مقدمة

أردتُ في فصول هذا الكتاب أن أتعمَّق حياتنا لأصِلَ إلى جذورها التي منها انبثق جذعُ تلك الحياة، ثم من الجذع تفرعت الفروع وأورقت وأثمرت ثمارها؛ ثم لم أقف عند الجذور، بل مضيت في الحفر لأصِلَ إلى البذور الأولى التي فعلت فعلها في خفاء التربة، حتى أخرجتُ الجذور؛ بيد أنِّي في تلك العملية التحليلية، آثرتُ أن أصطنع فيما أكتبه، ذلك الأسلوب الذي دأبت على اصطناعه في كثيرٍ جدًّا مما كتبته خلال خمسة عقود من السنين أو ما يزيد قليلًا عن هذا العدد، وهو الأسلوب الذي تمتزج فيه ذاتُ الكاتب وخبراته وآلامه وآماله، مع الأفكار التي يُراد عرضها على الناس، ومثل هذا المزج هو إحدى سمات المقالة «الأدبية»؛ فللمقالة «الأدبية» سماتٌ كثيرة أخرى، ليس هذا مكان عرضها تفصيلًا، لكن حسبنا الآن أن نذكر منها هذه السمة الواحدة؛ لأنها قد تُعين القارئ على تقويم ما يقرؤه في هذا الكتاب وفي غيره مما صدر لهذا الكاتب، على أن ما قد نشره هذا الكاتب في هذا الكتاب، وفي كثيرٍ غيره، من فصول تبدو متفرقةً في صورة «مقالات»، وهي في حقيقتها أجزاء من موقف واحد يستهدف هدفًا أساسيًّا واحدًا؛ أقول بأن ما قد نشره الكاتب في هذا الكتاب، تتفاوت في فصوله درجات المزج بين «ذات» وخبراتها، و«موضوع» وما يشتمل عليه من أفكار يُراد عرضها؛ ومع هذا التفاوت تتفق الفصول كلها في حقيقة معينة، هي أنها «أفكار» عاشها الكاتب وعاناها، وكلها يدور حول تحليل حياتنا تحليلًا يردُّها إلى بذورها وجذورها، لتنشأ فرصةٌ أمام أبصار المبصرين أن ترى أين تكمن القوة وأين يكمن الضعف.

فكانت البذرة الأولى، هي حقيقة «المصري» ما هي؟ من أي العناصر تركَّبتْ «هويته» على امتداد التاريخ؟ ثم كيف نرى حياته الآن من هويته تلك، وكان مختصر الجواب أن جوهر المصري هو أن يحيَا حياته الدنيا زراعةً، وصناعةً، وفنًّا، وحربًا، وسلْمًا، أن يحيَا تلك الحياة الدنيا بكل أفراحها وأحزانها، على أن ينظر إليها من منظورٍ دينيٍّ يُبيِّن له أين تتعثر به الخُطَى وأين تستقيم؟ ولقد تغيرت عليه العقائد الدينية، لكن بقيَ «التدين»، يصاحبه دائمًا، ولبُّ «التدين» — مع اختلاف العقائد — هو أن ينظر إلى الحياة الدنيا من حيث هي مقدمةٌ لحياة الخلود، وهي مقدمةٌ ضرورية؛ لأنها تهيِّئ للإنسان مسرح العمل الذي على أساسه يكون له في حياته الآخرة ثواب أو عقاب، فهي — إذن — حضارة أخلاقية، من عمق أعماقها، وعند هذا الأساس العميق تتلاقى مصر مع سائر أجزاء الوطن العربي الكبير، كما تتلاقى معه بعد ذلك في سائر المقومات الحضارية.

إن ثبات الهوية وديمومتها، لا ينفيان التغير مع متغيرات العصور، ولقد ضربنا لذلك مثلًا ذلك السمَّاك الذي أخذت ألواحُ قاربه تُهترئ واحدًا بعد واحدٍ، وأخذ هو كلما اهترأ واحدٌ منها، استبدل به لوحًا جديدًا، حتى جاء يوم لم يَعُد في القارب شيءٌ مما كان فيه أول عهده، ومع ذلك فلا خطأ في قولنا إن القارب لم يزل هو القارب الذي كان، لماذا؟ لأن «الصورة» الأساسية، أو «الهيكل» الأساسي بقيَ على حاله، فخلع ثباتُ الهيكل ثباتًا على هويته، وهكذا تكون هوية الأمة، تتغير عناصر حياتها، لكنه إذا بقيت «صورة» العلاقات بين أفرادها قائمةً، قلنا إن الهوية ما زالت على حقيقتها الأولى برغم ما قد تغيَّر من عناصر حياتها.

وننظر إلى حياتنا اليوم، فلا نتردد لحظةً واحدة، في أن صورة العلاقات التي تربط المواطن بالمواطن قد تغيرت في صميمها، حتى يكاد الأمر يتحول من كون الأمةِ أمةً واحدة، إلى كونها تجمُّعًا من أفراد، كل فردٍ منهم يسعى إلى الحصول على أكبر نصيبٍ ممكن من «الغنائم»، بأقل قدرٍ ممكن من العمل، ومن هنا كان السابقون في هذا المضمار، هم أبرع الناس حيلةً ودهاء، وليس أرفعهم ذكاء وعلمًا وعطاء، وما يُقال عن أفراد الشعب الواحد من شعوب الوطن العربي، يُقال عن الشعوب العربية بعضها إزاء بعض، فلم تَعُد الأمة العربية أمةً بينها أواصر الأمة الواحدة، بقدر ما أصبحت عددًا من الشعوب يمكر شعبٌ منها بشعبٍ ليظفر دونه بالغنيمة، ولولا بقية جوهرية بقيت، هي أن ذلك التفكك أكثر ظهورًا على صعيد السياسة منها على صعيد الثقافة، لقلنا إن الرحمن قد أوشك بنا على الفناء.

