الفصل الأول

نظرية التكوين

تشكل نظرية التكوين المحور الرئيس في مذهب إخوان الصفاء، وعنها تتفرَّع بقية المحاور، على الرغم من أن الإخوان لم يبسطوها في نص مطرد يشغل حيزًا محددًا من رسائلهم. ولسوف نعمد فيما يأتي إلى استقصاء هذه النظرية من خلال مقتبسات من رسائلهم توضح بالتدريج نظرية التكوين الصفائية، لنزود القارئ بالمفاتيح الرئيسة التي تعينه على فهم فكر الإخوان، ومتابعته عبر بقية المحاور. ولسوف نبتدئ أولًا في استجلاء أفكار الإخوان في طبيعة الألوهة وماهيتها وصفاتها وعلاقتها بالعالم.

«اعلم أن مِلاك الأمر في معرفة حقائق الأشياء هو في تصوُّر الإنسان حدوث العالم وكيفية إبداع الباري العالم، واختراعه إياه، وكيفية ترتيبه للموجودات، ونظامه للكائنات بما هي عليه الآن، ولِم كان ذلك.

ثم اعلم أن كل عاقل إذا سمع كلام العلماء في حدوث العالم، وأقاويل الحكماء في كيفية إبداع الباري تعالى العالم، واختراعه له بعد أن لم يكن، وتفكَّر فيما قالوه، فإنه يشتهي ويتمنى لو علم كيف صنَعَه، ومتى عَمِلهُ، ولمَ فعل ذلك بعد أن لم يكن قبل. فإن فكَّر في هذه الثلاثة من المباحث ولم يتصوَّر كيفية ذلك، ولا متى، ولا لمَ، لصعوبتها ودقتها، ربما تحير عقله، وتشككت نفسه فيما قالت الحكماء، وارتابت بها وتبلبلت.

ثم اعلم أن العلة في صعوبة التصور لحدوث العالم، وكيفية إبداع الباري تعالى له من غير شيء، هو من أجل العادة في الشاهد أن كل مصنوع فإن صانعه يعمله من هيولى ما، في مكان ما، في زمان ما، بحركات وأدوات. وليس حدوث العالم وصنعته وإبداع الباري له هكذا، بل أخرج من العدم إلى الوجود هذه الأشياء كلها، أعني الهيولى والمكان والزمان والحركات والأدوات والأعراض، فمن أجل هذا لا يُتصور كيفية حدوث العالم وإبداعه.

ثم اعلم أن الله تعالى قد علم بأنه يعرض للعقلاء هذه الشكوك والحيرة حيث تفكَّروا في كيفية حدوث العالم، ولا يتصوَّر بهذه الطريقة لصعوبتها، فجعل له طريقًا آخر أسهل من هذه وأقرب، وركزها في نفوسهم كأنها مكتوبة فيها كتابة إلهية، لا يمكن لأحد من العقلاء إنكارها إذا أنصف عقله؛ لأنه يجد صدقها في نفسه شاهدًا له بها، وهي كيفية صورة العدد، ومنشؤه من الواحد الذي قبل الاثنين» (٤٠: ٣، ٣٤٤-٣٤٧).١

«ثم اعلم أن مسألة الخلاف للذات والصفات هي أيضًا من إحدى المسائل الخلافية بين العلماء في الآراء والمذهب. وذلك أن كثرة الظنون والتخيُّلات العارضة للأفهام، إذا تفكَّرت النفوس في ماهية الله، وكيفية صفاته اللائقة، فلا تهتدي الظنون ولا تقر الأفهام عن الجولان، ولا تسكن النفوس إليه ولا تطمئن القلوب له حتى يعتقد الإنسان رأيًا من الآراء، وتسكن نفسه إليه ويطمئن قلبه به.

فمن الناس من يرى ويعتقد أن الله تعالى شخص من الأشخاص الفاضلة، ذو صفات كثيرة ممدوحة وأفعال كثيرة متغايرة، لا يشبه أحدًا من خلقه، ولا يماثله سواه من بريته، وهو منفرد من جميع خلقه في مكان دون مكان. وهذا رأي الجمهور من العامة وكثير من الخواص. ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه في السماء فوق رءوس الخلائق جميعًا. ومنهم مَنْ يرى أنه فوق العرش في السماوات، وهو مطلع على أهل السماوات والأرض، وينظر إليهم، ويسمع كلامهم، ويعلم ما في ضمائرهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم. واعلم أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للعامة من النساء والصبيان والجهَّال، ومن لا يعلم شيئًا من العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية والإلهية؛ لأنهم إذا اعتقدوا فيه هذا الرأي تيقَّنوا عند ذلك وجوده، وتحققوا وعلموا وصاياه التي جاءت بها الأنبياء، عليهم السلام، من الأوامر والنواهي … وكان في ذلك صلاح لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم من الخاص والعام، وليس يضر الله شيءٌ مما اعتقدوه.

ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف ترى بأن هذا الرأي باطل، ولا ينبغي أن يعتقدوا في الله تعالى أنه شخص يحويه مكان، بل هو صورة روحانية سارية في جميع الموجودات، حيثما كان لا يحويه مكان ولا زمان ولا يناله حِسٌّ ولا تغيير ولا حدثان وهو لا يخفى عليه من أمر خلقه ذرة في الأرضين والسماوات، يعلمها ويراها ويشاهدها في حال وجودها، وكان يعلمها قبل كونها وبعد فنائها.

ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والعقل ترى وتعتقد أنه ليس بذي صورة؛ لأن الصورة لا تقوم إلا في الهيولى [= المادة]، بل ترى أنه نور بسيط من الأنوار الروحانية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.

ومن الناس ممن فوق هؤلاء من العلوم والمعارف والنظر والمشاهد، يرى ويعتقد أنه ليس بشخص ولا صورة بل هوية وحدانية، ذو قوة واحدة وأفعال كثيرة وصنائع عجيبة، لا يعلم أحد من خَلْقه ما هو، وأين هو، وكيف هو، وهو الفائض منه وجود الموجودات، وهو المظهر صورة الكائنات في الهيولى، المبدع جميع الكيفيات بلا زمان ولا مكان، بل قال كن، فكان، وهو موجود في كل شيء من غير المخالطة، ومع كل شيء من غير الممازجة، كوجود الواحد في كل عدد. كما وصفنا في رسالة المبادئ.

