الفصل الثاني

المنظر

يزاح الستار عن رحبة براح وراءها جدار عزبة قصير، فيه باب ذو مصراع واحد من الخشب، ووراء الجدار بستان تلوح منه أشجار توت، يظهر من ورائها بنيان بيت صغير، وراءه وحوله في «الفندو» بيوت صغيرة للفلاحين، وإلى جانب الباب دكة من الخشب ذات مسند وقد فرش عليها شريط من الحصير، وضعت عليه وسادة وراءها حشية وإلى المسند حشية مثلها، ويرى إلى اليمين بالنسبة للمتفرج طريق على رأسها شجرة صفصاف وإلى اليسار طريق على رأسها ساقية:

يخرج برنار صاحب العزبة من باب الجدار على مهل، وهو رجل في السبعين من عمره لم تقوس ظهره السنون إلا قليلًا، ولكنه أبيض شعر الرأس واللحية والشارب. لباسه لباس فلاح فرنسي متمصر وعلى رأسه كلوتة سوداء رقيقة، وقد ارتدى عباءة أشبه بالجبة من صوف سميك اتقاء البرد، وتكون في يده عكازه ساعة دخوله، وإذا فتح الباب تركه مفتوحا، وأخذ ينظر في المكان. والوقت بعد الفجر بقليل ثم تبزغ الشمس شيئا فشيئا فيستضئ المكان.

