حكاية سعد الدين

وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحوِّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل. بحيث لو دُفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور. وإذا أُلزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كما تفنى البهائم الأهلية إذا أُطلق سراحها، وعندئذٍ يصير الاستبداد كالعَلَق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها.

عبد الرحمن الكواكبي

توطئة لا بد منها

قبل اعتقال الدكتور سعد الدين إبراهيم صاحب مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، لم أعرف سعدًا ولم ألتقه مرة واحدة، لكني كنت أتابع ما يكتب في كتبه وفي مجلة المجتمع المدني الصادرة عن مركزه.

كذلك لم تربطني بسعد صداقة، ولا حزب سياسي؛ فأنا لا أنتمي لأي جماعة أهلية أو حزبية أو حكومية أو وظيفية، كما لا تجمعني به طبقة اجتماعية؛ فالفرق هنا هائل، ولم يسبق أن وجه لي دعوة لحضور منتداه «رواق ابن خلدون» لا محاضرًا ولا مستمعًا، فلم أعرف حتى الآن أين يقع مركزه بالضبط ولا رأيته.

عرفت سعدًا فقط عندما تم اعتقاله، وهنا كان موقفي، اتساقًا مع المبادئ، ضد محاكمة مفكر على فكره، أو سياسي على نضاله السلمي في سبيل ما يعتقده. فسعيت إلى بيته أدور في دهاليز المعادي التي أجهل دروبها ومسالكها، لأضع يدي بيده مؤيدًا، يوم الإفراج عنه بعد الاعتقال وقبل المحاكمة، ومعبرًا عن تضامني، لأن ضميري ككاتب كان قد اتخذ قراره، ذلك القرار الذي وقفَتْ في خلفيته عملية التشويه والاغتيال المدني الكبرى للرجل قبل صدور أي أحكام بشأنه.

ولا تُعنى هذه الدراسة بالدفاع عن شخص سعد، إنما يشغلها حالة مثقف مصري يخوض معركته لأجل أهداف معلنة بالطرق السلمية. حالة ترمز لأي مثقف في بلادنا قد يضطره قلمه أو موقفه إلى الوقوف في قفص الاتهام. ويشغلها أيضًا قراءة لواقع تعامل مؤسسات الدولة مع حالة سعد الدين، وكيف ارتكبت من الأخطاء فوادحها، باستبدادٍ كان المظلةَ لحملة التشويه الإعلامي، التي كان الصوت القمعي فيها أعلى كثيرًا من صوت الحق.

وحوكم سعد وحُكم بسنين سبع … ويقال في بلادنا إنه لا معقب على حكم قضائي، وإلا كانت العقوبة سجنًا (؟!). ولا علم لي بشئون قانون يحكمنا ونجهله، ولا أعلم إن كان هذا مجرد شائعة تهديدية رائجة سرت مسرى الحقائق لكثرة ترديدها، أم هي حقيقة صادقة قانونيًّا فعلًا. لذلك، وتوقيًا لشر سجنٍ وإذلالٍ إنساني لن يحتمله جسدي المحمل أصلًا بكل ما اكتشفه العلم من أمراض، وما لم يكتشفه بعد، سأعمد هنا إلى الحديث في منطقة ما قبل صدور الحكم، وبعيدًا عن المحكمة والقانون، وهي منطقة كافية فيما أعتقد، لو أعملنا فيها الإنصاف والمبادئ المحترمة لأنصفنا أي مفكر يتم اعتقاله، كما في حالة سعد الدين، وهو رجل علم اجتماع في مجتمع يعاني مشاكل مجتمعية أزلية، ويحتاج إلى ألوف من رجال علم الاجتماع وعلماء النفس، ناهيك عن المنهج العلمي ذاته في التفكير المفتقد من مستوى رجل الشارع إلى مستوى مؤسسات الدولة.

هناك كلمة أخيرة في هذه التوطئة، وهي ما أثير حول علاقة مدير مركز ابن خلدون بالدولة الإسرائيلية، وما حدث بعد سجنه من احتجاج أرييل شارون على أوضاع مصر الداخلية لصالح منظومته، وهو الأمر الذي ربما أدى إلى إحجام كثيرين عن الكتابة خشية الاتهامات المعتادة بالعمالة والهيمنة والخيانة … إلخ.

وهنا لا بد من توضيح موقفي بشكل شفاف، فأنا رجل فكر ولست رجل سياسة بالمعنى الحركي، ولم يسبق لي زيارة إسرائيل أو أي من هيئاتها التمثيلية بمصر ولا خارج مصر، لكن الفكر إذا لم ينفصل عن السياسة فإن ما أزعمه هو الحديث في نظرية المعرفة للرؤية السياسية، وليس العلم السياسي الناشط. وموقفي المعلن هو ضد احتلال أي أرض بالقوة، ناهيك عن استعمارها إحلاليًّا بإحلال بشر فيها محل بشر، وأن المقاومة بكل الألوان الممكنة هي المشروع الأول لأصحاب الأرض المحتلة. أما مشروع الحرب النظامية بين الدول العربية وإسرائيل فهو الخبل بعينه، بعد أن أوصلنا سادتنا العناتر إلى مستوًى لا يمكن فيه الحديث عن حرب، ناهيك عن حاجة بلادنا إلى السلام من أجل بناء المجتمع المدني الذي نحلم به، وبعدها يكون لكل مقام مقال. وما قيل بشأن علاقات مركز ابن خلدون بإسرائيل اختلط فيه التهويل بحملة التجريس العلني، مما يجعل اتخاذ أي موقف بشأنه بهذا الصدد، بغير حقائق ثبوتية، لونًا من الشطط غير المحمود. أما إذا كانت لسعد لقاءات مع شخصيات إسرائيلية من دعاة السلام، من باب دفع الموقف الإسرائيلي إلى بعض التنازلات، في ضوء خواء الوفاض العربي، ولتحصيل الممكن من خلال تفعيل النشاط السلامي في مجتمع الديمقراطية الإسرائيلية المتاحة، فأعتقد أنه أمر لا يمكن لوم سعد عليه.

