المعبد الغريق

خيولُ الريح تصهلُ، والمرافئ يَلمْسُ الغَرْبُ
صواريها بشمس من دمٍ، ونوافذ الحانةْ
تراقصُ من وراء خِصاصها سُرُجٌ، وجمَّع نَفْسَه الشربُ.
بخيط من خيوط الخوف مشدودًا إلى قنِّينةٍ، ويمدُّ آذانه إلى المتلاطم الهدَّار عند نوافذ الحانةْ.
وحدَّث — وهو يهمس جاحظَ العينَين، مرتعدًا،
يعبُّ الخمر — شيخٌ عن دجًى ضافٍ وأدغال
تلامحَ وَسْطهَا قَمَرُ البحيرةِ يلثم العَمَدا …
يمس البابَ من جنبات ذاك المعبد الخالي.
طواهُ الماءُ في غَلَسِ البحيرة بين أحراش مبعثرة وأدغالِ.
هنالك قبل ألف، حين مجَّ لظاه من سَقَرِ،
فمٌ يتفتَّح البرُكْان عنه فتنفض الحُمَّى
قرارة كل ما في الواد من حَجَرٍ على حجرِ،
تفجَّر باللظى رَحِمُ البحيرة ينثر الأسماكَ والدمَ، مُرْغِيًا سُمَّا،
وقرَّ عليه كلكلٍ معبد عصفتْ به الحمَّى.
تطفَّأ في المباخر جَمْرُها وتوهَّجَ الذَّهَبُ
ولاح الدُّرُّ والياقوت أثمارًا من النورِ،
نجومًا في سماء تزحفُ دونها السحبُ،
تمرَّغ فوقها التمساحُ ثم طفا على السورِ؛
ليحرس كنزَه الأبديَّ حتى عن يد الظلماء والنور

•••

وأرسى الأخطبوطُ فنارَ موتٍ يرصد البابا،
سجا في عينه الصَّوْراء صُبْحٌ كان في الأزَلِ …
تهزَّأ بالزمان، يمرُّ ليل بعد ليل وهو ما غابا.
ففيمَ غرورُ هذا الهالكِ الإنسان، هذا الحاضرِ المشدود بالأجَلِ؟
أعمَّرَ ألفَ عامٍ؟ ليته شهد الخلائق وهي تعبر شرفةَ الأزلِ؟

•••

ألا يا ليتَه شهد السلاحف: تسحق الدنيا
قياصرَها، ويمنع دِرعُها ما صوَّب الزمنُ
إليها من سهام الموت!
لكنَّ الذي يحيا
بقلبٍ يعبر الآبادَ، يكسر حدَّه الوَهَنُ؛
فيصمت، عمره أزلٌ يمس حدوده أبَد من الأكوان في دنيا،
هنالك ألفُ كنزٍ من كنوز العالَم الغرْقى.
ستُشبع ألف طفل جائع وتُقيل آلافًا من الداء،
وتُنقذ ألف شعب من يد الجلَّاد، لو تَرْقى
إلى فَلَك الضمير!
أكل هذا المال في دنيا الأرقاء
ولا يتحرَّرون؟ وكيف وهو يُصفد الأعناق،
يربطها إلى الداءِ؟
كأنَّ الماءَ في ثَبَجِ البحيرةِ يمنع الزمنا
فلا يتقحَّمُ الأغوارَ، لا يخطو إلى الغُرَف.
كأنَّ على رتاج الباب طلسمًا، فلا وَسَنا
ولكنْ يقظةٌ أبدٌ، ولا موت يحد حدود ذاك الحاضر الترِفِ،
كأنَّ تهجَّدَ الكُهَّان نبْعٌ في ضمير الماء يدفق منه للغُرَفِ.
إذن ما عاد من سَفَرٍ إلى أهليه عوليس …
إذن فشراعه الخفَّاقُ يزرع فائر الأمواجْ،
بما حسب الشهورَ وعد حتَّى هدَّهُ البؤسُ.
فيا عوليس … شاب فتاك، مبسم زوجك الوهَّاج
غدا حَطَبًا. ففيمَ تعود، تفري نحو أهلك أضلعَ الأمواجْ،
هلم فماء شيني١ في انتظاركَ يحبس الأنفاسْ
فما جرحتْه نَقْرةُ طائرٍ أو عكرته أناملُ النسمِ.

