الفصل الخامس عشر

فوق جبال الريف

في أصيل يوم من أيام مايو الصافية الأديم، طرنا من الساحة الكائنة بين البحيرة ومدينة الناضور في طيارة إيطالية، تسافر يوميًّا من روما إلى مليلية فتطوان.

طرنا، بعد أن نضنضت الطيارة ألسنتها، فلمعت في نور الشمس ودوت، ثم درجت في سهلها وهي ترتفع عن الأرض، وتنطلق في الفضاء، فتراجعت البحيرة شرقًا، وبدت الناضور كقلادة في جيدها، ثم تلألأت إلى يميننا مدينة مليلية، وانطوت وميناءها فيما توارى من البحر، فتلتها فرخانة وواديها، وتلت فرخانة الجبال.

هي جبال الريف المنخفضة الكثيرة التجعد، كوجه العجوز، وكالأرض المخططة بالقنوات والأحواض للري، أرض مسنمة ومجوفة ومضلعة ومقبَّبة بألوف الحداب والعراقيب والأخاديد والعقاب. ظاهرها رملي ويندر فيها الاخضرار إلا حول البيوت، وهي قليلة، تراها على القمم والطلوع، لا يصل بعضها ببعض غير الطرق الجبلية، التي تبدو كالخيوط، أو كالخطوط الجغرافية، وهاك بيوتًا على حرف الضلع كأنها ذباب على حد السيف.

نجتاز هذه الجبال — العفو! — نطوي الجو فوقها بربع ساعة، فندنو بعد ذلك من شاطئ البحر، وساحله الضئيل، القائمة على جانبه الصخور الرملية كالجدران العالية، فتصاب رءوسها في بعض الأماكن برشاش من الأمواج.

على هذا الشاطئ فوق تلك الكثبان، تكثر البيوت، وهي مربعات بصحون ودور حول الصحون. تلك الصحون تبدو كالأحواض الفارغة، وقد طُوِّقت بشيء من الاخضرار.

ثم نعود إلى الجبال، أو تعود الجبال إلينا؛ فالحقيقة هي أننا نطير غربًا في خط مستقيم، والجبال تدنو من البحر في خطوط معوجة، فتمسي حينًا تحتنا، وحينًا تبعد فتتوارى.

إنها لَجبال عارية جافة موحشة، وليس فيها غير الطرق الجبلية التي ذكرت، فهي الصلة الوحيدة بين أهلها، وما أوهنها ظاهرًا، وما أقدمها وأثبتها لذي الحافر وصاحبه ابن آدم! فلا يُستغرَب أن يكون الريفيون أيبس وأصلب عودًا من البدو، ولا يُستغرَب نظرهم فيما يجمل الحياة. دَعِ الشعر والفنون والماء والخضرة والشكل الحسن؛ فلا جمال بغير الخيل، ولا شرف ولا عز بغير البندقية!

على أن أولي الأمر اليوم يريدون أن يعلِّموا هذه الطائفة من بني آدم غير الفروسية والغزو؛ يريدون أن ينشئوا المدارس في مفاوز جبالهم، فيعلِّموهم القراءة والكتابة في الأقل؛ يريدون أن ينشئوا المدارس في تلك القرى النائية المنعزلة المعتصمة بسنام الجبال، وبين القرية والقرية وهاد وآكام، وليس بينها ما يصل بعضها ببعض غير الثنيات والعراقيب، تلك الطرق الشبيهة — للناظر إليها من الطيارة — بالخطوط الجغرافية، ودون الوصول إليها من الطريق العام أهوال.

قال الجنرال فرنكو: أريد أن يصل «الدولاب» إلى كل قرية من قرى المغرب. فهو يريد أن يحييها بالدواليب — بالسيارات. فهل تحيا أراضيها يا تُرَى بغير المشاريع الزراعية؟ وبكل جبار في الجبال من تلك المشاريع — مشاريع الري والتشجير؟!

هي معضلة الريف. تفكِّر فيها وأنت في الطيارة، فتقول وأنت الطائر: ليس في نظر الله، ولا في كتاب العلم شيء مستحيل. ولا تكاد تقول ذلك حتى يتغيَّر ما يسميه العرب خد الشعيب، ويتغيَّر لون وجه الأرض، فتصبح الطيارة فوق خليج سان خرخو، وإلى يسارها يمتد وادي النكور الريان.

والبحر ساج، والشمس ترقص تحت جناح الطيارة، فتترك أثرًا على الأمواج كالوشم الفضي، أو هو كالشبك يطرحه الصياد على البحر، فيستحيل في سحر الشمس غربالًا من الذهب والفضة.

وهذه مدينة سان خرخو تحتنا، على ظهر الصخرة الممتدة إلى البحر، وهاك الجزيرة الغريبة الشكل — تلك المدرعة في الخليج — تفقد غرابة شكلها، فتعود للناظر إليها من علٍ إلى حالها الطبيعي البسيط؛ صخرة في المياه.

ولا نزال فوق البحر قريبين من الشاطئ الكثير الصخور، وهناك على الأفق الجنوبي جبال كتامة.