(١) عجالة نظرية تمهيدية

اللامعلومة والسلطة القامعة

المعلومة/المعرفة هي تلك التي يمكن مناقشتها والجدل معها للتحقق من صدقها، وردها بمعلومة أحدث أو أدق أو أصدق، والصدق هنا إما بقياسها على قوانين العقل دون البدء من مسلمات مطلقة خارج الواقع، أو بمدى مطابقتها للواقع التجريبي وإمكانات تفعيلها فيه، وإلى أي حد هي نافعة وتحقق مصالح، أو بمدى ضررها. لذلك هي قابلة دومًا للتغير والتجدد والتطور بالإضافة والتحديث، فهي تراكمية متصلة، لا مطلقة مفارقة منقطعة، تصلح دومًا للانتفاع بها بغض النظر عن عنصرِ أو طائفةِ أو وطنِ منتجِها أو مستهلِكها، لأنها تقدم مشروعية الاتفاق حولها بذاتها.

ولم يتم تحديد معنى المعلومة إلا مع اكتشاف المنهج العلمي في التفكير، بعد أن ظلت الإنسانية تخلط الأخيولة بالموضوعات الإيمانية، والغيب بالواقع، والمرض العضوي بالمس الشيطاني، وأضغاث الأحلام بالتمنيات والينبغيات اللامحققة. حتى إنه تم استخدام القياس الأرسطي (الاستنباطي العقلي) لضبط النتائج وفق الشروط الشكلية لهذا المنطق، لكن انطلاقًا من مقدمات باطلة تمامًا للوصول إلى نتائج أشد بطلانًا، بشروط منطقية شكلية سليمة تمامًا، استنادًا إلى مرجعية صدق الأوائل وأصولهم الثوابت. وهو ما نرى صداه في الفلسفة المسيحية ثم في نظيرتها الإسلامية، حيث جُعِلَت تلك المرجعية للمعلومة دينًا تُصدَّق أو تُكذَّب بشروطه.

وقد مرت المعلومة/المعرفة عبر مناطق زمنية تحققت بها ولها فتوح كبرى من النهضة الأوروبية إلى الثورة الصناعية إلى التكنولوجية إلى ثورة المعلومات والاتصالات إلى هندسة الجينات، متصاحبة مع منحنيات كبرى في العلوم الإنسانية وعلوم النقد التاريخي، مُفرزةً رقيًّا إنسانيًّا ترك بصماته في معاني الحريات الليبرالية العلمانية، كالتسامح وحرية الاعتقاد والتفكير وتبادل المعلومات والمعارف، بغرض بلوغ الكرامة الإنسانية المتكاملة.

ومن ثم تميزت الرؤية الكوزمولوجية اليوم بالثقة في قدرة الإنسان على صنع مصيره الأفضل بالرقي والتقدم، مع توسيع دوره في الكون، مما حرره من الإيمان بخرافات ما قبل المنهج العلمي والعصبيات العنصرية والطائفية، التي أهدرت في خلافاتها من دماء البشرية ومن الفظاعات أكثر مما حدث في أية خلافات أخرى بما لا يقاس أو يقارن.

هذا ما حدث في دول العالم المتقدم، فماذا حدث عندنا؟

حتى اللحظة الراهنة تحرص مناهجنا على تصوير نبي الإسلام بأنه أمي لا شأن له بالمعرفة أو الثقافة قبل الوحي، كما تحرص على تأكيد أن كل معارف الدنيا قبل ذلك — فيما عدا الموضوعات الدينية التي أقرها الإسلام — كانت جاهلية، بل إنها بأديانها لم تكتمل بشريتها بالمعلومة الصادقة والمعرفة الصحيحة قبل الوحي الإسلامي، الذي جاءها بالمعلومة الصادقة صدقًا تامًّا مطلقًا، مكتملة بذاتها لا تحتمل حذفًا ولا إضافة. لذلك كانت إنسانية الإنسان ناقصة، وما استقام أمرها أو وجودها أو اجتماعها أو سياستها أو معرفتها إلا بوصول الدين القويم، وكل ما قبل ذلك مطعون في بشريته. ولأن الإسلام كانت له خصوصية ظرفية مكانية وزمانية، حيث كان يقيم لقبائل بدو الجزيرة العربية الشتات دولة مركزية متوحدة، فإن السلطة التي نشأت مع الثقافة الجديدة أصبحت شأنًا إلهيًّا وليست من شئون البشر أو اجتماعهم واقتصادهم، وهو ما عنى رد السياسة إلى الله. لذلك لا تكون المعلومة معلومة، ولا المعرفة معرفة، لأنها محصلة تفاعلات اجتماعية اقتصادية نفسية بيئية، إنما لأنها ثقافة كاملة جاهزة صادقة بالمطلق، وما عداها باطل وقبض الريح.

ورغم مرور الإمبراطورية الإسلامية بعد الفتوحات بتلاقح الثقافات في أزمنة انفتاح على معارف البلاد المفتوحة، فرضها الظرف الموضوعي حينذاك، إلا أن ذلك كان استثناء ظرفيًّا، انتهى بدول المنطقة إلى الخضوع لسلطة خليفية استمدت مشروعيتها من الرداء الديني، وواكبتها مظالم تنوء بها كتبنا التراثية والتاريخية الإسلامية. في وقت كانت فيه الدنيا قد تحركت إلى فضاء معرفي آخر، بينما انتهى أمرنا إلى تخلف كامل في الزمن المملوكي والعثماني، الذي كانت نتيجته المحتومة إعمال فلسفة القوة والضعف، باحتلال دول الغرب لبلادنا.

ومع استيلاء العسكر المحلي على مقدرات الوطن، كان الصدام مع المجتمع الغربي ومعارفه وأساليب حياته، باعتباره المستعمر، هو الأساس في التمسك بخطاب دوجمائي كاره لكل ما هو مخالف حتى لو كان وسيلة تقدم، لذلك لم تنتج مغامراتنا الثورية تغييرًا جذريًّا في المناهج ولا في المفاهيم، وغاب النقد بالتحديد، بتأثير عسكرة المجتمع من أجل المعركة المقدسة التي سُلَّت فوق الأدمغة والألسن، التي دونها كانت الخيانة الوطنية القومية الدينية معًا بوثوقية كونية جاهزة تربط الوعي كله برؤية السلطة وحدها، عبر المتوسط الشارح المبرر الجاهز دومًا لخدمة السلطان عبر العصور … رجال الدين المحترفين. الأمر الذي منع أي تفاعل أو جدل تجابه فيه الذات وعي الآخر، بحيث كان التخلص من الوجود الأجنبي في البلاد مدخلًا إلى عبودية كاملة للماضي وطرائقه في التفكير، سواء كانت عبودية نصية، أو عبودية لأفكار هلامية عن أمة كبرى على غرار الأموية والعباسية وغيرها. وهو ما تخلفت معه بنى الأجهزة الثقافية للدولة على مستوى المفاهيم والمعارف والقيم والعادات والسلوك والذوق، هذا رغم أنه ليس هناك شيء اسمه ثقافة أصلية خصوصية؛ فأي تراث كان هو حاصل تفاعل حضارات إنسانية شتى. والخصوصية التي كنا نعنيها، وما زلنا، هي التي يشهد الواقع أنه قد امتنع معها أي تجديد أو ابتكار، وكل ما ظهر للعيان دون جهد فاحص تخلف يقاس بالقرون بيننا وبين العالم المتقدم.