ثم اعلم أن الله تعالى جعل بواجب حكمته، في جبلة النفوس، معرفة هويته طبعًا من غير تعلم ولا اكتساب، لتكون تلك المعرفة داعية لها ومؤدية إلى طلب ماهيته ومعرفة آنيته، ولتكون طِلْبتها في هذه المعارف داعية لها ومؤدية إلى إحكام جميع العلوم والمعارف الإلهية والطبيعية والرياضية والعقلية والحسية، حتى إذا أحكمت [أي النفوس] هذه العلوم والمعارف، عرفتْه عند ذلك حق معرفته، وسكنت إليه واطمأنت وثبتت معه، ونالت السعادة القصوى التي هي سعادة الآخرة» (٤٢: ٣، ٥١٤–٥١٦).

إن نقطة الانطلاق في أي نظرية عقلية للتكوين هي إثبات حدوث العالم ونفي صفة القِدم عنه. من هنا يجادل الإخوان في أكثر من موضع في رسائلهم من يقول بقدم العالم وما ينجم عن ذلك من نفي صانع له. فالعالم مُحدَث، وكل محدَث لا بد له من محدِث وموجِد. ومن جملة ما أوردوه من براهين على حدوث العالم قولهم:

«ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها، هو بيان بطلان قول من يقول بقِدم العالم، وذلك لأن الحركات المختلفة تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديمًا؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال، ولذلك ليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله الواحد الأحد …

ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم العالم ظنوا بأنه ساكن، والساكن لا تختلف أحواله، وليس الأمر كما ظنُّوا وتوهموا من سكون العالم، كما بينَّا فيما تقدم بكثرة حركات كلياته وجزئياته ما لا تنكره العقول السليمة: فمنها حركات الكواكب، ودوران الأفلاك، واستحالات الأركان، وتكوين المولَّدات مما لا خفاء به.

ولعمري إن الفلك المحيط هو جسم كروي محيط بسائر الأشياء والأفلاك، وهو ساكن في مقره لا ينتقل منه، ولكنه متحرِّك الأجزاء كله. وكل فلك، من الأفلاك المستديرة، والأفلاك الخارجة المراكز، يدور كل واحد حول مركزه الخاص، لا يَقَرُّ ولا يهدأ طرفة عين» (٣٩: ٣، ٣٣٢). «فإن كان المراد بالقديم أنه قد أتى عليه زمان طويل، فالقول صحيح؛ وإن كان المراد به أنه لم يزل ثابت العين على ما هو عليه الآن، فلا؛ لأن العالم ليس بثابت العين على حالة واحدة طرفة عين، فضلًا عن أن يكون لم يزل على ما هو عليه الآن» (١٤: ١، ٤٤٧).

«واعلم يا أخي بأن الحافظ للعالم على هذه الصورة، هو سرعة حركة الفلك المحيط، والمحرك للفك هو غير الفلك، و[اعلم] أن [في] تسكين الفلك عن الحركة بطلان العالم. وإنما يكون طرفة عين، كما قال عز وجل: … وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.٢

واعلم بأنه إذا وقف الفلك عن الدوران، وقفت الكواكب عن مسيرها، والبروج عن طلوعها وغروبها، وعند ذلك تبطل صورة العالم وقوامه، وتقوم القيامة الكبرى» (١٤: ١، ٤٤٧-٤٤٨).

«ثم اعلم أن الآراء الفاسدة كثيرة لا يُحصى عددها … فمن ذلك رأي من رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبر له، وإن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه، معذب لقلوبهم، وذلك أنه لا يخلو أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم؛ فإن كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا، وما هو فيه، ولا يدري من أعطاه ذلك ليشكر له، ويطلب منه المزيد ويرجو منه خيرًا مما أُعطي إما من الدنيا وإما في الآخرة. وقد علم يقينًا أن الذي فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه، مع شدة محبته للبقاء فيما هو فيه … فيعيش طول عمره خائفًا من الموت وجلًا من الفناء مشفقًا من الهلاك، ثم يموت على رغمٍ وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرًا … وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالًا وأمرُّ عيشًا وأشرُّ سيرة من غيره، وذلك أنه يُفني عمره كله بجهل وعناء وتعب وشقاء في طلب ما لم يقدَّر له … فهو بجهله بربه، يعيش طول عمره مغتمًّا حزينًا، ضجرًا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغصة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرًا» (٤٢: ٣، ٥٢٠). «فأما من يعتقد خلاف ذلك، وهو يعتقد أن العالم محدث مصنوع بقصد قاصد، وفعل حكيم، فإنه يعرض له عند ذلك خواطر عجيبة، وفكر ورويَّة، واعتبار وبصيرة، وسؤالات طريفة، ومباحث لطيفة عن العلوم الشريفة، ويكون في ذلك النجاة والسبب لانتباه النفس من نوم الغفلة، وتتفتح له عين البصيرة، ويحيا حياة العلماء، ويعيش عيش السعداء في الدنيا والآخرة جميعًا» (٣٩: ٣، ٣٤٠-٣٤١).

وأيضًا:

«ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة، المنجية لنفوس معتقديها، اعتقاد الموحدين بأن العالم محدث مختَرع مطوي في قبضة باريه، محتاج إليه في بقائه، مفتقر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين، ولا عن مداد الفيض عليه ساعة فساعة؛ وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة، لتهافتت السماوات، وبادت الأفلاك، وتساقطت الكواكب … ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان …

واعلم يا أخي أن مَن يعتقد هذا الرأي، ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السماوات والأرض، فهو في دائم الأوقات يكون متعلق القلب بربه، معتصمًا بحبله، متوكلًا عليه في جميع أحواله، مسندًا ظهره إليه في جميع تصرفاته، داعيًا له في جميع أوقاته، سائلًا منه كل حوائجه، مفوِّضًا إليه سائر أموره؛ فيكون بهذه الأوصاف قُربةً إلى ربه، وحياة لنفسه» (٣٨: ٣، ٢٩٦-٢٩٧).

