القسم الثالث

في فنون الشعر الجارية على ألسنة العامة

وهي أربعة: الزجل، والمواليا، والكان كان، والقوما.

الفن الأول: الزجل

قال ابن خلدون: «لما شاع التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلامته، وتنميق كلامه، وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابًا! فاستحدثوا فنًّا سموه ﺑ «الزجل»، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءونا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة، وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية «أبو بكر بن قزمان»، وإن كانت قِيلت قبله كما سبق القول.»

وقال المُحبي في «خلاصة الأثر»: الزجل في اللغة: الصوت، وسُمِّي زجلًا؛ لأنه يُلتذُّ به، ويفهم مقاطيع أوزانه ولزوم قوافيه، حتى يُغَنَّى ويصوت، ولما كان هذا الفن من وضع العامة اتَّبعوا النغمَ دون مراعاة الوزن، وربما نظموا في سائر البحور الستة عشر، لكن بلغتهم العامية، ويسمون ذلك الشعر الزجلَ، كقول المرحوم الشيخ محمد النجار:

التَّبَصُّرْ فِي الْأُمُور كُلُّهْ مَكَاسِبْ
وشواهِدُ الحال بِتَحْسِينُهْ أَدِلَّهْ
والنَّصِيحَةُ بَثُّهَا فِي الْخَلْقِ وَاجِبْ
وَالرُّجُوعُ لِلْحَقِّ دِينْ فِي كُلِّ مِلَّهْ

دور

زِنْ بِمِيزَانِ الْفِكْرِ جَوْهَرْ وُجُودكْ
وَاعْتَبِرْ فِي نَشْأَتِكْ مَعْنَى الْأُخُوَّهْ
كُلُّنَا مِنْ نَفْسِ وَاحدَة قَدْ خُلِقْنَا
وَالتَّفَاوُت فِي الْعُقُول لَا فِي النُّبُوَّهْ
فِيه عُقُول مِثْل الذَّهَب تَأْخُذ عِيَارها
وَعُقُول يُمكن تِعَبَّى بِالْعُبُوَّهْ
وَالْمُرَبِّي الْمَعْرِفَةْ وَالْعَقْلِ قَابِلْ
والجهالة في بَنِي الإنسان مُخِلَّهْ

والنَّصِيحَة بثها … (دور)

اجتهادك في العمل مهر المعارف
والمعارف مهر تُخْطَبْ به المعالي
والأمور يمكن تجي صدفَهْ ولكن
طالع الصدْفَهْ كمان لُهْ بُرج عالي
اجتهِدْ في الزَّرْعِ تُحْصُدْ مَا زرعته
وبقاع البحر غُوصْ لَاجْلِ اللَّآلِي
واطلب المحبوبْ وإنْ عاقك زمانك
عن وصاله اتَّخذ للوصْل وَصلهْ
والنّصيحة بثها في الخلق واجب
والرجوع للحق دينْ في كُلِّ مِلَّهْ

دور

هيئة الناس في الوجود هيئة تطالبك
بالدخول فيها وكونك عضو منها
ما خُلِقنا عن عبثْ حتَّى نقَضِّي
عمرنا في لهو يخلي الحر عنها
لا تبع عاجل بآجل ما ضمنته
واغْنَمِ الفرصة وبع شِينها بزينها
لا تُسَوِّف ينهبك وقتك وتصبحْ
مَضْحَكَةْ للناس بحالة مضمَحِلَّهْ

والنصيحة بثها … (دور)

اطلب العلم الشريف واخدم رجاله
واصحب أهل المعرفة وأهل الفضائل
واتِّخِذْ صنعهْ وكُلْ مِنْ كَسْب يَدَّكْ
لا تَكُنْ كَلًّا عَلَى أَكْتَافِ الأرامِلْ
والسُّؤال لَوْ كُنت تأخذ ملك كِسْرَى
فِيه ذميم برْضُه واسْمُه أَمْر سَافِلْ
رَبِّنا أَنْشَاكْ وأعْطَاكْ عِينْ وعَافيَهْ
وَخَلَقْ أَعْضَاكْ لِتِشَغِّلهَا بشغلهْ

والنصيحة بثها … (دور)