والتساؤل البسيط بهذا الصدد، ما هي الخصوصية التي نعنيها مقابل التقدم؟ لا يبقى على مستوى الرؤية الواقعية الحادثة سوى التخلف، ومن هنا كان الحرص الدائب على تلويث الفكر المدني الحداثي، لا لعيب ذاتي في الفكر، لكن لأسباب؛ أولها أنها منتج الغرب المكروه البغيض، ولأنها لا تتفق وثوابت الأمة وخطوطها الحمراء، بغض النظر عن النتائج التي أفرزتها هذه الأفكار من تقدم عظيم أينما تم العمل بها، ثم لأنها تحمل مع التقدم فيروسات الانحلال الخلقي، رغم أن الأخلاق مسألة معيارية ومجموعة قيم متغيرة دومًا بتغير البنى التحتية. أما السبب غير المعلن والأساسي فهو تناقض تلك الأفكار مع مشاريع السلطة وتكوينها في بلادنا، التي هي في نهاية الأمر شكل حديث المظهر لذات السلطة الخليفية الممتدة في تاريخنا التليد.

ومع المزيد من اتساع الهوة بيننا وبين العالم المتقدم، لم يكن بيدنا سوى نظرية المؤامرة نبرر بها أحوالنا، تلك التي بدأت مبكرًا منذ اختراع شخصية اليهودي اللئيم المقتدر عبد الله بن سبأ، الذي تمكن بدهائه من جعل صحابة رسول الله يقتلون بعضهم بعضًا، إلى يومنا هذا الذي نتحدث فيه عن المؤامرة الاستشراقية الصليبية اليهودية العلمانية الإمبريالية، كلها معًا. مع إشاعة الوهم وتكراره حتى تصديقه أن العالم يبيت ساهرًا يدبر لنا نحن بالذات المؤامرات، في تصوير مهين يجعلنا على الدوام مفعولًا بنا قابلين طوال الوقت لتنفيذ مؤامرات الأعادي دون أن نستفيد مرة من المؤامرة السابقة ودروسها، إن كانت هناك مؤامرات. ومن جانب آخر فهو تصوير يضخم الذات المُهانة ويصيبها بمرض النرجسية، فيتضخم شأنها ولكن في الوهم المرضي الذي انتشر بشكل وبائي خطير، حتى بات يقينًا لدينا أن العالم لا يشغله غيرنا. ١

وحتى لو لم يوجد عداء حقيقي فإنها تخترعه اختراعًا وتفتعله افتعالًا حسب الظروف والطوارئ الممكن استثمارها لترضي الغرائز المبثوثة بين الناس. ثم تتصدى للأعداء بالزئير، الزئير فقط، بالكلام والشعارات، لتبرز لمواطنيها دورها التاريخي في حماية الهوية والانتماء والتراث والأخلاق والدين. وبسبيل ذلك تستخدم الثقافة المحنطة وكل ما في جعبتها من تثوير الغرائز الطائفية والعنصرية والنفخ فيها باستمرار ليتوحد الجميع في ذاتها، مما انتهى، خاصة منذ ١٩٥٢م، إلى إزالة الطبقة الرقيقة للمفاهيم الليبرالية التي كانت قد نمت فوق طبقات الماضي وهو ما أدى إلى تشويهٍ كامل لوعي المواطن باستخدام أحدث تقنيات الغرب المكروه، حتى أصبحت لغة الحرية هي اللغة الفاسدة الخائنة التي تتم محاكمتها وتشويهها في تناغم سيمفوني بين الشارع والمايسترو الحكومي.

وبسبيل ذلك استخدمت السلطات لغة واحدة يغيب عنها التنوع مكررة منمطة، ذات إيقاعات محدودة ومحددة، تستعيد من التراث أسوأ ما فيه وتخفي إمكانات الفعل الحر بداخله، لا تحتمل أي تناقض ولا تقبل بأي تحليل عقلاني يتخطى السائد الثابت، فتكافئ الصبية من حفظة القرآن وتحتفي بدعاتها المحترفين في كرنفالات موسمية، تمنح فيها العطايا والهبات أكثر مما تخصص لدعم البحث العلمي بما لا يقارن بالمرة.

وهكذا … كلما انحط المنهج تزايد قمع التفكير والاختلاف، لذلك لم تسع السلطات في بلادنا قط لتنمية المعرفة، نظرية أو علمية أو تقنية، إلا بما يدعم وجودها، عن طريق تحويل المثقفين، الملتحقين بها لضرورة لقمة العيش، إلى موظفين بيروقراطيين، مع إهدار وتهميش وحصار وتشويه سمعة أي مثقف يرفض القيام بهذا الدور، أو حتى يصر على استقلاليته، بل يصل الأمر — حسب تجرِبة شخصية وتجارِب مشاهَدةٍ تعلمونها — إلى تحريف نصوص هؤلاء وتزويرها لاغتيالهم جماهيريًّا بأساليب رخيصة وأسلحة فاسدة رديئة، لإحداث القطيعة بينهم وبين الجماهير التي يكتبون من أجلها، وإلغاء دور العقل الواعي في إصدار الأحكام الصادقة، لأن لديها كل الإجابات الجاهزة التي لا تحتمل أي احتمالات، مع خطاب طائفي عنصري عصبي قبلي عشائري فاشي، لإغلاق أي منافذ على الخطاب المغاير.

