الفصل الأول

استغراق لحظة

بين صدق النهى وكذب الأماني
وقف الرأي والهوى ينظران
للهوى جرأة وللرأي حكمٌ
والبرايا لديهما شيعتانِ
يا نفوسًا جنى الشبابُ عليها
قضي الأمر واستراح الجاني
لست ألحاكِ في زمان غرور
فلقد مر في الغرور زماني
والخيال الذي صبوت إليه
قبل عشرين حجة أصباني
خبِّر الناس أيها النيل عني
واشهدا معه أيها الهرمانِ
المغاني التي بكيت عليها
باقياتٍ — تكلمي يا مغانِ
غازلتني عيون زهرك حينًا
وقماريك رددت ألحاني
وإذا أنتِ حال عهدك بعدي
فكما شئت مهجتي ولساني
يا ربوع الهوى بأية كأسٍ
قد سقاني فيك الهوى من سقاني
بلبل مشتكٍ وورد مصيخٍ
انظروا كيف يسعد العاشقانِ
أضحك الدهر معشرًا جهلوه
وأنا مذ عرفته أبكاني
كلما قلت للمنى أدناني
جدَّ حتى عن المنى أقصاني

•••

أيها الشرق كيف حالك فينا
ينجلي نازل فيغشاك ثانِ
هدمتك الخطوب صرحًا فصرحًا
قوَّضت من علاك شم المباني
يظلم الناس بعضهم منذ كانوا
طال ظلم الإنسان للإنسانِ
وإذا كان في الحياة قليل
من نعيمٍ فذاك للتيجانِ
والعقول التي نخال أنارت
استسرت في ظلمة الأديانِ

انتهيت من صحائفي السود وما صدقت أن سأنتهي، تلك فصول أدمجت فيها وصف آلامي، وكان طيها خيرًا من نشرها لولا لجاجة النفس شديدة النزوان. ولو كان في نطاق الصبر سعة لاسترسلت فيها وبلغت بها غايتها، ولكن كان خير مما لو كان. وهذه فصول تجاريب، أُقدِم عليها جهلًا بمخاطرها، كالموغل في الأجمة بليل مسترخي السدول، لا يدري ما وراء أثلاتها وغاباتها، فإن غمرت من مياهها وفوزت من قتادها، فتوفيق غير مؤمل من مثلي، وإن ملكتني سورة هولها وأخذت علي مراودها ومسارحها، فما أنا أول ضال عن قصده، وفي حسن النية مأساة للآيس وتخفيف للملام.

لقد رأيت قومًا راعهم ما قرءوه من فصولي، أولئك فريقان، فريق من المسيحيين وفريق من المسلمين، أكبرَ كلاهما أقوالي ولم تنشرح لها صدورهم، فسكت عنها بعضهم ولامني فيها بعضهم، وأنا في شغل عن الصامت واللائم، هذا باب اجتهاد فتحته لنفسي، ولا يعرف مرادي أحد مثلي، ومن لا يعتمد ما ظهر من رأيي فليأتني بما يحسبني أضمره أو فليدعني وليذهب عني بسلام، وحسبي اليوم أن أقول ما قاله أكثم بن صيفي: إن قول الحق لم يدَع لي صديقًا.

رأيت كاتبًا قال في أحد فصوله إنه يحتقر مَن يترك الصوم في رمضان ويجهر بذلك، فعلمت أنه عرَّض بي — عفا الله عنه — لو باليت مثل احتقاره لكنت في موضع غير الذي أنا فيه، ولسوف أواصل جهادي حتى يقلل الله من أمثاله، فإن عشت حتى أدرك المرام كان ذلك فضلًا من الله، وإن تحُل المنية دون الأماني فكم في هذا الشرق من حرٍّ قلامة ظفره خير من حياة ألف ولي الدين.

وبعد، فهذا ما أستطلعه في استغراق لحظة، أفكر في الشرق، نجلتني أبوته ونتقتني أمومته، واليوم تشقيني محبته، يا حبذا المهد ويا حبذا اللحد، توسده المجد وليدًا ثم توسده ميتًا، بلاد وأمم، كلها حبيبة وكلها عزيزة.