الوطن حبُّه من الإيمان ويلزم
كل واحد على العموم يخدم بلادهْ
للصغير حب الوطن كونه يسلِّم
لِوَلِيِّ أمْره ويبقى في انقياده
من أجْلِ يتربَّى ويتعَلِّمْ ويعْرَفْ
كل أشياء في الكِبَر فيها رشاده
يلتقيه بعدين أبوه يقضي مصالحه
وإن خدمْ ينفع ويرفع كل خِلَّهْ
والنصيحة بثها في الخلق واجبْ
والرجوع للحق دين في كل مِلَّهْ

دور

والكبير حُبه بلاده بَذْل روحه
بل وبذل المال وما فيه المنافع
تجتهد في كل حاجة تكون مفيدة
من علوم أو من فنون أو من صنائع
أَو تآليف تنتفع منها الأهالي
أو تجارة أو فلاحة أو مزارع
أو سياسة في رئاسة لمنع أشيا
من الأمور اللي لنفس الحر ذِلةْ

والنصيحة بثها … (دور)

كل واحد يلزمه لابنه يعلِّم
القراءة والكتابة وكل حاجة
حتى إذا ما قد كبر يطلع مربي
لا يكون خبله من أولاد السذاجة
ثانيًا مِنْ خوف إذا فاته شبابه
ما يلاقي غير أمور أهل السماجة
ثالثًا مِنْ كُونْ طِلِعْ له نجل بعده
بدر مُشْرِق بالكمال بين الأهِلَّةْ

والنصيحة بثها … (دور)

العجب لمَّا يشوف مَرَّة ابن صاحبه
في وظيفة عال وله رتبه سَمِيَّهْ
عندها يعرف مقام العلم وأهله
والرياضة واللغات الأجنبية
عندها يعرف مقام فتح المدارس
في جهات شَتَّى وتظهر له المزيَّةْ
كم رجال بالعلم قد صارت أعِزة
ورجال بالجهل قد صارت أَذِلَّةْ

والنصيحة بثها … (دور)

اترك التقليد وعيش عيشة بلادك
لحسن التقليد عليك يحكم بأشيهْ
تاخذ الدِّين بالرِّبا وتصبح مفلِّس
والأمور تعطل وكانت قبل ماشيهْ
ينخدش عرضك وكل الناس تذمك
والمذَمة في قبيح العرض فاشيَهْ
والقبح مشيك مع الجاهل بقدرك
أو مع البطَّال ومن مشيه لِعِلَّهْ
والنصيحة بثها في الخلق واجب
والرجوع للحق دين في كل مِلَّهْ

دور

استمع قول النصيحة واقبل نصيحته
حيث تظهر أنها منه نصيحَهْ
شاور الناس في الأمور وافرز بعقلك
منتهى الأفكار واختار المليحهْ
والقُطِ الحكمة ولو من فم كافر
لا تقل له إنها منك قبيحهْ
واخدم الروح خدمة الجسم المدرَّج
في الحرير واعمل بأقوال الأجِلَّهْ

والنصيحة بثها … (دور)

ناس كتير السُّكْر جاب كاسها وكادها
والديون فوق راسها قدر الجيوشي
تلتقي الواحد بِسِمِّ الشرب يعدَم
وكمان أهل الديون ما يرحموشي
وإن وقع وقْعه وكان صاحب خِدَامه
يترِفتْ والناس كمان ما تخَدِّموشي
يلْحسِ الدُّقَّهْ وأصحابه تدعُّهْ
وإن مشى يمشي بكآبهْ وبمذلهْ

والنصيحة بثها … (دور)

يا سلام لما ييجي مرة المداين
يطلب المبلغ وبيده الكمبيالهْ
تنظر المديون ووشُّه يصير مصابغ
تتبدل حالته وتبقى شر حالهْ
ينذره بالحجز وإلا يشك غيرها
بالزيادة في طمع بيع الوكاله
ما يلاقي له خلاص غير وضع إسمه
لو يكون هرَّاب يشمَّع كل فتلهْ
والنصيحة بثها في الخلق واجب
والرجوع للحق دين في كل ملهْ

دور

يا سلام لما تشوف مرة مفلِّس
ضيَّع اللِّي كان معاه واللِّي حداهْ
يلتقيه صحبه يِزُوغ منه ويهرب
وكأنه في الحظوظ ما كان معاه
دا ادِّخار المال إلى وقت احتياجه
كنز مَخْفِي لو فِضِلْ كان التقاه
شوف بقى لو كان كمان جاهل وعادم
لاكتسابه قد تزيد فيه المبلَّهْ

والنصيحة بثها … (دور)

