أفريقيا-أرجوحة العالم
تمثِّل لوحات الرسامة مفيدة الغضبان على امتداد أكثر من عشرين سنة تجربة تشكيلية من الثراء والطرافة بمكان. إننا إزاء ترحال لا يتعب لأنه يمتح من وجوه الربة البربرية تانيت، ربة البذر والزرع والخصب، من رحمها ولدت كل الحضارات، وتحت مسام جلدها يتشكل مشهد الإنسانية بكل سلالاتها وحروبها وآلامها ومجاعاتها وأوبئتها … بكل ما للحُلم من مساحة لإعادة ترميم الذاكرة … ذاكرة قارة هي مهد الأرض، وأرجوحتها؛ حيث الطفولة تبقى دومًا أرجوحة للحُلم وللترحال وذاكرة للمستقبل. فمنذ وجوه نرسيس وعلامات بربرية، إلى الحديقة المعلقة والتفريعات الكابوسية ونظرات الشهداء ووجوه الأشباح والمسوخ، ما انفكَّت الرسامة تحفر في عمق اللون وجنون الخطوط الطافرة وفوضى الأضواء التي تسطع حينًا وتلقي بنا في العتمة حينًا آخر. مسيرة تشكيلية أفريقية بربرية تهجينية واسعة النطاق لاختراع الفضاءات وتأثيثها بما علق بالذاكرة، وبما علق على تخوم الشواطئ وبين طيات الحُلم وفي السلالات الأكثر قدمًا … وها نحن قد أدركنا في لوحاتها الأخيرة عتبة الكينونة المعلقة بين الحلم والكوابيس، بين ضفة وأخرى، بين طيات الحلم … إنها اليوطوبيا حين ينهار المكان نُهرع جميعًا إلى اختراع فضاء خيالي نخبئ فيه أسرارنا ونتدثر صلبه بجلودنا أو ما تبقَّى … أرجوحة أفريقيا حيث التقت كل الأجناس وتمازجت وحيث ظهر أول المترحِّلين سكان الصحراء وآخر العالقين على حدود المجاعة والإبادة الجماعية والأوبئة والاستعمار العالمي بكل فظاعاته. لوحات مفيدة الغضبان تحمل غموض أفريقيا وألوانها الساخنة وشمسها الحارقة، تحمل صحراءها وغموضها وسحرها … أفريقيا التي تختفي هناك في مكان قصي من أنفسنا، تطل علينا بوجوه ملثمة، بعيون تائهة، برءوس بلا أجساد، وعيون بلا وجوه. هناك حيث تنظر إلينا اللوحة من الداخل كما لو كانت تتهم العالم بأسره، كما لو كان العالم قد ارتكب خطأ في حق الأرض الأم، في حق العالم كما كان بوسعه أن يعلُم على نحو مغاير … وحده الخيال بوسعه احتضان أفريقيا وإعادتها إلى السلالات الأولى.
(١) ما معنى أن تكون أفريقيا أرجوحة العالم؟
إن الكينونة المعلقة هذه هي وضعيتنا نحن العالقين على حدود أوطاننا نحدق في المنطقة الفاصلة بين الهوة والأفق، فلا نحن استطعنا نزع الاستعمار عن عالمنا ولا نحن استطعنا الحسم في أصولنا … إن النظر إلى أنفسنا من وجهة نظر انتمائنا الأفريقي هو براديغم هام جدًّا يمكننا انطلاقًا منه اختراع سياسات جديدة للحقيقة وللإبداع في ديارنا.
نحن إذَن أفريقيا ونحن إفريقية ونحن قرطاج عاصمة أفريقيا، وذلك ما تجسِّده لوحات مفيدة الغضباني منذ علامات بربرية؛ حيث أسست تجربتها التشكيلية على أقدم قبيلة أفريقية، وعلى الربة الأم البربرية بوصفها أصل العلامة.
(٢) ما معنى الكينونة المعلقة؟
يولد هذا النوع من الفضاء في لوحات مفيدة الغضبان بين الحلم والكوابيس … يولد داخل الحديقة المعلقة والكون المعلق وفي لوحة معلقة بين الحلم والكابوس، ولوحة بين طيات الحلم ولوحة بين شاطئين … هناك حيث نعثر على وجوهنا باهتة الملامح غائمة يكسوها الغبار؛ حيث تأتي الكينونة إلى نور الألوان بين غصينات تائهة تلتهمها أشعة الشمس الحارقة ذات صحراء … هي أيضًا صحراء اللون وصحراء قلوبنا.
