كلمة إلى الشباب

كان القصد الأول من وضع هذا الكتاب إرشاد الموظفين إلى الانتفاع بحياتهم عقب الستين؛ لأن المتأمل لكثير منهم عقب هذه السن يرثى لحالهم وهم يعيشون في خواء الذهن وركود الجسم. ولكني مع ذلك لم أقصر الكلام على الموظفين، بل توسعت إلى بحث الشيخوخة في مصر والعوامل التي ترقي المسنين أو تؤخرهم. وقد ترجمنا مع الإيجاز بحياة بعض الذين أسنوا، وترجحت أعمارهم بين السبعين والتسعين، وعاشوا في هذه السن المتقدمة في نشاط وحيوية يستمتعون بحياتهم وينفعون بها مجتمعهم.

وغاية المؤلف أن يحيل الشيخوخة من معانيها الحاضرة السيئة، والأوهام الشائعة حولها؛ إلى نضج وإيناع. وأن يرد الاعتبار إلى الذين جاوزوا الستين، وذلك ببسط الآفاق الجديدة التي يستطيعون أن يجدوا فيها المجال الحيوي لنشاطهم واختباراتهم وذكائهم.

والفائدة العاجلة من هذا الكتاب تعود إلى القارئ المسن. ولكن هذا لا يمنع الشبان من الانتفاع بقراءته لفائدته الآجلة. وهناك أشياء كثيرة يستطيع الشاب أن يتلفت إليها إبان شبابه فيجني منها الفوائد السلبية والإيجابية في شيخوخته. كما أن هناك عادات ذهنية ونفسية قد يشق على المسنين اتخاذها، مع سهولة ذلك على الشبان. نعني بهذا أن الشاب يستطيع أن يتعود، وهو في الأربعين أو الثلاثين، تلك العادات الملائمة لصحة ذهنه ونفسه التي تخدم سعادته ونشاطه بعد الستين والسبعين.

فيستطيع الشاب مثلًا أن يتجنب عادة التدخين، إذ من الشاق كل المشقة أن يقلع عنها في شيخوخته، إذا كان قد اعتادها في شبابه. ولم يختلف أحد من الباحثين في ضرر هذه العادة، وفي أنها تحول دون التعمير. كما أنه يسهل على الشاب أيضًا أن يحافظ على نحافته بتجنب الانغماس في الطعام وتعود الرياضة. والنحافة عامل خطير في الشيخوخة المثمرة وفي التعمير أيضًا. ويجب على الشاب أن يجعل القناعة في الطعام مزاجًا لا يحتاج إلى التفات خاص، حتى يقبل أو يصد على غير وجدان. وذلك لا يتحقق إلا بالعادة التي نمارسها أولًا ونحن نملكها، فتعود هي وتملكنا وتلازمنا سائر حياتنا.

وكذلك يجب على الشاب أن يتعلق بالرياضة، ويختار منها تلك التمارين التي تلائم معيشته، والتي يستطيع أن يؤديها وهو في منزله، بل في غرفة نومه في كل يوم. وكثير من الناس لا يحتاجون إلى الرياضة، لأن أعمالهم اليومية تطالبهم بنشاط يكفي حيويتهم. ولكن جميع الذين يمارسون الكتابة، كموظفي الحكومة أو المتاجر، ومن يؤدون أعمالًا لا تحتاج إلا إلى حركات خفيفة، هؤلاء يحتاجون إلى ممارسة الرياضة اليومية. ويجب أن تكون الرياضة علاجية جمالية، أي يجب أن نزيد الالتفات فيها إلى بعض الأعضاء دون بعض، حتى نصل منها إلى البنية السوية التي لا تقوى في ناحية وتضعف في أخرى.

ومن أحسن العادات التي ترقع من شأن الشيخوخة، وتكسبها إيحاء للرقي الشخصي والصحة النفسية والجسمية، عادة التأنق. والتأنق جميل في الشاب، ولكنه أجمل في الكهل والشيخ. ونعني التأنق في كل شيء، في اللباس بالعناية بالهندام، وفي الطعام بالعناية بما نأكل شكلًا وموضوعًا، وفي اللغة والسلوك العام. وكلنا نعجب بالشاب الأنيق، ولكنا نعجب أكثر بالشيخ المتأنق في هندامه وسلوكه. وليس أجمل من السيدة التي بلغت السبعين أو جاوزتها وهي تتمتع بأناقة الهندام واللغة والإيماءة. تتأنق في طعامها، وتتأنق في حديثها، وتعني بتصفيف شعرها الأبيض، وبالوردة في صدرها. كما أننا نشمئز من الرجل والمرأة المسنين عندما نرى فيهما إهمالًا ورثاثة: الشعر مشعث، والبذلة واسعة مترهلة، مع إهمال في عادات الأكل أو الحديث. ولا نستطيع أن نكون عادة التأنق هذه إلا في أيام الشباب، ثم تنمو معنا العادة وتلزمنا أيام الشيخوخة.

والأثر الإيحائي لهذه العادة كبير، لأنها تجعلنا في شباب دائم، وتكسبنا زي الشباب وإعجاب الجمهور. هذا الإعجاب الذي يحتاج إليه كل من تجاوز الستين.

وقد سبق أن قلنا إن اتخاذ هواية بعد الخمسين قد يشق بعض المشقة، ولذلك يجب على الشاب أيضًا أن يتعلق بهواية ما في شبابه، وأن ينفق عليها بسخاء، حتى إذا وصل إلى الشيخوخة وجد وقته مملوءًا خصبًا بالعمل المثمر المحبوب. وقد أكدنا وكررنا أن خير الهوايات في الشيخوخة هو الثقافة، لأنها ميدان رحب لا نصل إلى آخره. ولا نشبع منه، وهو يشعرنا بالنمو والرقي كلما ازددنا توسعًا فيه.

والشاب الذي يعنى بصحة نفسه وجسمه وذهنه قبل الخمسين، ويكون قد تعود عادات حسنة ملائمة للشيخوخة، لا يصعب عليه أن يصل إلى المئة وهو في نشاط الشباب وذكاء الفيلسوف. وهذا هو حال كثيرين الآن في العالم، وهم الذين أسعدهم الحظ ببيئات اجتماعية حسنة ساعدتهم في شبابهم على المعيشة الصحية وعودتهم العادات التي تلائم الشيخوخة.

ويستطيع القارئ الشاب أن يتأمل زملاءه من الشبان ويتكهن بمصيرهم بعد الستين. فهناك الشاب الذي يقضي وقته في ألعاب الحظ على القهوة، وهناك ذلك الآخر الذي يسرف في التدخين، وهناك الثالث الذي استكرش قبل أن يتم الأربعين. فكل هؤلاء سوف يجدون المشقة العظيمة في الشيخوخة، وقل أن يبلغوها بلا مرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