ويقول لنا علماء الأنثروبولوجيا حول جذور التشكيل القبلي: إن الشكل القبلي أفقر التشكيلات الاجتماعية وأكثرها تخلفًا، فالقبيلة فقيرة في قدرتها على إنتاج ما تحتاجه، وتعتمد على الخطف والسطو والنهب كلما أمكن، فقيرة في قدرة المرور عبر الزمن، فهي تحتاج دومًا إلى تلاحم أفرادها. لذلك يتم إمساكها من فوقُ بقيادةٍ قدسية قامعة صارمة تجعل الأفراد التحتيين بلا فِكاك، مع إشاعة مساواة بدائية في عالم الفكرة وليس في الواقع، بذوبان كل الأفراد في الكلية القبلية (الأمة المعنوية) ومن أجلها، فيكون الفرد من أجل الكل وليس العكس. ومن هنا لا تحتمل هذه التركيبة أي اختلاف أو تمايز أو تعدد في الآراء، حيث الكل في واحد.

المقصد من ذلك هو إيضاح أن المشكلة معقدة ومركبة، فلم تعد الأنظمة فقط هي ما لا تقبل المخالفة أو التغيير، بل الناس الذين فقدوا وعيهم، ومعه حريتهم، بعد أن تمكنت مؤسسات الحكم من الأرواح والعقول بآلة الإعلام الجَهنمية التي اخترعها أصحابها لغرض آخر، هو مزيد من العلم والحرية، أما هنا فقد تم استخدامها لتنميط وتأطير العقل حتى أصبحت النفس عبدة، ورأينا المرأة المثقفة ترد علينا بالتكفير لأننا أخطأنا الصواب وطالبنا لها بحقوق مماثلة لحقوق الذكور، مما يفصح عن استشراء الوباء تحت قشرة حداثة ظاهرية لم تمس الجوهر.

وإذا كان المفترض أن الدولة مؤسسة سياسية تعبر عن علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع، وأنها التعبير الرسمي عن المجتمع كله، فإن الدولة في بلادنا لا تخضع لهذا التعريف ولا تعترف به، وتعلم أنها لا تعبر عن مجتمعها؛ لذلك تمارس وجودها الفوقي واستمرارها بغسل العقول ونشر أيديولوجيا القبلية الطائفية العنصرية، مع القمع بالطبع. المأساة أن تلك ليست مجرد أدوات في يد الدولة، بل تحولت إلى خلايا تكوينية عضوية في بنيتها، تتخلل كل مجالات التخطيط والعمل والإدارة والتوجيه والإعداد والتنفيذ. حتى مثقفوها، ومعهم مثقفو الأحزاب، يختزنون بدورهم أوبئة الكذب، ويتنفسون في هواء راكد قديم ضمن النسق المحدد الذي أجمع عليه الجميع في تعريفه البسيط، والبديل يصبح هو الكفر الديني والوطني عند اصطدامه الحاد بخطوط الأمة الحمراء وثوابتها الواحدة المصمتة.

ورغم الوضوح الجهير للمساحة الهائلة التي تفصلنا عن العالم المتقدم، وأن الأنظمة العربية عاجزة بين الأمم لكنها قوية القمع والتنكيل مع مواطنيها، فإنها قط لم تلجأ للأدوات التي أثبتت نجاحها عالميًّا لتجاوز هذه المساحة، لأنها لا تعترف بشيء اسمه البحث العلمي، وتحتسب القضايا الاجتماعية أمورًا بسيطة من التوافه الهينات التي لا تحتاج كثيرًا من العبقرية أو عناء البحث أو تصنيف المشاكل وتبويب الحلول ورسم الخرائط الاجتماعية؛ لأن إعلامنا يؤكد دومًا أن كل سلطة عربية هي سلطة ملهمة ليست بحاجة لباحثين، وعلى هذا الأساس تصدر قراراتها. مما يكشف أن المشروع الأوحد لهذه الأنظمة هو البقاء والاستمرار مع إيهام الناس بوجودهم في سياستها وأنهم الأهم في مشاريعها وأنهم شركاء معها، خاصة أنها المحافظ على ثوابتهم العزيزة. وهكذا لا يفرز المجتمع، بل لا يملك قدرة فرز أي جديد من أصولي قديم متفق عليه بين الرعية والحاكمين، ويستمر المواطن خاضعًا لاستمرارها كسلطة، وهو وضع لا شرعي بذات القياس الأصولي؛ لأنه إذا كانت السلطة، حسب هذا الفهم، موجودة بشرعة طاعة الله والرسول وأولي الأمر، فإن هذه الثوابت تم ترتيبها بحيث تأخذ صفاتها من بعضها وتتبادلها، إضافة إلى تزوير عملية التبادل؛ فتصبح شخوص الآن هي شخوص الزمان المقدس السالف، برؤية متجمدة عند لحظة الطاعة التاريخية الأولى، وتظل مشاركة المواطن طاعة لأمرٍ مقدس تم تزويره، يتصور أنه مشاركٌ بوعي، رغم أن الوعي الحقيقي ليس مجرد عملية إجرائية، فبإمكان أي إنسان أن يظن نفسه العريف الفهيم، فما بالك لو قيل له ذلك من سادته، ليقدم كل فروض الطاعة مقابل القرب من مناطق السلطان، من أجل الحصول على منجزات ومكاسب رخيصة، وبأساليب عطاء السيد للمولى بحل بعض المشاكل والمعاملات لنفسه أو لمن حوله لإثبات أنه شريك سلطة، وهي المشاكل الناشئة عن تكوين النظام برمته، والتي استفحلت واستشرت في كل مناحي حياتنا بفوضى شاملة. هذا عن المواطن البسيط، أما المواطن الشريك الحقيقي، فهو عضو في جهاز السلطة بالطبع.

وإعمالًا لكل هذا فإن النتيجة ستكون ترديد ومضغ اللامعرفة مع انعدام وجود أي آليات لإنتاج المعلومة/المعرفة، ومن ثم فقر معرفي وثقافي مدقع بالضرورة. لذلك أصبحت المعلومة بمعناها العلمي والمعرفي غريبة، ولكثرة ما استهلكنا من منجزات الآخر المعرفية، أصبحت المعلومة/المعرفة هي ما ينتجه الغير المكروه، الذي نسطو عليه لاستخدامه في غير أغراضه التي أُنتج من أجلها، ثم نسطو عليه فكريًّا بالعادة القبلية لنؤكد أننا من أنتج هذه المعرفة؛ لتحليلها شرعيًّا كي يمكن استخدام منتَجها بنسبتها إلى ربنا الذي عرَّفها مسبقًا في المقدس. أما أن نعرف أو ننتج معرفة فليس هنا أي مشكلة، فما دام الآخر يفكر وينتج ونحن نستهلك على الجاهز فلماذا وجع الدماغ؟