برنار (يجلس على الوسادة ثم ينادي) : ماري (يصفق) ماري، أين ماري يا ترى؟ لعلها تصلي الآن للعذراء. (يصفق) أو لعلها ذهبت تسقي البقر، الرب وأمه يباركان لي فيها.
مريم (تأتي من اليمين من طريق الصفصافة وعلى رأسها قفة فيها تبن) : أنت الذي تنادي يا أبي؟
برنار : أجل يا ابنتي.
مريم : وكنت تدعو لي يا أبي؟
برنار : كيف لا يا ابنتي؟ إنك تنهضين قبل أن أنهض، وأنا رجل مسن وأنت طفلة في السادسة عشر من عمرك، وتقومين بخدمة أبيك، وما وكل الله إلينا من الحيوان.
مريم : شكرًا لك يا أبي، إن محبتك لي ورضاك عني يملآن قلبي غبطة ونعيمًا، تالله لا قدرة لي على شكر فضلك.
برنار : بل إن فضلك لا يقدر ولا يحسب، ألست أنت التي حقنت دماء بني قومي حيال دمياط ثم وهبتها لهم فنزلوها آمنين؟ تعالي تعالي أقبلك (تنزل عن قامتها قليلًا وتدنو منه فيقبلها) هنيئا لك ملكوت السماوات يا ماري.
مريم : لا تدعني ماري يا أبتي، ادعني مريم، إنني مصرية وأكره أن أدعى بغير ما تدعى به سمياتي من فتيات القرية (تذهب فتضع القفة على ترس الساقية).
برنار : لا بأس، ولكنه اعتياد اللسان يا ابنتي (يصمت)، لماذا تأخر فيليب يا ترى؟
مريم (وهي تعبث بالتبن) : أأنت على موعد معه يا أبتي؟
برنار : كلا، ولكنه يأتيني ليلة الإثنين من كل أسبوع يحدثني بأخبار القصر في المنصورة، ويقص عليّ كل ما يجري هناك، أليس هو الذي أخبرني بمقدم سلطان هذا البلد من حمص في هودجه مريضًا لإعداد دمياط للقاء الفرنسيس، فأرسلتك إلى فخر الدين بتلك الحيلة التي انطلت عليه، ثم أليس هو الذي … الذي … الذي أخبرني باشتداد المرض عليه فأرسلت إلى الملك لويس بالمسير؟ إنه فرنسي مثلي أتحسبين أننا ننسى وطننا يا مريم؟
مريم : زعمت أنك من أهل هذي البلد يا أبتي.
برنار : كلا يا ابنتي إنني فرنسي، كنت جنديًّا في جيش الأمير يوحنا دوبريان الذي نزل بدمياط منذ ثلاثين سنة، وكنت قبلها خادمًا في قصر أم ملك فرنسا لويس العظيم نفسه، فلما دارت الدائرة علينا في فارسكور هذه وقعت أسيرًا في قبضة الملك عيسى عم هذا السلطان، ثم وقع فيليب وهو فتى صغير السن لم يبلغ العاشرة في يد الملك موسى عمه الآخر.
مريم : أكان فيليب جنديًّا وهو في العاشرة من العمر؟
برنار : لم يكن جنديًّا، ولكن أباه كان طبيبًا ولم يكن له من الدنيا إلا فيليب هذا، فلما أتى في ركاب الأمير استصحبه معه ومات الرجل في الأسر وظل الغلام في بيت عيسى حتى عاد إلى مصر، وكان قد عرف من الطب شيئا كثير فنشأ طبيبا كأبيه، آه يا مريم، لولا أن هذين الأميرين جاءا من الشام لنصرة أخيهما والد هذا السلطان لنلنا النصر يومئذ … ولكنه مقدر …
مريم : وكيف نجوت أنت من الأسر يا أبتي؟
برنار : نجاني الله بفضل رجل عربي كان يقطن هذه الجهات دعاني للعيش معه حتى أعود إلى وطني، ولكني آثرت الدير فطرقته وعشت فيه أعوامًا طويلة خادمًا لأهله وللرب.
مريم : أما فكرت في العودة إلى بلادك؟ أم استطبت هواء البلاد؟
برنار : ما كنت أدعو الله في أمر إلا أن أعود إلى بلادي، ولكن أهل الدير حذروني من الظهور للناس، فلما مات السلطان الكامل أبو هذا السلطان تغيرت الأمور، وأرسلت إلى مولاتي أم الملك لويس لتنقذني فجاءني منها أن ابنها العظيم آت إلى مصر وسيعود بي … فخرجت إلى الدنيا، وقد تعلمت لغة القوم وجاهدت في العيش حتى أصبحت ولي هذه الدار وهذه المزرعة.
مريم : كل ذلك بعد أن جاءك الخبر من أم الملك.
برنار : أجل يا ابنتي، لقد تأخر عشر سنوات كاملة، ولكنه فعل حسنا فإني استطعت بلا سيف ولا قتال أن أفتح دمياط، وأجعل طريق المنصورة مفتوحة لهم، فإذا امتلكوها لم يبق أمامهم إلا قلعة الجبل، ومثلها لا يعز على الملك لويس، وعندئذ أكون قد انتقمت لقومي ولنفسي، ثم أرجع معهم إلى فرنسا وأترك هذه البلاد جميعها.
مريم : وي!
برنار : نعم أتركها لا آخذ منها شيئًا إلا سيفي النائم في قرابه منذ تسع وعشرين سنة حتى أكله الصدأ، وأما داري هذه وهذه الأرض التي أطعمتني من جوع فإني أتركها لكِ جزاء خدمتك لي، وأمانتك منذ كنا في الدير.
مريم : وتتركني يا أبتي؟
برنار : آه يا ابنتي، هذا ما تَأْلَمُ لَه نفسي يا مريم، فأنه لا بد من فراقك، ولكن الرب يحرسك وأمه.
مريم : كلا، لا تفارقني يا أبتي، إني لا أشتهي المُقام بهذه الدار من بعدك.
برنار : شكرًا لكي يا بنيتي، إني سأوصي بك فيليب خيرًا.
مريم : وي فيليب! ولماذا لا تأخذني معك؟
برنار : لا أستطيع ذلك.
مريم : لماذا؟
برنار : هواء فرنسا لا يطيب لك يا ابنتي، بيد أن فرنسا لا تضيف إلا الفرنسيين وأنت غريبة عنهم، فلا يأمنوا لك وربما آذوك أو قتلوك.
مريم : يقتلوني جزاء ما فعلت … أَهُمْ كذلك؟
برنار : كلا كلا، ولكن وربما … بل هم …
مريم : أما والله لقد كان في فؤادي يوم أرسلتني إلى فخر الدين وخزٌ أليم.
برنار (باحتداد) : وخزٌ أليم! وخزٌ أليم! ادخلي ادخلي، قدِّمي العلف للبقر (تذهب إلى القفة تأخذها وتدخل) لعنة الله عليك من وقاح، لن تفارق الدم غريزته ولا القلب طبيعته (هنا يدخل هبة الله في ملابس كاتب من كتاب القصر … قباء قصير على قفطان من الكمخا، أي: «الشاهي» العريض التخطيط جدًّا ومنطقة عريضة إلا أنه لبس فوق ذلك برنسا عربيًّا مشقوقًا من قمته إلى رأس الفؤاد فقط وله أقباع «طرطور» متصل بالبرنس عند العاتق، وعلى رأسه كلوتة دقيقة مضربة اعتمَّ عليها بشاش من القطن تحنك به على زي المغاربة، وهو لبس الفاطميين الذين جاءت الدولة القائمة على أثرهم منذ عهد يعد قريبًا، ولذلك لم تتغير ملابس العامة في أيام الفاطميين، وظل هذا اللباس لباس العرب في كل مكان، وقد لبس هبة الله لبسهم ليتنكر، وهبة هذا رجل قصير القامة مستطيل الوجه أسمره نوعا ما، ذو عينين واسعتين وحاجبه مقوس قليلًا يحكم من يراه أنه ممن يتعمقون في بحث الأمور العادية التي تنكشف لأول وهلة، وذلك لما طبع عليه من الارتياب والتشوش الذهني، على شيء من الغرور، وتقصي الآمال الكاذبة، فإذا رآه برنار وقف متهللًا، وهو متكئ على عكازته) مرحبًا مرحبًا، ادن مني (يسلم عليه ويقبله) بركة الرب عليك، حسبتك تخلف الموعد يا أخي.
هبة : لا يخلف الموعد إلا لئيم ولكني تأخرت الليلة لآتيك بالنبأ العظيم.
برنار : مرحى مرحى. (يهم بالجلوس) اجلس اجلس. هات ما وراءك، أقضى الرجل نحبه؟
هبة : قضى أو كاد (يجلس).
برنار (يبحث في جيبه ويخرج حقًّا) : لقد كنت أعددت لك هذا الحق أيضًا.
هبة (يشير له بظهر يده إشارة الرفض) : لا حاجة لي به، دخلت عليه ليلة الأمس فوجدت مرهمك الأول يسري في عروقه حتى ازرَّق أديمه، واخضرت أصابعه فمرخته به مرة أخرى وخرجت.
