الفصل الخامس

إقبالٌ في وطنه

لبث إقبال في أوروبا زهاء ثلاث سنين، ثم رجع إلى وطنه سنة ١٩٠٨م.

ولما مرَّ بدلهي استقبله أصدقاؤه وعارفوه كما ودَّعوه قبل ثلاث سنين. وذهب إلى مزار نظام الدين أوليا كما ذهب إليه حين سفره إلى أوروبا.

وليت شعري أعَنى إقبال بهذه الزيارة أن يُبيِّن أنه على العهد لم يغيره السفر إلى أوروبا، ولم يَرُعْه ما رأى فيها وما سمع، ولم تفتنه فتنتها ولا سحرته حضارتها؟ والحق أنه نظر واعتبر، وملك عقلَه وقلبه.

بلغ إقبال لاهور في السابع والعشرين من حزيران سنة ١٩٠٨ واحتفل كثير من أهل لاهور بعودته بعد غيبة ثلاث سنين، وتعددت المجامع للترحيب بعودِ الرجل النابغ الذي افتقده أصحابه والمعجبون به زمنًا طويلًا، وأُنشدت في هذه المجامع قصائد جاء في واحدةٍ منها بيتٌ معناه:

طال حنينُنا إلى شعرِك يا من طبَّق الآفاقُ صيته في الشعر.

وفي هذا دلالةٌ على أن الناس كانوا ألِفوا أن يقرءوا شعر إقبالٍ في الفينة بعد الفينة، فافتقدوه في هذه الفترة، وعلى أن إقبالًا كان له صيت في الشعر قبل سفره إلى أوروبا.

(١) في المحاماة

نال إقبال إجازة المحاماة في لندن، وهو اليوم في لاهور يمتهن المحاماة. وكان لإقبال من ذكائه وعلمه وبيانه ما يُؤهله لأن يبلغ في المحاماة أعلى الدرجات، ولكنَّ الرجل خُلق لغيرها، ورُشِّح لما هو أجلُّ وأعلى. وإنما أراد بها كسب الكفاف ليفرغ للرسالة التي حملها في هذه الحياة، الرسالة التي تنطق بها فلسفته وسيرته وشعره ونثره.

وحُدِّثتُ أنه كان يسأل وكيله كم عندك؟ فإن عرف أن عنده ما يُنفق منه إلى آخر الشهر لم يرغب في قبول قضايا حتى الشهر التالي، وأنه كان لا يقبل وكالة في قضية حتى يعلم أن وكيله محق في القضية التي يوكله فيها، وأنه يستطيع أن يأخذ له حقه.

وقد داوم على المحاماة حتى سنة ١٩٣٤م قبل وفاته بأربع سنوات إذ اضطرَّه المرض إلى تركها.

وسُئل مرة ألم يُنسه عمله الكثير يومًا قضيَّة من قضاياه. فقال: كنت في مكتبة المحكمة فجاءني أحد موكِليَّ يُخبرني أن قضيته أمام القاضي. قلت إن لقضيتك يومًا آخر. ولكنه ألحَّ عليَّ أن أذهب معه إلى قاعة القضاء. فقلتُ للقاضي: إن لقضيةِ الرجل موعدًا آخر. فنظر القاضي في الأوراق فتبيَّن أن القضية قُدِّمَت إليه خطأً قبل موعدها.

وفي هذه القصة دلالة على أن الشاعر الفيلسوف السياسي لم يشغله الشعر والفلسفة والسياسة عن قضاياه ومواعيده.

(٢) في التعليم

رجع إقبال إلى التدريس في كلية الحكومة التي تخرَّج فيها، والتي درَّس بها من قبلُ، فعلَّم الفلسفة والأدب العربي والأدب الإنكليزي. وكان راتبه منها خمسمائة روبية.

ثم استقال من الكلية بعد أن عمل بها نحو سنة ونصف، واكتفى بالمحاماة.

وحدَّث خادمُه الوَفي، علي بخش، قال:

سألته حين استقال من الكلية لماذا استقلت؟ فأجاب: يا علي بخش إن خدمة الإنكليز عسيرة، وأعسر ما فيها أني لا أستطيع أن أُحدِّث الناس بما في نفسي ما دمت في خدمتهم. وأنا اليوم حرٌّ، ما شئتُ قلتُ، وما شئتُ فعلتُ.

استقالة إقبال من الكلية لم تقطع صلته بالجامعة؛ فكان يعمل في مجالسها ولجانها. وقد لبث سنين عميدًا لكلية الدراسات الشرقية ورئيسًا لقسم الدراسات الفلسفية.

ويَظهر أن النظام الإنكليزي في الجامعات يُجيز أن يتولَّى أستاذ مثل هذه الأعمال دون أن يكون موظفًا في الجامعة.

