علماء … وقتلة!

الساعة التاسعة مساءً …

وسماء مدينة «نيويورك» الأمريكية ملبَّدةٌ بغيوم يناير المكفهر … وبعض الثلج قد بدأ في التساقط على شكل كرات صغيرة.

بداخل أحد المعامل الكبيرة في أطراف حي «مانهاتن» الصاخب، كان البروفيسور المغربي الدكتور «أحمد مرزوق» … أستاذ الطاقة النووية بجامعة «ميتشجان» قد راح يُجري بعضَ المعادلات الحسابية المعقَّدة.

مرَّ الوقت بطيئًا … وفي النهاية ارتسمَت ابتسامةٌ على وجه البروفيسور، وأمسك بالأوراق الكثيرة المليئة بالمعادلات الرياضية والأسهم، وألقاها بداخل المدفأة المشتعلة … فازداد لهيبُها.

لم يكن البروفيسور بحاجة إلى أوراق يحتفظ فيها بنتائج معادلاته الرياضية … التي كانت على درجة كبيرة من السِّرية، والخاصة بقدرات المفاعلات النووية السِّلمية. وتنهَّد البروفيسور في راحة … وهو يشعر بإرهاق شديد. كان قد أمضى ساعاتٍ طويلةً بدون أن يحصل على قليل من الراحة.

وشعر بالجوع، فارتدى سُتْرتَه الثقيلة، وغادر المكان بعد أن أطفأ المدفأة … واتجه هابطًا خارجًا من معمله. وكانت سيارته تقف أمام سور الحديقة المحيط بالمعمل الكبير … الذي بدَا منظرُه مثلَ أيِّ منزل عادي.

شعر البروفيسور بالبرد يَلْفَحه … ولكنَّ كراتِ الثلج الصغيرةَ التي لامسَت وجهَهُ … أعادَت إليه حيويَّتَه … وزادَت إحساسَه بالجوع، فزاد من خطواته باتجاه سيارته … ليعود إلى منزله … حيث زوجته وأطفاله … والطعام الشهي والإحساس بالراحة … ولكن!

لم يكن مقدَّرًا للبروفيسور «مرزوق» أن يذهب إلى منزله … ولا أن يشاهد زوجته أو أولاده. لم يكن مقدَّرًا للبروفيسور أن يفعل شيئًا آخر تلك الليلة. فما كاد أن يخطوَ باتجاه سيارته … وتُلامس أصابعُه بابَها … حتى انطلقَت ثلاثُ رصاصات من مسدس كاتم للصوت في اتجاه جسد البروفيسور … وعلى أثرها تهاوَى بلا حَراك بجوار سيارته. وظل الثلجُ يتساقطُ … ولم يشعر أحدٌ بما جرى. وانسلُّ القاتلُ الحقيقيُّ بسرعة دون أن يترك أيَّ أثر وراءه … غيرَ خيطٍ رفيع من الدماء يسيل من قلب البروفيسور القتيل … فصبغ الثلج الناصع حوله بلونٍ أحمر حزين.

الخامسة فجرًا …

والضباب قد تكاثف حول مدينة «لندن» بشكل سيئ … حتى لا يكادَ الإنسانُ يرى أبعدَ من أصابعه. وخلَت الطرق من المارة بسبب البرد القارص … ولم يُسمع هنا أو هناك غير صوت خطوات رجل الشرطة المكلَّف بالحراسة في ذلك الطريق … المطل على برج لندن … من نهايته. وقد أوشك النهرُ الجاري على التجمُّد لشدة الصقيع. لم تشهد مدينةُ لندن منذ سنوات مثل ذلك البرد القارص.

لكن العالِم اللبناني «أنطوان سعيد» … لم يكن يشعر بأيِّ بردٍ على الإطلاق. كانت التجربة التي يُجريها على استنباط نوع جديد من الطاقة العالية القوة … باستخدام أوراق الشجر المعالجة بطريقة كيميائية خاصة … وبدرجات حرارة معينة. كانت تلك التجارب تُوشك أن تكتمل … بعد مجهودِ سنوات طويلة من الأبحاث والتجارب، وها هي تُوشك على النهاية لتحقِّق نصرًا علميًّا عزيزًا! وانقلابًا في عالم استخدام الطاقة التقليدية.

