حينما تتكلم الأنثى، لا تشبه اللغة على لسانها ما يحدث على ألسنة الذكور. لأن ما
يتكلم فينا ليس الكلام فحسب، بل أصواتنا وإيقاعاتنا الروحية، أجسادنا ورغباتنا وحركاتنا
وتعبيراتنا وضحكاتنا وآلامنا وذاكرة كل منا مفردة، مثقلة ووحيدة. لكن من بوسعه أن يتدبر
توحده بمعزل عن لغة الآخرين؟ وهل يمكن لأي كان أن يظفر بوحدته بمعزل عن النحو؟ وإن صح
القول أن لا أحد بوسعه أن يفلت من قواعد النحو يكون السؤال الأهم هو من وضع هذه القواعد
إذَن ومن يسهر على نظام جولان المعاني ضمنها؟ يبدو أن اللغة ليست محايدة أبدًا، وأن
النحو لا يزال إلى حد الآن ذكوريًّا. هذا ما تنبه إليه بعض الأطروحات النسوية منذ
سبعينيات القرن الماضي، وذلك في نطاق ما يسمى الموجة الثانية التي اشتغلت فيها الحركات
النسوية على حقوق المرأة-الأنثى ضد السلطة البطريركية الذكورية. والسؤال الخاص بنا
سيكون عندئذٍ: هل تكلمت الأنثى في ثقافتنا أم لا
تزال هي الأخرى تجرُّ قواعد نحو الذكور وأشكال تصريفهم لضمائر تحرص جيدًا على الفصل
الجندري الحاسم بين المذكر والمؤنث وعلى سحب سلطة المذكر على جمع من الإناث في حال حضر
معهم ذكر واحد؟ ذكر واحد إذَن يكفي اللغة كي تبسط سلطة الذكور على الإناث في
لغتنا.
المرأة أم الأنثى أم النساء؟ كيف تصف الذات المؤنثة نفسها في نزاع النسويات اليوم؟
وكيف يمكن لها أن تسكن جنوستها في هذا العالم الذي اهتزت فيه كل الهويات الثقافية
والجندرية والبيولوجية؟ يبدو أن اللغة إذَن قد اقتحمت باحة هذا النقاش؛ بل ربما تكون
اللغة قد تورطت منذ زمن بعيد في سياسة الحقيقة الخاصة بالجنوسة نفسها. وربما صار السؤال
عندئذٍ حول جنس اللغة نفسها موضع تفكير، وهو ما حدث تحديدًا منذ سبعينيات القرن الماضي؛
حيث ظهرت الأنثى مطالبة بلغة المؤنث وبالكتابة المؤنثة وبتاء تأنيث قادرة على بعثرة لغة
الذكور. لكن هذا النقاش قد تطوَّر اليوم من معركة المؤنث ضد المذكر إلى ظهور ضمائر أخرى
تمثل أشكال جديدة من الجنوسة تحت ضمائر نحوية تبعثر الثنائي مذكر-مؤنث وتعترف بكل
الأقليات الجنسية المقصاة من منطق الجنوسة التقليدي القائم على ثنائي الجنسانية
الغيرية. لكن أية ثقافة بوسعها تحمُّل اضطراب الأجناس الذي انفجر في عالم الجنسانية
اليوم؟
كيف نسكن جنوستنا؟ هل ثَمة أنثى سابقة على اللغة وعلى الثقافة أم أن «المرأة لا تولد
امرأة بل تصير كذلك؟» وأي شكل من السردية بوسعها أن تناسب قضية الجندر في زمن اضطراب
الجندر؟
من أجل معالجة هذه القضية يمكننا أن نقسم مساحة النقاش النسوي حول علاقة اللغة بالجنس
والجنوسة إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى قامت على أطروحة كتابة المؤنث، ومثلتها ثله
من النسويات الفرنسية هن هيلان هكسوس ولوس إيريغاراي وجوليا كرستيفا. أما المرحلة
الثانية فهي من توقيع الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر؛ حيث يظهر الجندر والجنس نفسه
بوصفهما مجرد فاعلية لغوية. وأما المرحلة الثالثة فهي خاصة بالفيلسوفة الأمريكية
النسوية نانسي فرايزر التي اعتبرت أن النضال النسوي لا ينبغي أن ينحصر في نزاع حول
الجندر والجنس، بل عليه أن يكون مجرد جزء من نضال واسع من أجل العدالة في أفق إتيقا
الاعتراف بكل المُهمشين والمضطهدين والمُقصَين من طرف الفضاء العمومي البرجوازي.