وكان ذا صلة دائمة بالكلية الإسلامية في لاهور، وكذلك كان كثير الاهتمام بالجامعة الملية في دلهي، دائم الاتصال بها.

وفي مؤتمر المائدة المستديرة عمل في لجان نظرت في إصلاح التعليم في الهند.

وفي سنة ١٩٣٣ دُعي هو والشيخ سليمان الندوي والسير رأس مسعود إلى كابل للنظر في التعليم عامة، وفي نظام جامعة كابل خاصة. وعملت حكومة الأفغان بأكثر ما أوصى به.

وأعظم ما أمدَّ به إقبال التعليم والتربية، فلسفته في الذاتية. وقد طبَّقها على التربية والتعليم والفنون في كثير من شعره.

وقد كتب في هذا أحد المعلمين النابهين الأستاذ سيدين كتابًا اسمه فلسفة إقبال التعليمية.١

محاضرات في أرجاء الهند

كان العلَّامة إقبال٢ دائم الاتصال بمعاهد العلم في لاهور وغيرها، وكانت الجامعات تدعوه إلى زيارتها والمحاضرة فيها.
دُعِي إلى مدراس سنة ١٩٢٨، فألقى محاضراتٍ هناك، وبدأ محاضراته الست التي أكملها من بعدُ في إله آبادو عليكره، والتي جُمِّعت فسُمِّيَت: «إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام».٣ وهي أعظم ما كتب إقبال في الفلسفة.
ثم ذهب إلى بنگلور في إمارة مَيسور أوائل سنة ١٩٢٩م فلَقِيَ حفاوةً بالغة، ودعاه المهاراجا إلى مدينة ميسور فذهب إليها، وحاضر في جامعتها، واحتفل الناس به كثيرًا. وقال أحد أساتذة الهنادك في إحدى الحفلات:

يقول المسلمون: إن الدكتور إقبالًا لهم، والحق أنه لنا جميعًا لا يختصُّ جماعةً أو دينًا. فإن افتخر المسلمون بأنه أخوهم في الدين فنحن نفتخر بأن إقبالًا هندي.

وفي هذه السفرة زار إقبال قبر السلطان حيدر علي وقبر ابنه السلطان تيبو، وأصغى في خشوعٍ إلى قصيدة أنشدها شاعر على قبر «تيبو سلطان». وإقبال من المعجبين بهذا الملك، وقد ذكره في كثير من شعره، شأنه في الإعجاب بالأحرار الشجعان المجاهدين الذين يَلقوْن الموت في سبيل الحق صابرين راضين محتسبين. والسلطان تيبو — ويُسمَّى في الهند تيبو سلطان — جاهد الإنكليز جهادًا كبيرًا ولم يُقعِده عن جهادهم إلا الموت.

وقد اجتهد في أن يستعين على الإنكليز بعض الدول الإسلامية، كما حاول أن يحالف نابليون عليهم. وكان نابليون حينئذ في مصر. وقد جمع له الإنكليز ما استطاعوا وحاصروه. فلما يئس من النصر أنف عن ذل الأسر، فألقى بنفسه من قلعةٍ فمات سنة ١٢١٣ﻫ.

ثم توجه إقبال تلقاء حيدر آباد فبلغها في الرابع عشر من كانون الثاني، وازدحم الناس لاستقباله. واصطف الصبيان ينشدون نشيد إقبال القومي. ودعاه نظام حيدر آباد فنزل في ضيافته أيَّامًا.

في الجامعة الإسلامية

ودعا الدكتور الأنصاري — رحمه الله — سنة ١٩٣٢م حسين رءوف بك إلى القدوم إلى الهند وإلقاء محاضرات في الجامعة الإسلامية. وحسين رءوف عُرف في العالم الإسلامي منذ حرب تركيا وإيطاليا سنة ١٩١١؛ إذ كان ربان المدرعة حميدية، فغامر بها في البحر الأبيض وأغرق كثيرًا من سفن الطليان.

وقد شارك في أحداث تركيا حربًا وسلمًا حتى تولَّى رياسة الوزراء أيام حرب الاستقلال.

جاء حسين رءوف إلى دلهي فألقى محاضرات في الجامعة على جمع حاشد. وقد رأس إحدى الحفلات محمد إقبال فتكلم بعد حسين رءوف في اتحاد المسلمين، وأبطل دعوة الوطنية بينهم وأبان عن مفاسدها.

ثم رأس اجتماعًا آخر، ورجا الناس أن يسمعوا منه مثل ما سمعوا في اليوم الأول، ولكنه اكتفى بكلامٍ قليل ختمه بهذه الفكاهة: ذهب إلى إبليس جماعةٌ من تلاميذه أيام الحرب العظمى «الحرب العالمية الأولى»، فوجدوه خاليًا ساكنًا يُدخِّن سيجارًا، فسألوه كيف جلس خاليًا فارغًا من العمل؟ فأجاب: وكَّلتُ كل أعمالي إلى الحكومة البريطانية هذه الأيام.