وعند هذه النقطة ننتقل إلى «البذرة» الثانية من بذور حياتنا، فلماذا فقد الفرد الواحد من المواطنين في الشعب الواحد، إحساسَه «بالآخرين»؟ ما الذي غرس في صدورنا ذلك الضلال الذي شوَّه الرؤية عند كل فرد حتى ليحسب أنه وحده في هذه الدنيا، له أن يحصد الحصادَ كلَّه لشخصه وحده، فإذا كان هنالك «آخرون» فإنما هم «أدواتٌ» تُستغل لصالحه وتُستثمر لزيادة كسبه، وذلك — بالطبع — إذا استطاع أن يحقق لنفسه ذلك الوهم الكبير؛ إذ هو قد يصطدم بمن هو أشدُّ ضراوةً وأمكر حيلةً، لعل ما ساعد الأفراد على هذه الأنانية المخيفة في حياتنا الاجتماعية اليوم، هو فقدان الفكرة الموحدة بيننا عن حقيقة «الإنسان»، ما هي؟ لقد درج معظم التاريخ الماضي على أن جوهر الإنسان هو «عقله»، وحتى الديانات الكبرى، التي جاءت إلى أهل الأرض وحيًا من السماء، إنما جاءت لتقول لهم إن الجانب الذي كرَّم به الله الإنسان هو أن وهبه عقلًا، يميِّزه عن سائر الكائنات، ولو بقينا على هذه العقيدة في حقيقة الإنسان، لأرسينا المعاملات الاجتماعية على أسسٍ يرضى عنها منطق العقل، وأول ما يفرضه علينا ذلك المنطق، هو أن الإنسان اجتماعيٌّ، بطبيعته، لا يتحقق له وجود إلا إذا نظر إلى نفسه من حيث هو عضوٌ في جسمٍ كبير، دون أن تقلل هذه العضوية من حقيقته فردًا مسئولًا. وانظر إلى أعضاء الكائن الحي: القلب قلب يؤدي وظيفته كاملةً، لكن هذا الأداء نفسه ما كان ليكون ذا قيمة، إذا لم يَقُم بتلك الوظيفة ليمدَّ سائر الأعضاء بزادٍ من الدم لتحيَا، وهكذا قُلْ في الرئتين، وفي الكبد، وفي المعدة، وفي كل عضو من أعضاء البدن، وتلك العلاقة هي نفسها ما يفرضها منطق الفعل، على أفراد المجتمع، لكنه جاء عصرنا هذا بما يُبلبل الفكر عن حقيقة الإنسان، فمِن قائل إنه كذا، ومن قائل إنه كيت، مما يندرج تحت عنوان «اللاعقل»، حتى أصبح «اللامعقول» أساسًا ينافس المعقول، وقد يغلبه على أمره ليسود، ولقد ساد اللامعقول في كثير من جوانب حياتنا، فكان من نتائج ذلك أن ظنَّ الفرد الواحد أنه يستطيع أن يغضَّ النظر عن سائر الأفراد، كما ظن الشعب الواحد من الشعوب العربية أنه يستطيع أن يُسقط من حسابه سائر الشعوب.

وعند هذا التنافر الحاد بين الأفراد في الشعب الواحد، وبين الشعوب في الأمة العربية الواحدة، ننتقل إلى البذرة الثالثة وهي خاصة بالثقافة والمثقفين في حياتنا القائمة، فإذا أبعدنا عن المعاني الكثيرة التي تُفهم بها كلمة «ثقافة» ذلك المعنى الذي يجعلها مجموعة العناصر كلها، التي من تركيبها في نسيج واحد، ينشأ نمط الحياة التي تحياها مجموعةٌ معينة من الناس، بقيت لنا عدةُ معانٍ أخرى، تريد ﺑ «الثقافة» أن تُشير إلى خصائص نوعية تتميز بها مجموعة من أفراد الشعب لا تشمل إلا نسبةً قليلة من أبنائه، هي تلك القلة التي توجِّه اهتمامها — إبداعًا أو استقبالًا للمبدعات — نحو الأدب، والفن، والفكر، والقِيَم الضابطة للسلوك، والرؤية العامة التي على أساسها ينظر الإنسان إلى الكون وإلى الحياة بصفة عامة، وإلى حياة الإنسان في أركانها الأساسية بصفة خاصة.