كان نجاح «أنطوان سعيد» كفيلًا بجعله أشهرَ رجل في العالم … ومن أثرى أثريائها. وكان نجاحه أيضًا كفيلًا بحلِّ جزءٍ كبيرٍ من مشكلات العالم … ومن مشكلات وطنه على الأخصِّ.

شعر العالم اللبناني بالإرهاق الشديد. كان قد أمضى ما يقرب من ٤٨ ساعة في معمله … دون أن يحصلَ على أيِّ قدر من الراحة … وشعر بأنه يكاد يفقدُ وَعْيَه لشدةِ تعبِه. وتثاءَبَ وهو يفكِّر … من الأفضل أن يحتفظ لنفسه ببعض القوة … وسوف تكتمل تجاربُه قريبًا. أغلق بابَ معمله … وفضَّل أن يذهب إلى مسكنه القريب الذي يعيش فيه وحيدًا … ليحصل على أكبر قدر من الراحة.

كان «أنطوان سعيد» لا يتجاوز الثلاثين من عمره … ولكنه كان عبقريًّا بكل المقاييس، ولم يكن يشغله غيرُ عمله وتجاربه … ولذلك … لم يفكر في الارتباط أو الزواج قبل أن تنتهيَ تجاربه.

واستقبله ضوءُ الفجر الشاحب في الخارج … وسَمِع صوتَ أقدام رجل الشرطة القريب منه … وإن لم يستطع تمييز مكانه بسبب الضباب الكثيف …

واتجه «أنطوان» إلى سيارته … ووقف لحظة مترددًا، هل يقود سيارته في ذلك الضباب … أو يذهب إلى منزله سيرًا على الأقدام؟!

استقرَّ رأيُه على ركوب السيارة بسبب البرودة القارصة، وفتح باب السيارة … ووضع المفتاح … وما كاد يُدير مفتاح السيارة … حتى دوَّى انفجارٌ هائل … وتحوَّلَت السيارة براكبها إلى قطعة من الجحيم المشتعل. وعلى الفور استيقظ النائمون … وانفتحَت أبوابٌ وشبابيك … وأطلَّت الرءوس … ولكن … لم يظهر أيُّ رجل شرطة في المكان بنفس السرعة. أما رجل الشرطة الوحيد … الذي كان بالمكان … فقد ارتسمَت ابتسامةٌ غامضة على وجهه … وأسرع يختفي داخل الضباب الكثيف …

الخامسة عصرًا …

ومدينة «برازيليا» عاصمة البرازيل تبدو مشرقةً ناصعة الوجه … برغم الشتاء البارد. وقرصُ الشمس في السماء لم يَغِب بعدُ … مرسلًا آخرَ شعاع دافئ، وراح الدكتور «صالح الطيب» يلتهم غداءَه في شهية.

كان لا يزال أمامه الكثير من العمل … وحكومته تنتظر نتائج تجاربه على أحرِّ من الجمر … في استغلال الغابات … وجعلها صالحةً للزراعة لأنواع معينة من النباتات، وهو الشيء الذي برع فيه البرازيليون، ولأجل ذلك … كانت بعثتُه وسفرُه من جامعة الخرطوم إلى البرازيل؛ للاستفادة من أبحاث البرازيل وتجاربها في ذلك الشأن.

كان الدكتور «صالح» أبرعَ مما ظن أساتذتُه … فقد درس كلَّ التجارب البرازيلية، وأضاف إليها مستنبِطًا أنواعًا جديدة من الأسمدة العضوية المحلية … الناتجة من تحلُّل أوراق الأشجار والأغصان داخل الغابات نفسها؛ للاستفادة بها في تسميد تربة الغابات دون أية تكلفة تُذكَر.

كان على الدكتور «صالح» أن يُنهيَ غداءَه بسرعة، فإلى جانب عمله العاجل، كانت هناك دعوة مسائية للاحتفاء به في بعض الأوساط العلمية البرازيلية؛ توطئة لإعلان نتائج أبحاثه … التي كان الدكتور «صالح» يحتفظ بأغلب نتائجها لنفسه، دون أن يفصحَ عنها لإنسان آخر.

أنهى الدكتور «صالح» غداءَه … ونهض … وقد تضاعف نشاطُه … واتجه إلى ثلاجته الصغيرة. كان يشعر بالعطش وبالحر … برغم الجو البارد حوله. كان معروفًا عنه أنه ببشرته السمراء الملتهبة … لا يشعر بغير الحر … مهما كان البرد حوله.