ومع هذا الفقر المعرفي كان لا بد أن تمارس السلطة شحًّا شديدًا في دعم أي بحث علمي أو معرفة، مما انتهى بمثقفيها الذين تختارهم لأداء هذا الدور الوظيفي إلى خطابٍ اتهاميٍّ إزاء أي جديد مخالف، ونصحيٍّ إرشاديٍّ دومًا. وعندما يظهر مثقف يقدم معرفة جديدة، بمعناها العلمي، فإنه على الفور يصبح آخرَ عميلًا معاديًا كافرًا، وطنيًّا ودينيًّا. ومجرد ظهوره يستحث آليات الخوف ودفع الخطر لأنه نافذة يتسرب منها الأعداء لشق الصف الوطني أو إهانة المقدسات. لذلك يتم تجريم أي جديد، ويصبح كل إبداع بدعة تستدعي المحاكمة السريعة وإصدارَ الحكم، حتى قبل أن تتم محاكمته قضائيًّا، في عملية إطلاق صَفارات إنذار مسبقة، ودمغَه بعلامات واضحة منعًا لأي تواصلٍ بينه وبين مجتمعه، كالصليبي القديم الذي كان يسم القبطي بالعظمة الزرقاء تمييزًا له وتحقيرًا. وهكذا تكون مؤسسات السلطة شديدة الاطمئنان رغم شدة ضعفها وهوانها بين الأمم، عملًا بالشطر الشعري العربي «أسد عليَّ وفى الحروب نعامة»، باستنادها إلى قناعات رجل الشارع الذي أصبح متوجسًا من أي مخالفٍ مبتدعٍ إعمالًا لخطه النظري وسوره المانع، فيمد السلطة دومًا بالاطمئنان لأنها تعلم أنه غير قادر على تخطي أسوار ألكتراز، غير قادر على نقد خطابه النظري أو حتى محاورته أو تحديث الممكن فيه. لذلك تشجع الدولة هذا الخط النظري عبر وسائل إعلامها وتعليمها، وتدعمه بدأب، رغم أن الإيمان مسألة قلبية، وأنها بهذا المسلك تسيء لنفسها دوليًّا بدعمها دينًا على دين بين مواطنيها، ولا تترك لكل دين فرصة ظهوره وبروزه بقدرته الذاتية، وتفسد المساواة بين رعيتها، وتخلق كثيرًا من الحساسيات والإشكاليات المزمنة، ثم تنوح بعد كل هذا على عدم وفاء أقباط المهجر، وما يزعمون على الإنتاج المتردي لتهاون المواطن في الإنتاج، وتصعِّر خدها مقابل استجداء ملياري دولار أمريكي سنويًّا معونات لها شروطها، ثم تترك المؤمنين يحملون مثليها سنويًّا إلى بنوك السعودية المباركة كل عام.

(٢) الخطاب الاتهامي في قضية ابن خلدون نموذجًا تطبيقيًّا

لنقرأ معًا نماذج عشوائية مما نشرته الصحف المصرية بشأن مركز ابن خلدون ومشاريعه، وبشأن اعتقال سعد الدين إبراهيم، للمطابقة بين ما سلف إيراده وبين تلك النماذج.

في ٧ / ٥ / ١٩٩٩م نشرت صحيفة «الشعب» الخبر التالي: «أحال فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، المقترح المشبوه للتربية الدينية الذي وضعه مركز ابن خلدون إلى د. محمد رجب البيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية ليبدي رأيه الشرعي في مدى صلاحيته للتدريس في دولة دينها الرسمي هو الإسلام. وقد أكد التقرير أن المشروع يثير الفتنة الطائفية …» وأضاف واضع التقرير د. البيومي: «إني أكاد أحس برائحة خبيثة يبعثها مركز ابن خلدون، يبث الوقيعة بين عنصري الأمة لتشفي صدور قوم آخرين.» وبغض النظر عن الموقف العلمي السليم والنقدي الصحيح لمشروع التعليم والتسامح الخلدوني الذي يطيب لنا مناقشته ويحتاج إلى قولٍ آخر، لكن في مقامٍ آخر غير مقامنا المحدد هنا، نقف مع ما قالته «الشعب» غير دهِشين لمدى مطابقته النموذجية لما أوردناه في العجالة النظرية.

الملاحظة الأولى: عدم مراعاة الصحيفة للحياد المفترض في عرض الخبر الصحفي، بنعتها للمشروع بدءًا بالمشبوه. إنها الدمغة للتمييز والتحذير وإطلاق صَفارات الإنذار.

أما الثانية: فهي أن «الشعب» صحيفة معارضة للحكومة ومناهجها التعليمية، وطالما تحدثت كثيرًا بهذا الشأن، وهي صحيفة لحزب معارض هو العمل، استولى عليه الإخوان المسلمون بنخره وتسويسه من الداخل، وهو المؤسَّس على مبادئ يسارية عُمَّالية تحت سمع وبصر السلطة، ولم تتدخل مؤسسات السلطة القمعية، بل سهلت لهم الاستيلاء الكامل على الحزب.

لكن الحزب وصحيفته، وهما بسبيل منافسة السلطة على امتلاك أرواح الناس عبر الوسيلة المعتمدة تاريخيًّا في بلادنا؛ الدين، دخلت الصحيفة صراعًا علنيًّا مع مؤسسات الحكم لتثبت التزامها بصحيح الدين، واتهمتها جهارًا بالفساد، فقط لتثبت للجماهير أن حزبها هو الأحق بدور الراعي الرسمي للإسلام، ومن ثم يكون حزبها هو الأحق بأمر سياسة الرعية. لذلك دخلت في مزايدات طالت أعمدة النظام الحاكم، إلى أن غامرت بالنشاط الحركي لتثوير الشارع، بدءًا بتثوير طلبة الأزهر تحديدًا، بسبب روايةٍ لكاتب سوري (وليمة لأعشاب البحر)، الأمر الذي انتهى بصدام مع أمن النظام سالت بسببه دماء بريئة، وهنا اختتم الراعي الرسمي الأقوى المباراة بإغلاق الصحيفة. لكن الغرض لكليهما كان واحدًا، والوسائل لكليهما فاشية، تعتمد ذات الأسلحة الفاسدة بالإشاعة والتخوين المتبادل، والعقل الذي تم الصراع على امتلاكه كان على ذات الخط النظري الواحد. وهنا الغرابة أو اللاغرابة، حيث شارك بعض أساتذة الأزهر في عملية التثوير بتحريض الطلبة وتوزيع ألوف النسخ من مقال محمد عباس المطبوخ في معملٍ غرائزي، بل وشاركت الوجوه الأزهرية في مؤتمر الحزب للمبايعة على الموت. هذا علمًا أن الأزهر هو مؤسسة الدولة الرسمية منذ أقامه الاستعمار الفاطمي، ومن يومها ظل مؤسسة التبرير لكل الأنظمة على تباينات مظالمها، لأنه المالك المحترف والمقتدر للوسائل والأدوات التي تخاطب خط الجماهير النظري، والضامن لتقاطع مطالب الأنظمة المتغيرة مع هذا الخط؛ لذلك هو المؤسسة التي تمولها الدولة ببذخٍ قَلَّ نظيرُه، وتسمح له بالتمويل اللامحدود واللامعلن من خارج البلاد، ويتم تكريم رجاله في كرنفالات فصلية، دون أن نعلم له إنتاجًا حسب المفهوم من معنى المؤسسات الإنتاجية التي تستأهل كل هذا التمويل الكريم. ومن جانبها تمكنت مؤسسات السلطة من غرس رُهاب الأزهر واليونيفورم المشيخي في نفوس الناس حتى كاد يكون معبرًا عن الإسلام أو هو الإسلام، رغم أنه لا يوجد في آية قرآنية واحدة أو حديث نبوي واحد شيء اسمه الأزهر أو رجال الأزهر!