وهذه المعاني النوعية للثقافة هي التي نقصد إليها بحديثنا هذا، وليس على واحد معين منها إجماع؛ إذ نجد الرأي في ذلك قد تفرَّق بين أعلام المفكرين في عصرنا هذا، فضلًا عمَّا اختلف به في العصور الماضية، فمَن هو «المثقف» في حساب عصرنا؟ قائلٌ يقول إنه ذلك الإنسان الذي يتميز بحب الكشف عن سر الحياة في شتى صُوَرها، وفي صورتها الإنسانية بصفةٍ خاصة، فهو لا يكتفي بالوقوف عند أسطح الكائنات وظواهرها، بل يريد أن ينفذ خلال تلك الأسطح الظاهرة ليرى دوافعها وجوهرها من باطن، فهكذا يفعل الشاعر في البحث عن دخائل النفوس، وهكذا يفعل الروائي والمسرحي والفنان التشكيلي والموسيقي، كلٌّ بالمادة الوسيطة التي يستخدمها، وهكذا أيضًا يفعل المتلقي لهذه الأشياء جميعًا، فهو وإن لم يكن قد أبدعها بالدرجة الأولى، يحاول أن يُعيدَ إبداعها في نفسه حيث يتلقاها بالدرجة الثانية، وسواء أكان صاحب الاهتمام مُبدعًا أم كان مُتلقِّيًا، فإنه في أعماق نفسه يبحث عن وسيلةٍ تجمع له كلَّ الرؤَى وجميع المبدعات في العصر الواحد تلتقي في هدف واحد، هو غاية أبناء ذلك العصر، فإذا لم تكن هناك غاية معلومة قد أضمرت فيما يبدعه المبدعون ويتلقَّاه المتلقون، لم نجد في دنيا الثقافة إلا هشيمًا أعوزه أن يكتمل في كيانٍ حيٍّ موحَّد.

ومثل هذا الهشيم هو الذي نراه في حياتنا الثقافية اليوم؛ فقد تجد أعمالًا مفردة كثيرة لكلٍّ منها قيمتُه في ذاته، لكنه يتعذَّر عليك أن تستخرج غايةً مشتركة يستهدفها المثقفون في ضمائرهم، وإن لم يرَوها ظاهرة في الوعي المباشر. وكيف نطمع في مثل هذه الغاية الموحدة، إذا نحن اختلفنا أولًا على طبيعة «الثقافة» ذاتها، واختلفنا ثانيًا على هدفها، فطبيعتها تتنازعها آراء، منها ما أسلفنا ذكره، وهو أن يتجه المثقف باهتمامه إلى مجرد الكشف عن دوافع الإنسان، ومنها ما يترك الإنسان وغموضه ليحصر انتباهه في «لغته»، وهنا سيجد غموضًا شديدًا في فهم الناس للمدركات الأساسية التي تدور حولها رحَى الحياة، وعندئذٍ تكون المهمة الأولى للمثقف أن يُزيل ذلك الغموض، تارةً بالتحليل المنطقي للمعاني، وطورًا بتجسيد تلك المعاني الكلية في أفراد روائية أو مسرحية أو شعرية، ومرة ثالثة تجد مَن يريد بالثقافة «تنويرًا»، ويُراد بالتنوير هنا أن تزداد معارف الناس عن دنياهم بصفة عامة، وأن ترسخ عندهم النظرة «العقلية» لأمور حياتهم بصفة خاصة، وقد كنا نتمنى لحياتنا الثقافية أن تأخذ بما شاءت من تلك المعاني؛ لأنها جميعًا تؤدي إلى الغاية، لكننا لا نجد شيئًا من هذا، وهنا نبحث عن «الغاية» من حياتنا كما تريدها لنا حياتُنا الثقافية، فإذا هي غائبة؛ إذ تتقسمها وجهاتُ نظر متناقضة فتمزقها، وحسبنا أن بعضنا يجد غايته في الرجوع القهقرَى، وبعضنا الآخر يراها في استباق مستقبلٍ مأمول.

وهنا نلقط الخيط من أيدي الداعين إلى العيش مع الأسلاف في ماضيهم، فنجد أنفسنا أمام البذرة الرابعة من بذور حياتنا الثقافية، وهي «التراث» وما نُثيره حوله من ضجة تصمُّ الآذان فلا تُصغي ولا تسمع؛ لأن هذا الاسم إنما يشير إلى مسمًّى هو أوسع جدًّا وأعمق جدًّا من أن ينحصر في موضوع واحد يُتيح لنا التحدث عنه متفقين أو مختلفين، فإذا نحن حصرنا لكل فئة منا ميدانها أو ميادينها التي تهمُّها من عالم التراث، ثم دققنا النظر بعد ذلك، وجدنا أنه إذا ما عاد أحدُنا إلى الموروث في ميدان اهتمامه، فهو — أولًا — قد لا يجد نفسه غريبًا، لما يربطه بذوق أسلافه في مذاق مشتركٍ، وهو — ثانيًا — يجد أن مشكلات أسلافنا وإن اختلفت عن مشكلاتنا اليوم من حيث الموضوع، فهنالك جانبٌ مشترك يربطنا بهم، ولقد طبَّق كاتب هذه السطور التجربة على نفسه، وعاد ليعيش لحظةً مع أصحاب الفكر الفلسفي في مشكلة عرضوها واختلفوا في أمرها، فوجد نفسه منسجمًا معهم في جوهر الموقف؛ لأن المشكلة كانت عندهم هي هذه: أيأخذون عن فلاسفة اليونان منطقهم؟ أم أن الأمر في المنطق مرتبطٌ باللغة، وبالتالي لا يكون المنطق اليوناني صالحًا للغة العربية؟ فلم يجد هذا الكاتب عندئذٍ فرقًا جوهريًّا بين سؤالهم وسؤالنا، فما زال السؤال واردًا يحتمل اختلاف الرأي؛ إذ نسأل اليوم: أنأخذ عن فلاسفة الغرب؟ أم أن هؤلاء الفلاسفة يفلسفون حياةً ليست هي حياتنا؟

