السند الديني

القارئ لهذا الكتاب يحس أننا نؤكد الضرورة العظمي للمسن لأن يحتفظ بكرامته وكبريائه وحيويته، وأن يرتب من الظروف البيئية والاجتماعية ما يشعره بأنه عضو مفيد لا يزال له دور يؤديه على مسرح الحياة، وأن الأرض لم تنزلق تحت قدميه، وأنه لا يزال يتطور ويرتقي كما كان عهده في سنيه السابقة، وأن الدنيا ليست للشباب وحده.

وهذه الاعتبارات جميعًا تحملنا على الإكبار من شأن الدين، وأنه يجب أن يكون سندنا في الحياة. وذلك أنه مهما يكن مركزنا الاجتماعي وضيعًا فإن الدين يرفعنا ويكسبنا الكرامة البشرية التي نحتاج إليها كلما أرهقتنا الحوادث والتجارب. وبعد الخمسين تكبر قيمة الدين، لأن التأملات عقب هذه السن تتجه نحو البداية والنهاية، وحكمه الكون ومغزى الوجود، ومعني البر، وأشباه هذه المعاني التي قلما يقف الشباب في اندفاعه وعدوه للتأمل فيها. وهو — أي الشاب — لو أراد لما استطاع، لأن سنه لم تبلغ النضج والإيناع، فاختباراته قليلة، وأمداؤه الماضية قصيرة، وقصاراه أن يعرف أن الدين فلسفة نظرية. ولكن المسن الذي فات الخمسين والستين يحس أن المعرفة قد استحالت إلى عقيدة، وأن الدين ممارسة إنسانية عملية تندمج في أسلوب الحياة بل هي نفسها أسلوب الحياة. والرجل المتدين الذي جعل الدين مزاجًا كما هو معرفة وعقيدة هو اسمى طراز بشري، لأنه يعيش المعيشة الفنية في أعلى مراتبها، وهي مرتبة الدين. لأن حقائق الدين ذاتية تنتسب إلى الفنون والآداب في الأكثر، ولا تنتسب إلى حقائق العلم الموضوعية إلا في الأقل. ولذلك كثيرًا ما نقرأ أحد الكتب في الأدب لمثل تولستوي أو جوتيه أو المعري أو برنارد شو فنجد الروح الديني الإنساني يتغلغل في تفكير المؤلف كما يغمر جميع اتجاهاته.

والحياة الفنية العالية هي لهذا السبب حياة دينية. ولا عبرة بما يجد القارئ هنا من تناقض، كالجمع بين الاستهتار والإيمان عند الصوفيين، أو كالجمع بين الإلحاد والتدين عند المعري، لأن حقائق الدين ليست — كحقائق العلم — موضوعية، وإنما هي حقائق ذاتية. وهي لهذا السبب تختلف من شخص لآخر، كما يختلف الفنانون في التعبير بالشعر أو النثر أو الموسيقا أو الرسم، ولكنها تكاد تتفق في شيء واحد هو الشعور العميق بالمأساة البشرية وبالحب الصادق للخير والنشاط الدائم إلى البر. وكل هذا مثلًا يتضح في المعري على الرغم من إلحاده. والمعري — مثل فولتير — من القديسين الملحدين.

وهذه المعاني أيضًا تختلف لأن حقائقها ذاتية، فقد أفهم أنا من البر أنه مكافحة الإمبراطورية البريطانية التي تستهلك الحياة لإيجاد المال. وقد يجد غيري أن البر يعني أكثر من ذلك، أي مكافحة الفاقة أو المرض. ولذلك أشتغل أنا بالسياسة كما يشتغل هو بمساعدة الملاجئ أو المستشفيات، وكلانا متدين.

وعلي المسنين الذين لم تتوافر لهم الوسائل الماضية كي يتحمسوا للدين، ولم يصلوا إلى مراسيهم، أي إلى الموقف المطمئن من الكون؛ أن يمارسوا برًّا معينًا. فإنهم يكسبون من هذه الممارسة، البصيرة الدينية التي تكسبهم الكرامة البشرية. وقد يكون هذا البر محدودًا كما هي الحال عندما نساعد عائلة فقيرة أو نصالح شخصًا سبق أن أسأنا إليه. وقد يكون غير محدود، كما هي الحال عندما نكافح جورًا يقع على أمة أو طائفة.

والتدين لا يقتضينا أن نؤمن بدين معين، لأن جميع الأديان سواء في الدعوة إلى البر، وإلى أن نكون طيبين نعيش الحياة الطيبة. وهنا قيمة سيكلوجية أخرى للمسنين. فإن الرجل الطيب الذي يسلك السلوك الديني بلا تكلف أو قهر تنغرس في نفسه على مدى السنين عادات أخلاقية تطيل عمره كما تجعل حياته هنيئة سعيدة. فهو قنوع لا يحس توتر المطامع الجنونية، وهو بعيد عن الحسد الذي يتأكل النفس ويفتتها، كما هو بعيد عن الحقد والغيظ. وكثير من تصلب الشرايين الذي تمتحن به الشيخوخة يعود إلى الضغط العالي لها من مثل هذه العواطف الكريهة، وهي عواطف يندر أن يحسها الرجل الطيب المتدين الذي يمارس برًا. وقد أثبت الإحصاء في إنجلترا أن رجال الدين أكثر الطبقات تعميرًا، لأنهم يجدون الكرامة مع فقرهم فلا يطمعون ولا يتعبون في جمع المال أو بلوغ الجاه.

فليكن لكل مسن سند ديني كالجدار يستند ويطمئن إليه في حياته. وليكن سلوكه دينيًّا، لأن في هذا ضمانًا لسعادته وكرامته. ولنذكر جميعًا أن الدين هو فيتامين النفس، خاصة نفس المسن، الذي يكسبها الحيوية والنشاط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