الديون بالليل هموم تِعيِّي وتمرِض
صاحب الفكرة وذلة بالنهار
والحسد الآخر قبيح وأكبر مصيبه
صاحبه لونه تملِّي في اصفرار
يورث البغضاء ويوقع في التغابن
بين أصحابه ويجلب كل عا
كلنا يلزم تكون بيننا محبه
نكتسب منها محاسن كل خصله

والنصيحة بثها … (دور)

يلزم الناس كلهم يمشوا بحالَهْ
طيِّبه والكل يبقوا شخص واحد
في مساعي الخير لهم سيره حميده
والمساعدة والمعاونه والتعاضد
ليه أنا ما مشيش بحاله ترتضيها
كل إخواني وأبقى لهم مساعد
الزمان يا ما بيورِّي الناس عجايب
تِقرف الليمون وتضحَّك كل ثكلَه
والنصيحة بثها في الخلق واجب
والرجوع للحق دِين فِي كل مِلَّهْ

دور

ليه أنا أنكر على ذي الفضل فضله
وأرى ذم ابن جنسي فرض عين
البرابره يكرموا ذا الفضل منهم
ومحمد يندهو له محمدين
يكرموه مع ألف من جنسه وناسه
والواحد ينكرم له ألف عين
البرابره تعرف النفع العمومي
وترى النفع النصيحه والمعامله
والنصيحة بثها في الخلق واجب
والرجوع للحق دين في كل مِلَّهْ

الفن الثاني: المَوالِيا

المواليا: هو فن من فنون الشعر وُضِع للغناء، قيل: إنَّ أوَّل من تكلَّم بهذا النوع بعض أتباع البرامكة بعد نَكْبَتهم، فكانوا ينوحون عليهم، ويكثرون من قولهم: «يا مَوْلَى.» وبالجمع «مواليَّا» فصار يُعرَف بهذا الاسم، كما سبق القول فيه، وقيل: إن أول ما جاء من هذا الفنِّ قول جارية من إماء البرامكة ترثيهم:

يَا دَارُ أَيْنَ مُلُوكِ الْأَرض أَيْنَ الْفُرسْ؟
أَيْنَ الَّذِينَ حَمَوْهَا بِالْقَنَا وَالتُّرسْ؟
قَالِتْ تَرَاهُم رِمَم تَحْت الْأَرَاضِي الدُّرسْ
خُفُوتْ بَعْد الْفَصَاحَة أَلْسِنِتهُم خُرسْ

وتركيب المواليا — على الغالب — من بيتين تُختَم أشطرهما الأربعة برويٍّ واحد، أما وزنه على الغالب؛ فمن بحر البسيط مع ثلاثة أعاريض يشبهها ضربها، وهي: «فاعلن وفعْلن وفِعلان»، لكنه كثيرًا ما تسكن في الحشو أواخر الألفاظ، ويدخل فيه من كلام العامة.

ومثال المواليا:

يَا عَارِفَ الله لَا تِغْفَل عَنِ الْوَهَّابْ
فَإِنَّهُ رَبُّكَ هُوَ الْمُعْطِي حَضَرْ أَوْ غَابْ
والقلب يقلب سريعًا يشبه الدولابْ
إياك والبرد يدخل من شقوق الباب

ومنه قول الحِلِّي:

مَنْ قَالْ جودة كفوفك والحيا مثلينْ
أَخْطَا القياس وفي قوله جَمَعْ ضِدِّينْ
مَا جُدت إلا وثغرك مبتسم يا زينْ
وذاك ما جاد إلا وهو باكي العينْ

الفن الثالث: الكان وكان

الكان وكان هو أحد الفنون الجارية على ألسنة العامة، قال الأبشيهي في كتابه «المستطرف»، والمحبي في «خلاصة الأثر»: للكان وكان نظم واحد وقافية واحدة، ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني، ولا تكون قافيته إلا مردوفة، وأجزاؤه المعهودة هي:

مُستفعِلن فاعلاتن مُستفعِلن مستفعلن
مستفعلن فاعلاتن مستفعلن فعلان

وأول من اخترعه البغداديون، وسمَّوه بذلك لأنهم نظموا فيه الحكايات والخرافات.