لكن الدرس الهام الذي خرج به هذا الكاتب من تلك التجربة، هو أننا لو عقلنا ألفينا أن أسلافنا وهم يعالجون تلك المشكلة، التي هي نفسها المشكلة التي نتحدث عنها اليوم على أنها مشكلة «التراث» والحفاظ عليه، نراهم يحصرون المشكلة فيما يمسُّ جوانب ثقافية قائمة بالفعل عندهم، ولم يجاوزوا ذلك ليجعلوها مشكلةً تشمل كذلك الجوانب التي لم يكن في حياتهم مثيل لها، فلم يسأل أحدهم: أنأخذ عن اليونان ما قد وصلوا إليه في علوم الرياضة، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والنبات، والحيوان وغير ذلك؟ بل هم لم يسألوا هذا السؤال عن مشكلات إنسانية اجتماعية وجدوا حلولًا لها عند اليونان ولم يكن لها مثيلٌ عندهم، ولك أن تراجع كتاب «الأخلاق» ﻟ «مسكويه»، فتراه يأخذ عن التصور اليوناني لعلم الأخلاق أصولًا كثيرة، فلم يُقلقه هذا الأخذ ولا أقلق سواه مع أن الموضوع خاصٌّ ﺑ «الأخلاق» وتنظيرها، مما كان يمكن للمعترض على متابعة اليونان فيه أن يجد الكثير الذي يعترض به؛ إذ «الأخلاق» تمسُّ صورة الحياة الإنسانية في الصميم، فإذا كان هذا هو موقف القدماء في مشكلة «التراث» أيامهم، أليس الأجدر به أن يكون هو موقفنا اليوم إزاء المشكلة ذاتها؟

ومن الحديث عن «الثقافة» ومعانيها التي تحققت في حياتنا أو لم تتحقق، نخصص القول الآن حول عنصر ثقافي واحد، لعله أخطر العناصر جميعًا؛ لأن إصلاحَه إصلاحٌ للوقفة الفكرية كلها، وفسادَه فسادٌ للوقفة الفكرية كلها أيضًا، ألا وهو عنصر «اللغة»، ولتكن هذه هي البذرة الخامسة من بذور الشجرة الثقافية كما هي قائمة بيننا، ولسنا نريد باللغة هنا نحوها وصرفها واشتقاقاتها، كلَّا بل نحن لا نريد التحدث عنها من حيث صوابها أو انحرافها عن الصواب، في هذه المفردة من مفرداتها أو تلك، في هذا التركيب اللغوي أو ذاك، وإنما نريد «اللغة»، في فلسفتها ومنطقها، فها هنا وقع ما وقع مما تعرضت له حياتنا الثقافية كلها من حيث جانبها المتصل ﺑ «الكلمة».

والذي يعنينا الآن هو أن نصبَّ الضوء على أمرين، ومنهما أمرٌ يتشعب شعبتين. أما الأمران فهما أن هنالك ضربَين من استعمال اللغة؛ فهي إما تشير إلى واقعةٍ من وقائع العالم من حولنا، وعندئذٍ يستطيع المتلقِّي أن يراجع صدْقها على الواقعة المشار إليها، وإما تشير إلى حالة خاصة عند المتكلم، كأن يقول إنه يشعر بالظمأ، وعندئذٍ ليس في وسع أحد أن يراجع قوله تصديقًا وتكذيبًا، ووجه الخلط الذي نغرق فيه حتى أذقاننا، ونتعرض — بالتالي — لما ليس له حدود من التخبط الفكري، هو أن المتكلم أو الكاتب قد يقول عما يشعر به هو شعورًا خاصًّا، ثم يُلزم الآخرين بأن يتقبَّلوا قوله دون أن يكون لهم حقُّ المعارضة بأن ما قاله بضاعةٌ خاصة به، هو حرٌّ في قبولها، والآخرون بدورهم أحرارٌ فيما يشعرون به أو لا يشعرون.

على أن هذا الجانب الشعوري يعود فينقسم قسمين، أولهما أن يجيء الكلام من النوع الذي يتبادل الناس به أحاديثهم بغير قيدٍ ولا شرط، والثاني هو أن يصبَّ الكلام في صورة تجعله «أدبًا» فيكون قصيدةً من الشعر، أو رواية أو مسرحية أو ما شئت، وعندئذٍ تكون له ضوابط يمكن على أساسها أن يناقش من الآخرين قبولًا ورفضًا.

كل هذه الفوارق تسقط من حسابنا، وتنتهي باللغة في حياتنا الثقافية إلى موقفٍ قد يخلو فيه الكلام من أي معنى يتلقَّاه المتلقي، ومع ذلك فلا المتكلم يُدرك ذلك ولا المتلقي يعرف كيف يكون على حذرٍ — وخلاصة ما ينتج لنا عن ذلك كله هي أن اللغة التي من شأنها — إذا أُحسن استخدامها — أن تُنير الطريق إلى معرفة صحيحة بالعالم، قد أصبحت في حالات كثيرة وسيلةَ إظلام يلفُّنا بضبابه ونحن على وهمٍ بأننا في مسقط النور!