أما صحيفة الشعب التي كانت تتطهر دومًا بإسلامها المتميز عن إسلام الدولة وأزهرها، وتقف بعنف ضد مؤسسات الدولة ودستورها، فإن ذلك لم يمنعها من الانتهازية الرخيصة في النص السابق ذكره، حيث رفعت المادة الصدر في هذا الدستور التي يتكئ عليها جميع الفاشيست عند الحاجة «دين الدولة هو الإسلام»؛ لأنه ظهر مخالف تحديثي للخط الواحد للدولة والحزب المعارض، لتتفق الصحيفة مع مؤسسة الدولة الدينية (الأزهر) وكلام البيومي، على أن ابن خلدون يوقع الفتنة بين عنصري الأمة. ورغم أن الأزهر نفسه بذاته وقوامه وعمله وأهدافه هو الطائفية العنصرية المجسدة في مواده التي تنص على عدم دخوله لغير المسلمين، رغم أن النص الدستوري المستند إليه «دين الدولة هو الإسلام» يستبعد ملايين المواطنين غير المسلمين من المواطنة بصريح العبارة ودون مواربة ولا خجل، فإن كليهما وقف على ذات الخط النظري ليعلن أن من يشق الصف الوطني ويثير الفتن ويوقع بين عنصري الأمة هو مركز ابن خلدون، وهي ذات التهمة التي سبق ووجهها الطرفان لكاتب هذه السطور في محاكمة مشهودة قبل ابن خلدون، في تزوير فاضح كامل فصيح البنود وغير محتشم اللسان ولا عَفِّه. أما الرائحة التي أحسها مركز البحوث الأزهري فيبدو أنها تنبعث من تحته؛ لأنها عبارته الدائمة في مواجهة كل من لا يبدأ من مسلَّماته المشيخية كمرجعيةٍ أولى تامة الصدق، بغض النظر عن صحيح تلك المسلَّمات في دين المسلمين، فهو يحمل اسم «مركز البحوث» ولم نعلم له بحثًا واحدًا حتى الآن من أجل قضايا المواطن أو المجتمع، فقط يستمد قوته ومشروعيته بإشاعة كذبة كبرى يدعي فيها لنفسه أن قراراته منحة سماوية ودستورية على التبادل والتساوي. بحسبانه مؤسسة من كبرى مؤسسات الدولة، وشيخه الأكبر يتم تعيينه بقرار سيادي من الدولة، ليقوم بتشغيل السماء ووحيها حسب المطلوب منهما من قِبل الدولة وحاجاتها اللامستقرة، ليعطيها ديمومتها ومشروعيتها. أما القوم الآخرون الذين يريد مركز ابن خلدون أن يشفي صدورهم بسعيه للفتنة فَهُمْ أي آخرَ بإطلاقٍ من غير المسلمين، حزب الشيطان الذي يتربص بنا الدوائر لا يكل ولا تفتر همته، خاصة في بلاد الغرب المغتاظ لما بأيدينا من أسلحة التقدم السرية المخفية تحت العمائم صيانة لها حتى يأتي الله بأمره. إن هؤلاء الآخرين ليس لديهم مركز يعلن أنه للبحوث ويعمل فقط لمصادرة الفكر وقمع الرأي والحريات، وليس في بلادهم مركز مثله ذو سلطان مبين يستند في ظاهره إلى مرجعية دينية، وفي حقيقته هو الرأي الإنساني أو الكهنوتي المتاجر الانتهازي بالدين، وليس عنده مراكز قوًى تستمد قوتها من السماء ومن المعتقلات لتخوين مواطنيه وطنيًّا وتكفيرهم دينيًّا؛ لأنهم أنشَئوا في بلادهم مؤسسات مدنية، أو بالقول الأدق علمانية، تلك الصفة المكروهة في بلادنا لأنها تساوي بالعدل بين البشر بغض النظر عن الجنس أو الملة أو العنصر، فيجتمع في أمريكا وحدها، كمثالٍ، وافدون من كل بقاع الأرض، منهم ما يزيد على خمسة ملايين نسمة من بلاد العرب، ويشكل هؤلاء الوافدون من الدنيا مئات العقائد والعناصر، لا مرجعية لهم جميعًا سوى ذلك الوثن الأعظم الذي نكرهه بشدة: القانون المدني. ولأن الطائفية والعنصرية لا تفرز إلا فاشية دموية، فإننا سنجد بأيدينا نماذج مثالية لهذا الفرز في صحف تزعم التمايز والتغاير. نسوق منها الأمثلة التوالي:

