الفصل الثامن

السلطان محمود الثاني

fig15
شكل ٨-١: السلطان محمود الثاني (وُلد سنة ١٧٨٥ وتولى سنة ١٨٠٨ وتُوفِّي سنة ١٨٣٩).

هو السلطان الثلاثون من سلاطين آل عثمان، شقيق السلطان مصطفى الرابع، وابن السلطان عبد الحميد الأول، تبوأ السلطنة العثمانية وهي في اختلال عظيم وارتباك لم يسبق له مثيل. وكان السلطان سليمان القانوني آخر من قاد جيوشه بنفسه من سلاطين آل عثمان، وتقاعدوا بعده عن المسير إلى ساحة الحرب تاركين قيادة الجند إلى وزرائهم ورجال دولتهم، الأمر الذي آل إلى تقهقر الدولة واختلال أحوالها وانتفاض ولاتها، وأصبح الإنكشارية عثرة في سبيل فلاحها بعد أن كانوا حصنًا لها وقوامًا لسطوتها، وكان السلطان سليم الثالث ابن عم صاحب الترجمة قد شرع في إصلاح ما فسد من شئونها، فبث لابن عمه كل ما كان في نيته من ذلك.

فلما أتيح للسلطان محمود تولي السلطنة أخذ على عاتقه القيام بتلك المهام وإخراجها من حيز القوة إلى حيز الفعل، وكان أعظم وزراء الدولة إذ ذاك مصطفى البيرقدار، وهو الذي أجلس السلطان محمود على سرير السلطنة بعد سفك الدماء، فولاه السلطان الصدارة العظمى لما تبينه فيه من الشجاعة والإقدام وشدة البطش، فباشر البيرقدار أول كل شيء قطع شأفة الأحزاب المضادة، فقتل بعضًا ونفى آخرين، حتى خلا له الجو فأخذ في إصلاح شئون المملكة باذلًا في ذلك جهد الطاقة عملًا بإرادة مولاه، فرأى أن يبدأ بإصلاح القوة العسكرية وتنظيمها على النمط الحديث الذي وضعه نابليون بونابرت، وهو المعول عليه في تنظيم جنود أوروبا.

وعلم أن مباشرته ذلك تقضي بتغيير الإنكشارية وتمردهم لما يرون في الأمر من انحطاط سطوتهم وتقلص ظل مجدهم، فاحتال على العلماء والوزراء وكبار أهل الدولة واستجلب مصادقتهم في تنظيم جند جديد وإصلاح جند الإنكشارية بتدريبه على النظام الجديد، فتعهد له أولئك ببذل أرواحهم وأموالهم توصلًا إلى تلك البغية، فعلقت الآمال بإصلاح الحال على يد ذلك الوزير.

وكأن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يتم ذلك على يده، فجاء البيرقدار أمورًا غيرت عليه القلوب، أخصها أنه طمع في أموال الناس فأكثر من الضرائب واستخدم في استخراجها طرقًا غير قانونية، فخاف الناس الانتظام في الجندية، وأوجس العلماء والمشائخ خيفة على مال الأوقاف لئلا يصبح طعمة له. أما السلطان فإنه لم يكن أقل حذرًا منهم، وقد رأى كل شيء سائرًا على ما يريده هذا الوزير والأحكام في يده يريدها كيف شاء.

وما زالت الأحزاب تتعاظم وتتكاثر حتى صاروا يجاهرون بذلك في مجتمعاتهم العمومية، واتفق ذات يوم أن البيرقدار كان سائرًا بموكبه الحافل والشوارع غاصة بالجماهير، فأمر رجاله أن يبعدوا الناس عن الطريق بالعنف وأن يضربوا من لا يطيع الأمر حالًا فنفر الناس إلى القهوات والجوامع، وقد عدوا ذلك استبدادًا وعتوًّا وأخذوا ينقمون عليه، فاجتمع جماعة منهم إلى آغا الإنكشارية وتوسلوا إليه أن ينقذهم من استبداد ذلك الرجل، وكان الإنكشارية أشد منهم رغبة في قتله فتواطئوا على مهاجمة منزله بغتة، فهجموا عليه وأحرقوه بما فيه من الرجال والنساء، وكان البيرقدار في جملتهم فذهب فريسة النار فتخلصت الآستانة منه، ولكنه لا يزال معدودًا من جملة أهل الإصلاح لما آتاه من الأعمال العظيمة، وما خصه الله به من المواهب التي رفعته من حضيض الفاقة إلى منصة الصدارة العظمى، ويُروى عنه أعمال تدل على قسطه وعدله مما يطلق الألسنة بالثناء عليه.