(١) في كتابة المؤنث
يولد هذا البراديغم النسوي منذ كتاب النسوية الفرنسية منظِّرة الاختلاف الجنسي
لوس إيريغاراي تحت عنوان
مرآة المرأة الأخرى
بتاريخ ١٩٧٤م. وينطلق هذا الكتاب من فكرة مفادها أن «الجنسانية الأنثوية قد بقيت
المحيط الأسود للتحليل النفسي»
١ الذي يستأنف عدم الاعتراف بالمرأة الأخرى التي تتجاوز إطار حقله النظري
الخاص. لذلك تقترح لوس إيريغاراي إعادة العبور بتاريخ اللوغوس الغربي الذكوري الذي
كتبه الفلاسفة الذكور منذ أفلاطون إلى فرويد. وتختبر في ترحالها عبر هذا التاريخ
منطق الواحد-الذكر المتسلط على حقل إنتاج الحقيقة والخطاب معًا. وفي أثناء ترحالها
تتعرَّف لوس إيريغاراي على المرأة الأخرى التي وقع إقصاؤها دومًا من مجال الفلسفة
الذكورية. لقد أخطأ كلُّ الفلاسفة؛ أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيغل وفرويد في
حق المرأة. وذلك لأنهم اعتبروا الذات الكونية المنتجة للخطاب ذاتًا ذكورية بامتياز؛
هذا ما تكتبه لوس إيريغاراي في مفتتح نصها المُعنوَن «المِرآة» المندرج ضمن كتابها
مِرآة المرأة الأخرى، وهي تقول: «لقد كانت كل نظرية في الذات تُنسب دومًا إلى المذكر»،
٢ وإن المرأة كانت محرومة من أن تكون ذاتًا؛ لأنها كانت تقوم مقام
الموضوع المقابل لهذه الذات. فالذكر الذات لم يكن بوسعه أن يكون ذاتًا دون أن تكون
المرأة موضوعًا مرآويًّا يتمثل فيها ذاك الذكر ذاته. فمن دون المرأة أي من دون «أرض
نكبتُها أو نحرثها أو نتمثَّلها أو أيضًا نرغب فيها دومًا أو نتملكها …»
٣ أي من دون موضوع لم يكن ممكنًا أن يكون ثَمة مستقَر لذات تثبت وتبقى؛
وإلا فأي موضوع بوسع الذكر أن يبسط فوقه سلطته؟ يبدو إذَن وَفق تشخيص لوس إيريغاراي
أن «الثورة الكوبرنيكية لم تُنتج بعد كل مفاعيلها صلب المخيال الذكوري»
٤
لكن ماذا لو أخذ هذا الموضوع أي المرأة في الكلام؟ ماذا لو تكلمت الأنثى؟ تتحدث
إيريغاراي عن خللٍ ما سيصيب الذات؛ أي المذكر حينما تسقط المرأة الأخرى في السراديب
المظلمة للذات؛ مما يدفع هذه الذات في صيغة المذكر إلى إعادة غزو حدود جديدة
لحقولها من أجل تحصين هيمنة المذكر على المؤنث. إن المَهمة الأوكد مثلما تكتب
إيريغاراي هي حينئذٍ ضمانُ استعمار هذا الحقل الجديد
٥ أي لغة الأنثى من أجل إدماجه ضمن دائرة إنتاج خِطاب الهُو الهُو
(ص١٧٠). هكذا تشخِّص لوس إيريغاراي ولادةَ ما تسميه النحو المضاعف أو اللغة
المزدوجة هي بمثابة كتابة أخرى ولغة أخرى لا تدعي ترتيب قواعدها على نفس منوال
نموذج لغة المذكر.
لكن ما معنى أن تتكلم الأنثى خارج نموذج لغة الذكور؟ تُحدثنا لوس إيريغاري عن «الهستيريا»
٦ كضرب من اللغة الأنثوية ما دامت الأنثى لا تملك بعدُ ما تقوله وقد
استحوذ الذكور على كل حقل إنتاج الخطاب والحقيقة والمعنى والعلم والذكاء معًا. هكذا
تجِد المرأة نفسها في نوع من حالة الخصي اللغوي مجبرةً على التعبير عبر الميمياء
وحركات الجسد وضحكاته ودموعه عما هو مكبوت ومعلق ومؤجل في أعماق تاريخ من الصمت ومن
مواضع بياضات لخطابٍ لم يُكتب له بعدُ أن يتكلم؛ إذ كيف يمكن تنضيد هذه الأقاليم
الوجوديَّة الحالكة وهذه الأمكنة المظلمة فيما أبعد من المرآة، مرآة نصبها الذكور
لبسط هيمنتهم على الخطاب النظري وعلى اللوغوس والتاريخ معًا؟ يبدو أن المرأة
مطالَبة بالحفر عميقًا في ذاتها بحثًا عن تقنيات تعبير مغايرة للأنساق الذكورية أي
على حدٍّ تعبير لوس إيريغاراي عن «لغة أخرى، عن كتابة أخرى.»