في هذا المكان بين بين … يُلقى بنا رءوسًا تطل ملثمة بلا أجساد، وجوهًا لا نرى منها غير العيون المفزوعة تنتعل أغصان شجرة تخلَّت عنها جذورها، وحين يتم تعليق الكينونة معناه لم يعد ثمة مكان لنسكنه … كل الأمكنة هناك انهارت وتداعت أسوار المدن واشتد الخراب. تارة تنمو الصحراء وأخرى يستيقظ البحر المتوسط، ورغم خراب الأمكنة والتهام الاستعمار العالمي لجسد أفريقيا؛ فإن الحديقة المعلقة تعيد إلينا القدرة على الإقامة بين طيات الحلم. إن أفريقيا هذه القارة العملاقة المهددة دومًا بفقدان قدرتها على أن تكون عالمًا، ستجد في الحديقة المعلقة نمطًا من الكينونة به تواصل تصريف الحياة حتى في شكل اللاعالم.
تذكرنا الحديقة المعلقة إذَن بحدائق بابل، وهنا يتم استعادة الذاكرة الشرقية وزرعها في مسام المشهد، فحين يتم تخريب التاريخ يتكفَّل العمل الفني بتنشيط الذاكرة باحة ممكنة لاستمرار الوجود. والكون المعلق يعيدنا أيضًا إلى زمن المعلقات السبع وهي القصائد التي خلدت العرب وكانت تُكتب بماء الذهب، وسُميت معلقات لأنها تعلق بالذهن.
في هذا الزمان حيث تحوَّلت شعوب برمتها إلى شعوب عالقة على حدود أوطانها التي يتم تدميرها بالحروب الدائمة، بوسع مفهوم «الكينونة المعلقة» أن يكون شكلًا فنيًّا «يهب الأشياء … المنظر الذي لها، ويهب بني الإنسان … نظرتهم إلى أنفسهم … ورُب نظر شأنه أن يبقى مفتوحًا طالما كان الأثر أثرًا» بعبارة هيدغر الذي يعلن أن العمل الفني يجعلنا «نأتي إلى ما نكون على نحو أكثر قربًا.» وذلك لأنه يجعل الكائن «مشهودًا» أي حاضرًا تمامًا. بهذا المعنى بوسعنا القول إن لوحة الكون المعلق تجعل الكينونة مشهدًا ساطعًا يزهو فيه اللون ويسطع ضوء الشمس؛ حيث تجعل الرسامة اللوحة عائمة في اللون الأصفر الفاقع لون الصحراء بامتياز، وحيث يحضن اللون المشمس أغصان الشجر وأوراقها ويطوق القحط نفسه. نعم تذكرنا لوحة الحديقة المعلقة بأنه يمكن لأفريقيا التي هي نحن، أن تظل تسبح في الضياء بالرغم من غبار الوجوه القديمة؛ لأنها تحمل في اسمها دلالة الشمس. أبريكا تعني من اليونانية «مشمس» وتعني أيضًا الأرض الخالية من البرودة والرعب.
إن تنزيل أعمالنا الفنية اليوم ضمن ذاكرة أفريقيا ومجالها الحيوي الكبير، هو إعادة تنضيد لسياسات الهوية الخاصة بنا. فالعمل الفني لا يشتغل ضمنَ هُوية مغلقة وجاهزة وثابتة بل ضمن ضربٍ من الانتماء. كل معارك الهوية والعودة إلى الأصول تبدو مُعلقة في هذه اللوحات من أجل فتح المجال لانتماء مغاير للمخيلة. الانتماء حيوي وصائر وجمالي ومنفتح وهجين يقوم على اللقاءات والصِّلات والمعابر والبين بين واليوطوبيا أيضًا.