وكان في جملة من قُتل أثناء تلك الثورة السلطانية مصطفى الرابع وكان معتزلًا عن السلطنة فلم يبقَ من عصبية آل عثمان إلا السلطان محمود، ولم يعد للإنكشارية باب للعزل والتولية فأمن دسائسهم، ولاح له لحسن سياسته أن يصلح ما بينهم وبين العساكر الذين سيباشر تدريبهم على النظام الحديث، فأصلح ذات بينهم وأبعد من بقي من أصدقاء البيرقدار فسكنت الخواطر، فتربص ينتظر فرصة لتنفيذ ما يريده من الإصلاح، فشغلته الأعمال الحربية التي قامت بين الدولة العليَّة والروسيين، وقد أخذوا يزحفون بعدتهم ورجالهم نحو الدانوب فاحتلوا بعض المدن هناك فجرد السلطان جندًا لدفعهم، واتفق أثناء ذلك تجريد نابليون بونابرت على روسيا سنة ١٨١٢ فاضطر الروسيون لعقد معاهدة الصلح في ١٦ مايو (أيار) من تلك السنة مع الباب العالي وسحب جيوشهم عن الحدود لقتال نابليون.

وبقي ذلك الصلح مرعيًّا ثماني سنوات، اهتم السلطان أثناءها في إخماد ما ثار إذ ذاك في ولايتي بغداد وآيدين، وقمع عصيان الوهابيين الذين ظهروا في شبه جزيرة العرب بدعوى دينية حتى تعاظم أمرهم، فبعث السلطان إلى محمد علي باشا والي مصر إذ ذاك فجند عليهم وقطع دابرهم.

وفي عام ١٨٢١ ثار اليونان في المورا، وشقوا عصا الطاعة حتى صاروا يهاجمون سواحل سوريا والأناضول وغيرهما، ويصادرون العمارات العثمانية فبعث السلطان جندًا عظيمًا لردهم، فقامت الحرب على ساق وقدم، وبعث الباب العالي إلى محمد علي باشا إذ ذاك أيضًا فأرسل حملة تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا انضمت إلى جيوش الدولة وضيقوا على أهل المورا، فاستنجدت اليونان الدول الأوربية، فتوسطت دولتا إنكلترا وفرنسا، فلم يرضَ السلطان بتوسطهما، فبعثا عمارتيهما وانضمت إليهما العمارة الروسية، وهددوا إبراهيم باشا وعمارته في مينا نافارين من أعمال المورا وطلبوا إليه أن يكف عن القتال، فأبى إلا أن يكون ذلك بأمر من السلطان، فدخلوا المينا وأطلقوا النار على العمارتين المصرية والعثمانية في ٦ يوليو (تموز) عام ١٨٢٧ وظهروا عليهما بعد دفاع شديد، فاضطر السلطان محمود لقبول اقتراح الدول المتحدة وأمضى معاهدة تقضي باستقلال اليونان.