قلت في نفسي: ما يقعدني عن إصلاح هذا الوطن الكبير الذي أحبه، فرحت أتخيل، جعلتني حاكمًا على الشرق كله قريبه وبعيده وسهله وجبله، فشيدت معاهد التأديب، وأقمت بنايات العلم، ورفعت بيوت الصناعة، وضربت للعدل رواقه، ومددت للأمن أطنابه، وزينت أسواق التجارة بالنفائس، واستخرجت من بطون الأرض كنوزها، وخلعت عليها مطارف خصبها حتى سال النضار في جداولها، وقر اللجين في قيعانها، وقلت أقبلت عليك السعادة أيها الشرق وراجعك الإقبال، ووقفت أسائل نفسي: أبقي للشرق شيءٌ يحتاجه، أم قُضيت له حوائجه كلها؟ وإذا أنا بمكاني من التقصير والتفريط.

وا حرَّ قلباه! ما ينفع كل ذلك وبين أحناء الأضالع وفي سويداوات القلوب نفوس مستعصية على الخير إذا وكزتها أوضعت وإذا لاطفتها حرنت، فأهلها كالعير لا يسيرون إلا وخلفهم العصا، فمن هؤلاء المعاندون ومنهم الأدعياء والكلفون بالرئاسة كعبيد الله استطال على العرب ثم استثار تعصب المتعصبين على قتل المسيحيين، ثم وقف ينتصر للألمانيين ويحض الناس على قتال الإنكليز، ومثله كثير في البلاد العثمانية وفي مصر وفي غيرهما من بلاد الشرق.

وبينا ينادي حماة الإنسان وأنصار نجدته إلى الإخاء، إذا صحف جديدة تأتينا وكلها دينية، منها المسلمة ومنها المسيحية، جدال استعرت ناره بين المآذن والنواقيس والمشايخ والرهبان، كلٌّ يصحح دينه، وكلٌّ دينه في غنية عن التصحيح، وما عاقبة هذا، وأين يكون مستقره؟ وقانا الله لفحات قيظه.

قلت: الخطب أيسر، تتفق حكوماتنا على طرد هؤلاء الناس أو تُكرههم على السكوت حتى تُكشف عنا غمَّاؤهم وتسكن عواصفهم، ثم استطلت تأملي فألفيت المعضلة على أصلها، ما حللت لها عقدة ولا قاربت لعقدة حلًّا، ما حيلتنا في هذا البارض النضر الذي أتى به ربيع الحياة؟ أريد فتيان اليوم ورجال الغد، يذهبون إلى مدارسهم فيتعلمون بها ما ينير بصائرهم ويصفي نفوسهم، ويُنفق عليهم الذهب من خزائن الحكومة وأرزاق أهلهم كالمطر الجود، حتى إذا أشربته قلوبهم وماج في صدورهم غلبت على شدته نفثة من نفثات معمَّم أو مقلنس يأتيهم مسترزقًا ويدانيهم مجترِئًا، فرأيت روح عبيد الله تجول في كثير من تلك الأجساد الطاهرة، فقلت وا أسفاه!

وعنَّ لي بعد ذلك خاطر جديد: حال بناتنا، نغدوهن الصحة ونعلمهن النضرة ونربيهن على حواشي العز ونسيرهن في مهرجان النعيم، فإذا بلغن غاية ما تشتهي الأنفس أسلمناهن إلى بعولات كالأزواد جسومًا وكالبعوض أحلامًا، يرفعون بينهن وبين الحياة الطيبة أسوارًا، يغارون عليهن من شعاع الشمس وبرد النسيم، ولا يغارون عليهن من يد الموت ولا ضم الجدث.

فلما كثرت في صدري هذه الوساوس، وأطبق عليَّ ظلام اليأس عرتني هِزة كهزة الكهرباء خرجت بي من استغراقي، فندمت على تخيل حول وطول ما خُلقت لهما ولا قِبلَ لي بهما، ولا تمنيتهما فيما يُتمنى، وصِحتُ وا حرباه! برح الخفاء ووضحت السبيل، وإنَّا لا محالة خاسرون، ولرب فكر لحظة أفادهم الأبد، ما أهون هذه القلوب على خطوب الدهر! وما أضيع ودائع الأماني في ذمم الأيام! ولو عُني الناس بوصف كل همٍّ واغل ووجد مستحدث وشجن مستثار لذابت الأفئدة، وضجت إلى بارئها الأرواح، غير أن الجِد في السعي والاستمرار على النصح يهوِّن الخطب ويؤخر يومه، وما أنا من تسمو به همته إلى ادعاء ذلك، ولكن للعلم في عصرنا نهضة شخصت لها الأبصار وعنت الوجوه، وكلنا على آثار رجاله لسائرون، فنعم مفتاح باب المعقل الأشب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