أما المصلحون بالموعظة الحسنة والتعليم فعملهم بطيءٌ، ولكنه أرسخ في الأذهان، وأصبر على كوارث الحدثان، والشيخ محمد عبده واحد منهم.

(٣-٢) هو وجمال الدين

نشأ الشيخ المفتي نيِّر البصيرة، حرَّ الضمير، ورُبِّي في الإسلام وتعلم علومه، فشبَّ غيورًا عليه، ثم اطلع على علوم الأمم الراقية من أهل هذا التمدن، ودرس تاريخ الاجتماع ونواميس العمران، فرأى الإسلام في حاجة إلى نهضة ترفع شأنه وتجمع كلمته، واتفق اجتماعه بالسيد جمال الدين الأفغاني، فأخذ عنه الفلسفة والمنطق والحكمة المشرقية، وكان جمال الدين غيورًا على الإسلام راغبًا في جمع كلمته ورفع شأنه، فتوافقا في الغاية، ولكنهما اختلفا في الوسيلة؛ لأن جمال الدين سعى في ذلك من طريق السياسة، فأراد جمع شتات المسلمين في أربعة أقطار العالم تحت ظل دولة إسلامية واحدة، وقد بذل في هذا المسعى جهده، وانقطع عن العالم من أجله فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبًا، وإنما جعل همَّه السعي إلى تلك الغاية فلم يوفَّق إلى غرضه لأسباب عمرانية طبيعية لا محل لذكرها. وكان الشيخ محمد عبده رفيقه في كثير من مساعيه، واطَّلع على دخائل أموره، وعرف أسباب حبوطه، فعلم أن جمع كلمة المسلمين ورفع شأنهم من طريق السياسة لا يتيسر الوصول إليه، فسعى فيه من طريق العلم، فجعل همَّه رفع منار الإسلام، وجمع كلمة المسلمين بالتعليم والتهذيب وتقريبهم من أسباب المدنية الحديثة؛ ليستطيعوا مجاراة الأمم الراقية في هذا العصر، ورأى ذلك لا يتأتَّى إلا بتنقية الدين مما اعتوره من الشوائب التي طرأت عليه بتوالي العصور وتغلُّب الدول واختلاف أغراض أصحابها وأئمتها، كما أصاب النصرانية في القرون المتوسطة؛ إذ تمسك الناس بالعرض وتركوا الجوهر، واستغرقوا في الأوهام ونبذوا الحقائق، والسبيل الوحيد لمغالبة الأوهام والخرافات إنما هو العلم الصحيح على ما بلغ إليه في هذا العهد، وعلم الفقيد رحمه الله أن محور العلوم الإسلامية اليوم مصر، ومركز العلم بمصر أو في العالم الإسلامي كافة «الجامع الأزهر» فرأى أنه إذا أصلح الأزهر فقد أصلح الإسلام، فسعى جهده في ذلك فاعترضه أناسٌ من أهل المراتب يفضلون بقاء القديم على قدمه، واستنصروا العامة عليه، وغرسوا في أذهانهم أن المفتي ذاهب بالمسلمين إلى مهاوي الضلال والبدع، فلم يهمه قولهم؛ لعلمه أن ذلك نصيب أمثاله من قديم الزمان، على أنه لم ينجح في إصلاح الأزهر إلَّا قليلًا، ولكنه وضع الأساس، ولا بدَّ من رجوع الأمة إلى تأييد هذه النهضة ولو بعد حين، فيكون الفضل له في تأسيسها.