وكان السلطان في أثناء ذلك مشتغلًا بتنظيم الجند الجديد، لعلمه أن جند الإنكشارية لا يقوى على مدافعة جنود أوروبا المنظمة، ولكنه علم بما يحول بينه وبين ما يريد فجمع إليه رجال دولته بحضرة المفتي أفندي، وخطب الصدر الأعظم إذ ذاك محمد سليم باشا خطابًا عدد فيه ما وصلت إليه قحة الإنكشارية مع ما هم فيه من القصور في النظامات الحربية الجديدة، وطلب إليهم أن يبدوا رأيهم فيما يجب اتخاذه من الوسائل؛ لملاقاة ما يهدد المملكة العثمانية بسبب ذلك، فأقر الجميع وفي جملتهم آغا الإنكشارية على اتخاذ الوسائل الفعالة فتلا المكتوبجي أمرًا قاضيًا بتنظيم جيش جديد باسم «إيكنجي» وتهذيبه، فوقَّع الجميع على وجوب تنفيذ ذلك الأمر، وتُلِيَ ذلك بعدئذ على ضباط الإنكشارية فقبلوا به فأخذوا في تنظيم الجيش، وفي ٦ ذي الحجة عام ١٢٤١ﻫ/١٢ يونيو ١٨٢٦ استعرضوه وشرعوا في تهذيبه للمرة الأولى في ساحة الميدان.

أما الإنكشارية فحالما شاهدوا ذلك النظام نسوا عهودهم لما رأوا في الأمر مما يحط من سطوتهم ونفوذهم، وأخذوا يتحدثون سرًّا وينقمون على تلك البدعة، فحاول الصدر الأعظم قمعهم سرًّا وجهرًا فلم يزدادوا إلا عنادًا، حتى هجموا أخيرًا على منزله للإيقاع به فلم يظفروا بشخصه؛ لأنه لم يكن هناك، فتفرقوا في المدينة يصادرون المارة والباعة، فبعث الصدر إلى السلطان بالأمر وأمر ضباطه وجنده الخصوصيين فحضروا في السراي. أما الإنكشارية فأصروا على أعمالهم وجاهروا بطلب رءوس الذين أشاروا بتنظيم ذلك الجيش، فوقف الصدر الأعظم وحوله من رجاله والعلماء والمشائخ عدد غفير في انتظار مجيء السلطان، وكان في بشكطاش فأسرع إلى السراي وخطب في الجماهير فأنهض هممهم، فأقسموا على الثبات حتى يفوزوا أو يُقتلوا فداء عن سلطانهم، وطلبوا إليه أن يجرد العلم النبوي الشريف فجرده، ومشى فتبعه الناس وتقاطروا من أنحاء المدينة للدفاع عن السلطان والسنجق الشريف ففرق فيهم الأسلحة ثم سلم العلم إلى المفتي، وجلس في قصر (كشك) فوق باب السراي حيث يشرف على الساحة ويشاهد الجماهير.

ثم اجتمع الصدر الأعظم والمفتي والعلماء في جامع السلطان أحمد وتلوا الفاتحة وسورًا أخرى بالخشوع التام، ثم نهضوا في هيئة الحرب وفيهم العساكر وأهل المدينة، فأدركوا الإنكشارية وقد تجمهروا في ساحة الميدان، فحاولوا ردهم بالتي هي أحسن فأبوا فأطلقوا عليهم الرصاص، والتحم الفريقان، وكانت المذبحة هائلة عادت فيها العائدة على جند الإنكشارية ومن لم يقتل منهم قِيد أسيرًا، فنجت البلاد منهم وهدأت الأحوال كما نجت مصر من أمراء المماليك بعد أن ذبحهم محمد علي قبل ذلك ببضع عشرة سنة.

وأخذ السلطان محمود بعد ذلك بتنظيم الجند على النمط الفرنساوي المتقدم ذكره، فاغتنمت الدولة الروسية انهماكه بذلك، وأشهرت الحرب وزحفت بجنودها الجرارة لجهة الدانوب في أوروبا وجهة القرص وأرضروم وغيرهما في آسيا، وبعثت عمارتها البحرية إلى البحر الأسود، فعظم ذلك على السلطان لما يعلمه من قصور جنده الجديد، ولكنه جند على الروسيين، وجاهد العثمانيون جهاد الأبطال دفعًا لعدوهم عن حدود البلاد ما ليس فوقه غاية، وقد شهد لهم بذلك أعداؤهم، على أن جهادهم وبسالتهم وثباتهم لم تغنِ عنهم شيئًا؛ لأنهم كانوا يحاربون ثلاث دول عظام وليس الروس وحدهم، كما علمت من نجدة إنكلترا وفرنسا للمورة، وانقضت الحرب الروسية هذه باحتلال بعض المدن في رومانيا وفي آسيا.