وبعد أشهر عاد إقبال إلى الجامعة الإسلامية في دلهي، فألقى محاضرةً موضوعها السفر من لندن إلى قرطبة. وحدثني الأستاذ أحمد برويز أنه سمع هذه المحاضرة، فرأى كيف اجتمع عقل إقبال وقلبه وعلمه وأدبه على الإعجاب بآثار العرب في الأندلس، والإشادة بها. وحدَّث في هذه المحاضرة عن لقائه الفيلسوف برجسون في باريس وتحدُّثه معه في الفلسفة وفي أمور من الإسلام كان يجهلها الفيلسوف.

وفي هذا الصدد أذكر ما رُوي عن إقبال أنه حدَّث برجسون في الزمان — ولهذا الفيلسوف نظرية فيه توافق فلسفة إقبال من بعض الوجوه، وأن برجسون وثب من كرسيه عجبًا حينما ذكر إقبال الأثر المعروف: «لا تسبُّوا الدهرَ فإنَّ الله هو الدهرُ.» وهذا الأثر مُضمن في شعر إقبال في منظومته رموز بي خودي.

احتُفل بإقبال في الجامعة الإسلامية وتَكلَّم كثيرٌ في الإشادة بأدبه، وكان ممن تكلم هناك مولانا أسلم الجراجبوري، فقال:

قرأت الشعر بالعربية والفارسية والأردية. ولا حرج عليَّ أن أقول إنَّ إقبالًا أعظم شعراء المسلمين؛ إن كلامه ليفيض بالحقائق الإسلامية، ولقد هدى ناشئتنا سواء السبيل. إن إقبالًا حذِق علوم الغرب، ثم أبلغ المسلمين الرسالة التي بصَّرتْهم بحقيقة الإسلام وعظمته، وملأت قلوب الشباب الغافل النائم، بحب الرسول والقرآن.

ومنحت جامعة عليكره وجامعة إله آباد إقبالًا لقب دكتور قَدْرًا لمكانته في الأدب واعترافًا بفضله.

سفره إلى أفغانستان

دعا نادر شاه ملك الأفغان — رحمه الله — محمد إقبال إلى أفغانستان، ودعا معه السير رأس مسعود والشيخ سليمان الندوي، دعاهم ليشيروا على حكومته في أمور الدين والتعليم.

وبلغ إقبال وصاحباه كابل في آخر تشرين الأول سنة ١٩٣٣، فاحتفى بهم الملك والحكومة والكبراء والأدباء. ثم أشاروا على الحكومة بما رأوا فيه صلاح التعليم؛ فعملت بكثير مما أشاروا به.

وفي هذه السفرة ذهب الشاعر العظيم المولع بتاريخ الإسلام وسير عظمائه في غَزنة وقَندهار، فزار قبرَ مُكسِّر الأصنام يمين الدولة وأمين الملة السلطان محمود الغزنوي، وزار قبر الشاعر الصوفي الكبير مجد الدين سنائي. وله قصائد بليغة في هذين المشهدين وغيرهما مما رأى في أفغانستان.

وقد خلَّد هذه الرحلة بمنظومته «مسافر»، كما سجلها الشيخ سيد سليمان الندوي في كتاب.

(٣) في السياسة

فلسفة إقبال فلسفة أمل وعمل وجهاد وإقدام، ودعوة عزة وكرامة وحرية. فهي مدد للأمم المجاهدة لحريتها وكرامتها، تبعث فيها النور والنار.

وقد وجَّه دعوته إلى البشر عامة، والمسلمين خاصة، وأخذ من التاريخ الإسلامي أمثلة لفلسفته وصورًا لشعره.

كان شعره، وما يزال، أناشيد مسلمي الهند المجاهدين. ولا ريب أن شعر إقبال أشعل في النفوس ثورة على سلطان الإنكليز في الهند، وأمَدَّ المجاهدين بالأمل والعزم والإقدام.

وقد شارك إقبال، إلى هذا، في سياسة بلاده بأقواله وأفعاله، ورأَسَ مجامع سياسية. وكان عمادًا قويًّا لحزب الرابطة الإسلامية.

وحَسْب رجل أن يقول فيه القائد الأعظم محمد علي جناح: كان لي صديقًا، وإمامًا وفيلسوفًا. وكان في أحلك الساعات التي مرَّت بالرابطة الإسلامية راسخًا كالصخرة. لم يُزَلزَل لحظة واحدة قط.

•••

وألحَّ عليه أصدقاؤه سنة ١٩٢٦ أن يُرشِّح نفسه في انتخاب الجمعية التشريعية في بنجاب، فأيَّده الناس وانتُخِب بغير عناء. ولا تزال خُطبه في هذه الجمعية شاهدة بعملِه فيها.