فإذا كان العالم مُحدَثًا فلا بد له من مُحدِثٍ، وهنا ندخل في صلب نظرية التكوين الصفائية، حيث يتناوب الإخوان بين الفيثاغورية التي تقوم على علم العدد، والأفلاطونيَّة التي تقول بالفيض. فهم يقربون فكرة نشوء كثرة الموجودات عن الله الواحد من خلال ما وجدوه في علم العدد من نشوء كثرة الأعداد عن الرقم الواحد، الذي هو أصلها ومبتدؤها:

«فالواحد بالحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ولا ينقسم، وكل ما لا ينقسم فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم … وأما الكثرة فهي جملة لآحاد؛ وأول الكثرة الاثنان، ثم الثلاثة، ثم الأربعة، ثم الخمسة، وما زاد على ذلك بالغًا ما بلغ … والواحد الذي قبل الاثنين هو أصل العدد ومبدؤه، ومنه ينشأ العدد كله، صحيحه وكسوره، وإليه ينحل راجعًا. أما نشوء الصحيح فبالتزايد، وأما الكسور فبالتَّجزُّؤ …

وأما نشوء العدد الكسور من الواحد على هذا المثال الذي أقول: إنه إذا رُتب العدد الصحيح على نظمه الطبيعي الذي هو واحد، اثنان، ثلاثة … عشرة؛ ثم أُشير إلى الواحد من كل جملة، فإنه يتبين كيف يكون نشوءُه من الواحد، وذلك أنه إذا أُشير إلى الواحد من الاثنين، يقال للواحد عند ذلك نصف، وإذا أشير إلى الواحد من جملة ثلاثة فيقال له الثلث … وأيضًا إذا أشير إلى الواحد من جملة الأحد عشر فيقال له جزء من أحد عشر … وعلى هذا المثال يُعتبر سائر الكسور.

إذا تأملت ما ذكرنا من تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، ونشوئه منه، وجدته من أدل الدليل على وحدانية الباري — جل ثناؤه — وكيفية اختراعه الأشياء وإبداعه لها. وذلك أن الواحد الذي قبل الاثنين، وإن كان منه يُتصور وجود العدد وتركيبه، فهو لم يتغير عما كان عليه، ولم يتجزأ؛ كذلك الله، عز وجل، وإن كان هو الذي اخترع الأشياء من نور وحدانيته، وأبدعها وأنشأها، وبه قوامها وبقاؤها وتمامها وكمالها، فهو لم يتغير عما كان عليه من الوحدانية قبل اختراعه وإبداعه لها. فقد أنبأناك بما ذكرنا من أن نسبة الباري — جل ثناؤه — من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، وكما أن الواحد أصل العدد ومنشؤه وأوله وآخره، كذلك الله عز وجل هو علة الأشياء وخالقها وأولها وآخرها، وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثيل في العدد، فكذلك الله — جل ثناؤه — لا مثل له في خلقه ولا شبه؛ وكما أن الواحد محيط بالعدد كله ويَعُدُّه، كذلك الله، جل جلاله، عالم بالأشياء وماهيتها» (١: ١، ٤٩–٥٥) … «وأما قولنا: إن الواحد أصل العدد ومنشؤه فهو أنَّ الواحد إذا رفعته من الوجود ارتفع العدد بارتفاعه، وإذا رفعْتَ العدد من الوجود، لم يرتفع الواحد» (١: ١، ٥٧).

ولكن الباري، جل ثناؤه، لا يباشر الأجسام بنفسه، ولا يتولَّى الأفعال بذاته. (١٩: ٢، ١٢٨)، والعالم ليس صنعة يديه، وإنما أظهره إلى الوجود عبر مراحل وسيطة، وبواسطة عملية الفيض:

«واعلم يا أخي أن الباري — جل ثناؤه — أول شيء اخترعه وأبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يُقال له: العقل الفعَّال، كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار. ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين. ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس، كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس، كما أنشأ سائر العدد من الأربعة، بإضافة ما قبلها إليها» (١: ١، ٥٤).

«واعلم يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد كله آحاده وعشراته ومئاته وألوفه، أو ما زاد بالغًا ما بلغ، فأصلها كلها من الواحد إلى الأربعة، وهي هذه «١، ٢، ٣، ٤». وذلك أن سائر الأعداد كلها من هذه يتركب … بيان ذلك أنه إذا أضيف واحد إلى الأربعة، كانت خمسة، وإن أضيف اثنان إلى أربعة كانت ستة؛ وإن أضيف ثلاثة إلى أربعة، كانت سبعة؛ وإن أضيف واحد وثلاثة إلى أربعة كانت ثمانية؛ وإن أضيف اثنان وثلاثة إلى أربعة، كانت تسعة، وإن أضيف واحد واثنان وثلاثة إلى أربعة، كانت عشرة. وعلى هذا المثال حكم سائر الأعداد» (١: ١، ٥٣).

وأيضًا:

«اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّ أول شيء اخترعه الله — جل ثناؤه — وأوجده جوهر بسيط روحاني في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء يسمى العقل الفعَّال؛ وأن من ذلك الجوهر فاض جوهر آخر يسمى النفس الكلية؛ وانبجس من النفس جوهر آخر يسمى الهيولى الأولى؛ وأن الهيولى الأولى قبلت المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق، فصارت بذلك جسمًا مطلقًا وهو الهيولى الثانية.

ثم إن الجسم قَبِل الشكل الكُري، الذي هو أفضل الأشكال، فكان من ذلك عالم الأفلاك والكواكب ما صفا منه ولطُف، الأول فالأول من لدن الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، وهي تسع أُكر بعضها في جوف بعض: فأدناها إلى المركز فلك القمر، وأبعدها وأعلاها الفلك المحيط، ويسمى أيضًا الفلك الحامل للكل الذي هو ألطف الأفلاك جوهرًا وأبسطها جسمًا، ثم دونه فلك الكواكب الثابتة، ثم دونه فلك زحل، ثم دون فلك المشتري، ثم دونه فلك المريخ، ثم دونه فلك الشمس، ثم دونه فلك الزهرة، ثم دونه فلك عطارد، ثم دونه فلك القمر، ثم دون فلك القمر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، فالأرض هي المركز وهي أغلظ الأجسام جوهرًا وأكثفها جرمًا» (٣٢: ٣، ١٨٧). (راجع الشكل ٢-١ في الفصل الثاني).

بهذا المنهج العقلاني البعيد عن الفكر الأسطوري الذي يميز عادة نظريات التكوين الدينية، يتابع الإخوان رؤيتهم للنشأة الأولى:

«ولما ترتبت هذه الأكر بعضها في جوف بعض … ودارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها على الأركان الأربعة، وتعاقب عليها الليل والنهار والشتاء والصيف والحر والبرد، واختلط بعضها ببعض، فامتزج اللطيف منها بالكثيف، والثقيل بالخفيف، والحار بالبارد، والرطب باليابس، تركَّبت منها على طول الزمان أنواع التراكيب التي هي المعادن والنبات والحيوان. فالمعدن هو كل ما انعقد في باطن الأرض وقعر البحار وجوف الجبال من البخارات المتحللة والدخانات المتصاعدة، والرطوبات المحتقنة في المغارات والأهوية. والترابية عليها أغلب. وأما النبات فهو كل ما نجم على وجه الأرض من العشب والكلأ والحشائش والبقول والزروع والأشجار. والمائية عليها أغلب. وأما الحيوان فهو كل جسم يتحرك ويحس وينتقل من مكان إلى مكان بجثته. والهوائية عليه أغلب.