وقولهم: «كان وكان» كناية عن الأحاديث التي لا يُعتنَى بها، ثم نظم فيه بعض فضلاء بغداد — كالإمام ابن الجوزي وشمس الدين الكوفي — المواعظ والحكم وغير ذلك من المعاني، كقوله:

يَا قَاسِي الْقَلْبِ مَا لَك تسمع وما عِنْدَك خَبَرْ
وِمِنْ حَرَارة وَعْظِي قَدْ لَانَتِ الْأَحْجَارْ
أَفْنَيْتَ مَالَكْ وحَالَكْ فِي كُلِّ مَا لَا يِنْفَعَكْ
لَيْتَكْ عَلَى ذِي الْحَالَة تقلع عَنِ الْإِصْرَارْ
تحضر ولكن قلبك غايب وذهنك مشتغل
فكيف يا مُتخَلِّف تُحْسَبْ مِنِ الْحُضَّارْ
وَيْحَكْ تَنَبَّهْ يَا فَتَى وافْهَمْ مَقَالِي واسْتِمِعْ
فَفِي الْمَجَالِسْ مَحَاسِنْ تُحْجَبْ عَنِ الْأَبْصَارْ
يُحْصِي دَقَائِقْ فِعْلَكْ وَغَمْزِ لَحْظكْ يعْلَمُهْ
وَكَيْفَ تغرب عَنْهُ غَوَامِض الْأَسْرَارْ
تَلَوْتُ قَوْلِي وَنُصْحِي لِمَنْ تَدَبَّرْ واسْتَمَعْ
مَا فِي النَّصِيحة فَضِيحَة كَلَّا وَلَا إِنْكَارْ

الفن الرابع: القوما

القوما: هو أحد فنون المولدين، وله وزنان:
  • الأول: مركب من أربعة أقفال: ثلاثة متساوية في الوزن والقافية، والرابع أطول منها وزنًا، وهو مُهمَل بغير قافية.
  • والثاني: من ثلاثة أقفال مختلفة الوزن متفقة القافية، فيكون القُفل الأول منها أقصر من الثاني، والثاني أقصر من الثالث.

ودونك مثالًا نظمه الأبشيهي في مدح أحد الخلفاء ليُسحِّر به في رمضان:

لَا زَالَ سَعْدك جِدِيدْ
دَائِم وجدَّكْ سَعِيدْ
وَلَا بَرِحْتَ مُهَنَّا
بِكُلِّ صَوْمٍ وَعِيدْ
فِي الدَّهْرِ أَنْتَ الْفَرِيدْ
وَفِي صِفَاتَك وَحِيدْ
والْخَلْقُ شِعْرٌ مُنَقَّحْ
وَأَنْتَ بَيْتُ الْقَصِيدْ
يَا مَنْ جَنَابُهْ شَدِيدْ
ولُطْف رَأْيُه سَدِيدْ
وَمَنْ يُلَاقِي الشدِيدْ
بِقَلْبِ مِثْلِ الْحَدِيدْ
لَا زِلْتَ فِي التَّأْيِيدْ
فِي الصومِ وَالتَّعْييدْ
وَلَا بَرِحْتَ مُهَنَّا
بِكُلِّ عَامٍ جَدِيدْ
نَحْنُ لِذِكْرِكْ نُشِيدْ
بِقَوْلِنَا وَالنَّشِيدْ
ونبْعَتْ أَوْصَاف مَدْحكْ
عَلَى خُيُولِ الْبَرِيدْ
ظِلك عَلِينَا مَدِيدْ
مَا فُوق جُودكْ مَزِيدْ
وَكَمْ غَمَرْتَ بِفَضْلِكْ
قَرِيبَنَا وَالْبَعِيدْ
لَا زِلْتَ فِي كُلِّ عِيدْ
تَحْظَى بِجدٍّ سَعِيدْ
عُمْرك طَوِيل وقَدْركْ
وَافِر وظِلكْ قَدِيدْ
لَا زِلْتَ قَدْركْ مَجِيدْ
وظِل جُودكْ مَدِيدْ
وَلَا بَرِحْتَ مُوَفَّى
كَمَا يُوَفَّى الْوَلِيدْ
مَا زَالَ بِرُّكْ يَزِيدْ
عَلَى أَقَلِّ الْعَبِيدْ
وَمَا بَرِحْ جُودُ كَفِّكْ
مِنَّا كَحَبْلِ الْوَرِيدْ
لَا زَالَ بِرُّكْ مَزِيدْ
دَايِم وبَأْسك شَدِيدْ
وَلَا عُدِمْنَا نَوَالَكْ
فِي يَوْمِ فِطْرٍ وَعِيدْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