وقد عمل في حزب الرابطة الإسلامية ورأَس الاجتماع السنوي في إله آباد سنة ١٩٣٠. وكانت أحوال مسلمي الهند حينئذٍ تُعظِّم الشقة والتبعة على من يتصدى لقيادتهم. وفي هذا الاجتماع ألقى خُطبة مسهبة دعم فيها آراءه بحجَجٍ من الفلسفة والاجتماع والأخلاق. ونبَّه الناس إلى أن اتحاد الهند عسير في هذه الأحوال، ولا سبيل إلى جمع الكلمة إلا باعتراف كل جماعة في الهند بالجماعات الأُخرى، والتعاون بين الجماعات المختلفة.

قال: «إن رينان الفيلسوف الفرنسي يقول: إن الإنسان ليس أسيرًا للجنس والدين ولا لمجاري الأنهار وسلاسل الجبال، ولكن كل جماعة كبيرة من البشر، صحيحة العقل حية القلب، ينشأ فيها شعورٌ يجمعها، تسمى أمة.

يعني أن الأمة لا تنشأ بالأقوام والأوطان، ولكن بالشعور الذي يربط آحادها.

ثم قال إقبال: إن الفرق الاجتماعية والجماعات الدينية في الهند لا تقبل التغاضي عن أشخاصها من أجل الوحدة الهندية، حتى ينشأ لها هذا الشعور الذي يُنشئ الأمة في رأي رينان. إن لهذا الشعور ثمنًا يأبى أهل الهند أن يؤدُّوه.

فينبغي إذًا ألا نلتمس اتحاد الهند في محو الفوارق بين الجماعات، بل نلتمسه في الاعتراف باختلاف الجماعات والعمل للتعاون بينها.

إن السياسي ينبغي أن يعترف بالحقائق الماثلة ويستفيد منها جهد الطاقة. وإن وجدنا وسائل للتعاون الحق، يَحلُّ السلام والصفاء في هذه الأرض العتيقة، وتُحلُّ مشاكل آسيا السياسية كلها. إنَّا ليُحزننا أن نرى إخفاقنا في مساعينا إلى الاتفاق على ما يحقق السلام بيننا.»

ويتصل بهذه الخطبة خطبته في المؤتمر الإسلامي حينما تولى رياسة اجتماعه السنوي سنة ١٩٣٢. قال فيها:

أنا لا أقبل الوطنية كما تعرفُها أوروبا، وليس إنكاري إياها خوفًا من أن تضر بمصالح المسلمين في الهند، ولكن أنكرها لأني أرى فيها بذور المادية الملحدة، وهي عندي أعظم خطرًا على الإنسانية في عصرنا.

لا ريب أن الوطنية لها مكانها وأثرها في حياة الإنسان الأخلاقية، ولكن العبرة في الحقيقة بإيمان الإنسان وثقافته وسننه التاريخية. هذه هي في رأيي الأشياء التي تستحق أن يعيش لها الإنسان ويموت من أجلها، لا بقعة الأرض التي اتصلت بها روح الإنسان اتفاقًا.

وفي هذا توكيدٌ لما قال من قبل عن مقوِّمات الأمم في خطبته سنة ١٩٣٠. وكتب إقبال إلى محمد علي جناح رئيس الرابطة الإسلامية المُلقب القائد الأعظم سنة ١٩٣٧، فقال فيما قال:

إن خير وسيلة إلى السلام في الهند في هذه الأحوال أن تُقسَّم البلاد على قواعد جنسية ودينية ولغوية.

كان إقبال أول من دعا إلى أن تُقسم الهند فيكون للمسلمين بها موطنٌ يخصُّهم؛ إذ رأى محالًا أن يعيش سكان الهند جماعة واحدة أو جماعتين متعاونتين.

وكانت هذه، في رأي الناس، دعوة عجيبة لقيَها بعضهم بالتعجب والسخرية، ورآها بعضهم حُلم رجل مجنون.

•••

واشترك إقبال في مؤتمر الطاولة المستديرة سنة ١٩٣١ و١٩٣٢ في لندن، وكان المؤتمر ينظر في دستور جديد للهند. وكان لأقواله وأعماله أثر بيِّن في أعمال المؤتمر. وقد مرَّ في سفره بروما وأقام بالقاهرة أيامًا.

وقد احتفلت بمَقْدمه جمعية الشبان المسلمين وشهدت الاحتفال. ودعاني أستاذي الشيخ عبد الوهاب النجار رحمه الله — وكان وكيل الجمعية — إلى أن أُعَرِّف الحاضرين بالضيف العظيم. فتكلمت على قدر معرفتي بإقبالٍ يومئذٍ، وأنشدتُ بعض ما تذكرت من شعره. وأذكُرُ أني أنشدتُ أبياتًا من ديوانه رسالة المشرق.