ونكتفي من «البذور» بالبذور الخمس التي ذكرناها، مما كان سببًا في أن تصاب شجرة الثقافة بشيء من العقم فلا تُثمر، أو هي تثمر حشفًا من حيث أردنا لها أن تُنتج أطيب الثمر، فقد جعلنا البذرة الأولى هويةً تحطمت عناصرُها حتى لقد فقد الفردُ انتماءَه، وجعلنا البذرة الثانية فهمًا مخطئًا للإنسان، بحيث أخرجناه من مدار العقل لنضعه على أفلاك اللامعقول، فتقطعت وسائل التفاهم بين الناس.

وكانت البذرة الثالثة «ثقافة» بلا غاية يتغياها المبدعون، كلٌّ بوسيطه الخاص بميدانه، فانعكس هذا التيه على المستقبلين، وكانت البذرة الرابعة عن «التراث»، فقد جعلناه همًّا لنا بالليل ومشغلةً لنا بالنهار؛ لأننا أخطأنا تحديد البؤرة التي يجب أن يتجه إليها البصر، وأما البذرة الخامسة فهي طريقة استخدامنا للغة في حياتنا الفكرية؛ إذ تحولت على أيدينا أداة لا تؤدِّي، وكان الأساس فيها أن تكون أداة توصيل من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ — ومن هذه البذور الخمس تفرعت جذور:

فكان أول ما تفرع عنها أن العملية «الفكرية» في أي ميدانٍ من ميادينها، لم تجد الغذاء الصحي الذي يغذيها فتنمو وتنتج، وإذا كانت مقومات الحياة الثقافية أربعة أساسية: دين وفكر وأدب وفن، فإن الفكر في حياتنا هو أضعف الأربعة، بلا نزاع؛ فقد تجد بين الناتج المتصل بالدين أو الناتج الأدبي ما يستحق النظر، وقد ترى في حصاد الإبداع الفني — تشكيلًا وتعبيرًا — ما هو جديرٌ بالعرض وبالوقوف عنده كثيرًا أو قليلًا، أما جانب الفكر الخالص، الذي يستهدف تنظير الحياة العملية، فقلَّما تعثر له على أثرٍ واحد تعرضه على الناس وأنت مزهو بأعلام أمتك، لقد حدث لكاتب هذه السطور مرتين أن طلبتْ منه هيئات دولية وجامعية، أن يُرشدَها إلى ثمارٍ «فكرية» من محصولنا، لتُترجم إلى لغات أخرى فيقرؤها الراغبون في المستويات العليا من المعالجات النظرية لمشكلات هذا العصر، فلم يجد ما يقدمه اللهم إلا نتفًا يجمعها من هنا ومن هناك، لا تنفع أحدًا ولا تشفع لأحد، لماذا؟ لأن الغالب فيما نعددهم من أعلامنا «مفكرين» أن يكونوا أحد رجلين: فإما رجلٌ أحبَّ الماضي فجعل فكْرَه عرضًا لروائع السلف، وإما رجلٌ يميل إلى ثقافة الغرب قديمِه أو حديثه، فيعرضه كذلك عرضًا يشيد به أو ينقده من بعض جوانبه، وإننا لنرى في كلتا الحالتين عملًا مفيدًا نحمد الله عليه ونُثني على مَن قاموا به؛ لأنه قدَّم إلينا زادًا نقتات عليه، لكن ذلك كله شيء، ومواجهة المشكلات الكبرى في حياتنا مواجهة مباشرة بالتحليل المستقل، وبالنظر النافذ، وبالوصول إلى نتائج تستحق التقدير والنظر شيءٌ آخر.

ولا عجب أن رأينا حياتنا الفكرية تخلو خلوًّا واضحًا من الناقد للفكر، فنقد الفكر شيءٌ يختلف عن نقد الأدب والفن، وليس كلُّ هذا النقد للأفكار مقصورًا على مراجعة «المضمون» الفكري، بحيث نصفُه بالصواب حينًا وبالخطأ حينًا، وإلا فمثل هذا النقد المضموني موجود بيننا، فلن يعدم المفكر السياسي، أو الاقتصادي، أو التربوي، أوما شئت من ميادين النظر، أن يجد مَن يراجعه ليقول له: لقد أصبت أو أخطأت في كذا وكيت، ولكن الذي يغيب عنَّا غيابًا شبه تام، هو أن هذا النقد المضموني لا يُجدي كثيرًا إذا لم يتعمق الناقد عمله النقدي، ليصل إلى هياكل الأفكار التي عليها بُني المضمون المعين، وقد تسأل: وما قيمة تلك الهياكل ما دمت على صواب في المضمون المعد للتطبيق؟ والجواب هو أن المضمون المركب على هيكلٍ نظريٍّ متشقق الركائز والأركان، قد يبدو صحيحًا في مواقف عملية معينة، وفجأة يظهر لنا بطلانه حين يفاجئنا موقفٌ جديد لم نكن قد عهدناه، وانظر إلى مراحل التاريخ الفكري تجد أن الأئمة العمالقة كانوا يُسدلون ستارًا على عصرٍ فكري لم يَعُد صالحًا، ليرفعوا ستارًا آخر عن عصر فكري جديد، تجد أنه لم يكن ما يعنيهم بالدرجة الأولى خطأ في مضمونات معينة وصوابًا في مضمونات أخرى، بل الذي كان يعنيهم هو «المناهج» التي تستخدم في عمليات التفكير، فالمنهج المعين قد يظل قرونًا كثيرة وهو محسوب في أنظار العلماء على أنه المنهج الصحيح، بل على أنه المنهج الوحيد، حتى إذا ما تطورت بالناس أوضاعُ الحياة، بدَتْ لهم مواقف جديدة لا تنفع فيها المناهج المعروفة، وهنا يظهر العملاق الذي يتفتق ذهنه عن منهج جديد للنظر، يصلح لمعالجة الموقف الجديد، فيكون ذلك إيذانًا بدخول التاريخ الفكري عصرًا جديدًا: ومن هؤلاء العمالقة الفاتحين للعصور الفكرية الجديدة، سقراط قديمًا، وديكارت في النهضة الأوروبية، وأينشتين في عصرنا القائم، وإذا كنت أعيبُ على حياتنا الفكرية خلوها تقريبًا من «ناقد الفكر» بهذا المعنى الذي بيَّنَّاه، فلست أطمع في أن يظهر منَّا مَن يُقيم منهجًا جديدًا لعصر جديد بالنسبة إلى العالم أجمع، بل كل ما أطمع فيه هو أن أجد الناقد الفكري الذي يحثُّ قومه على متابعة المنهج الذي هو محور الحياة الفكرية — علمًا وغير علمٍ — في عالم اليوم، وبغير هذا التنبه إلى «الهيكل» الأساسي لعمليات التفكير، سنظل يقاطع بعضنا بعضًا، ويعترك بعضنا مع بعض، على مضمونات فكرية معينة، يقول أحدنا إنها صحيحةٌ، ويزعم آخر أنها باطلةٌ، مع بقاء كلا الرجلين على هيكل فكري ذهب زمانه وهو لا يدري.