فالمعادن أشرف تركيبًا من الأركان [الأربعة]، والنبات أشرف تركيبًا من المعادن، والحيوان أشرف تركيبًا من النبات، والإنسان أشرف تركيبًا من جميع الحيوان. والنارية عليه أغلب. وقد اجتمع في تركيب الإنسان جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات التي تقدَّم ذكرها؛ لأن الإنسان مؤلف من جسد غليظ جسماني، ومن نفس بسيطة روحانية» (٣٢: ٣، ١٨٨).

إن أفضل ما يمكن أن نشبِّه به فيض الباري عز وجل، هو النور الذي يفيض من عين الشمس بشكل متصل لا ينقطع:

«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى لما كان تام الوجود، كامل الفضائل عالمًا بالكائنات قبل كونها، قادرًا على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته لا يجود بها ولا يُفيضها. فإذا بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء، ودام ذلك الفيض منه متصلًا متواترًا غير منقطع، فيسمى أول ذلك الفيض العقل الفعَّال، وهو جوهر بسيط روحاني، نور محض، في غاية التمام والكمال والفضائل، وفيه صور جميع الأشياء، كما تكون في فكر العالِم صور المعلومات. وفاض من العقل الفعَّال فيض آخر دونه في الرتبة يسمى العقل المنفعل، وهي النفس الكلية، وهي جوهرة روحانية بسيطة قابلة للصور والفضائل من العقل الفعَّال على الترتيب والنظام، كما يقبل التلميذ من الأستاذ التعليم. وفاض من النفس أيضًا فيض آخر دونها في الرتبة يسمى الهيولى الأولى، وهي جوهرة بسيطة روحانية، قابلة من النفس الصور والأشكال بالزمان شيئًا بعد شيء. فأول صورة قبلتها الهيولى الطول والعرض والعمق، فكانت بذلك جسمًا مطلقًا وهو الهيولى الثانية. ووقف الفيض عند وجود الجسم ولم يفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية، وغلظ جوهره، وبُعده عن العلة الأولى.

ولما دام الفيض من الباري تعالى على العقل، ومن العقل على النفس، عطفت النفس على الجسم فصوَّرت فيه الصور والأشكال والأصباغ، لتتمه بالفضائل والمحاسن بحسب ما يمكن قبول الجسم وصفاء جوهره. فأول صورة عملت النفس في الجسم الشكل الكُري الذي هو أفضل الأشكال كلها، وحرَّكته بالحركة الدورية التي هي أفضل الحركات، ورتبت بعضها في جوف بعض من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي إحدى عشرة كرة، فصار الكل عالمًا واحدًا، منتظمًا نظامًا كليًّا واحدًا، وصارت الأرض أغلظ الأجسام كلها، وأشدها ظلمة لبعدها من الفلك المحيط، وصار الفلك المحيط ألطف الأجسام كلها وأشدها روحانية، وأشفها نورًا، لقربه من الهيولى الأولى التي هي جوهر بسيط معقول. وصارت الهيولى أنقص رتبة من العقل والنفس لبعدها من الباري جلَّ وعز» (٣٢: ٣، ١٩٦–١٩٨).

وأيضًا:

«لما كانت الموجودات كلها مُرتبة بعضها تحت بعض، متعلقة في الوجود بالعلة الأولى الذي هو الباري تعالى كتعلُّق العدد وترتيبه عن الواحد الذي قبل الاثنين، وكانت النفس أحد الموجودات، وكانت مرتبتها دون العقل وفوق الجسم المطلق، وكان الجسم فارغًا من الأشكال والصور والنقوش والحياة، قابلًا لها بالطبع؛ وكانت النفس حية بالذات، علَّامة بالقوة، فعَّالة بالطبع، ولم يكن من الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تُترك النفس فارغة غير مشغولة بضرب من الحكمة، وأن يكون الجسم، مع قبوله للتمام، عاطلًا ناقص الحال؛ ولم يكن للنفس أن تتحكم على الموجودات التي فوق رتبتها والتي هي العقل الفعَّال، [فقد] عطفت النفس بواجب الحكمة على الجسم المطلق؛ إذ كان دونها في الرتبة، فتحكمت فيه بالتحريك له والشكل والتصاوير والنقوش والأصباغ ليتمَّ الجسم بذلك، وتَكمل النفس أيضًا بإخراج ما في قوتها من الحكمة والصنائع إلى الفعل والظهور والإظهار …

فمن أجل هذا رُبطت النفس الكلية بالجسم الكلي المطلق الذي هو جملة العالم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي سارية في جميع أفلاكه وأركانه ومولَّداته، ومدبَّرة لها ومحركة بإذن الله تعالى وتقدَّس» (٢٩: ٣، ٣٦). «ومكَّنها الله تعالى من ذلك وجعله جسدًا لها … فأقبلت تمثل فيه ما كان ممثَّلًا فيها، وتخرجه من القوة إلى الفعل، ومن المعقول إلى المحسوس، الشيء بعد الشيء» (٣٠: ٣، ٨٨).

«واعلم يا أخي أن العقل إنما قبل فيض الباري تعالى وفضائله التي هي البقاء والتمام والكمال دفعة واحدة بلا زمان ولا حركة ولا نصَبٍ؛ لقربه من الباري — عز وجل — وشدة روحانيته. فأما النفس فإنه لما كان وجودها من الباري — جل ثناؤه — بتوسط العقل، صارت رتبتها دون العقل، وصارت ناقصة في قبول الفضائل، ولأنها أيضًا تارة تتوجه نحو العقل لتستمد منه الخير والفضائل، وتارة تُقبل على الهيولى لتمدها بذلك الخير والفضائل. فإذا هي توجهت نحو العقل لتستمد منه الخير اشتغلت عن إفادتها الهيولى ذلك الخير، وإذا هي أقبلت على الهيولى لتمدها بذلك الفيض اشتغلت عن العقل وقبول فضائله.

