من النفس إلى النفس

«في كتاب «البدائع» كلمة للمؤلف في نقد هذا الكتاب، رأينا إثباتها هنا ليرى القارئ كيف تعز سيئات الكاتب عليه فلا يمحوها، وإنما يعتذر عنها برفق ليسوِّغ لها البقاء.»

في فبراير سنة ١٩١٩ ألقيت ثلاث محاضرات في الجامعة المصرية عن حب ابن أبي ربيعة وشعره، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد ضيف، وقد طُبعت هذه المحاضرات بعد إلقائها بقليل، ويرى الناظر في تَقْدِمة الكتاب هذه الكلمة الجريئة:

وإني لَموقن أن في الناس من لا يطرب لهذا النحو من البيان، ولكني لم أكتبه إلا لمن قُدِّر له أن يدرك أسرار الجمال! وهدى الله من يحسب أن التأليف لا يصح إلا في الأبحاث التي تشبه بعض الأذهان في الجمود!

وقد نفذت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وستظهر الطبعة الثانية عما قريب، من أجل هذا أَسبِقُ النقاد إلى بعض المآخذ التي أراني مضطرًا إلى إبقائها، إجلالًا للثقة بالنفس، وإكبارًا لنزق الشباب! انظر قول ابن أبي ربيعة:

أبرزوها مثل المهاة تَهادَى
بين خَمسٍ كواعبٍ أَترابِ
وهي مكنونةٌ تحيَّر منها
في أَديم الخدين ماءُ الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرًا
عدد الرمل والحصا والتراب
أتدري كيف علقت على هذه الأبيات الحسان؟ اقرأ الكلمة الآتية:

ووجه الحسن في تحيير ماء الشباب أنك تنظر إلى الخدود الموردة، فتراها كالشفق تتنقل من تحته الشمس، أو كالمشكاة يتموَّج في قلبها المصباح.

في سبيل الحب تلك النظرة! يوم رأيته وقد أبلَّ من حُمَّى أضرعته، فرأيت ماء الشباب يدبُّ في تلك الخدود وهي صفراء كالورس، فيعيدها حمراء كالورد، وإذا الأنس يتمشَّى في فؤادي لشفائه، تمشيَ البرء في أعضائه.

وهذا استطراد لا يشك القارئ في أنه غير محمود، ولكني أستغفر الله!
وفي موطن آخر يجد القارئ هذه الكلمة:

لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيب أخذ في البكاء عليه، والحنين إليه، تلك سبيل الشعراء المفجَّعين، الذين كانت قلوبهم أعوانًا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصامًا لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلًّا ظليلًا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ما له من وارف الظلال، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف، والعقود في النحور، وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينًا في شعره، وما كان مسكينًا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما أَلِمَتْ نفسه، ولا دمعت عينه؟ بعدًا للذلَّة حتَّى في الحبِّ؟ وتبًّا للمسكنة حتى في الغرام!

وهذه صورة نفسية قد لا يقتضيها موضوع الحديث، ولكن هذا الذي كان! ويرى القارئ في هامش الصفحة الثانية عن ترجمة الشيخ حسين الحكيم ما نصه:

وكان — رحمه الله — آية الآيات في حسن الخلق، وصباحة الوجه، وأصالة الرأي، وحلاوة الحديث، وكان لا يعدله عندي غير شقيقي «سيد مبارك» الذي فقدته معه في أسبوع واحد، وكان موتهما معًا بالحُمَّى الإسبانية، لا ردَّ الله لها غربة، ولا قدَّر لها رجعة، وكان أخي سيد من أقوى الفتيان بأسًا وأمضاهم عزيمة، ولو عاش لضربت بشجاعته الأمثال.

وقد سألني بعضهم عمَّا يعني القارئ من هذا التفصيل؟ فأجبته: إنه يعني مؤلف الكتاب!

ويرى القارئ هذه الكلمة عن عواطف أهل الحضر:

وقلَّما يصدُق للحضريين حب، أو تبقى لهم صبابة، إذ يرون من متمات الظَّرف، ومكمِّلات الأدب، أن يحيا الرجل بعين باكية، وقلب خفاق، فلا يزالون يتلمسون الهوى ويتحسسون الصبابة، حتى تتاح لهم أسبابها، وتساق إليهم همومها.

وأنا الذي اجتلب المنية طرفُهُ
فمن المطالب والقتيل القاتل

وهذه مسألة فيها نظر كما يقولون!

•••

ولا أستطيع أن أعد ما في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» من الهفوات، ولكني أحمد الله على أني وُفِّقت إلى تصوير ابن أبي ربيعة وتمثيل حياته، حتى كأنك تراه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