وألقى هو محاضرةً باللغة الإنكليزية تكلم فيها عن تطور الفكر الإسلامي أو في موضوع قريب من هذا. ولا أزال أتمثَّله قائمًا يتدفق في بيانه ويروع بعلمه وفكره. وقلتُ له بعد المحاضرة: ليس في وسعي أن أنشد شعرك أحسن مما أنشدتُ. فقال: أنشدتَ إنشادًا صحيحًا.

وأذكرُ أنِّي كنت في درس التاريخ الإسلامي في كلية اللغة العربية من الجامع الأزهر، فدخل هو وجماعة معه وأنا أتكلم في أنساب العرب، ثم برح القاهرة. وكان هذا آخر عهدي به. توجَّه تِلقاء بيت المقدس فشهد المؤتمر الإسلامي، وتكلَّم هناك. ولو سُجِّلت كلمة إقبال في المسجد الأقصى لوجدنا فيها للمسلمين خيرًا كثيرًا.

وفي السنة التالية شهد مؤتمر الطاولة المستديرة الثالث، وفي عودتِه مرَّ بإسبانيا، ورأى آثار المسلمين فيها، فأوحت إليه شعرًا منه قصيدته الخالدة في جامع قرطبة. وقد استأذن حكومة إسبانيا في أن يُصلي بالجامع. ولعلَّها أول صلاة فيه منذ غابت شمس الإسلام عن قرطبة.

والذي يرى صورة شاعرنا الفيلسوف المسلم الغيور مصلِّيا في جامع قرطبة، يقرأ قصيدة بليغة، ويتخيل ما جال في فكر شاعر الإسلام في هذا المقام الهائل، والمشهد الرائع.

لقد نظم إقبال نفسه هذه القصيدة، ونُشرت في ديوانٍ بال جبريل. وهي إحدى بدائعه. لا يفوق شاعرٌ إقبالًا فيما نظم في جامع قرطبة، ولكن أرى في صلاته قصيدة تُروِّع نفسي معانيها ويكاد قلمي يخط ألفاظها. وعسى أن أخطها يومًا. ماذا جال في نفس شاعر الإسلام وهو في محراب الجامع والجامع عُطلٌ من الصلاة والآذان؟ وهو كما قال البحتري في إيوان كسرى:

فهو يبدي تجلُّدًا وعليه
كلكل من كلاكل الدهر مُرسى

بل كما قلتُ أنا فيه من شعر الصبى:

فهو قلبٌ من الأمان خليٌّ
حائرٌ في بلاه ليس بسال
كاد يملي على عقائده الشكـْ
ـكَ زوالُ التسبيح والإهلال
فهو لولا الإيمان هدَّمه اليأْ
سُ فيخوي على الذُّرى والقِلال
كيف آيٌ أضاءها في جدار
قلم مُدَّ من مداد الجمال
هل لها قارئ هناك عليم
بمعاني الهدى وسرِّ الجلال
سُوَر تسكن الغبار كما غا
ضَ برمل نبع النمير والزلال
ومرايا الزمان تصدأُ كالمرْ
آة قد طال عهدها بالصِّقال

ليت شعري أستطاع إقبال أن يسمع من وراء الأجيال الأذان، تُرَدده مآذن جامع قرطبة؟ أم أنصت إلى القرآن يُرتله الأئمة في المحراب؟ أم انقلبت آيات القرآن التي لا تزال تنير في جدران المسجد ترتيلًا في أُذنه، ووحيًا في قلبه؟ أيُّ قصيدة هذه؟ أي شاعر ينطم القصيدة التي عنوانها: «إقبالٌ في محراب قرطبة».

ولما أُعيد تنظيم الرابطة الإسلامية سنة ١٩٣٥ انتُخب إقبالٌ رئيس شعبة الرابطة في بنجاب، وذلكم قبل وفاته بثلاث سنين.

ولم يُعجز إقبالًا مرضُه المزمن، عن التفكير والعمل والكتابة ونظم الشعر. ورسائله التي كتبها في آخر حياته إلى القائد الأعظم وغيره شاهدةٌ بوقدة قلبه، وذكاء عقله، ومُضيه في جهاده على العلَّات وتمطُّره في حَلْبته حتى الممات.