٧ يتعلق الأمر إذَن بما تسميه لوس إيريغاراي «بعثرة قواعد النحو»
٨ بتعليق نظامه الغائي، باختراع انقطاعات في خيوطه، وقطع لكهربائه وعطب
في أشكال الوصل بين مفاصله … كيف ستتكلم المرأة إذَن من داخل الحُجب التي صنعها لها
نحو الذكور وألبسها إياها؟ وكيف لها أن تجد طريقًا أو صوتًا من أجل إعادة عبور هذه
الطبقات من الزخرف واختراقها نحو ضرب من العراء اللغوي المتحرر من مجازات لغة
الذكور وكناياتهم؟
ذاك هو الرهان الذي طرحته على نفسها إذَن الفيلسوفة الفرنسية المعاصرة لوس
إيريغاراي التي جعلت من الاختلاف الجنسي بين النساء والرجال أطروحة كبرى لفلسفتها.
وذلك في أفق معركة فكرية مع النسوية المساواتية التي تفترض مع سيمون دي بوفوار أن
«المرأة رجل كالآخرين»، وأن المرأة هي «الجنس الثاني»، في حين تُحدثنا لوس
إيريغاراي عن «المرأة الأخرى» التي لا ينبغي عليها إثبات مساواتها مع الرجل كما لو
كان هو النموذج وهي المماثلة له، بل هي مطالَبة بإثبات اختلافها الجنسي مع الرجل.
تتجلى المرأة هنا كأنثى إذَن ضد منطق الذكر المبني على هيمنة الواحد العنيف، وذلك
في أفق تحوُّل ثقافي واجتماعي وألسني وأنطولوجي معًا.
وهي تكتب في هذا السياق ما يلي: «إن استبدال الواحد باثنين ذوي اختلاف جنسي يشكل
مؤشرًا فلسفيًّا وسياسيًّا حاسمًا … هذا هو الأساس لأجل أنطولوجيا جديدة … يكون
فيها الآخر معترفًا به كآخر، وليس الشخص نفسه.»
٩ وفي نفس هذا السياق النسوي ينخرط دفاع الكاتبة الفرنسية هيلان سيكسوس
عن ضرب من الكتابة في صيغة المؤنث؛ حيث كتبت في كتاب لها ذي عنوان مثير هو ضحكة
قنديل البحر بتاريخ ١٩٧٤م ما يلي: «إن المرأة ينبغي عليها أن تكتب لنفسها … وللنساء
الأخريات … في ضرب من التسجيل للجسد الأنثوي صلب اللغة وصلب النصوص.»
١٠
لكن ما معنى أن تكتب المرأة أو أن تتكلم بوصفها امرأة؟ هذا السؤال لا يحيل بحسب
فلسفة لوس إيريغاراي إلى أية أرضية ميتافيزيقية ماهوية ذكورية من جنس ما هي المرأة؟
وماذا يعني أن تكوني امرأة؟ وذلك ضد الخطاب الذكوري الأحادي. كما لا يعني الأمر
أيضًا تأسيس مفهوم آخر للأنوثة؛ لأن ذلك سيسقطنا في نسق التمثل الذكوري نفسه. علينا
أن نضع مفهوم الأنوثة نفسه موضع سؤال من أجل أن نكشف عما بقي مكبوتًا في لاوعي
الرجال. في هذا المعنى تقترح لوس إيريغاراي ضربًا من قواعد اللغة الخاصة بالمؤنث
ويمكن أن نعثر عليها في حركات أجساد النساء؛ مثلًا (في ضحكاتها). ومثلًا أيضًا
حينما تجتمع النساء وحدهن ثَمة إمكانية لظهور لغة أخرى خاصة بالنساء. وتَعتبر لوس
إيريغاراي في هذا السياق أن «الكلام لا يكون محايدًا أبدًا» وتصل في اقتراحها لهذه
اللغة الأخرى إلى حد القول: «أن تتكلمي بوصفك امرأة معناه أن تتكلمي على نحو
هستيري.» فالهستيريا إنما هي علامة على المعاناة المكبوتة لدى النساء؛ لأنها ممنوعة
ومستحيلة معًا. وفي هذا الإطار تتنزل أطروحة لوس إيريغاراي حول الاختلاف الجنسي أو
ثنائية الكينونة؛ بحيث تكتب «أن الاختلاف الجنسي هو إحدى القضايا الفلسفية الكبرى
لعصرنا»، وأنه لا يوجد في العالم غير الرجال والنساء وأن هذا الاختلاف بين الجنسين
هو اختلاف سابق على الجنس نفسه وموجود في السلالة الوراثية نفسها. وهي تكتب في هذا
السياق قائلة: «إنَّ الطبيعي، بعيدًا عن تجسُّداته أو طرق ظهوره، هو اثنان على
الأقلِّ: ذكر وأنثى. هذا التقسيم ليس ثانويًّا ولا فريدًا على النوع البشري. إنَّه
يخترق كلَّ عوالم الأحياء التي ما كانت لتوجد بدونه. بدون اختلاف جنسي لن تكون حياة
على الأرض.»