في كتاب أصل الأثر الفني يسأل هيدغر: «إلى أين ينتمي الأثر؟» ويجيب: «إن الأثر لا ينتمي بما هو كذلك إلا إلى الميدان الذي يُفتح عبره هو ذاته.» أي إن المعركة لا تحدث على الأصول بل ضمن الفضاء أو المجال الذي يحضر ضمنه الأثر الفني؛ فيجلب معه إلى الجلاء والضياء والبهاء كل الأشياء التي تسكن ذاك الفضاء؛ بحيث «يستعيد الحجر بهاءه واللون بريقه» إن العمل الفني «يحمل إلى النور ضوء النهار وسعة السماء وظلمة الليل» بولادة الأثر الفني كل العالم يأتي إلى واجهة النور.
الحديقة المعلقة
لوحة تسبح في اللون الأصفر مع لطخات بُنيَّة ترابية في شكل غمامات ضائعة، وغصن يسقط من أعلى اللوحة موحيًا بأن شجرةً ما كانت هنا تشهد على الوجود في هذه التضاريس الغامضة؛ حيث تظهر لنا بقايا وجوه باهتة، كما لو كانت ظلالًا تُطل علينا من تحت الغبار … هو غبار الذاكرة … وجوه بلا ملامح حافظت فقط على شكل الرأس، وتخلَّت عن أجسامها. هنا يتم تعليق الحياة أيضًا … مثلما تعلق الدروس عندنا لكارثة وبائية … لعل هذه الرءوس التي غادرت أجسادها هي الرءوس التي ذُبحت ها هنا في ديارنا ليشهد علينا الرسم تحت عيون الغُصَينات الوحيدة وضوء الشمس الساطعة هناك وفوق التراب المبثوث على وجوه الضحايا الذين تحولوا إلى طعام للتراب أيضًا.
الكون المعلق
حيث يتم تعليق العالم بورقة بصدد التخلي عن ثمارها، مع التشديد على الشَّهادة على مشهد الجذور التي تنمو بشكل فوضوي، معلقة بين القاع والغصن في شكل من التحدي لقوانين الجاذبية وقواعد الهندسة وتقاليد الزراعة أيضًا.
هذه اللوحة تواصل الحرص على حضور الشمس كبيئة ضوئية للوحة … الشمس كتوقيعةٍ أفريقية أيضًا.
معلقة بين الحلم والكابوس
تبقَى الاستعارات النباتية هي الغالبة على بيئة اللوحة، مع التشديد على أشكال بيضوية ودائرية تخرج منها غصينات في شكل أشجار بلا أوراق. كما خريف القلب تساقط أوراقه ليبقى أعزل تحت عين الشمس التي ترعى جيدًا شخوص المكان المُعلق بين الحلم والكابوس … الفن ليس باحةً للحلم فقط بل هو أيضًا مكان شرِس لولادة الكوابيس. لم يَعُد الجمال هو موضوع الفن بل صار القبيح والمفزع والمريع مضمونًا جديدًا للفن المعاصر.
بين طيات الحلم
الألوان تغيَّرت كثيرًا في هذه اللوحة. ربما تأتي هذه اللوحة من عمق المحيط الأطلسي أو البحر الأحمر، وفي طيات الحلم لا يمكِن لضوء الشمس أن يسطَع … ها هنا تغلب العتمة … ويشتد تعليق الحلم في منطقة شاهقة يصعب الوصول إليها. كيف يمكن الولوج إلى طيَّات الحلم؟ فرويد كان يقول إن أحلامنا نصوص لرغبات مكبوتة، لكن يبدو أن النص لا يكفي؛ لأن النصوص لا يمكنها إدراك عمق اللون كما الرسم. مارلوبونتي يقول: «وحده الرسم له حق مراقبة الأشياء جميعًا.» ويعتبر أنه ليس ثمة كالرسم مجالًا لامتِشاق المعنى واختراعه، «أما الموسيقى فهي دون العالم؛ بحيث لا تقدر إلا على تصوير خُطاطات الكينونة، تصوير مدها وجزرها ونمائها وتشظيَّاتها ودواماتها.»