لقب «سير»

في سنة ١٩٢٢ قدم لاهور صحفي إنكليزي ساح في المشرق، وسمع صيت إقبالٍ الأدبي في أوروبا وبلاد الشرق. فأشار على حكومة بنجاب أن تمنح الشاعر الكبير لقب سير. فدُعي إقبالٌ إلى دار حاكم بنجاب الإنكليزي لأول مرة. وقد حكى أحد أصدقائه٤ أنه لم يرغب في إجابة الدعوة وأنه ألحَّ عليه وحمله في عربته إلى دار الحاكم، ثم اقترحت له ألقاب أقلُّ من رتبة سير فأباها، ثم عُرض عليه لقب سير فرغب عنه ولكن أحد كبار أصدقائه٥ أصرَّ على قبوله. فقبل على شرط أن يُمنح أستاذه مير حسن، لقب شمس العلماء. وهو الأستاذ الذي ثقَّفه في الأدب العربي والفارسي كما ذكرنا قبلًا. ولم يكن الأستاذ ذا صيت يُسوِّغ منحه هذا اللقب، ولكن إقبالًا أصرَّ عليه فقبِله الحاكم.

وقد آخذ بعض الناس إقبالًا بقبول هذا اللقب من الإنكليز وأذاعوا عنه أقاويل. ونشرت بعض الصحف نظمًا ونثرًا فيهما هُزؤ بالشاعر الثائر داعية الحرية، ولكن أصدقاءه والمعجبين به احتفلوا بهذه المنحة احتفالًا كبيرًا عند قبر جهانگير في ضواحي لاهور. وشارك الهنادكُ والسيك، المسلمين في هذا الاحتفال.

وما كان لقبول هذا اللقب أثر ما في نفس الشاعر الفيلسوف وعمله. وما زال طولَ حياته ينفُثُ شعره في النفوس حياة وقوة وإباءً وجهادًا ودعوة إلى الحرية وثورة على الجبروت، وإيقاظًا للمسلمين خاصة، وتبصيرًا لهم بمكانهم في هذا العالم ومكانتهم في تاريخه. وما أعرف كشعر إقبال دعوة إلى الثورة على الاستعباد والتمرد على الطغيان، وإلى لقاء الشدائد في هذه الحياة بأكبر منها أملًا وعزمًا وجهادًا.

(٤) مرضه

شرعت العلل تعتري الشاعر الفياض، الذي يُخيَّل إلى قارئه أنه لا يفتر ولا يملُّ ولا يمرض ولا يموت.

أصابته حصاة في الكلية، فعالجه الحكيم البصير الدهلوي٦ فنجع علاجه.

وفي سنة ١٩٣٥ بُحَّ صوتُه، وجَهد كثير من الأطباء في شفائه، فلم يُجْدِ جهدهم حتى عالجه الحكيم البصير فخفَّت العلة قليلًا.

وفي السنة نفسها تُوفيت زوجه، فبلغ موتها من نفسه، وأحزنه كثيرًا.

وترادفت عِلَل أصاب بعضُها القلب، واستمرت تنقص من قوته شيئًا فشيئًا، تنقص من قوة جسمه ولا تنال من عقله وروحه. فلم يَفتر عن نظم الشعر، ولم ينقطع عن التفكير والبيان حتى الأيام الأخيرة.

واشتدت العلة في شهر نيسان ١٩٣٨، وبلغت مبلغ الخطر في التاسع عشر من الشهر. وعني الأطباء به كل عناية، فما أغنى حرصهم على شفائه شيئًا.

وكان — رحمه الله — يحس دنوَّ أجله ويَذكُره غير هائب ولا جازع. وكان يردد قبل موته ببضعة أيام أن المسلم يلقى الموت مسرورًا. وقال لصديق ألماني قبل وفاته بيوم: إني مسلمٌ لا أرهب الموت، إذا جاء الموت لقيته مبتسمًا.

وأُرسلتْ إليه جزازة من صحيفة في جنوبي أفريقيا فيها أن المسلمين في اجتماعٍ لهم في ناتال، دعوا له ولجناح وكمال أتاتورك بطول الحياة. فقال: أنا ختمت عملي، وجناح يُؤدي رسالته، فعلى المسلمين أن يدعوا له هو بطول العمر. وفي مساء العشرين من نيسان دخل عليه ابنه جاويد وسنُّه حينئذٍ ثلاث عشرة سنة. فقال له: هلُمَّ إليَّ يا بُنيَّ! اجلس، فما أدري لعلِّي ضيْفٌ لبضعة أيام. قال أحد الحاضرين: إنه صغير السن يفزعه مرضك. فأجاب: أريد أن يلقى كل حَدَث لقاء الرجال. وقال لجود هري محمد حسين، وكان من المُقربين إليه ووصي على أولاده بعد موته ولقيته سنة ١٩٤٧ في لاهور وذهبْتُ معه إلى دار إقبالٍ وقبره، وفي دار إقبالٍ لقيت جاويد فأهدى إليَّ صورة والدِه، ولم يعش محمد حسين بعد صديقه كثيرًا؛ قال له إقبالٌ: كتبتُ في آخر «جاويد نامه» أبياتًا عنوانها «خطابٌ لجاويد»، وقلتُ فيها: إن في عصرنا هذا قحطًا في الرجال. وعسير فيه الظفر بلقاء رجال الله؛ فإن تكن سعيد الجد لقيت أحد أصحاب البصائر، وإلا فاعمل بهذه النصائح.