صحيفة الأحرار مثلًا، لسان حزب معارض هادئ الطبع إزاء مؤسسات الحكم، فتحت صدرها لأزهري معلوم من أشد المعارضين صرامة وأعلاهم صوتًا، ولا مفارقة إن شاهدته وجهًا لامعًا في تلفاز الدولة، هو الشيخ يحيى إسماعيل حبلوش، الذي قال للأحرار في ١١ / ٦ / ١٩٩٦م بشأن أحد باحثي ابن خلدون دون أن يطرف له جفن: «إن آراء هذا الرجل … تتطلب إحالة أوراقه إلى فضيلة مفتي الديار المصرية فورًا.» إنها خفة الظل السوداء القاتلة حيث يرى صاحب الفضيلة (؟!) وجوب شنق هذا الباحث لإسكات صوته، والحبلوش نفسه هو من أفتى بإهدار دم المفكر فرج فودة، هو وجماعته المعروفة بجبهة علماء الأزهر، ويطلب الآن شنق باحثٍ خلدوني بقرار مختوم بختم دار الإفتاء؛ ختم الدولة الرسمي. فهل تمت محاسبة هذا الرجل وعصابته قانونيًّا بعد أن وضعوا الرشاش بيد القاتل لذبح المفكر فودة؟ وماذا لو كان هذا الرجل في دولة تحترم القانون وتقدس الإنتاج وتجل المفكرين؟ إن بقاء هذا الرجل وعصابته في مناصبهم دون محاكمة عادلة، يتقاضى راتبه ضرائب من جيوبنا دون أن يُنتِج سوى الكراهية والإرهاب والدم، لأنصع تصديق على ما قدمنا في العجالة النظرية، مع تساؤل ساذج: إذا كان هؤلاء هم العلماء في مفاهيمنا فكيف نصنف روسو وإديسون ونيوتن ودوركايم وأينشتين؟
لنترك هذا «المكفراتي» لنذهب نطالع الشيخ الطيع اللطيف السائر دومًا في ركاب السلطان، الذي أعطاه مشروعية التسلطن زمن الاشتراكية والحرب المقدسة، ثم أعطاه إياها زمن اقتصاد السوق والسلام، وترقى في المناصب في المرتين، أزهري نموذجي يضع بصمته حسبما يشار إليه بأدب جم، لكنه هذه المرة يتفق وزميله العصبي المعترض دومًا، صورة كربونية، يسير على دربه بالنعل حذو النعل، هو الدكتور فؤاد مخيمر الذي قال لصحيفة عقيدتي في ١١ / ٧ / ٢٠٠٠م، وهي من الصحف القومية (الاسم الحركي للصحف الحكومية): «وقد حدد الإسلام جزاء المفسدين أمثال زبانية ابن خلدون بقوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ». وهكذا كان الرجل واضح التحديد، فباحثو ابن خلدون زبانية، وهم بالتحديد من قصدتهم الآيات، والمطلوب تقطيع أوصالهم أحياء.
أما صحيفة الأسبوع، وهي من الصحف القومية ذات الخط الناصري، فقد كتبت بشأن سعد الدين إبراهيم في ٣ / ٧ / ٢٠٠٠م: «وإذا كانت الوقائع كثيرة ومتعددة فإنها تحوي حجمًا من الفضائح توجب شنق هذا الرجل في ميدان عام.» كل هذه المشانق وكل هذا الدم، والأرض المفروشة بالسعادة والحبور والسرور بالأيدي المنزوعة والأرجل المقطوعة، تم إصدارها قبل أن يتم توجيه أي اتهامات رسمية للدكتور سعد أو محاكمة قانونية، كل ما حدث أن الدولة مارست فاشيتها باعتقاله وفق قانون الطوارئ، ودون إصدار لائحة اتهام، وأعطت الضوء الأخضر لمختلف الفاشيات لتحاكم وتشوه وتذبح قبل المحاكمة الرسمية وقبل صدور حكم القضاء بالإدانة أو البراءة. وفي هذا المناخ لا يأخذنا العجب أبدًا عندما نجد عضو حزب الحكومة وعضو المجلس التشريعي الموقر محمود الفران، المفترض أنه ممن يصادقون على القوانين، ويعلمون أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، حين يعلن لصحيفة عقيدتي ١١ / ٧ / ٢٠٠٠م عن سعادته الغامرة بالقبض على سعد الدين، تلك السعادة التي بناها على حكمه الخاص بعد حملة التشويه بإدانة سعد بالخيانة العظمى، حيث قال دون تردد أو تروٍّ: «أنا كنت شخصيًّا سعيدًا جدًّا عندما علمت بخبر القبض على صاحب هذا الوكر المشبوه الذي حاول بيع وطنه للأعداء.»
ومن الأحزاب اللطيفة المستأنسة إلى الأحزاب الزاعقة الفلوت نقلب صفحات العربي الناصري نستمع إلى تحليل رجل قانون وذي دراية هو اللواء صلاح سليم حيث يشرح لنا في عدد ٩ / ٧ / ٢٠٠٠م معنى المعلومة ومعنى حرية تداول المعلومة في أزمة ابن خلدون بقوله السديد: «إن المجتمع المصري معرض للخطر اقتصاديًّا ومخترق إعلاميًّا، ولا بد أن يباشر الأمن القومي نشاطه الذي نص عليه القانون، وأن تنتظم اجتماعاته كي يسيطر على عملية جمع المعلومات التي تقوم بها جهات أجنبية لا تحترم إلا مصالحها.» ثم تنبه الصحيفة إلى «الدور المشبوه الذي لعبه سعد الدين إبراهيم في إذكاء نار الفتنة الطائفية. وفي تقديري أن ما حدث قد أنهى الرجل، ليس بتوجيه التهم وتقديمه إلى المحاكمة، لأنه في تقديري أن أي محامٍ من المرصوصين على كراسي المقاهي يستطيع أن يسقط التهم الساذجة الموجهة إليه.»

هكذا كل شيء واضح أو بالأحرى فاضح، وأنهم جميعًا في سلة واحدة على خط نظري واحد في قبيلة واحدة، فالصحيفة تعلم أن كل التهم الموجهة إلى الدكتور سعد وابن خلدون عند اعتقاله ساقطة سلفًا لشدة سذاجتها، لكنها قط لم تتطرق لحماة أمن الوطن الذين يسكنون الفيللات، ويقضون الصيف في الشاليهات والمارينات (جمع مارينا دام عزكم)، ويمارسون القمع حسب النزوات، كلها بضرائب من جيوبنا ومرتبات من عرقنا. لم يتطرق إلى مناهج تفكيرهم وهم من قام بإعداد الاتهامات التي وصفتها بالسذاجة. السافر في الأمر هنا أن السيد اللواء يزكي هذه الاتهامات الساذجة ويصدر الحكم على المتهم قبل المحاكمة، لأن الأهم ليس تأكيد التهم وإدانته قضائيًّا، الأهم أن عملية الاغتيال الجماهيري قد تمت. ألا ترون الصحيفة تقول: «إن ما حدث قد أنهى الرجل» وهو غاية المراد من رب العباد. لقد تمت عملية التشويه والتلويث التي لا بد أن تلحق الأفكار التي نادى بها سعد الدين ورددها، من أجل استتباب الأمن في مجتمع الأمان.