وما دام أساس العملية الفكرية منهارًا، فلا أمل في أن يُقام لنا في دنيا الفكر النظري بناءٌ سليم، وحسبك أن تراجع أمثلة عملية من مجالات الفكر في أي ميدان تختاره، لترى كم هي مزالق الخطأ التي تنزلق عليها إلى الباطل عن غير وعيٍ منا: فنستخدم أسماء في بحوثنا «العلمية» (أو هكذا يسميها) لا تحديد لمعانيها فتخرج لنا أي نتيجة تميل بنا أهواؤنا إلى تخريجها، ونستدل نتائج من غير مقدماتها، ونُحيل مسببات إلى غير أسبابها، ونخلط الفكرة المعينة مع أضدادها، وغير ذلك من ضروب الفكر الغامض، وكل ذلك يحدث ونظلُّ على وهمٍ بأننا نقدِّم أعمالًا «علمية»، ثم نتعجب من ذلك حين نرى معاركنا حول المفاهيم السياسية خاوية أو كالخاوية، أو نرى فكرةً اقتصادية نتحمس لها اليوم ثم ننقضها غدًا مستنكرين لها هازئين بها، أو نقيم إصلاحًا في التعليم على أساس معين هذا العام، ليأتي العام الذي يليه بمن يجعل من ذلك الأساس سخريته وسخرية الجمهور معه، وهكذا إلى غير نهاية.

وهنا ننتقل انتقالًا طبيعيًّا إلى «الجذر» الثاني من جذور الضعف في حياتنا، وهو «التعليم» وقد ألتمس ألف عذر للقائمين على إصلاحه؛ لأن العبء أثقل من أن يحملَه رجلٌ واحد، أو جيل بأسْره، لكن ذلك لا يمنع، بل هو الذي يُبرر أن نتقدم بما نراه في هذا الصدد، والذي نراه هو أن جميع ما نبذله من جهود إصلاحية منصبٌّ على مواد التدريس، ما الذي نقرر دراسته هنا، وما الذي نقرر دراسته هناك؟ وهل المقررات في مستطاع التلميذ أو فوق مستطاعه؟ وكم يكون طلاب الدراسة النظرية المؤدية إلى الجامعات، وكم يكون منهم مَن نوجهه إلى قنوات التعليم الفني، وما إلى ذلك، وكلها مشكلاتٌ جادة وفي الصميم، لكن هذا الكاتب إذ ينظر إلى الأمر، فإنما يتجه نظرُه إلى صميم الصميم، فكل المواد الدراسية على اختلافها، هي مواد «علمية» بوجهٍ أو بآخر، وكل وقفة علمية تنطوي على منهج في التفكير يتناسب مع الفكرة العلمية كما نتصورها اليوم، فما لم يخرج المتعلم مُلمًّا بالمادة العلمية من جهة، ومتشربًا للمنهج العلمي من جهةٍ أخرى، فسوف نظل من وجهة النظر الحضارية حيث نحن واقفون أو راجعون إلى الوراء. والحاصل الآن هو أن المتعلم — على أحسن الفروض — يُلمُّ بمادته العلمية المقررة، ولا يتشرَّب منهاجها، فيخرج آخر الأمر قادرًا على ممارسة حرفته أو مهنته، لكنه عاجزٌ كل العجز عن المحافظة على «النظرة العلمية»، ليمارس بها سائر جوانب حياته خارج حدود حرفته أو مهنته، ومن ثَم وقع ما نراه من أن الحياة الحِرفية والمهنية، قد لا تكون شديدة العطب، لكنها حياة يجاورها جنبًا إلى جنب حياةٌ تسودها «الخرافة» فيما هو خارج الحدود الحِرفية والمهنية. لا، بل إن المأساة لتعظم حين يرى الجمهور البريء أحد «العلماء» — خارج حدود علمه — يحيَا مع ذلك الجمهور في براءته من حيث سهولة الأخذ بما هو مضاد لأي نظرٍ علمي، فيقول الجمهور عندئذٍ: انظر! هذا هو العالم العلامة يقول كذا وكذا، فمَن ذا الذي يجرؤ بعد ذلك على التشكك في صدق ما يقول، مع أن قوله المشار إليه هو مما يهدم العلم هدمًا لو صدق.