على أن الجانب الأعظم من علماء المسلمين وخاصتهم يرون رأيه في إصلاح الدين ورجاله، وبما سبقه كثيرون منهم إلى الشعور بحاجة الإسلام إلى ذلك، ولا سيما المتخرجين بالعلوم العصرية من الناشئة المصرية، ولكنهم لم يجسروا على التصريح بأفكارهم في غير المجتمعات الخصوصية؛ لئلَّا ينسبهم الناس إلى المروق من الدين، فلما جاهر محمد عبده برأيه، وافقوه وصاروا من مريديه، ونصروه بألسنتهم وأقلامهم؛ فحاجة الإسلام إلى الإصلاح ليس هو أول من انتبه إليها، ولكنه أول من جاهر بها، كما أن لوثير المصلح المسيحي ليس أول من انتبه لحاجة النصرانية إلى الإصلاح، ولكنه أول من جاهد في سبيلها، وقد فاز بجهاده لقيام السياسة بنصرته. وأما مصلح الإسلام فكانت السياسة ضده، وإنما حمله على تلك المجاهرة حرية ضميره، وجسارته الأدبية، ومنصبه الرفيع في الإفتاء.

(٣-٣) الإسلام والمدنية

فلما صرح الشيخ محمد عبده بحاجة الإسلام إلى الإصلاح، انقسم المسلمون إلى فئتين: فئة ترى بقاء القديم على قدمه، وهم حزب المحافظين، وفئة ترى حلَّ القيود القديمة وإطلاق حرية الفكر، والرجوع إلى الصحيح من قواعد الدين، ونبذ ما خالطه من الاعتقادات الدخيلة، وكان رحمه الله زعيم هذه الفئة يناضل عن مبادئها بلسانه وقلمه وبكل جارحة من جوارحه، وكانت مساعيه من هذا القبيل ترمي إلى غرضين رئيسيين: الأول تنقية الدين الإسلامي من الشوائب التي طرأت عليه، والثاني تقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميًّا وصناعيًّا وتجاريًّا وسياسيًّا، فأهل العصبية الإسلامية يرون هذا التقريب مغايرًا لما يرجونه من استقلال المسلمين بالجامعة السياسية؛ لأن مجاراة أهل التمدن الحديث بأسباب مدنيتهم وتسهيل الاختلاط بهم يُضعف عصبية الإسلام على زعمهم، ويبعث على تشتيت عناصره فيستحيل جمعها في ظل دولة واحدة. ولكن الشيخ المفتي كان يرى ذلك الاجتماع السياسي مستحيلًا في هذه الحال، فلم يشأ أن يضيع وقته سدًى كما أضاعه أستاذه وصديقه جمال الدين، وأن يخسر فائدة تقرُّب المسلمين من أسباب هذا التمدن، فسعى في ذلك بما نشره من فتاويه المتعلقة بالربا، والموقوذة، ولبس القبعة، ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخرى ويسهل أسباب التجارة.

(٣-٤) تنقية الدين

وأما تنقية الدين الإسلامي من الشوائب الطارئة عليه فأساس سعيه فيها أنه أطلق فكرة الحرية في تفسير القرآن، ولم يتقيد بما قاله القدماء أو وضعوه من القواعد التي يحرم الأئمة تبديل شيء منها، فرأى أن يحلَّ نفسه من هذه القيود، ويفسر القرآن على ما يوافق روح هذا العصر، فيجعل أقواله وآراءه فيه موافقة لقواعد العلم الصحيح المبني على المشاهدة والاختبار، ولنواميس العمران على ما بلغ إليه هذا العلم إلى الآن مع مطابقته لأحكام العقل وأصول الدين، كما فعل النصارى في تفسير الكتاب المقدس بعد ثبوت مذاهب العلم الجديد، وهو أوعر مسلكًا في الإسلام لارتباط الدين بالسياسة فيه، والقرآن أساس الدين والدنيا عندهم فيعلقون على تفسيره أهمية كبرى؛ لأنه مرجع الفقه وغيره من الأحكام الشرعية والسياسية؛ ولذلك رأى أهل السنة تقييده بأقوال الأئمة الأربعة، وخالفهم الشيعة باستبقاء باب الاجتهاد مفتوحًا، فلا يرون بأسًا في العدول عن تفسير إلى آخر بشروط يشترطونها في مفسريهم، وهم يعرفون عندهم بالأئمة المجتهدين.