بين شاطئين
التعليق ها هنا يحصر الكينونة في منطقة خطرة بين بحرين واختيارين بين البحر والعدو، بين الغرق والغرق. في هذه اللوحة تظهر الكينونة في لحظة من الهشاشة القصوى. كيف العبور حين يستحيل اختراق الحدود على المهجرين واللاجئين والهاربين من خراب أوطانهم؟ هذه الصورة تعبير عن كل الضحايا الذي ماتوا غرقًا والجثث التي توزَّعت بين الشواطئ في بلادنا والتي قضت نحبها في سفن الموت.
العين
حين يتم تعليق الحياة في أوطاننا، لا شيء يبقى للفن غير أن يشهد بالعين عما يحدث. إنه فقط يرى … وهذه مهمة صعبة أيضًا؛ لأن الذي يرى قد تورط في المشهد وهو مطالب بالشَّهادة عليه … العين ها هنا عالم كامل من الصفاء … سماء برمتها تُشرف على بقاء الكينونة ورعايتها … في هذه اللوحة من حق اللون أن «يزهو وحسبه أن يزهو، فإذا قطعناه في الذهن وأحصيناه من الذبذبات عددًا فإنه يرتحل» … بتعبير هيدغر.
وحول العين ثَمة تأويلات ومعارك فلسفية: منهم من اعتبر العين خادعة، ومنهم من ذهب إلى أن القول بعين ثالثة ترى اللوحات، وبأن عيوننا ليست مجرد أجهزة استقبال للأضواء والألوان والخطوط … إن «العين بعبارات لمارلوبونتي، ترى العالم ليكون لوحة وما ينقص اللوحة لتكون ذاتها، وعلى الملوَّن ترى اللون الذي تنظره اللوحة»، ويقول أيضًا: «إن الرسام يمارس وهو يرسم نظرية سحرية للرؤية؛ أي إن الفكر يخرج عبر العينين ليتجول بين الأشياء.»
تفريعات كابوسية
تعود الشجرة إلى الاشتغال في هذه اللوحة كاستعارة تشكيلية رمزية في تنشيط للانتماء في حالة صيرورة … الشجرة انتماءً وليست أصولًا أو جذورًا؛ حيث لا نرى في اللوحة جذورًا بل فقط غصينات رقيقة وكثيفة تطل الرءوس الملثمة عبر ضياء يأتي من التناقض بين الأصفر والأسود وحيث تستأنف الشمس عنايتها بالمشهد. لا شيء تبقَّى إذَن من الشجرة غير غصينات هشة وبلا أوراق، وبدلًا عن الثمار تُعلق الرءوس بين الأغصان وتلتصق أحيانًا في نوع من التضامن الكلبي، وأحيانًا تظهر في شكل كتلة من الرءوس التي لم يتبقَّ منها غير عيون تحدق، وما دامت العيون مفتوحة؛ فهذا يبشِّر بأن الحياة هناك لا تزال تملِك من يرعاها. هذه الوجوه الملثمة هي سمة سكان الصحراء، أو سكان الخلاء كما يسميهم الأديب الليبي الكبير إبراهيم الكوني يقول: «أهل الخلاء لا بد أن يستبدلوا جلودهم من حين لآخر.»
في لوحة شجرة الفردوس الزرقاء
في هذه اللوحة ينمو الأفق من جهة الأسطورة عبر ضرب من الاستعادة الفنية للرؤية السحرية للعالم التي جعلت العالم يُولد يومًا هناك، اللوحة شجرة مرة أخرى تنبت فوق أغصانها العيون في كل مكان، عيون تحاصرنا من كل صوب، تحدِّق فينا وتزلزل اطمئنانًا إلى ما يُحدث لوحةً تسطع بزرقتها في احتفالية لونية حيث تنجح الألوان رغم خراب المشهد.
ثَمة علاقة ما بين العيون، والمُعلقات، والوجوه بلا ملامح أو الوجوه الملثمة … بين حجب النساء وخروج المؤنث عن طوره هاربًا إلى تضاريس لونية تسبح في أطياف ساخنة حمراء وزرقاء تتخلَّلها خيوط بيضاء لجعل الضوء ممكنًا … كما لو كان اللون هو الرحم الوحيد المتبقِّي من فكرة الانوثة، كأرض تَينع فيها الأشكال والدوائر والخطوط … وتنمو الألوان وتتداخل وتتزاوج من أجل دورة حياتية جديدة دومًا.