ويقترن غياب النظرة العلمية في حياتنا العامة، بفقرٍ في «المعرفة»، فقر يلفت النظر، فحياة الناس لا تستقيم بالعلوم وحدها وما يقوم على العلوم من صناعة وزراعة وغيرهما، بل لا بد لها كذلك من «معلومات» عن حقائق الدنيا المحيطة بنا، فيكون الفرد من متوسط الناس على علمٍ بالاتجاهات العامة في سياسات البلاد التي نتأثر نحن بها على وجه الخصوص، وعلى علمٍ بالتيارات العامة في النظم الاقتصادية والفكرية، وعلى علمٍ تقريبيٍّ بما يتجه به العالم نحو التغيير، وعلى علمٍ بأوجه الضعف في الأوضاع الحضارية القائمة، وعلى وعيٍ بحقوق الإنسان الأساسية على الأقل، وهكذا وهكذا، فكل هذه الجوانب لا شأن لها بالتخصصات العلمية والمهنية والحِرفية، لكن لها الشأن كل الشأن بدرجة الوعي عند المواطن العادي؛ إذ يكتسب بها قدرةً على النقد الذاتي، وقدرة على ممارسة الديمقراطية ممارسةً واعية.

وهذه الإشارة إلى وعي المواطن بحقوقه، تنقلنا إلى ثالث «الجذور» التي تنبتها في حياتنا ما قد أسلفناه من «بذور»، فبين الحقوق الأساسية حق «الحياة» ذاتها، لكننا لا نقف طويلًا عند هذا الحق وما يعنيه؛ إذ ربما وقف بنا الظن عند حدود الحياة العضوية، من تنفسٍ وطعام ومشي وقيامٍ وقعود، مع أن الحياة بهذا المعنى مفروضة لا تحتاج منا إلى إعلان وميثاق يلتزمه الناس، وإنما يُبنى على هذه الحياة العضوية حقوق ما أكثر ما نجهلها أو نتجاهلها، وفي طليعة تلك الحقوق، حق المواهب في أن تنفسح أمامها فرص النماء والازدهار لتفعل فيها، وانظر إلى حياتنا العلمية باحثًا عما نؤديه لأصحاب المواهب، بدءًا من الطفل الموهوب فصعودًا إلى صاحب الموهبة فيمن بلغ الرشد، تجدنا أقرب إلى طمس الموهبة في بُرْعمها خشيةً منا أن تتفتح زهرة فيظن صاحبها بنفسه الظنون، إن صاحب الموهبة في حياتنا إذا صمد، فإنما يصمد رغم المجتمع وليس بسبب تشجيع المجتمع، وقد يكون الأمر على غير ذلك في عالم الفن التعبيري كالموسيقى والغناء والتمثيل — لا أدري — لكنَّه يقينًا هو كذلك في حياة العلم والأدب الرفيع والفن التشكيلي الذي لم يدخل حياة الجمهور، فإذا استطاع صاحبُ الموهبة الخارقة أن يصمد لعمليات التشكيك والخنق، فماذا نقول في المواهب التي هي دون الخوارق بكثيرٍ أو قليل؟ وهل من عجبٍ بعد ذلك أن نرى شبابنا — بصفةٍ عامة — قد ضاعت منه حيوية شبابه، فلا مغامرة ولا طموح ولا تفاؤل، بل هو هو شبابنا الذي يرفع فينا لواء العودة إلى وراء.