برنار : هذا ما قدّرت (يعيد الحق إلى ثيابه)، ولذلك أرسلت إلى الملك لويس أخبره بذلك، وأشير عليه بالزحف إلى فارسكور، وقد عاد الرسول يخبرني أنه كان يستعد لذلك؛ إذ جاءه جيش مدد من عكاء، ولما بلغته رسالتي عرضها على باروناته فسرُّوا سرورًا عظيما وزحفوا من فورهم.
هبة : مرحى مرحى.
برنار : نشكر الرب، إنه سيدهمهم وهم مشغولون بسلطانهم، وليس له في مصر ولي عهد، ولا بد أن ينقسموا على أنفسهم فيقاتل بعضهم بعضا، ليت شعرى أين يكون الملك الآن؟
هبة : لقد رأيت مخيما من بعيد فلعلهم بلغوا هذه المحلة.
برنار : لا حاجة إلى ذلك، لقد أرسل يخبرني أنه إذا بلغ فارسكور مرّ بي في طريقه إلى الدير القديم إلى هذه القرية لزيارة أيقوناته، فإذا لقيته نصحته بالمسير إلى بحر أشموم على الفور، كيف صار لويس يا ترى؟ … لقد كان صبيًّا جميل الصورة بريء النظرة يوم غادرت بيتهم لأحمل الصليب، كنت أقول له وأنا ألاعبه: إنك يا لويس مثل الملك الأعلى وستكون قديسا، وقد أصبح كذلك، إنه لا ينطق إلا بمثل كلام الرب ولا يفعل إلا الخير.
هبة : إني أشتهي رؤيته فعسى الرب أن ينهضه اليوم لزيارة الدير وزيارتك حتى أراه، وأتقدم بعبوديتي إليه، ليتني كنت في خدمة أمه مثلك يا برنار.
برنار : إني سأذكر له فضلك يا فيليب ولن تعدم إليه زلفى، ولعمري لتصبحن في الأمراء يوم يستولي لويس على قلعة الجبل وحصن بابليون، وإذا لقيت باروناته فسأحادثهم في أمرك وأبين لهم أنك بصير بدخائل هذه الدولة وأنك تصلح للولاية.
هبة (يتناول يد برنار ويقبلها) : شكرًا شكرًا.
برنار : هل يجدون أعرف منك أو أقدر أو أخلص؟!
هبة : شكرا لك يا برنار على حسن ظنك، ولكني لا أبتغي من نعيم الدنيا وأعلاقها شيئًا أفضل عندي من الزواج بصفية أخت شجرة الدر، ترى ماذا فعلوا بها؟
برنار : لقد خرجت من يدهم وأرى خيرًا لك أن تصون على نفسك أشواقها فقد أصبحت الآن ملكًا للأمير دارتوا.
هبة : للأمير دارتوا؟!
برنار : أجل.
هبة : وي! كيف وصلت إليه؟
برنار : لا أدري إلا أنه جاءني بها.
هبة (ينهض مضطربا) : جاءك بها؟
برنار (ينظر إليه جامدا) : أجل.
هبة (محاولًا مداراة اضطرابه) : وهل كان يعرفك؟
برنار : لا بد أنه سمع من أخيه الملك، وقد عاد برفقة رسولي الذي كنت أرسلته إليه.
هبة : وكيف أخذها وكانت في حراسة الملكة مرغريت؟
برنار (على حالة من الجمود) : لا أدري سوى أنه أودعني إياها وعاد، وأوصاني أن أكتم خبرها عن الناس، ولكني أعرف أنك لست فيمن يعني، إنما يعني أخاه الملك وباروناته أرباب المشورة ومن على شاكلتهم.
هبة : ولكن … سرقها؟ إن هذا الأمير فاسق جريء، إنه اتخذ مقامه في دمياط فرصة ليقيم فيها سوق الفسوق والبغي، حتى ضج منه جميع الناس.
برنار : الظاهر أنه سرقها، فأن الملك لا يمكن أن يكون قد أسلمها إليه إلا أن يكون غافلا عما يفعله أخوه.
هبة : إذن فإن الملك سيغضب لاختفائها لئلا تسوء سمعته في بلاد مصر بأجمعها.
برنار : لا شك، إن لويس قديس كريم.
هبة : فإذا علم أنها كانت هنا صب جام غضبه عليك.
برنار : لماذا؟
هبة : سيرى أنك شريك في الجرم، يجب عليك أن تخبره.
برنار : أُخبره ليقتلني دارتوا! إني أريد أن أظل على قيد الحياة حتى أرى أحفادي ولكن من ذا يدريه أنها هنا.
هبة (يغضب) : أنا سيدي.
برنار (يضحك) : أنت؟ لقد هان الأمر!
هبة : أتعجب لذلك؟
برنار : لماذا؟ أتريد أن تتولى أنت إخفاءها؟ (يضحك).
هبة : كلا، ولكنك تعلم أني عالق القلب بهذي الفتاة منذ عرفتها، ولا أزال أؤمل أن تكون زوجة لي، فإذا وقعت في يد الكونت دارتوا لم أظفر بها، ولكني أرجو إذا هي بقيت في بيت الملك أن أسأله إياها أجرًا على ما فعلت.
برنار : ولكنك تعرضني لنقمة الكونت دارتوا يا فيليب.
هبة : لا يهمني يا سيدي، كيف يهون على المحب أن يرى من يهوى في يد سواه؟ إما أن تتفق معي عليها، أو أخبرت الملك بأمرها (يجلس).
برنار : أفعل ما تريد يا هبة الله.
هبة (يؤخذ ويصعق) : هبة الله! ألم أقل لك لا تدعني بهذا الاسم ما دمت معك.
برنار (بغضب خفي) : بلى، ولكني أردت أن أبين لك أن كشف السر عن اسمك وحده يذعرك (بتهديد) ويحك! إني أملك استماحة مولاي الملك عذرا، أما أنت فلا تستطيع مواجهة بيبرس إذا أنا أفشيت له بعض أمرك (ينهض هبة الله) أعلمت أنك لا تزال أحمق يا فيليب؟ (هبة الله يفكر مليا وتبدو عليه علامات التوفق إلى فكرة ناجحة فيكتمها، ثم يعود فتظهر عليه علامات اليأس)، اجلس لا تفكر في أن تعلم الملك أو تعلم بيبرس بشأني وشأنها فقد ذهب زمان ذلك، إن الملك على مرمى السهم منا فلم يعد لبيبرس سبيل إليّ، أما أنت فإني أستطيع أن أخبره بما فعلت للسلطان وأنا في أمان، والآن إذ قضيت إربي منك ومن الفتاة التي استودعتني إياها طفلة في الدير منذ خمسة عشر عامًا …
هبة : مريم؟
برنار : بل عائشة التي سميتها مريم، بنت الفارس أقطاي الجمداري التي حملك سخطك على أمها ومقتك لأبيها وجنونك أن تختطف ابنتهما من مهدها، وتأتي بها إليّ لتحرق قلبها عليها، آهٍ يا لئيم، إن رسالتك لا تزال معي.
هبة : ويحك! ويحك! أتريد أن يفتضح أمري بعد كل خفائه، وأنت الذي أشرت عليّ به؟
برنار : اخرج، هذه هي تطعم البقر فخذها ولا تقابلني بعد اليوم، إني أصبحت أمقتها هي أيضًا. هلم (هنا تأتي مريم من الدار وعلى رأسها بلاص) هذه هي (تتقدم مريم مارة أمام الرجلين وتخرج من الطريق التي عليها الصفصافة يمينا وهي مغضبة).
هبة : رباه! كيف تنكرت لي على عجل يا برنار؟ أهذه مروءة الإخوان؟
برنار : ويحك! (يقف ينظر إليه) أينا تنكر لأخيه، (يلتفت) أما والله ما رأيت في الرجال مثلك أخرق، (يلتفت) أقوال متناقضة وأفعال غريبة يعزوها الإنسان إلى سعة حيلة وسداد رأي، أو تعزوها أنت، وما هي إلا خطل وبلة، كلما رأيت في الأمر وجها خفيا أو مظلما سرت إليه تلتمسه فتنقض هذا وتقيم ذاك، ولا تدري عاقبة هذا ولا ذاك، ويحك، أما والله لولا أنني تدبرت الأمر كله لأفسدت عليّ كل عملي.
هبة (ينهض) : معذرة يا برنار، معذرة، إن المحب مفقود الحجا، أصفح عني، يدك أقبلها (يتناولها بشدة ويقبلها ثم يأخذ ينظر إليه ضارعًا).
برنار (ينظر إليه في أثناء ذلك صامتًا) : انهض انهض. إنك لأبله، أتظن أنك تستطيع أن تخفيها عن عيون بيبرس وهو موعود بها، وقد علم بأمرها كما أخبرتني، بل ألم تخبرهم أنت بذلك يا أبله، لماذا فعلت ذلك؟ أليس هذا لأن ميزان عقلك قد خرب منذ زمان بعيد؟ لماذا خبرتهم؟ أية فائدة لك من هذا الإخبار؟ ما خطبك؟ قم قم. لا تحزن إني أعدك بها. سأحادث دارتوا في شأنها، ولكن لا تسألني عما سأفعل (هنا تبزغ الشمس ويرى سهمها على الصفصافة).
هبة : شكرا لك شكرا (يقبل يده) لا تذكر إلا الخير (يجلس بجواره مطرقا).