ثم قال: وحين يشب جاويد، بعد موتي، أفهمه هذا الشعر.

وفي هذه الليلة سُئل عن صحته، فقال: أريد الخلاص من هذه المشقة فورًا.

(٥) وفاته

رُوي عن راجه حسن، وكان مع إقبال ليلة وفاته — ولقيته في لاهور مرات وفي كراجى وسمعتُ منه هذا — أن إقبالًا رحمه الله — أنشد قبل موته بنحو عشر دقائق:

نغماتٌ مضينَ لي هل تعود؟
أنسيمٌ من الحجاز يعود؟
آذنت عيشتي بوشك رحيلٍ
هل لعلم الأسرار قلبٌ جديدُ؟

ومن شعر إقبالٍ:

آية المؤمن أن يلقى الردى
باسم الثغر سرورًا ورضا

وكذلك كان إقبال حين الموت. وضع يده على قلبه قائلًا: الآن بلغ الألم هنا. وتأوه وأسلم الروح إلى خالقها وهو مبتسم. وما بدا عليه أثر من سكرات الموت، وكان إلى اللحظة الأخيرة كامل الشعور.

«إنا لله وإنا إليه راجعون.»

عمره

توفي إقبالٌ وعمره بالتوقيت الهجري: سبع وستون سنة وشهر وستة وعشرون يومًا، وبالحساب الشمسي خمس وستون سنة وشهر وتسعة وعشرون يومًا.

الاحتفال بجنازته ودفنه

شاع في الناس النَّبأ الفاجع، والخطْب الصاعق؛ نَعيُ إقبال. فكان الأسى على قدر حب الناس إياه، وإكبارهم وإعظامهم له، وعلى قدر ما وعت قلوبهم، وأنشدت أفواههم من شعره، وعلى قدر ما نَفِذَت إلى سرائرهم، وأنارت في ضمائرهم أقوال الرجل العظيم الخالد، داعيةُ الحياة والإقدام ومصوِّر الإنسانية في أروع صورها وواصف الحياة في أجمل وجوهها.

عُطِّلت الدواوين والمتاجر، وذهب الناس زَرافات ووحدانًا إلى «جاويد منزل» دار محمد إقبال.

رأيتُ أنا هذه الدار مرات. ما ذهبت إلى لاهور إلا زرتها، وهي دارٌ صغيرة، طبقة واحدة، يلج داخلها إلى فِناء صغير، ثم يصعد درجات إلى بهوٍ، يُفضي إلى حجرتين عن يمين وشمال. دخلتُ الحجرة التي إلى الشمال وقيل هذه حجرة إقبال. كان ينام فيها ويكتب شعره، ويمضي كثيرًا من وقته.

قلت هذه الحجرة التي وسعت الدنيا بل وسعت العالم، بل وسعت ما هو أعظم من العالم وأوسع، قلب المؤمن. كم تَنَزَّلَ في هذه الحجرة وحيُ الشعر! وكم ازدحمت فيها أفكار الفلسفة! وكم خفق فيها قلبٌ هو كما قلتُ قبلًا في رثاء محمد فريد — رحمه الله:

قلبٌ يُريد زماعه وطماحه
زلزال هذي الأرض بالخفقان

قبره

اتفق جماعة من أصدقاء إقبال وأولي الرأي في المدينة على أن يتخذوا لشاعر الحياة قبرًا في فناء المسجد الجامع «شاهي مسجد»، وهو فناءٌ واسع يُفضي إليه من جهة الجنوب بابٌ كبيرٌ في سور حول المسجد عالٍ، تمتدُّ معه أبنيةٌ كثيرة.

اختيرت بقعة إلى يسار الداخل إلى الفناء، على مقربة من الدَّرَج الكبير الصاعد إلى باب المسجد الرائع، اختيرت هذه البقعة لجثمان إقبال، اتُّخِذت هذه الخزانة لهذا الكنز، بل اتُّخذ هذا الصوان لهذا الكتاب الخالد.

وقد رأيت ضريح إقبال سنة ١٩٤٧م، وكانت الحجرة التي فيها الضريح لم يكمل بناؤها، ثم زرته مرات من بعد حينما قدمت باكستان سفيرًا. وقد تمت الحجرة ونُقش على جدارها أبياتٌ من شعر إقبالٍ، يتردد نظر العبرة والخشوع بينها وبين الضريح المائل الذي يحنو على رفات الشاعر الخالد.