خمسة وثلاثون دقيقة من مليلية إلى حدود الريف المغربية، أي إلى الوادي الفاصل بين جبال غمارة وجبال الريف.

وهاك تحت جناح الطيارة بورتو كبَّاص، أي الجبهة وسهولها المنقطة بالبيوت، المسيَّجة بالفاقع والأدكن من الألوان الخضراء، بالزرع والصبير. وبعد الجبهة بقليل تعاين واد لاو ونهره على الشاطئ كحبل فضي على رحل الرمل الذهبي.

ومن واد لاو، قبالة تلك الجبال التي قطعناها بالسيارة فتقطعت أوصالنا إلى واد مرتين؛ عشر دقائق أخرى. فنعرج بعدئذٍ عن البحر، إلى ما فوق السهول الخضراء الصفراء، وفيها ينساب نهر مرتين، فنهبط هبطات تُدنِينا منه، ثم نسِفُّ عند منحدرات الرُّبَى، فيُخَيَّل إلينا أنها تهوي علينا، وبعد جولة قصيرة في السهل تلمس دواليب الطيارة الأرض، فتجري الهوينا إلى محطِّ «رحالها» أمام المطار خارج مدينة تطوان.

•••

يكاد يكون المعقول كالخرافة، والواقع كالأساطير؛ فلقد قضينا يومين في السيارة، نصعد في الجبال، وندور حول رءوسها، ونهبط منها، ثم نعود إلى التصعيد والدوران، فندرك من الرواسي الألفين من الأمتار، ونجتاز من المسافات أربعمائة وأربعين كيلومترًا، بين تطوان ومليلية، فنرى الموت غير مرة في الطريق، ونطير فرحًا؛ إذ نصدمه الصدمة التي فيها النجاة لنا، فنتركه وراءنا مدحورًا مدفونًا، ومع ذلك فقد قلنا يوم وصلنا إلى مليلية: لا نعود إلا ماشين والله، أو طائرين.

ولقد طرنا — شكرًا للشركة الإيطالية — فطوينا المسافة، وهي مائتان وأربعون كيلومترًا في خط مستقيم، بخمس وخمسين دقيقة لا غير، فأين رب المسافات؟ وأين أخوه رب المشقات؟ وأين ذلك الذي صدمناه ودهسناه بدواليب سيارتنا؟

ولقد تعلَّمت أنا كذلك علمًا جديدًا؛ تعلمت أن الآلام تُقهَر وتُذَلُّ كالمسافات والمشقات، والموت نفسه؛ فبالرغم عمَّا قاسيته في السيارة، وخصوصًا في أكواع الطريق، هبوطًا وإسنادًا، والخض العنيف يحرك آلامي العصبية فتثقل حتى «الجاكتة» على كتفي وظهري، ويتهيج الوجع فيشتد ويدوم، فيوقف فيَّ التنبه الفكري، ويكاد يذهب بقوة المراقبة لما حولي من مشاهد طبيعية وقروية وبشرية؛ مع كل ذلك ما توانيت ولا وهنت إلا مرة واحدة. يوم خرجنا من سان خرخو في منتصف النهار وعدنا إلى التصعيد والدوران، فتألب الألم والتعب وحر الهجيرة عليَّ، فاسترخيت واستسلمت، أحسست بدوار في الذهن وتوتُّر، فتخدُّر في الأعصاب، فنمت — نمت من الإعياء الجسدي والذهني — وما استفقت حتى بلغنا أعالي جبال الريف، وما تغيَّرَ وجه الدنيا، ولا لون وجهها. فتحت عيني على أرض كلسية جافة عقيمة، وقد طمأنني الرفيق البستاني أننا لم نمر على قرية أو بيت أو أثر لإنس أو جن في الطريق.

خرجنا من مليلية، بعد أن زرنا في صباح ذلك اليوم جبل الحديد، فمشينا كثيرًا، طالعين في الجبل نازلين، وأعملت الذهن كثيرًا في الاستخبار والاستيعاب؛ فتعبت جسدًا وذهنًا، وحدث لأعصابي ما حدث في عقاب جبال الريف، بعد أن غادرنا مدينة سان خرخو فاستسلمت، نمت في السيارة إلى المطار، ودخلتُ الطيارة وأنا في حال مضنية.

ولكنها لم تَدُمْ غير بضع دقائق؛ فعندما بلغنا جو جبال الريف كانت المشاهدات تحتنا جديدة ومدهشة في تكوينها وأشكالها، فتنبَّهَ الذهن، وزال النعاس والتعب والألم جميعًا.

الألمُ عدوُّه العملُ لغرض ما إنساني، أو وطني أو شخصي. الألمُ عدوُّه القصدُ والمحجة والإرادة في إدراكهما. الألمُ عدوُّه كلُّ جديد بهيج في الطريق إلى المحجة. الألمُ عدوُّه الثقةُ بالنفس والإيمان بالله.

فلقد خبرت ذلك عندما وصلنا إلى واد لاو، وشاهدنا السجن هناك، وعندما دخلنا غابات الأرز في جبال غمارة، وعندما طرنا فوق جبال الريف. البهجة قوت القلوب، وفي القلوب قوة لا تُغلَب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