(وإذا بصفية أخت شجرة الدر تخطت عتبة باب العزبة وانحدرت إلى اليمين، فإذا رآها برنار قام إليها مذعورًا وأمسك بثيابها فسلت ثيابها عنه).

(أما ملابسها فقباء على شكل «بالطو» من الحرير الأحمر، وقفطان من الحرير المعروف بالقطنية «الكمخا»، وعلى القباء برنس من الجوخ وعلى رأسها لفة صغيرة من الحرير الملون، وهي فتاة في العشرين من عمرها بيضاء الوجه نحيفة الجسم حلوة الطلعة متناسبة الأعضاء ذات عينين قويتي النظرة، وخد ممتلئ على صغر في الوجه).

برنار : الأميرة صفية! أين تذهبين يا ابنتي؟
هبة : صفية! (يتلثم على الفور بشاش عمامته ويضع يده على صدره ثم ينهض وينحدر إلى اليسار).
صفية : أجل إني صفية، دعني. هأنذا ساكنة، أتذعركم فتاة؟
برنار : كلا ولكنك وديعة عندي ولا يليق … ارجعي يا سيدتي.
صفية : وديعة! إن كنت وديعة عندك فقد وجبت عليك رعايتي، أم أن الودائع عندكم لا يرون السماء ولا يستنشقون الهواء؟

(يعود إلى مقعده ويتكئ بيمناه على المسند والعكازة في يده قائمة على الأرض).

برنار : ولكنك يا ابنتي أسيرة، وقد جعلت عليك حارسًا حتى أردك إليهم، أأخون الأمانة؟
صفية : تخون الأمانة! أية أمانة فيما تفعلون؟ ويحي أيها الشيخ. متى كانت النساء تؤسر! ألم يرسلني ملك فرنسا العظيم إلى أختي كبرا عن أسر النساء؟ فلم يشأ الذي ائتمنه أن يسير بي إليها؟
برنار : ولكني لا أعرف إلا أن الكونت دارتوا أتى بك إلى داري هذه حتى يعود إليك، وربما كان يريد أن يلتمس الطريق بك إلى أهلك.
صفية : ولكنك تعلم أنه جاء بي قسرًا، وأنا أخت امرأة سلطانكم، فكيف يقدر لي أن أجيء إلى هذا النجع المصري، ثم تبالغون أنتم في اعتقالي وإخفائي عن عيون أهلي، بل وعن أعدائهم الأكرمين الذين كنت بين ظهرانيهم؟
برنار : ولكن يا سيدتي … ما حيلتي (بلا اكتراث) لقد أصبحت هذه الدار ملكا للفرنسيس، فإذا أنا أطلقت سراحك لم يطلقوا سراحي.
صفية : وماذا في ذلك؟ هب أنك اعتقلت فداء لصون فتاة، أفتجد هذا كثيرًا عليك؟ أم أن اختلاف ديني عن دينكم ينسيكم حق الله والوطن، ويبيح لكم أن تسلموا أعراض المسلمات لهاتكها وترون في هذا زلفى إلى الله وقربانا؟
برنار (بحيرة وحده) : ولكنهم يقتلونني يا سيدتي، من ذا يطيق القتل؟
صفية : آه، لو كنت عربيًا لأطقته، ولكن …
برنار : ويحك، ارجعي إلى حجرتك (يشير بعكازه يريد ضربها فلا تتحرك).
هبة (وهو ملثم لا يبدو منه إلا عين ومارن أنف) : روّحي عنك يا سيدتي. الشيخ معذور فيما يقول، إن الفرنسيس خيموا الليلة بفارسكور، وقد أنزلوك في داره هذه من قبل حتى يردوك إلى أهلك بعد أن أسروا من جئت معهم من الرجال، كما تقضي شريعة الحروب، فإذا هو لم يرد إليهم أمانتهم فيما يدعون لم يكفهم فيك نساء هذه القرية جميعهن (يشير يسارًا).
صفية (تنظر إليه باحتقار) : آه يا سيدي ما عهدت الملثم إلا عربيًا كريمًا، ولكني أرى قولك أدنى إلى قوله، أفأنت من هذا النجع وأهله؟
هبة (يغص بريقه) : هو كذلك يا سيدتي.
صفية : إن كنتم تخشون على فتياتكم فلا ضير عليكم ولا جناح إلا أن تروا سبيل إنقاذهن ثم لاتبتغونها.
هبة : ولكن كيف السبيل؟
صفية : اهجروا هذا النجع بهن جميعا، ارحلوا بهن إلى أختي في المنصورة، تنزلكم منها مكانًا عليًّا وتبدلكم من هذا النجع قصرا منيفا، وتكونوا من بعدها قوما صالحين.
برنار : ادخلي ادخلي. لا تجرّي علينا برأيك الأذى، ذلك زمان تقضىّ … إن الفرنسيس آخذون المنصورة ومن فيها، وآخذون أختك أيضًا، فاحمدي الله أنك الآن في حماي.
صفية : ويحكم ويحكم. ما رأيت مثلكم قوما يتفاءلون الشر لبلادهم.
برنار : هوه، ادخلي يا ابنتي!
صفية : خسئت إن كان لي مثلك أبا.
برنار (مهتاجا) : ويحك يا خاسرة (يشير بعجازته يريد ضربها فلا تتحرك، وهنا يسمع صراخ مريم خارج المكان) ما هذا الصراخ؟ (تأتي مريم جارية من جهة اليسار مفككة الشعر من أثر العراك، وتلقي نفسها أمام برنار جاثية وتبكي بشدة).
مريم : أنقذني يا أبي.

(ينهض نصف نهوض والعكازة في يده).

برنار : ماذا أصابك؟
هبة : ماذا جرى؟
مريم : خبئوني، ردوهم عني.
برنار : ماذا جرى؟
مريم : خرجت أملأ الجرة من الترعة فلقيني الذي جاءنا بالأمس (أثناء اللعب تخرج صفية فارة بنفسها خلسة من اليمين) فدهمني على حين بغتة.
برنار : محال يا ابنتي.
مريم : وي! لقد أراد أن يؤذيني يا أبتي. (يدخل الكونت دارتوا فتنهض مريم مذعورة) هذا هو (تمسك برقبة الشيخ فيحاول إبعادها عنه لينهض لملاقاة الكونت).