وعلى الضريح صفائح من المرمر. وقد كُتب على شاهده: إن محمد نادر شاه ملك الأفغان أمر بصنع هذا الضريح اعترافًا منه ومن الأمة الأفغانية بفضل الشاعر.

إن في هذا الضريح الثاوي في حضانة المسجد الكبير، الذي بناه محي الدين أورنگ زيب، الذي بلغت دولة المسلمين في عهده أوج عزتها، والقائم على مقربة من الآثار الرائعة التي خلفها ملوك المسلمين في قلعة لاهور الهائلة؛ إن في هذا الضريح لَوَحْيًا لا يفتُر، وذكرى لا تنقطع، من حاضر المسلمين وماضيهم، ومن معالي الإسلام وشعر إقبال؛ وإن شعر إقبال ليُجَلِّي لقارئِه حضارة الإسلام وتاريخه في صور رائعة هائلة، ويُفسر هذه الآثار المحيطة تفسيرًا جميلًا جليلًا، وإنَّ من يقرأ شعر إقبال ليستأنف في الإسلام وتاريخه نظرًا، ويجد فيه تفكيرًا … ماذا عسى أن يقول قائلٌ في إقبال وضريح إقبال. حسبُك أيها القلم. يرحمُ الله محمد إقبال.

صدى نعيه في الهند

كانت وفاة إقبال حسرة على مسلمي الهند بما فقدوا المرشد الهادي وافتقدوا الدليل الحادي، وبما حرموا هذا الينبوع الثرار بل النهر الهدَّار.

وقد رَدَّدَت هذه الحسرة مقالاتهم، ورسائلهم وأشعارهم، وشارك المسلمين غيرُهم في الأسى عليه وإكبار فقده.

وقراء العربية أكثرهم لا يعرفون كبراء الهند وأُدباءها، فأُثبت هنا طرفًا من أقوالهم. فحسبي أن أُثبت مقال رجليْن: أحدهما زعيم سياسي مسلم، وثانيهما شاعرٌ فيلسوف هندوكي، ذانكم محمد علي جناح رئيس العصبة الإسلامية ومؤسس باكستان. والثاني طاغور الشاعر الذي ذاع ذكره في المشرق والمغرب.

قال محمد علي جناح:

كان شاعرًا منقطع النظير، طبَّق صيته الآفاق. وستبقى كلماته حيَّة أبدًا، وإن مساعيه لأمته وبلده لتضعه في صفِّ أكبر كبراء الهند. وإن وفاته اليوم لخسارة كبيرة للهند عامَّةً والمسلمين خاصَّةً.

وقال في خطاب ألقاه في الاحتفال بذكرى إقبال في جامعة بنجاب سنة ١٩٤٠م:

إنْ حييتُ حتى رأيتُ للمسلمين دولة قائمة في الهند فخُيِّرْت بين الرياسة العُليا في هذه الدولة المسلمة، وبين كتب إقبال، لم أتردد في اختيار الثانية.

وكتب إلى ابن إقبال بعد وفاته:

كان لي صديقًا ومُرشدًا وفيلسوفًا. وكان في أحلك الساعات التي مرت بالرابطة الإسلامية راسخًا كالصخرة، لم يُزَلزل لحظة واحدة قطُّ.

وقال طاغور:

وتَركتْ وفاة إقبال في أدبنا خلاءً يُشبه جرحًا مُهلكًا، ولن يُملأ إلا بعد مُدَّة مديدة. إن مكانة الهند في العالم ليست مكينة، فموت شاعر عالمي كهذا مُصيبة لا تحتملها البلاد.

ومما قاله طاغور كذلك:

لا ريب عندي أن ما ناله شعر إقبال من قبول وصيت يرجع إلى ما فيه من نور الأدب الخالد وعظمته. ويُؤسفني أن بعض النقاد وضع أدبي وأدب إقبال في ميزان المنافسة، وجهدوا أن يشيعوا أغلاطهم في هذا الشأن. وهذا عملٌ لا يليق بالأدب الفسيح الذي يُخاطب النوع الإنساني كله؛ لأن في ساحة الأدب العالمي يقوم الشعراء وأولو الفن في صف واحد من الأخوة الإنسانية.

ويقيني أني ومحمد إقبال عاملان للصدق والجمال في الأدب. ونحن نلتقي حيث يقدم القلب الإنساني والعقل إلى عالم الإنسانية أجمل هداياهما وأروعها.

١  Iqbal’s Educational philosophy.
٢  يغلب على ألسنة الخاصة والعامة ذكر إقبال مع لقب العلامة.
٣  Reconstruction of Religious Thoughts in Islam.
٤  مرزا جلال الدين.
٥  النواب السير ذو الفقار علي خان.
٦  حكيم نابينا وهو طبيب في الطب الإسلامي المسمى في الهند الطب اليوناني، وكان ضريرًا، وله في العلاج بصيرة فاق بها المُبصرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