ولما علم السلطان بذلك اضطرب قلبه ولم يكن يعرف الاضطراب قبل ذلك، ولكنه أظهر ثباتًا وحزمًا جديرين بالسلاطين الفخام والمصلحين العظام، وانتهت تلك الشرور بعقد معاهدة «أدرنة» في ٦ سبتمبر (أيلول) عام ١٨٢٩ القاضية باستقلال اليونان استقلالًا تامًّا، والتنازل عن إقليم السِّرب لعائلة دوبرينوفيتش وعن إقليمي الفلاخ والبغدان، وقد انضم هذان سنة ١٨٦١ إلى إمارة واحدة عرفت بإمارة رومانيا تدفع جزية سنوية للدولة العليَّة كالديار المصرية، والتنازل عن بعض الجزائر الواقعة عند مصب الدانوب، وعن بلاد أخرى في آسيا مع غرامة حربية مقدارها مائة مليون وعشرة ملايين من الفرنكات.

وقد يستغرب القارئ رضوخ السلطان محمود لتلك المعاهدة، وهو من سلاطين آل عثمان الذين دوخوا العالم وأرجفوا ملوك الأرض، ودانت لهم أعظم ممالك الدنيا، ولكن ليس ذلك محل الاستغراب وإنما الغرابة في ثبات هذه الدولة أيدها الله ودفاعها الدولتين والثلاث أو أكثر معًا بعزم ثابت، وكانت كل دول أوروبا ضدها تنتظر فرصة لابتلاعها فلو لم تكن أقوى الدول وأشدهن بطشًا ما استطاعت دفع تلك الصدمات، ناهيك بما كان مستحكمًا في داخليتها من الخلل وما أفسده الإنكشارية ومن جرى مجراهم.

فلم تكد تتخلص من تلك المشاكل حتى كانت حملة الجنود المصرية تحت قيادة إبراهيم باشا على سوريا، فافتتحوا عكا وأوغلوا في داخل القطر وما وراءه حتى كادوا يهددون الآستانة فتوسطت الدول وأوقفتهم في سوريا حيث أقام إبراهيم باشا حاكمًا ضمن حدود وعهود تسع سنوات، تُوفِّي السلطان محمود في السنة التاسعة منها بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة كلها حروب وأهوال، ولولا حزمه وثباته وقسطه ما قوي على مقاومة تلك الصدمات التي لو كانت على أعظم دول الأرض لذهبت بها إلى الدمار.

وكان رحمه الله ثابت الجنان، مقدامًا، حازمًا، تتجلى في وجهه ملامح الوقار والرزانة، وقد قال الذين قابلوه من سفراء الدول الأجنبية إنهم لم يجدوا في سائر ملوك أوروبا وإمبراطوريها المعاصرين ما في السلطان محمود من قوة التسلط على الأفكار والتأثير على العقول، وكان يحسن الخط ونظم الشعر متبصرًا، لا يعمل عملًا ما لم يتدبره وينظر في عواقبه. ومن أعماله إبادة وجاق الإنكشارية وتأسيس النظام الجندي الجديد، وهو أول من لبس الطربوش واللباس الإفرنجي على الزي المعتاد (في أواخر حكمه)، وأول من ركب عربة (فايتون) من سلاطين آل عثمان، وقد كان السلاطين قبله يلبسون العمامة والجبة ويركبون الخيل، وفي عصره ظهرت أول جريدة في المملكة العثمانية، ويقال إنه أذن بنقل رسمه بالزيت وعرضه في الترسانة العامرة، وقد طُبع ذلك الرسم بمطبعة الحجر وبيع في الآستانة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