١١
إنَّ التشديد على أطروحة الاختلاف الجنسي التي تقوم عليها فكرة الكتابة في صيغة
المؤنَّث بوصفها تحريرًا للنساء من ميتافيزيقا الجوهر الذكوريَّة، إنَّما يعود في
الحقيقة إلى كتابات الأديبة فرجينيا وُولف التي افتتحت هذا النقاش في كتابها الشهير
«غرفة لك على حدة» ١٩٢٩م. وفيه اشتغلت فرجينيا وُولف على الصعوبات التي تعيشها
المرأة الكاتبة التي لا تجد دومًا الظروف المناسبة للتحوُّل إلى كاتبة من ذلك
ضغوطات العائلة والزواج وإنجاب الأطفال والحياة اليومية. وضدَّ هذه العوائق التي
تعطِّل الكتابة في صيغة المؤنَّث، تدافع فرجينيا وُولف في كتابها عن حقِّ المرأة في
أن يكون لها «غرفة خاصة على حدَة» يمكنها أن تغلقها على نفسها كي تظفر بوحدتها أي
بحريَّتها وتتحرَّر من ضغوطات المنظومة الرمزية البطريكية للعائلة والمجتمع الأبوي.
وفي هذا السياق وفي ردٍّ لها على أحد القساوسة — الذي صرَّح بأنَّه: «ليس بوسع
أيَّة امرأة سواء في الماضي أو في الحاضر، أن تملك عبقرية شكسبير.» — تكتب فرجينيا
وُولف: «لقد كان سيكون غير قابل للتصوُّر أن تكتب المرأة مسرحيات شكسبير في عصر شكسبير.»
١٢ لكنَّ عصر شكسبير قد ولَّى وانتهى وجاء العصر الذي يبشِّر بمستقبل
أنثوي بامتياز كما تذهب إلى ذلك الكاتبة والمحلَّلة النفسية البلغارية جوليا
كريستيفا ذات الصِّيت العالمي في مجال الدراسات النسوية؛ بحيث يتمُّ التحوُّل
بالمؤنث من حيِّز الاختلاف الجنسي مع الرجل إلى حيِّز العبقرية الأنثوية. وهو معنى
الأطروحة التي تدافع عنها جوليا كريستيفا في ثلاثيتها الشهيرة بعنوان «العبقرية
الأنثوية» (١٩٩٩م). وفي هذا المؤلَّف الضخم المكوَّن من ثلاثة أجزاء تشتغل الكاتبة
على ثلاثة مشاريع من الكتابة النسائية تعود إلى حنَّا آرندت وميلاني كلاين وكولات.
وذلك تحت عناوين تناسب فكريًّا هذه الورشات المؤنَّثة هي: الحياة والجنون والكلمات.
وهي جميعها بمثابة أمكنة تجلِّي العبقرية الأنثوية. وذلك في أفق أطروحة طريفة تراهن
على تحرير المؤنث من «نسويَّة الغوغاء» التي تجمع النساء تحت راية كتلة واحدة
ومتجانسة. وعلى الضدِّ من ذلك تدافع جوليا كريستيفا في ثلاثيَّتها المذكورة عن
فرادة وخصوصية كلِّ كتابة أنثوية. وهو ما تنجزه في كتابها الأول الخاص بعبقرية
حنَّا آرندت، وذلك في أفق تحوُّل نظري تحرص عليه جوليا كريستيفا من مفهوم قديم
للعبقرية ينسبها إلى الآلهة إلى مفهوم جديد يَقرنها بمفهوم القدرة على التجديد. وهو
المعنى الذي تجسِّده فلسفة الفعل لدى حنَّا آرندت بوصف الفعل قدرة على التجديد فيما
أبعد من عالم السوق الذي يهيمن عليه منطق التنميط والمماثلة وتحويل كلِّ شيء إلى
بضاعة. والنساء ها هنا يتميَّزن بالقدرة على التجديد بوصفهنَّ يتمتَّعن بحسب
كريستيفا بميزة الأمومة التي تجعلهنَّ الأقدر على الخلق وتجعل النساء بهذا المعنى
يختلفن جذريًّا عن الرجال.