(ودارتوا لابس خوذة وقميصًا مدرعا، تمنطق عليه بحزام علق فيه سيفا، ولبس فوق هذا حرملة من الصوف الثقيل وفي رجله نعل رومانية، إذا دخل وقف بعد الساقية بقليل).

دارتوا : أين الفتاة التي كانت على الماء؟
برنار : مرحبا بالكونت دارتوا (واقفا ومريم بجواره).
دارتوا (بلا اكتراث) : أين هي؟
برنار : هذه هي (يقدمها بلطف إليه وهي تمانع).
مريم (تنظر إليه فزعة منه دهشة) : ويلاه!
دارتوا : أجل هي بعينها، لماذا فررت مني يا صبية؟ (يدنو منها) لماذا؟
هبة : لم تكن تعرفك يا سيدي.
مريم : كيف لا؟ أليس هذا الذي جاءنا بالأمس؟
برنار : إذن فلماذا ذعرت؟
هبة : هذا غريب.
مريم (لهبة الله) : أيبغى الأمير عليّ ولا أذعر؟
برنار : قبحت يا شقية، إليك عني (يطردها بعكازته) معذرة أيها الأمير.
مريم (تصرخ) : ارحمني يا فيليب ارحمني (تبكي).
دارتوا : ما للفتاة مذعورة مني؟
هبة : ليست مذعورة يا مولاي، ولكنها لا تزال طفلة (يضحك ضحكة التلطف).
مريم : ويحكم كيف تتكلمون؟ (تتركه وتتقدم جاثية إلى دارتوا) ارحمني أنت أيها الأمير، إنهم يسلمونني إليك خشية منك والتماسا لفضلك، فاحفظ عليّ نفسي يحفظ الله عليك نفسك.
دارتوا (يلتفت عنها) : انهضي انهضي، مثل هذا الذعر يقبض عنك النفس (إلى برنار) أين الوديعة؟ (تهم مريم بدخول الدار هاربة وإذ ترى دارتوا يسير كأنه يريد الدخول تنصرف عنه جارية، وتخرج من جهة الساقية، وبرنار يلتفت وينظر في باب الدار كأنه يبحث عن صفية مذعورًا فلما لم ير شيئا يعود، ويلتفت الكونت إلى برنار ثم إلى هبة الله، ثم يلتفت برنار إلى هبة الله ودارتوا ينظر إليهما).
برنار : أين هي؟ هربت! ويلاه، فيليب! لقد كانت أمامك، كيف تركتها؟
هبة : ما هذا؟ أتريد أن توقع بي؟ (يروح ويجيء) إنني لم أرها.
برنار : انظر لعلها (هبة الله يلتفت هنا وهناك ويذهب يسرة ثم يعود كأنه يبحث عن صفية).
دارتوا : أين تذهب؟ قف، ماذا تدبران؟ أين الفتاة؟
برنار : كانت هنا، فلما شغلنا بأمر ماري وصراخها اختفت عن أعيننا.
دارتوا : كذبت يا لعين، إنك أرسلتها إلى أختها، ألم يجئ هذا العربيُّ من أجلها؟
هبة : كلا وحق القديس أيها الأمير، ما أنا بعربي، إني أنا …
برنار : هذا فيليب هبة الله الطبيب الذي …
دارتوا (يقاطعه) : ويحك، أتظنني آمنه؟ إذا كان قد خان سلطانه وصاحب نعمته فأجدر به أن يخونني (إلى هبة الله بشدة) أين الفتاة؟
هبة : وحق السموات لا أدري. ولكنها كانت هنا (يلتفت إلى برنار ويحاول التكلم فيقفه ما يفعل الأمير).
دارتوا (يقبض على لحية برنار) : إنك تخفيها في دارك لأخي بواتيه، إني رأيته آتيا إلى هذا المكان ساعة شروق الشمس (هنا يدخل الكونت بواتيه ومعه صفية، وهو قابض على ضفائر شعرها، ولابس ملبس أخيه سواء بسواء مع اختلاف في لون الحرملة).
صفية : يا أرحم الراحمين ارحمني.
برنار (فرحا ويتقدم نحوها) : هذي هي، شكرًا لأم الرب (يتقدم بواتيه من أخيه ويقبض برنار على ذراعها قائلا) هذي هي هذي هي.
دارتوا (يخاطب أخاه) : أين كانت الفتاة يا روبير؟
بواتيه : قابلتها في الطريق عند منعطف الترعة فحسبتها الفتاة التي فرت منك فإذا هي وديعتنا.
دارتوا : وديعتنا؟ إنها وديعتي وحدي يا روبير.
بواتيه : أجل ولكن كان ذلك باتفاق بيننا.
دارتوا : ليس على مثل هذا اتفاق، إن الملك أسلمني إياها وعهد إليّ بردها إلى أهلها في حراسة بعض رجالي فهي ملكي حتى أنفذ أمره.
بواتيه : ولكنها فرت منك بعد ذلك فأصبحت حرة ثم أسرتها أنا الآن فهي ملكي وحدي.
دارتوا : هذا تخريف يا كونت.
بواتيه (بغضب) : تخريف!
دارتوا (بغضب) : وحمق وجنون.
بواتيه : إنك تهينني يا كونت (يضع يديه على مقبض سيفه).
دارتوا (يضع يديه على مقبض سيفه ويجرده قليلًا) : حسبك.
برنار (يتقدم بينهما راجيًا) : لا تقتتلا لاتقتتلا، لايليق بالأخوين أن يقتتلا، إن أخاكما الملك قادم إلينا هذا الصباح، ولعله الآن في الطريق.
بواتيه (يلتفت وجلًا إلى برنار) : كيف؟ الملك آتٍ؟ من أين لك هذا؟
برنار : إنه وعد أن يزور خادم أمه القديم، وهو مار إلى الدير القريب (تأتي مريم من جهة الساقية وعلى رأسها جرة «بلاص» وتصل إلى الباب، فيلتفت برنار إليها ويخاطبها) قفي يا مريم، ضعي عنك هذه الجرة (تضعها داخل الباب عن اليمين) انظرا (للأميرين) أليست حسناء ناضرة، لا يليق بالأخوين أن يقتتلا، هلم ادخلا الدار بهما.
الأميران : لا بأس لا بأس.
مريم وصفية : ويلاه — ويلاه!
صفية (ضارعة متجهة إلى السماء) : رب إني أسلمت إليك أمري فنجني من القوم الظالمين.
بواتيه (يتقدم من صفية) : ماذا تفعل الحسناء؟ تصلي؟ ما أجمل صلاتك؟
دارتوا (يتقدم من صفية أيضًا ويقف وهو واضع يديه على خاصرتيه) : إنا لا نريد بك سوءا يا مليحة، ادخلي الدار إن برد الصباح قاس عليك.
صفية : اتق الله أيها الأمير وردني إلى أسري عند أخيك، ردني إلى قومك بل إلى خادميكم، إنهم أرعى منكم للحرمات وأعرف بحق المروءة.
برنار : ويحك يا شقية، أتقولين هذا للأمير؟
صفية : وسأذكره للملك أيضًا ليرى كيف يخون الأمانة أهلُه.
بواتيه (يلتفت إلى أخيه) : إني نزلت لك عنها يا دارتوا (يذهب إلى مريم).
دارتوا : شكرًا.
مريم : ويلاه ويلاه! أبي أبي!
صفية : وابيبرس! وابيبرس (تبكي).
برنار (يضحك) : بيبرس؟ سيأتيك بيبرس على براق من السماء. (والكل يضحكون).
دارتوا : هلم، (يميل جهة باب العزبة يحاول جرها من ذراعها).
صفية : واركن الدين! واركن الدين!
بيبرس (من الخارج وعلى بعد) : لبيك لبيك! هأنذا يا مستغيثا بركن الدين!
هبة : بيبرس يا برنار! (ويجري خارجا من جهة الساقية).
برنار : بيبرس؟
صفية : بيبرس! إليّ إليّ (تقع مغشيا عليها).
الأميران (مذعورين) : بيبرس؟ (هنا تسمع دقدقة سنابك خيل راكضة).
دارتوا : ماذا نفعل؟
برنار : ادخلا الدار بهما والزاما الباب من وراء، إنه قديم المزلاج.