(٣-٥) التفسير

وقد توالى على تفسير القرآن أحوال تختلف باختلاف العصور من الإسلام إلى الآن ترجع إلى أربعة أعصر:
  • الأول العصر الشفاهي: وهو ينحصر في أيام النبي وأصحابه، فقد كانوا عند ظهور الدعوة كلما تُليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت القرائن تسهِّل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي فيفسره لهم، وكان التفسير مختصرًا بسيطًا لسذاجة الدولة الإسلامية يومئذٍ.
  • ثانيًا العصر التقليدي: ونريد به عصر التابعين أو حواليه، وكانت الدولة الإسلامية قد أخذت في النمو والارتقاء فاحتاجوا إلى التوسع في التفسير، وكان أكثرهم أميين فإذا أعجزهم تفسير بعض الآيات سألوا عنها من أسلم من أهل الكتاب، ولا سيما اليهود المقيمين في اليمن، وكانوا قد أسلموا وظلوا على ما كان عندهم من التقاليد المتناقلة شفاهًا أو كتابة مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية.
  • ثالثًا العصر الفلسفي المنطقي: ونريد به تدوين التفسير وضبطه بالقياس الفلسفي والحكم المنطقي بعد أن اختلط المسلمون بأهل العلم القديم في الشام والعراق وفارس واطلعوا على علوم القدماء وفلسفة اليونان والهند، ونقلوا ذلك إلى لسانهم واستخرجوا منه علم الكلام، وكان العرب قد وضعوا العلوم اللسانية، وضبطوا معاني الألفاظ، وأساليب التعبير، فنظروا في التفاسير السابقة نظر الناقد ومحَّصوها وضبطوها بالقياس العقلي بالاعتماد على قواعد المنطق بما تقتضيه الفلسفة اليونانية القديمة على نحو ما فعله لاهوتيُّو النصارى قبل ذلك.
  • رابعًا العصر العلمي: الذي نحن فيه، وهو عصر الفلسفة الجديدة المبنية على العلم الطبيعي الثابت بالمشاهدة والاختبار، ويمتاز عن العصر السابق بإطلاق حرية الفكر من قيود التقليد القديمة التي أغلَّت ألسنة أسلافنا وأقلامهم، وأوقفت مجاري التمدن أجيالًا متطاولة. فالشيخ المفتي رحمه الله أراد أن ينقل التفسير إلى روح هذا العصر فيفسر القرآن بما يطابق أحكام العقل، ويحل الإسلام من قيود التقليد، فسار في هذا الطريق شوطًا بعيدًا فألقى على طلبة الأزهر خطبًا كثيرة في التفسير، نشرت في مجلة المنار وطُبع بعضها على حدة، وكان لها تأثير حسن في نفوس العقلاء، ولو مدَّ الله في أجله لأتم هذا العمل، ولكنه قضى آسفًا خائفًا ولسان حاله يردد هذين البيتين — وقد قيل إنهما من قصيدة نظمها في أثناء مرضه — وهما:
    ولست أبالي أن يقال محمدٌ
    أبلَّ أو اكتظَّت عليه المآتم
    ولكن دينًا قد أردت صلاحه
    أحاذر أن تقضي عليه العمائم

على أنه خلف جماعة من تلامذته ومريديه أكثرهم من أهل العلم وأرباب الأقلام، وفيهم نخبة كتَّاب المسلمين وشعرائهم في هذا العصر، وأكثرهم مجاهرة بنصرته وإذاعة لآرائه رصيفنا السيد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي.

والشيخ محمد عبده زعيم نهضةٍ إصلاحية لا خوف منها على الدماء أو الأرواح، وأكثر نهضات الأمم في سبيل إصلاحها لا تخلو من إهراق الدماء، فهو رجل عظيم يجدر بالمسلمين أن يبكوه، وأن يقتفوا آثاره في التوفيق بين الإسلام والمدنية الحاضرة، وتنقيته مما ألمَّ به بتوالي الأزمان، وذلك ميسور لمن أطلق فكره من قيود التقليد، واسترشد بما يهديه إليه العقل الصحيح بالإسناد إلى العلم الصحيح. على أننا نرجو أن لا تعدم هذه النهضة من يخلف الإمام الفقيد في الانتصار لها والعمل بها، والله على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