ولما كانت الهيولى ناقصة الرتبة عن تمام فضائل النفس، وغير راغبة في فيضها، احتاجت النفس أن تُقبل عليها إقبالًا شديدًا، وتُعنى بإصلاحها عناية تامة، فتتعب ويلحقها العناء والشقاء في ذلك. ولولا أن الباري، عز وجل، بفضله ورحمته أيدها بالعقل وأعانها على تخليصها، لهلكت النفس في بحر الهيولى … وأما العقل فليس يناله في تأييده النفس تعب ولا نصب؛ لأن النفس جوهرة روحانية سهلة القبول، تطلب فضائل العقل، وترغب في خيراته …

وأما الهيولى فلبعدها من الباري، تعالى ذكره، صارت ناقصة المرتبة، عادمة الفضائل، غير طالبة لفيض النفس ولا راغبة في فضائلها، ولا علَّامة ولا مفيدة ولا حية، بل قابلة فحسب. فمن أجل هذا يلحق النفس التعب والعناء والجهد والشقاء في تدبيرها الهيولى وتتميمها لها» (٣٢: ٣، ١٨٥-١٨٦).

«واعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال؛ لأن كل كامل تام، وكل تام باقٍ وكل باقٍ موجود. ولكن ليس كل موجود باقيًا، ولا كل باقٍ تامًّا، ولا كل تام كاملًا. وذلك أن الباري، جلت أسماؤه، الذي هو علة الموجودات ومبدعها ومبقيها ومتممها ومكملها، أول فيض فاض منه الوجود، ثم البقاء، ثم الكمال» (٣٢: ٣، ١٨٢). «واعلم أن علَّة وجود العقل هي وجود الباري، عز وجل، وفيضه الذي فاض منه. وعلة بقاء العقل هو إمداد الباري، عز وجل، له بالوجود والفيض الذي فاض أولًا، وعلَّة تمامية العقل هي قبول ذلك الفيض والفضائل واستمداده من الباري تعالى. وعلَّة كمال العقل: هي إفاضة ذلك الفيض والفضائل على النفس بما استفاده من الباري عزَّ وجل. فبقاء العقل إذًا علَّة لوجود النفس، وتمامية العقل علَّة لبقاء النفس، وكماله علَّة لتمامية النفس، وبقاء النفس علَّة لوجود الهيولى، وتمامية النفس علَّة لبقاء الهيولى. فمتى كمُلت النفس تمت الهيولى. وهذا هو الغرض الأقصى في رباط النفس بالهيولى، ومن أجل هذا دوران الفلك وتكوين الكائنات لتَكمل النفس بإظهار فضائلها في الهيولى، وتتم الهيولى بقبول ذلك. ولو لم يكن هذا هكذا لكان دوران الفلك عبثًا» (٣٢: ٣، ١٨٥).

وإذا كان ما دون الله قد ظهر عنه من خلال فعالية الفيض، فإن هذا الفيض يبقى متواترًا لا يفتر؛ لأن به وجود العالم وبقاءه واستمراره. فالخلق والحالة هذه ليس عملًا إلهيًّا تم في مطلع الزمن ثم توقف، بل هو فعالية دائمة تحفظ الكون في كل لحظة:

«ثم اعلم أن الأشياء هي أعيان، أي صور غيريات أفاضها تعالى، وأبدعها كما أن العدد هو أعيان، أي صور غيريات، فاض من الواحد بالتكرار في أفكار النفوس، والأشياء كانت في علم الباري تعالى قبل إبداعه واختراعه لها، كما أن الواحد لم يتغير عما كان عليه قبل ظهور العدد منه في أفكار النفوس.

ومن أخص أوصاف الباري أنه غير الوجود، وأصل الموجودات وعلتها، كما أن الواحد أصل العدد ومبدؤه ومنشؤه، ولو كان للباري تعالى ضدٌّ لكان العدم، ولكن العدم ليس بشيء، والباري تعالى في كل شيء، ومع كل شيء، من غير مخالطة لها ولا ممازجة معها، كما أن الواحد في كل عدد ومعدود، فإذا ارتفع الواحد من كل الموجود توهمنا ارتفاع العدد كله، وإذا ارتفع العدد لم يرتفع الواحد، كذلك لو لم يكن الباري لم يكن شيء موجودًا أصلًا، وإذا بطلت الأشياء لا يبطل هو ببطلان الأشياء …

ثم اعلم أن كل موجود تام فإنَّه يفيض منه على ما دونه فيض ما، وأن ذلك الفيض هو من جوهره، أعني صورته المقومة التي هي ذاته. والمثال في ذلك حرارة النار فإنها تفيض منها على ما حولها من الأجسام، من التسخين والحرارة، وهي جوهرية النار التي هي صورتها المقومة لها، وهكذا أيضًا يفيض من الماء الترطيب والبلل على الأجسام المجاورة له. والرطوبة جوهرية في الماء، وهي صورة مقومة لذاته، وهكذا أيضًا يفيض من الشمس النور والضياء على الأفلاك والهواء؛ لأن النور جوهري في الشمس، وهي صورته المقومة لذاته. وهكذا أيضًا تفيض من النفس الحياة على الأجسام؛ لأن الحياة جوهرية لها، وهي الصورة المقومة لذاتها.

ثم اعلم أنه ما دام الفيض من الفائض يكون متواترًا متصلًا، دام ذلك المُفاض عليه، ومتى لم يتواتر متصلًا، عدِم [المُفاض عليه] وبطل وجوده؛ لأنه يضمحل الأول فالأول. والمثال في ذلك الضوء في الهواء، فإذا تواتر البرق واتصل، بقي الهواء مضيئًا مثل النهار؛ [وكذلك الشمس إذا تواتر ضوءُها]٣ لأن الشمس تفيض الفيض منها على الهواء متواترًا متصلًا، فإذا حجز بينهما حاجز، عدِم ذلك الضوء من الهواء؛ لأنه يضمحل ساعة ساعة، ولا يتواتر الفيض عليه؛ وهكذا الحياة من النفس على الأجسام ما دامت متصلة متواترة، تدوم الحياة، فإذا فارقت النفس الجسد، بطلت حياة الجسد من ساعته واضمحلت. وهكذا حكم وجود العالم وبقائه من الباري تعالى، ما دام الفيض والجود والعطاء متواترًا متصلًا دام وجود العالم من الله تعالى» (٤٠: ٣، ٣٤٨–٣٥٠).