(يحملانها ويدخلان ويدخل برنار وراءهما ويغلقون الباب).

(يدخل بيبرس كما رأيناه أول فصل إلا أنه قد امتطى جوادًا مسرجا إسراجًا عربيًّا فاخرا بكنبوش من الأطلس المزركش، ولجام من الذهب، ووراءه عبد أسود يلبس قميصًا من الصوف، وفي يده سيف، وعلى رأسه عمامة، وبيبرس في عدة القتال؛ فعلى صدره درع، وعلى رأسه خوذة، وعلى فخذيه لامة مزردة. يكون دخوله من جهة الصفصافة والسيف مسلول في يده).

(إذا رأته مريم هرعت إليه ضارعة وتعلقت بأهداب الكنبوش).

مريم : نجّني نجّني.
بيبرس : لا روع عليك، أنت بين ذراعي الأسد، روّحي عنك روّحي. ما خطبك؟
مريم : أرادوا أن يسلموني الآن إلى الكونت أخي الملك أنا وفتاة أخرى جاءوا بها إلينا أسيرة، فلما سمعوا صوتك عرفوك فأدخلوها ونسوني هنا والله لا ينسى البائسين.
بيبرس : ومن أنت؟
مريم : مريم ربيبة برنار صاحب هذا النجع.
بيبرس : يالضيعة المروءة! ومن هذه الفتاة الأسيرة يا ترى؟
مريم : لا أدري، ولكنها فتاة تدعى صفية يقال: إنها أميرة، وهي التي كانت تستغيث بك.
بيبرس : يا رحمة الله! صفية؟
مريم : أجل.
بيبرس : اللهم شكرًا.
صفية (من الداخل) : بيبرس! بيبرس!
بيبرس (ينزل عن جواده) : لبيك يا صفية! لبيك! هأنذا (يخاطب العبد) خذ الجواد إلى الترعة وانتظرني هناك وكن مرهف الأذن، أتعرف صوت بوقي؟
العبد : كيف لا يا مولاي (يخرج بالجواد من جهة الساقية).
بيبرس (يتقدم إلى الباب ويدق عليه بقبضة سيفه) : افتحوا.
برنار : لن نفتح لك.
صفية (بصوت ضعيف) : بيبرس أنقذني.
بيبرس : لبيك يا حياة النفس (ويدفع الباب فينفتح ويجري من كان وراءه من الرجال، ويخطو خطوة إلى الداخل فيجد صفية أمامه، فتلقي بنفسها في أحضانه فيرجع بها إلى المرزح).
صفية : ركن الدين! ركن الدين!
بيبرس : هأنذا بين يديك سرّي عنك.
صفية (بفزع) : سر بي من هذا المكان بحقي عليك.
بيبرس : أنت معي فلا توجلي.
صفية : سر بي بحقي عليك.
بيبرس : لا تحزني، لقد ظفر بيبرس بك، ولم يظفر هذا السيف بمناه، وقد آليت لأهتكن حجاب القلب ممن هتك لك حجابا (يهم بالدخول).
صفية (تتعلق به) : لا تدخل لا تدخل.
مريم : لا تتركنا وحدنا.
صفية : سر بحق الله يا بيبرس، إن رؤية هذا النجع تذعر نفسي.
بيبرس : وقسمي يا صفية، قسمي إني ما حنثت في حياتي مرة؟
صفية (تجره) : ولن تحنث يا ركن الدين، إنك ملاقيهم عما قريب فبر بقسمك يومئذ.
مريم : أجل أجل. النجاة بالعرض أولى.
بيبرس : سرّي عنك، هيا بنا.

(يتحول بيبرس بهما صوب الساقية وتسير صفية إلى يمينه ومريم إلى يساره إلا أنها تكون ملتفتة إلى الوراء، وإذا بالأميرين قد خرجا من الدار والسيف مشهور في أيديهما وإذ تلمحهما مريم تصرخ).

مريم : سيفك أيها الأمير!
بيبرس (يلتفت ويجرد سيفه على عجل وتقف الفتاتان وراءه وينازلهما) : يا سبة الرجال أكذلك دأبكما؟
برنار (يخرج من الدار ويراقب القتال هنيهة، ثم ينبهه صوت أقدام آتية من جهة الصفصافة) : الملك أيها الأمراء!

(يلتفت الأميران ثم يتراجعان ويقفان إلى جوار جدار العزبة، ويدخل الملك لويس التاسع ومعه جنديان في لباس الصليبيين، المغفر «طاقية من الزرد» والقميص المزرد والسيف مدلى من حزام في الوسط، والسروال المزرد أيضًا والواصل إلى القدمين.