•••

هلم فإنَّ وَحْشًا فيه يحلم فيكَ دونَ الناسْ.
ويخشى أن تفجر عينه الحمراء بالظلمِ،
وأنَّ كنوزه العذراء تسأل عن شراعك خافق النسمِ.
أما فجعتْك في طروادة الآهاتُ من جَرْحى
ومحتضرين؟
يا لدمٍ أريقَ فلطَّخ الجدرانْ،
وردَّ ترابها الظمآن طينًا، ردَّه جرحًا
كبيرًا واحدًا، جرحًا تفتح في حشا الإنسان
ليصرخَ بالسماء.
فيا لصوت ردَّدته نوافذُ الحجرات والجدران:
«لأجل فُجور أنثى واتقاد متوج بالثارْ
تخضب من دم المهجات حتى سلم الأفن؛
وحلَّ بلا أوانٍ يومنا، وتساوت الأعمار
كزرع منه ساوى منجلٌ …
وهناك في الشفَقِ
تنوح نساؤنا المترملات، يولول الأطفال عند مدارج الأفق.»
هلمَّ فقد شهدتُ كما شهدتَ دمًا وأشلاء:
تفجَّر في بلادي قمقم ملأتْه بالنار
دهورُ الجوع والحرمان.
أي خليقة قاء؟
رأينا أنَّ أفئدةَ التَّتار، وأذؤبَ الغارِ
أرقَّ من الرعاع القالعين نواظر الأطفال والشاوين بالنار
شفاه الحلمة العذراء.
يا نهرًا من الحقدِ
تدفَّق بالخناجر والعِصيِّ، بأعينٍ غضبى:
نجومًا في سماء شدها قابيل بالزندِ.
فليتك حين هزَّ الموصل الإعصارُ (لا دربًا
ولا بيتًا ولا قبرًا نجا فيها) شهدتَ الأعينَ الغضبى.
وليتك في قطار مرَّ حين تنفَّس السَّحَرُ،
فقص، على سرير السكة الممدود، أمراسا٢
تعلَّقَ في نهايتهن جِسم يحصد النَّظَرُ،
عليه الجُرْحَ بعد الجرح بعد الجرح أكداسا،
ليهوي جسم «حفصة»٣ لابسًا فوق النجيع دمًا وأمراسا.
وفيمَ نخافُ في ثَبَج البحيرة أو حفافيها
كواسج٤ ضاريات أو تماسيح التظتْ لَهَبا
نواجذها الحديدة؟ فيم تخشى كل ما فيها؟
فإن عقارب الرقاع٥ يضمر سمها العَطَبا،
وتزرع في الجسوم أزاهر الدم والجراح بلا دم لَهَبا.

•••

هلم نشق في الباهَنْج٦ حقل الماء بالمجذافْ،
وننثر أنجم الظلماء، نسقطها إلى القاع
حصى ما ميزته العين عن فيروزه الرفَّاف
ولؤلئه المنقط بالظلام.
سنُرعب الراعي
فيُهرع بالخراف إلى الحظيرة خوفَ أن يغرقن في القاعِ.

•••

هلم فَلَيْلُ آسيةَ البعيد مداه يدعونا
بصوتٍ من نُعاس، من ردًى، من سجْع كهَّان.
هلم … فما يزال الدهر بين أيدينا.
لنطوِ دُجاه قبل طلوع شمسٍ دونَ ألوانِ
تبدِّد عالمَ الأحلام، تُخفت — إذ يرنَّ التبرُ فيها — سجع كهَّان!

•••

يجول التبرُ فيها مثل وَحْشٍ يأكلُ الموتى،
ويشرب من دم الأحياء، يسرق زادَ أطفالِ،
ليتَّقدَ اللظى في عَيْنه، ليعيره صَوتا
يُحطِّم صوتَ كلِّ الأنبياء هناك.
يا لرنين أغلالِ!
ويا لصدًى من الساعات، بالأكفان مسَّ رءوسَ أطفالِ،
وفلَّ عناقَ كلِّ العاشقين، ودسَّ في القُبلةْ
مُدًى من حَشْرجات الموت، ردَّ أصابعَ الأيدي
أشاجعَ غابَ عنها لحمها، وستائر الكلةْ
يحوِّلها صفائح تحتها جثثٌ بلا جلد.
هلم فبعد ما لمح المجوس الكوكب الوهَّاج تبسط نحوه الأيدي
ولا ملأت حِرَاء٧ وصبحه الآياتُ والسورُ.
هلم فما يزال زيوس يصبغ قمة الجبلِ
بخمرتِه ويُرسل ألف نسرٍ نز من أحداقِها الشررُ
لتخطف من يُدير الخمر٨ يحمل أكئوسَ الصهباء والعسل.
هلم نزور آلهةَ البحيرة،
ثم نرفعها لتسكن قمَّةَ الجبل!
البصرة، ١٧ / ٢ / ١٩٦٢
١  بحيرة في الملايو غرق المعبد إلى قرارتها.
٢  الأمراس: الحبال.
٣  إحدى شهيدات الموصل (العراق).
٤  سمك القرش، كلاب البحر.
٥  أحد أبطال المد الفوضوي في العراق … ينزل السجن الآن محكومًا عن سبع جرائم.
٦  النهر المؤدي إلى بحيرة شيني.
٧  الغار الذي نزل الوحي فيه على محمد.
٨  غانيميد الشاب اليوناني الذي أرسل إليه زيوس (كبير الآلهة) نسرًا فاختطفه وأصبح ساقيًا للآلهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