ورابع «الجذور» هو أن نجد حياتنا الثقافية اليوم كالسفينة، سبحَتْ على سطح المحيط بغير «دفة» تحكم لها اتجاه السير ابتغاء الوصول إلى مرفأ آمن، إنها ثقافةٌ — كما أسلفنا — كلا ثقافة؛ لأنها سير ولا هدف؛ لأن الذي يتحكم في سيرها ليس هو الربَّان المدرَّب، بل هي الأهواء الغوغائية في كثير جدًّا من الأحيان، وماذا نعني بالأهواء في هذا السياق؟ نعني الاحتكام إلى غير «الواقع»، فبدل أن ننظر إلى المشكلة التي يُراد حلُّها نظرةً موضوعية إلى عناصرها كما هي واقعة بالفعل، ترانا ننكفئ على بواطن نفوسنا لنرى هناك عاطفةً تنعطف بنا منجذبة بالرغبات، والرغبات — كما نعلم — عمياء، لا تريد أن ترى مرارة الواقع، وغلظة الواقع، وخشونة الواقع، لا، إنها تغضُّ النظر عن هذا كله لتحلم وتعيش أحلامها موهمة نفسها بأن أحلامها تلك هي هي الواقع بكل صلابته وبرودته! مَن ذا الذي لا يعلم منا علم اليقين أن جمهورنا تغلَّب عليه الأمية، وفقر المعرفة بحقائق العالم الخارجي؟ ومع ذلك نضحك على أنفسنا ونضحك على ذلك الجمهور نفسه، لنوهمه بأنه هو صاحب الرأي والتوجيه، نعم وألف مرة نعم، إنه صاحب الرأي والتوجيه في اختياره لمن ينوب عنه في معالجة مشكلاته؛ لأن التفرقة بين معادن الرجال أمانة وخيانة، صدقًا وكذبًا، تكاد تكون تفرقة يهديها الإدراك الفطري، حتى إذا ما كان الأمر أمر المشكلات ذاتها: في السياسة، والاقتصاد، والنظم الحضارية، وغيرها، وغيرها، لم يكن مفتاح القدرة عندئذٍ في أيدي أصحاب الإدراك الفطري السليم، بل لا بد أن يُوكل الأمر فيه إلى مَن كان لهم إحاطة بشيءٍ من العلم الخاص بكل مشكلة وما تقتضيه، إن موضع المشكلات هو «الواقع» وكذلك ينبغي أن يتولَّى أمورَ حلِّها أولئك الذين تعلموا كيف يعالجون «الوقائع» معالجةً تُبنى على عقلٍ علميٍّ قادر، بل إن الانحراف ليذهب بنا إلى ما هو أبعد من ذلك، بحيث ترانا — إذا حللت الموقف بدقةٍ — نكاد نلغي وجود الواقع إلغاءً، لنتعامل مع أوهام صوَّرتْها لنا أهواؤنا، وفي ذلك ما فيه من مفارقة تلفت النظر؛ وذلك لأن المصري مزارعٌ وصانع بالدرجة الأولى، والزراعة والصناعة وما إليهما تحتاج إلى دقة الإلمام بتفصيلات الأرض التي نزرعها أو المادة التي نصنعها، ومع ذلك فلم تتكوَّن عند المصري العادي نظرة واقعية شاملة، بل قصر نظرته الواقعية على ميدان حِرفته، ثم ترك العنان لشطحاته الهوائية بعد ذلك، وربما كان السر في هذه المفارقة هو أننا بحكم العادة لا ننتبه إلى ضرورة تدريب حواس الطفل على حسن إدراك ما حوله، صحيح أن الطفل بحكم طبيعته ذاتها يدفعه حبُّ الاستطلاع، أن يعرف حقيقة ما حوله من أشياء، إنه يحطم الأواني وغيرها مما يراه حوله من أشياء ما استطاع لها تحطيمًا؛ لأنه يريد أن يعرف شيئًا عن حقيقتها: إنه بعد أن يألف صلابة المادة، قد يوضع في حوض الاستحمام فيلحظ فرقًا بين ليونة الماء وما قد عَهِده من صلابة في سائر الأشياء، فتأخذه فرحةُ مَن استكشف حقيقة جديدة، ويأخذ في ضرب الماء بذراعَيه ورجلَيه، ليزداد إدراكًا واستمتاعًا بذلك الفرق الذي كشف عنه الحجاب، تلك هي طبيعة الطفل في حبِّه لاستطلاع حقائق الأشياء، لكن فطرته تلك — كأي جانبٍ آخر من جوانب الفطرة — يحتاج إلى التهذيب والإرهاف عن طريق التربية، فلا بد أن تُدرَّب العين على رؤية أوجه الشبه بين المختلفات، وأوجه الاختلاف بين المتشابهات، ولا بد للأُذن أن تُدرَّب على التفرقة بين صوت وصوت، وأن تُوجَّه نحو النغم الموسيقي لتُدرك الفرق بين أصوات تقاطعت فلا تطرب، وأصوات تناغمت فتطرب، فلو أننا تنبهنا في تربية أطفالنا لضرورة تدريب الحواس، لنتج عن ذلك بالضرورة اهتمام «بالواقع»؛ لأن الحواس لا تعمل إلا في مجال الوقائع؛ فالعين إذ ترى فإنما ترى «شيئًا» والأُذن إذ تسمع، والأصابع إذ تلمس، إنما تسمع أو تلمس «شيئًا»، فنكون بهذا التدريب للحواس بمثابة مَن يشدُّ انتباه الطفل إلى دنيا الواقع، فيتعوَّد فيما بعد أن يحتكم إلى الواقع في الحكم على الأفكار صوابًا أو خطأً.

وخامس «الجذور» هو ما يسودنا اليوم من رغبة في الجمود الفكري، وكأننا بذلك نُعاند عصرًا يتغير في كل يوم بما يُنتجه من جديد، ولما كان التغير الدائب مؤديًا بالضرورة إلى التفكير في «المصير»، كان مما يلفت النظر ما نلحظه من ميلٍ سائد في مجتمعنا نحو العودة إلى الماضي، نحتكم إليه في أمور حاضرنا فيضيع منَّا المصير؟ كمَن يلوي عنقه لينظر وراءه، فلا يرى فجوةً شقَّت الأرض أمامه إلا بعد أن يقع فيها.

ولا أمل لنا في القضاء على هذه النظرة الورائية، إلا بحركة قوية نحو «التنوير» وما التنوير سوى السير نحو النور، والطريق إلى التنوير هو تربية وتثقيف وإعلام، تتآزر كلها على الإعلاء من شأن «العقل»، كلما أردنا أن نرسم لأنفسنا سبيلًا يحقق لنا هدفًا.

والله ولي التوفيق.

زكي نجيب محمود
يناير ١٩٨٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