أما الملك فقد كان لباسه على صورة خاصة به؛ فعلى رأسه خوذة من صفر مذهب، وعلى بدنه قميص من حديد مشبك، وسروال مثل جنوده إلا أنه قد لبس فوق القميص درّاعة قصيرة لا أكمام لها زرقاء اللون سميكة، وتمنطق عليها بحزام من مربعات سميكة من الصفر المذهب علقت فيها جعبة سيف مستقيم طويل، وقد وضع إذ ذاك على صدره حرملة من الجوخ الأزرق مسجفة ومبطنة بفراء).

الملك : ما هذا؟ بواتيه ودارتوا يقاتلان رجلا!
برنار : إنما يقاتلان أمة أيها الملك، هذا بيبرس البندقداري.
الملك : بيبرس البندقداري! سلام أيها الأمير العظيم.
بيبرس : أسلام في مثل هذه الساعة؟
الملك : أجل، أزعمت أنا لا نعرف حق البطولة؟
بيبرس : إذن فعليك السلام أيها الملك.
الملك : ماذا جاء بك إلينا وحدك؟ إن مخيمنا على مرمى السهم منك.
بيبرس : من كان معه مثل سيفي وقلبي لا يستكثر الرجال ولا يأبه للأهوال، ولكني كنت في طريقي إليك.
الملك : إليّ أنا؟
بيبرس : إليك أنت.
الملك : ولكني أراك التجأت إلى هذه الدار دوني.
بيبرس : الله! الله أيها! أيقال هذا لبيبرس؟
الملك : وهل يحمل ببيبرس أن يطرق الديار وهي حرم إلا بإذن أهلها؟ إني أراهم يأبونها عليك.
بيبرس : ما جئت أنتهك حرمة، وما ينبغي لمثلي، ولكني تبينت في هذه الدار ماخورا فوقفت أطهرها بحد هذا الحسام.
الملك : هذي دار شيخ طاهر تقي يا بيبرس، أعرفه منذ عهد طفولتي.
بيبرس : إذن فسل هذه الفتاة، مريم، عما أصابها اليوم، لقد أراد أحد أخويك أن يبغي عليها في بيت مولاها الطاهر التقي بعلمه واختياره.
الملك (ينظر إلى مريم فتطرق خجلا) : وي!
بيبرس : وسلها عن هذه الأميرة، عن أخت امرأة سلطاننا المعظم.
الملك : الأميرة صفية؟
بيبرس : أجل، الأميرة صفية، أما والله إن يدي لتنتفض وإن سيفي ليهتز الآن في قرابه.
الملك (حائرًا متكدرًا) : ماذا أسمع؟ دارتوا، بواتيه. أهذه مروءتك يا بواتيه؟ وأنت يا دارتوا، أهذا دأبك؟ أما كفاك أن تضرب فسطاط لهوك إلى جانب فسطاط الملكة في دمياط حتى تعمل على فضيحة أسرتك في هذه الديار، وخيانة أمانتي فيما ائتمنتك عليه؟ أيها الأمير الكبير بيبرس، أشهد أني بريء منهما.
بيبرس : ولكنك أسرتها في دمياط، أكان يجمل بكم هذا؟ أم جئتم هذي الديار باسم الرذيلة لا باسم الله؟
الملك : كلا وحق القديسيِنَ جميعا، وإنما خُبِّرتُ أن جنديًا من جنودي طاش به رشده فأسرها، وعلمت من هي فخفتُ أن يصيبها أذى فأخذتها إلى فسطاطي على الفور وأنزلتها في ضيافة الملكة نفسها حتى أردها إلى أختها، ولقد عهدت بالأمر إلى أقرب الناس مني منذ ليلتين، ولكن الشيطان أغواه كما رأيت.
صفية : صدق الملك يا ركن الدين، إنه أمير نبيل ليس في قومه من يعدله في نبله أو يدانيه في تقواه.
بيبرس : شكرًا لك أيها الملك شكرًا، من أجل هذا كنت أشعر أني ملاق فرنسيًّا همامًا.
الملك : شكرًا لك يا بيبرس، ولكن من ذا خبرك أنها هنا؟
بيبرس : كنت في سبيلي إليك في دمياط من أجلها ثقة مني بمروءتك، وأنك لا تؤثر الظفر بعدوك على الظفر بنفسك وبثواب الله؛ لكثرة ما بلغنا عنك أيها الفرنسي العظيم.
الملك (يتقدم نحو بيبرس) : يالله! (يسلم على بيبرس فيسلم عليه) إنك كبير القلب أيها الأمير، فكيف جئت إلى هذه الدار؟
بيبرس : كنت مارا بهذا النجع فسمعت صوت استغاثة، وعلمت بما كان من بعض أهله وهممت أن أنتقم فأقسمت عليَّ هذه الكريمة (مشيرًا إلى صفية) إلا أن أرحل بها على الفور، وتوسلت إليّ هذه الفتاة الطاهرة (مشيرًا إلى مريم) أن آخذها معي. فما سرت بهما حتى رأيت أخويك قد خرجا من الدار ودهماني من وراء ظهري.
الملك : يالفضيحة الأبطال!
بيبرس : لماذا استصحبتهما أيها الملك قبل أن تتم عليهما درس المروءة؟ إني أراهما من السوقة أو أدنى.
الملك : أتسمع هذا يا بواتيه؟ أتسمع يا دارتوا؟ لعمري إنه ليدمغكما بالحق.
بيبرس : ما خاب ظني فيك أيها الملك، لقد عذرت وأعذرت فتقبل شكري وثنائي.
الملك : شكرًا.
بيبرس : هل للملك أن يجيبني لماذا يغزو بلادنا اليوم وقد حاول قومه ذلك من قبل على يد يوحنا دوبريان فأعجزناهم بقوة الله؟ والتمسوا الصلح ضارعين وأجبناهم إليه مكرهين وأقسموا وأقسمنا على الولاء؟
الملك : هي مشيئة الرب أيها الأمير وعهدنا معه، وما أنا مما ينقض العهد، ولقد جاءكم كتابي فإما سلَّمتُم فسلِمْتم أو أبيتم فرمينا أعناقكم بأسياف القضاء.
بيبرس : إذن فلتكن مشيئة الله أيها الملك، لو كنت تجهل أسيافنا لذكرناك بها ولكنك ذقت شواظها غير مرة، وهذه أيام إن كان لك أولها حتى اليوم فعليك آخرها وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، أفيأذن لي الملك بالانصراف؟
الملك : إذا شئت أيها الأمير، أنت ضيفنا الآن لا عدو، على أن تنزل عن سيفك هذا.
بيبرس : أنزل لك عن سيفي؟
الملك : أجل.
بيبرس : إنه ليرد مشيئة الدهر أيها الملك، كذلك عوّدتي منذ ضحيتي وما عهد البحيرة منكم ببعيد.
الملك : أعرف ذلك أيها الأمير، فليس من الشهامة ولا من المروءة أن تنازل به الأقران.
بيبرس (بتعجب ودهشة) : لماذا؟
الملك : لأنه مسحور، أليس هذا السيف سيف رمسيس عثرت عليه في أحد القبور فصاحبك حتى اليوم ووقاك ضربة الفارس الكمي، ولو وقفت دونه لا تبدي حراكا؟
بيبرس : وي! وي! من أين لك هذا؟ لا يليق بمثل الملك لويس أن يقول هذا الكلام.١
الملك : كيف لا أصدق وكنت عند البحيرة لا تشير به إلا قاتلا، ولا تهوي به إلا لاحدًا ولا تشرعه إلا والنفوس عالقة عليه كما تعلق ذرات الحديد بالمغناطيس؟
بيبرس (يضحك ساخرًا) : كلا أيها الملك، ليس هذا السيف سيف رمسيس وإلا لأكله الصدأ بل إنما هو سيفي أنا، سيف ركن الدين بيبرس البندقداري، تتناول المقبض منه قبضة مني لو تناولت رأس الأسد الغضنفر لتهشم، أو صفعت هام ذي الغفارة المزرد لتحطم، أو لمست عنق كند مصعر خده لاندك وتهدم، لقد سقيته في الكرك وحمص ماء حياة ألف من الإسبطاريين ومثله من الميكليين، ورويتها أرواح الجحفلين من الفرنجة حيال طبرية وأنطاكية وطرابلس، فأصبحت وعمري بذلك عمر الألفين، وعزمي عزم الجحفلين، ولو نزلت لك اليوم عنه معاوضة من حديدة أخرى ما فترت همتي ولا كلت عزمتي، وإليك برهان المقال. (يلقي السيف من يده مجردا ثم يخرج من بين ثيابه بوقا صغيرا من الذهب وينفخ به مرتين ثم ثلاثا).
الملك : شكرًا لك أيها الأمير، الآن أطلق سراحك، شكرًا لك على نزولك عن هذا السيف واعتذارا إليك مما أصاب الفتاة.
بيبرس (بدهشة عظيمة) : وي! (يمد صوته فيها).
الملك : وأهب إليك أخت أميرتكم على أن ترد إلينا ربيبة خادمنا برنار، فما قولك في هذا؟
بيبرس : يالله! أعطني عوض السيف وتكلم، أم رهبة كانت دعتك لا إكراما؟
الملك : بل إني رأيتك في قبضة أخويّ فأردت أن أسدي إليك خيرًا يروى، رد إلينا فتاتنا.
مريم : لن أبقى بهذا النجع بعد يومي.
برنار : مولاي! إني رجل مسن، من يخدمني من بعدها؟
الملك : إنها أختنا في المسيحية يا بيبرس، وأنا أمين المسيحية حيث أكون فلا بد أن تردها إلينا.
بيبرس : إنك تمني نفسك المحال أيها الملك، إن كانت هذي الفتاة مريم أختا لكم في الدين فهي أختي في الوطن والوطن أبقى.
مريم (تمسك بأردان بيبرس) : لم تعد بي حاجة إليكم أيها القوم، وأشهد اللهم إني في المسلمين (تنزع صليبًا كان معلقا في سمط على صدرها وتلقيه في وجوههم) سأذهب معك يا بيبرس فلا تتركني.
بيبرس : لا يخيّب بيبرس رجاء مستغيث، هيا بنا (يلتفت صوب الساقية ويشير الملك إلى أحد الجنديين بالتقاط سيف بيبرس وبيبرس ملتفت عنه).
صفية (ولكن صفية ترى هذه الإشارة فتجري إلى السيف وهي تجرد من صدرها خنجرًا صغيرا تضرب به الجندي في ذراعه فيرتد متأوها قبل أن يلمس السيف، وتتناوله هي عن الأرض وتجري متراجعه صارخة لبيبرس) : سيفك يا بيبرس! (تناوله السيف بيدها اليسرى فيأخذه منها).
الملك : إذن فدمك عليك، قسرا أيها الرجال.