وراح الدكتور «صالح» يعبُّ من الماء المثلج … وارتسمَت ابتسامةُ راحةٍ على وجهه. ولكن ابتسامته سرعان ما اختفت … وحلَّ محلَّها نظرةٌ متجمدة. وتقلَّصَت أطراف الدكتور «صالح» … وسقطَت الزجاجة من يده على الأرض … وتحطَّمَت.

وظهر زبدٌ أبيض فوق شفتَي الدكتور … وسقط على الأرض … وراح يتلوَّى من الألم الرهيب في أحشائه.

ثم كفَّت حركةُ الدكتور «صالح» … وتمدَّد بلا حَراك بعد ثانيتَين بالضبط؛ فقد كان سمُّ الكوبرا … الذي تم وضعه في زجاجة الماء البارد … شديدَ المفعول … وكفيلًا بقتل فيل … لو سرى في دمائه خلال ثوانٍ قليلة.

منتصف الليل من نفس الليلة …

وأصوات مدينة باريس الساهرة حتى ذلك الوقت … تأتي مختلطة بضحكات الساهرين بجوار نهر السين … والأضواء اللامعة المتناثرة فوق صفحة النهر … تبدو كما لو كانت عيونًا ملتهبة … لا تزال مستيقظة في ذلك الوقت المتأخر.

ووقف البروفيسور «أدهم الدسوقي» يتنسَّم رائحة الماء والنهر الجاري، والذي ذكَّره على الفور بنهر النيل والقاهرة ونهرها … الذي اشتاق إليه كثيرًا … وزوجته وأطفاله في القاهرة.

وتذكَّر البروفيسور في غمرة انشغاله بأعماله وأبحاثه … التي أوشكَت على الانتهاء، والتي كانت ستُحدث انقلابًا في طرق زراعة الأراضي الصحراوية … بدون استخدام أسمدة … بل بواسطة مواد آزوتية قليلة التكلفة … ودون الحاجة إلى مصادر دائمة للمياه. وكان نجاح تلك التجارب كفيلًا بتغيير خريطة الحياة الاجتماعية والزراعية في مصر. وها هو البروفيسور «أدهم» قد أوشك على الانتهاء من تجاربه بالفعل … وتنبَّه على صوت سكرتيرته الفرنسية. كان قد نَسيَ وجودها بجواره، وأنه تبرَّع لتوصيلها إلى منزلها بسبب تأخيره لها في العمل.

وتنبَّه إلى كلماتها تقول: يبدو أن نهر «السين» قد أعاد ذكرى بلادك إليك!

أجابها البروفيسور: معكِ حقٌّ.

فقالت له: لقد اقتربتَ كثيرًا من منزلي … ولا حاجة بك لأن تُتعب نفسك أكثر من ذلك … سأتركك للنهر.

وابتسمَت ولوَّحَت له … وسارَت بخطوات رشيقة. ووقف البروفيسور يتنسم رائحة الماء والهواء … وطاف بذهنه صورةُ حفيدِه ذي الثلاث سنوات … والتي أصرَّ على أن يحملَها معه في سفره، وأخرج صورة الحفيد المنقوشة فوق دائرة من النحاس … وابتسم للوجه الطفولي الرائق الملامح.

ووقف يتأمَّل الصورة لحظة … ثم أعادها إلى جيبه في صدره … واستدار ليعود من حيث أتى، ولكنَّ عينَيه تسمَّرتَا على ذلك الشخص صاحب المعطف الثقيل … والنظارة السوداء … والقبعة التي أخفَت ملامحه.

وأخرج صاحب المعطف الثقيل يدَه من جيبه … وفيها مسدسٌ صغير قد ركَّب له كاتمًا للصوت. وقبل أن يصرخ البروفيسور أو يستنجد بإنسان … انطلقَت رصاصتان تجاه البروفيسور … وسقط البروفيسور على الأرض … وتدحرج جسدُه نحو النهر الجاري من أسفل. وكان لسقوط جسد البروفيسور في الماء صوتٌ ثقيل … لم يلفت انتباهَ أحد. وحمل التيار ضحيتَه بعيدًا …

وأعاد صاحب المعطف الثقيل مسدسه إلى جيبه … وابتعد عن المكان بخطوات ثقيلة … دون أن يحسَّ به إنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