«اعلم أن وجود العالم عن الباري ليس كوجود الدار عن البنَّاء، أو كوجود الكتاب عن الكاتب، [ذلك الوجود] الثابت المستقل بذاته، المستغني عن الكاتب بعد فراغه من الكتابة، وعن البنَّاء بعد فراغه من أبنية الدار؛ ولكن كوجود الكلام عن المتكلم الذي إن سكت بطل وجود الكلام. فالكلام يكون موجودًا ما دام المتكلم به يتكلم ومتى سكت بطل وجوده. أو كوجود نور السراج في الهواء، ما دام السراج باقيًا، فالنور باقٍ موجود. أو كوجود ضوء الشمس في الجو، فإذا غابت الشمس بطل وجدان الضوء من الجو …

ثم اعلم أن كلام المتكلم ليس هو جزءًا منه، بل فعلٌ فعله أو عمل عمله وأظهره بعد أن لم يكن. وهكذا حكم النور الذي يُرى في الجو عن جرم الشمس ليس هو جزءًا منها بل هو أشخاص منها وفيض وفضل منها … وهكذا الحكم والمثال في وجود العالم عن الباري، وذلك أن العالم ليس بجزء منه، بل فضلٌ تفضل به، وفيضُ جودٍ أفاضه، وفعلٌ فعله بعد أن لم يكن فعل … ولا ينبغي أن تظن أن وجود العالم عن الله تعالى طبعًا بلا اختيار منه مثل: وجود نور الشمس في الجو طبعًا لا اختيار منها، ولا تقدر أن تمنع نورها وفيضها؛ لأنها مطبوعة على ذلك طبعها رب العالمين، فأما الباري تعالى فمختار في فعله إن شاء فعل، وإن شاء أمسك عن الفعل تركًا، مثل المتكلم القادر على الكلام، إن شاء تكلَّم، وإن شاء أمسك وسكت» (٣٩: ٣، ٣٣٧-٣٣٨).

هذا الفيض الإلهي قاد إلى ظهور عالمين، عالم روحاني: مرتبته فوق الفلك المحيط، وعالم جسماني: هو الفلك المحيط وما يليه من أفلاك، وهو ينقسم بدوره إلى قسمين، الأول: هو الأعلى والأكثر شفافية ونقاءً ويمتد من الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، ويُدعى عالم الأفلاك. والثاني: هو الأدنى والأغلظ، ويقع دون فلك القمر، ويُدعى عالم الأركان الأربعة، وهو دائم التغيُّر والاستحالة، ولذلك يُدعى أيضًا عالم الكون والفساد:

«ثم اعلم أن لله تعالى عالمين: أحدهما جسماني، والآخر روحاني. فالعالم الجسماني: هو الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك، والكواكب، والأركان، والمولدات الثلاثة [المعادن والنبات والحيوان]، والعالم الروحاني: هو عالم العقل وما يحويه من النفس، والصور التي ليست بأجسام ذوات الأبعاد الثلاثة التي هي ظل ذي ثلاث شعب.٤

ثم اعلم أن العالم الروحاني محيط بعالم الأفلاك، كما أن عالم الأفلاك محيط بعالم الأركان الذي دون فلك القمر. وقد جعل الله تعالى عالم الأفلاك كريات الأشكال، مستديرات الحركات؛ لأن هذا الشكل هو أفضل الأشكال من عدة وجوه ومعانٍ، والحركة المستديرة أفضل الحركات من جهات شتى …

فإذا قيل: لمَ جعل الباري تعالى عالم الأجسام قسمين، أحدهما: علوي هو عالم الأفلاك وما فيها من أصناف الأكر والكواكب، والآخر: سفلي وهو عالم الأركان وما فيها من أجناس الخلائق؟ فيقال له: لعللٍ شتى وأسباب عدة، ولما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة ما لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولكن نذكر طرفًا منها فنقول: ليكون في ذلك تبصرة للعقلاء وبيان لأولي الأبصار. فإن لله دارين اثنتين، إحداهما: هي الدنيا التي هي عالم الأجسام ومسكن الأجرام، والأخرى: هي الدار الآخرة التي هي عالم الأرواح ومحل النفوس» (٤٠: ٣، ٣٦١-٣٦٢).

وكما سيشرح لنا الإخوان فيما بعد عبر تصوراتهم عن الآخرة والنشأة الثانية، فإن النفوس الجزئية التي اتحدت بالأجسام الإنسانية تنتقل عبر هذه المراتب الثلاثة للوجود. فإذا هي حققت العرفان الذي يقود إلى نجاتها من أسر الطبيعة، انتقلت إلى عالم الأفلاك الذي هو الجنة، فتقيم هناك حتى يحين موعد انسحاب النفس الكلية من جسد العالم، ويخرب العالم المادي، فتعود هذه النفوس إلى الالتحاق بالنفس الكلية في العالم الروحاني الأعلى.

ولكن هل تم إبداع هذه العوالم الروحانية والجسمانية دفعة واحدة، أم على مراحل؟ إن الإخوان في جوابهم عن هذه المسألة يقفون على جانب النظرية التطورية التي أثبتتها العلوم الكونية الحديثة:

«ثم اعلم أن كل لبيب عاقل إذا فكَّر في كيفية حدوث العالم وإبداع الباري له، وخلقه أطباق السماوات والأرض، وتركيبه أُكر الأفلاك، وتدويره أجرام الكواكب البسيطة والأركان الأربعة، وتكوينه المولَّدات الثلاثة منها، فلا بد له أن يعتقد فيها أحد الآراء الثلاثة: إما أن يظن ويتوهم بأنها أُبدعت دفعة واحدة، وأخرجها الباري تعالى من العدم إلى الوجود على ما هي عليه الآن، أو يظن ويتوهم بأنها أُبدعت على تدريج فأُخرجت على ترتيب أولًا فأولًا إلى آخرها على مر الدهور والأزمان، أو يقول بعضها دفعة، وبعضها على التدريج؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه الثلاثة.