(بيبرس يكون قد هجم عليه بواتيه ودارتوا بالسيف، فيحارب بيمينه مداورا فإذا بلغ برنار أمسك ثيابه بيده اليسرى ووضعه في مواجهة دارتوا دريئه له، ثم ينقض على بواتيه فيجرحه ويسقط السيف من يده فيجري من وجهه، وعندئذ يرمي بيبرس برنار من يده فيقع ثم ينهض ويخرج هاربًا من باب داره، فيرسل الملك على بيبرس جنديَّه الآخر، وينازل بيبرس هو أيضًا، وإذا بالعبد مسعود قد دخل فرأى ما فيه سيده فيقول).

مسعود : يا غارة الله! (يجرد سيفه ويهجم على الجندي فيفر من أمامه ويميل على الملك، فيجري الملك هو ودارتوا وراء الصفصافة ويجري بيبرس والعبد وراءهما).
صفية : بيبرس! بيبرس! لا تتركني.
بيبرس (يعود) : ارجع يا مسعود (يعود مسعود).
صفية : أحضر الجواد يا مسعود.
مريم : ها هو ذا قد حضر بنفسه ليشهد هزيمة الأبطال (تجري صوب الساقية وتجر الجواد من لجامه).
بيبرس : مرحبًا، تأبى إلا أن تشهد وقيعة مولاك؟ ها أنت ذا تراهم يفرون، هلم يا صفية اركبي.
صفية (تركب) : شكرا لله.
بيبرس : وأنت يا مريم تعالي اركبي وراء مولاتك (يأخذها من ضبعيها ويرفعها وراء صفية) سر بالجواد يا مسعود (يلتفت إلى الوراء) وأنتم أيها الأمراء الكاذبون إن كان يبلغكم الآن صوتي فاعلموا أني كرهت أن أتابع الجبناء (يخرجون).
١  يؤخذ من كتاب جوا نفيل أن لويس كان ممن يصدقون بمثل هذه الخرافات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