١٣
(٢) حدود كتابة المؤنث
لقد أثارت أطروحة كتابة المؤنَّث جدلًا حادًّا في الأوساط الفرنسية في سبعينيات
القرن الماضي؛ بحيث اعترضت بعض المنظَّرات النسويَّات على ثنائية المذكَّر
والمؤنَّث من قبيل الروائية والفيلسوفة الفرنسية مونيك فيتيغ (١٩٣٥–٢٠٠٣م). وهي
منظَّرة نسوية مادية راديكالية ترفض القول بأسطورة المرأة أو الأنثى. وتبعًا لذلك
فهي تناضل ضدَّ ثنائية المؤنث والمذكَّر التي يقوم عليها نظام الجنسانية الغيرية.
وهو نظام تصفه فيتيغ بكونه تصوُّرًا ماهويًّا يشتغل بوصفه نظامًا سياسيًّا وليس فقط
بوصفه نظامًا جنسيًّا. وهي تذهب في هذا السياق إلى القول إن «المرأة لا معنى لها
إلَّا ضمن الأنظمة الفكرية والاقتصادية القائمة على الجنسانية الغيرية.»
١٤ ووفقًا لهذا التخريب للثنائية الجندرية التقليدية تَعتبر الفيلسوفة
النسوية فيتيغ إذَن أن «ليس ثَمة كتابة أنثوية»، وذلك لأنَّ الكتابة عندها إنَّما
تُعرَّف بوصفها «فضاء حرية» فيما أبعد مما تسمِّيه «سمة الجندر»، وانطلاقًا من هذه
الأطروحة يتمَّ تنزيل الكتابة «خارج التقسيم الاجتماعي للأجناس». وهي أطروحة
استأنفها جوديث بتلر التي دخلت في نقاش فلسفي معمَّق مع النظرية النسوية الفرنسية
التي مثَّلت مونيك فيتيغ أحد تعبيراتها النموذجية. يتعلَّق الأمر تحديدًا إذَن
بمناقشة «ميتافيزيقا الجوهر» التي تقوم عليها أطروحة الاختلاف الجنسي للوس
إيريغاراي. ولقد اتَّهمَت جوديث بتلر لوس إيريغاراي وكلَّ من اشتغل في سياق كتابة
المؤنَّث، باختزال دائرة الاختلاف الجنسي في الثنائي ذكر-أنثى، أي في الغيرية
الجنسية؛ وذلك لأنَّ هذا الاختزال إنما هو يُقصي بذلك من اعتبارها تعدد النماذج
الجنسانية الخاصة بالأقليات الجنسية من اللواطيين أو السحاقيات وأشكال أخرى من
الجنوسة. إنَّ الأمر يتعلَّق هنا بمرحلة مغايرة من التأويل للجنسانية هي مرحلة
اكتشاف «قلق الجندر»
١٥ بتاريخ ١٩٩٠م كما تشخِّصه الفيلسوفة وعالمة الألسنية الأمريكية جوديث
بتلر في كتاب لها أثار ضجَّة عالمية وثورة نسوية في مجال الدراسات النسوية. لقد
غيَّرت بتلر من براديغم الجنسانية بالكشف عن مرحلة مزعجة من اختلال كل معايير
الجنوسة القائمة على الاختلاف الجنسي بين النساء والرجال. وهنا تغيِّر اللغة
علاقتها بالجنوسة؛ بحيث تصير «الجنوسة نفسها فاعلية معيارية أي أنها تنجز دومًا
الهُوية التي تكوِّنها» أي أنه وفق عبارات بتلر نفسها «ليس ثمة هوية للجنوسة خارج
العبارة.» لكن هذا لا يعني أننا نسكن جنوستنا من داخل اللغة فحسب؛ أي من دون
أجسادنا، بل إن مادية الجسد إنما تشتغل صلب معايير ثقافية أي لغوية محدَّدة.