فأما من يظن ويقول إنها أُبدعت دفعة واحدة بلا زمان، فلا يجد لما يقول دليلًا من الشاهد، فيتشكك فيما يقول. وأما مَن يقول: إنها أُبدعت وأُخرجت من العدم إلى الوجود على تدريج ونظام وترتيب، فهو يجد على ما يقوله شواهد كثيرة من الموجودات باستقراء واحد. وأما مَن يقول: إن بعضها أُبدع وأُحدث دفعة واحدة، وبعضها على التدريج [وهذا رأي إخواننا الكرام]، فهو يحتاج إلى أن يبينها ويشرحها ويفصلها، فنقول:

إن الأمور الطبيعية أُحدثت على تدريج مر الدهور والأزمان، وذلك أن الهيولى الكلي، أعني الجسم المطلق، قد أتى عليه دهر طويل إلى أن تمخض وتميز اللطيف منه من الكثيف، وإلى أن قبل الأشكال الفلكية الكرية الشفافة وتركَّب بعضها في جوف بعض، وإلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة، وركزت مراكزها، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة، وترتبت مراتبها وانتظمت نظامها. والدليل على ذلك قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ …٥ وقوله تعالى: … وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.٦
فأما الأمور الإلهية الروحانية فحدوثها دفعة واحدة مرتبة منتظمة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ذات كيان، بل بقوله: «كن فيكون». والأمور الروحانية الإلهية هي: العقل الفعَّال، والنفس الكلية، والهيولى الأولى، والصور المجردة. فالعقل هو نور الباري تعالى وفيضه الذي فاض أولًا، والنفس هي نور العقل وفيضه الذي أفاضه الباري منه، والهيولى الأولى هي ظل النفس وفيؤها، والصور المجردة هي النقوش والأصباغ والأشكال التي عملتها النفس في الهيولى بإذن الله تعالى وتأييده لها بالعقل. وهذه الأمور كلها بلا زمان ولا مكان، بل بقوله: «كن فيكون»، كما قال: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ٧ والمثال حدوث البرق، وإشراف نور الشمس في الهواء، وإضاءة الأبصار ورؤية الأشياء دفعة واحدة بلا زمان.

ثم اعلم أن الأركان الأربعة متقدمة الوجود على مولَّداتها بالأيام والشهور والسنين، كما أن الأفلاك متقدمة الوجود على الأركان بالأزمان والأدوار والقرانات، وعالم الأرواح متقدم على عالم الأفلاك بالدهور الطوال التي لا نهاية لها، والباري تعالى متقدم الوجود على الكل، كتقدم الواحد على جميع العدد.

ثم اعلم أنه قد أتى على النفس دهر طويل قبل تعلُّقها بالجسم ذي الأبعاد، وكانت هي في عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية [نسبة إلى الحياة] مقبلة على علتها العقل الفعَّال تقبل منه الفيض والفضائل والخيرات، وكانت منعمة متلذذة مستريحة، مسرورة فرحانة. فلما امتلأت من تلك الفضائل والخيرات، أخذها شبه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه تلك الخيرات والفضائل. وكان الجسم فارغًا قبل ذلك من الأشكال والصور والنقوش، فأقبلت النفس على الهيولى تميز الكثيف من اللطيف، وتفيض عليه تلك الفضائل والخيرات. فلما رأى الباري تعالى ذلك منها مكنها من الجسم، وهيَّأ لها، فخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك بعضها في جوف بعض، وركز الكواكب مراكزها، ورتب الأركان مراتبها على أحسن النظام والترتيب بما هي عليه الآن، لكيما تتمكن النفس من إدارتها وتسيير كواكبها، ويسهُل عليها إظهار أفعالها وفضائلها والخيرات التي قبلتها من العقل الفعَّال.

فهذا الذي كان سبب كون العالم، أعني عالم الأجسام، بعد أن لم يكن. ومن يريد أن يتصور كيفية تمخُّض الهيولى، وتميُّز أجزاء الجسم اللطيف منها من الكثيف، وقبولها الأشكال الكرية الفلكية الشفافة، وكيف تركَّب بعضها في جو بعض في مراتبها ودورانها، وكيف استدارت أجرام الكواكب النيرة، وركزت مراكزها في أفلاكها في مسيراتها، وكيف تمخضت أجزاء الأركان الأربعة بعضها مع بعض، وتميز بعضها من بعض، وترتبت على ما هي عليه الآن كلها من هيولى واحدة من حيث الجسمية، مع اختلاف صورها وفنون أشكالها، فليعتبر تركيب جسده من دم الطمث في الرحم كيف تمخض وتميز، وصار بعضها عظامًا بيضًا صلبة، وبعضها لحمًا أحمر، وبعضها شحمًا دسمًا أصفر، وبعضها عروقًا مجوفة … وما شاكل هذه الأشياء المختلفة الأشكال والصور … وإن عجز فهمه عن تصور كون هذه من دم الطمث، ومن النطفة وتركيبها منه، وكيفية قبولها هذه الصور والأشكال والطعوم والألوان التي هي أقرب إليه، ومعرفتها أسهل عليه، فهو عن تصور كيفية الأفلاك، وخلق أطباق السماوات والأرضين أبعد، وهو بها أجهل وأقل فهمًا.

ثم اعلم أنه سترجع النفس الكلية إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني وحالتها الأولى التي كانت عليها قبل تعلُّقها بالجسم، كما قال تعالى: … كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ …٨ ولكن لا يكون ذلك إلا بعد مُضي الدهور والأزمان الطوال. وسيخرب العالم الجسماني إذا فارقته النفس» (٤٠: ٣، ٣٥١–٣٥٤).

ذلك أن نفس العالم هي علَّة حياته وحركته مثلما أن النفس الجزئية هي علة حياة وحركة أجسام الأحياء التي رُبطت إليها:

«إن الحركة هي صورة روحانية تجعلها النفس في الأجسام، فيها تكون الأجسام متحركة … فالنفوس هي المحركة للأجسام، والأجسام هي المحركات والمسكِّنات بتحريك النفوس لها وتسكينها إياها … والتحريك هو فعل النفس، والحركة هي صورة تجعلها النفس في الجسم، بها يكون الجسم متحركًا؛ وأما التسكين فهو أيضًا فعل من أفعال النفس التي تحرك الجسم وتسكِّنه تارة أخرى …

وإذا تأملت يا أخي واعتبرت ما وصفنا من أحوال الحركات والمتحركات التي في العالم، علمت وتبين لك أن حكم العالم بجميع أجزائه ومجاري أموره، تجري مجرى مدينة واحدة، أو حيوان واحد، أو إنسان واحد، لا ينفك من الحركة والسكون، إما بكُليته أو بجزئيته.

وقد بيَّنَّا في رسالة ماهية الطبيعة، ورسالة السماء والعالم، أن سبب حركات الأركان ومولَّداتها هو حركة الكواكب، وسبب حركات الكواكب دوران الفلك، والمحرك والمدبر للأفلاك هي النفس الكلية الفلكية، فإن النفس الفلكية هي مَلَكٌ من الملائكة المقربين وجنوده وأعوانه، وهو الذي أشير إليه بقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ …٩ وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ….١٠ وهذا الملك وكَّله الله تعالى بإدارة الأفلاك، وحركات الكواكب، وما تحت فلك القمر من سائر الأركان ومولَّداتها من المعادن والنبات والحيوان أجمع» (٣٩: ٣، ٣٢٢ و٣٢٨).

«اعلم أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أفعال الروحانيين لا يتهيأ لأحد من العالم الجسماني الوقوف عليها والمعرفة بها، إلا بعد معرفته بجوهر نفسه، وكيفية فعلها في جسمه. وإذا عرف كيفية ذلك، ووقف عليه، تهيأ له بعد ذلك الوقوف على أحوال الروحانيين في العالم جميعًا: العلوي بما فيه، والسفلي وما يحويه، وقاده ذلك إلى معرفة خالقه وتنزيه مبدعه، وفعله الذي فعله بذاته، وما أبدعه من موجوداته، وبمعرفة ذلك يكون كمال الإنسان …

واعلم أيها الأخ، أيدك الله، أن دائرة العقل مُرتَّبة من أمر الله تعالى لا يدركها خاطر نفساني، وأن الأنوار المضيئة مُرتبة في أفق العقل الكلي بحيث لا يدركها حس ولا يتناولها لمس. فالدائرة الأولى هي البعيدة عنها أوهام المخلوقين من العالمين الروحاني والجسماني، اللطيف والكثيف، وهي موصوفة بالفعل الخاص بها، الصادر عنها، وهو العقل الذي عقِل ما دونه من مجاوريه، فرجعت الأوهام قبل بلوغها غايته، ذاهلة عن بلوغ بعض ما في دائرته وسعة إحاطته … وهي الدائرة الأولى الحاوية لجميع ما كان منها، ولذلك قيل له السابق. وكذلك دائرة النفس كالثاني التالي للسابق، وهي تالية الأول، ثم الثالثة وهي كالهيولى، والرابعة وهي كالطبيعة. وكذلك الدوائر الكائنة عن هذه الأصول، حتى تكون آخرها دائرة الأرض …

واعلم أيها الأخ البار أن الباري سبحانه أوجد الزوجين الأولين [= العقل والنفس] اللذين هما أبوا الموجودات كلها بأسرها، وهما الدائرتان المحيطتان بما في عالم العلو والسفل، إحداهما: حائطة، والأخرى: محوطة … ولذلك سُمِّي (العقل) عقلًا؛ لأنه عقل صور الموجودات بأسرها، وجاد عليها بخصائصها، وترتيبه له في مواضعها، وتكوينه إياها في أماكنها، فهو بالإشراق عليها وبما فاض عليها يتدلَّى إليها١١ … ولما كان العقل كذلك، كانت النفس غير حائطة بكلية ما في العقل بلا واسطة له بكمال صفاته الموجودة، إلا ما أمدها به وأفاضه عليها الشيء بعد الشيء ولو كانت قابلة لجميع ما فيه دفعة واحدة لكانت لا فرق بينها وبينه، ولا فضل له عليها لاتساعها لما وسعه، وإحاطتها لما بلغه. وإنما هي حائطة بما دونها كإحاطة العقل بها … وغير محيطة بكلية ما في العقل من الصور المعراة والجواهر المبرأة من الهيولى إلا بما يلقيه إليها ويمدها به.

ولما كان ذلك كذلك، صارت الطبيعة في كل لحظة وفي كل وقت من الأوقات، ومع كل حركة من الحركات الزمانية الطبيعية، تُظهر شكلًا ونوعًا ولونًا، فغرائبها لا تحصى وعجائبها لا تفنى، وهي تبديها الشيء بعد الشيء بحسب ما يُلقى إليها ويُفاض عليها من النفس الكلية … فهي قوة صادرة باعثة لما تقدم لها في الوجود، كقوة حركة الدولاب التي تبدو أولًا عن حركة أولى، وهي الحركة البهيمية المستعلمة في آلة الدولاب، وإيصالها من آلة إلى آلة أخرى، حتى تكون مرة حاطَّة لأواني الدولاب إلى قعر البئر فتُملأ، ثم ترفعها على علو فيعود ما كان ممتلئًا فارغًا، ثم ممتلئًا، فلا تزال كذلك ما دامت الحركة متصلة، فإذا بلغ المحرِّك المستخدم لتلك الدابة المحركة لتلك الآلة ما أراد من الملء والتفريغ، أمسك الحركة فوق الدولاب عن الرفع والحط. كذلك فعل الطبيعة، إنما هي حركة متصلة بها عن آلة فلكية محركة دورية، مربوطة بها النفس الكلية بقوة عقلية، تبدو عن مشيئة إلهية وعناية ربانية بأمر من هو لا يعلمه إلا هو» (٤٩: ٤، ١٩٨–٢٠٣).

هذه هي الخطوط العامة لنظرية التكوين الصفائية، بسطنا فيها كل ما من شأنه يأن يعيننا على متابعة رحلتنا في فكر الإخوان. في الفصل القادم سوف نبسط أهم أفكار الإخوان العلمية والفلسفية التي أرادوها مدخلًا لفهم العالم وكيفية عمله، بعد أن أطلعونا على نشأته وكيفية صدوره عن العلة الأولى.

١  الرسالة ٤٠، المجلد الثالث، الصفحات من ٣٤٤ إلى ٣٤٧.
٢  سورة النحل: الآية ٧٧.
٣  في هذا الموضع هنالك على الغالب جملة أسقطها الناسخ، وأعتقد أنها تؤدي معنى الجملة التي أضفتها بين قوسين.
٤  إشارة إلى قوله تعالى في سورة المرسلات الآية ٣٠: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ. والإخوان يرون في هذه الآية خطابًا موجَّهًا إلى الأرواح الجزئية الهابطة من العالم الروحاني إلى العالم الجسماني ذي الأبعاد الثلاثة، وهي الطول والعرض والعمق.
٥  سورة الحديد: الآية ٤.
٦  سورة الحج: الآية ٤٧.
٧  سورة القمر: الآية ٥٠.
٨  سورة الأنبياء: الآية ١٠٤.
٩  سورة النبأ: الآية ٣٨.
١٠  سورة لقمان: الآية ٢٨.
١١  إشارة إلى الآية: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