لكن ماذا عن أمن وطننا القومي العزيز الذي يتعرض للخطر في إعلان اللواء الفهيم العريف؟ هنا تكشف مجلة المصور الحكومية بدورها في ٢٨ / ٧ / ٢٠٠٠م في مانشيت كبير ما صرح به مصدر أمني رفيع: «١٥ مليون دولار لاختراق الأمن القومي»، في إيعاز مبطن أن هذا المبلغ دخل جيب سعد الدين ليخترق به أمننا القومي، وهو الجانب المتروك للمحكمة للفصل فيه، لكن ما يشغلنا هو مأساة العقلية الأمنية التي صرحت بالخبر المهول، وفيه هذا الأمر المرعب، والتي كشفت كم هو هزيل أمن هذا الوطن وكم هو ضعيف حتى يمكن ﻟ ١٥ مليون دولار أن تخترقه وتنال منه … يا بلاش يا وطن!
يبقى حزب الوفد المفترض، حسب إعلانه، أنه امتداد الزمن الليبرالي قبل يوليو ١٩٥٢م، لذلك لا تُفوِّت صحيفته الفرصة لتثبت أنها على ذات الخط السائد، وأنها مع العربي الناصري والشعب الإسلامي والمصور الحكومي في قفة واحدة، فتقول في ٨ / ٧ / ٢٠٠٠م موضحة إمكاناتها المعرفية في عصر المعلومات: «ورغم عنف الحملة التي شنتها الصحافة المصرية مبكرًا على الأبحاث الأجنبية منذ عام ١٩٨٣م إلا أن كتائب البحث العلمي لم تتوقف عن النهب المعلوماتي.» بالله عليكم ماذا تعني بالنهب المعلوماتي؟ وهل المعلومة الموجودة بالضرورة تُنهَب أم أنها مرة أخرى عقلية القبيلة النهابة؟
هكذا تصبح حركة المعلومة وحرية البحث العلمي في عصر ثورة الاتصالات جريمة، بينما ثورة المعلومات التي أدت إلى سيولة وحرية انتقالها وعدم احتكارها كانت هي الناتج الضروري لتطور مجتمع الحريات الأرقى الذي لم يعد يسمح بإخفاء الأسرار والتحفظ عليها إلا في حدود شديدة الضيق، وهي الحدود التي تذوب وفي طريقها إلى زوال كما في مسألة الجينوم البشري مثلًا. وهذا النادر جدًّا يعرفون في بلادهم كيف يحافظون عليه، ولا يخشون عليه ولا على أمنهم القومي من مراكز بحثية صغيرة، بل إن المؤسسات والشركات والدولة في بلد كأمريكا مثلًا تقوم بتمويل مؤسسات البحث العلمي الأهلي في بلادها بمبلغ ١٣٥ مليار دولار سنويًّا (انظر رضا هلال الأهرام ١٧ / ٧ / ٢٠٠٠م) ولا يخشون تلك المراكز على أمنهم القومي، حتى إن لديهم برامج سياحية تثقيفية Tours لزيارة البنتاجون وناسا والمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض. ففي المجتمعات الحرة مسموح لأي مواطن بالحركة الواسعة، وتكون إمكانات الضرر المحتملة عالية، ومع ذلك لا يقع الضرر لأن «السيستم» الحضاري والقانوني يضبط كل الأنغام المتحررة المتمايزة فلا تحدث أضرار تقاس بما نتوقعه من تخريب لأمننا القومي مقابل ١٥ مليون دولار! بينما لو حاولنا هذا التحرك داخل هامشنا الضيق فإن ذلك يضايق الخطوط الحمراء لا المحبوسين داخلها، ومن ثم يهدد الأمن القومي. النتيجة أن المعلومة بيد الأمم سبيل وعي وتقدم، بينما هي في بلادنا ما زالت أمرًا يخص الأمن، ولا بد أن نأخذ به تصريحًا، ويمتنع هذا التصريح دون إبداء أسباب. وهو ما حدث مع شخصي الضعيف عندما قررت أن أطبع كتبي بنفسي بعيدًا عن الناشرين الذين يُخلِصون لمنطق القبيلة بالخطف والسلب، ورفض الأمن منحي هذا الترخيص، ولكن بعد موافقة السجل المدني المبدئية وكذلك الغرفة التجارية، الأمر الذي شجعني على بيع ما أملك لإنشاء داري الصغيرة، وبعدما تأكدوا أني لم أعد أملك سوى غرفتين للنشر منعوني التصريح من باب خراب البيوت وقطع الأرزاق والحصار والتركيع.

المعلومة بيد الأمم معرفة ووعي وتقدم، وفي بلادنا ما زالت أمنية يتم بسببها الحصار والقمع والاعتقال والتجريس والسجن، كما حدث مع سعد الدين؛ لأنها تتسرب مع بحوثه إلى الخارج، رغم أن هذا الخارج يعلم بموافقة الدولة كل شيء عنا، لأنها تفتح كل أبوابها وملفاتها لتقديم القروض والمعونات وفق خرائط وجداول اجتماعية واقتصادية، ودراسات لكل كبيرة وصغيرة من شئوننا، ووفق حاجات لنا تم درسها عندهم قبل عندنا، حتى جيشنا وتسليحه وتدريبه وكل ما يتعلق به معلوم لديهم في مشاركات ميدانية مدروسة بالتمام والكمال.

إن المعلومة المقصودة إذن بالخطورة على الأمن القومي تلك التي إذا تسربت إلى الخارج أساءت إلى النظام الذي يتجمل أمام العالم بتوقيعه مواثيق دولية لا يُنفَّذ منها في الداخل شيء. أما في الداخل فلا معلومة ولا معرفة … إذن فالأمن مستتب. تلك الفلسفة التي اعتنقناها منذ الزمن الخليفي وحرمنا الناس المعرفة، حتى المعرفة بالأعداء. ووصل الأمر بأهل الحكم أنهم حرَّموها على أنفسهم إمعانًا في الإخلاص للمبدأ، فجهلوا كل أمر عن العدو حتى جاءهم على حدود الدلتا الشرقية ١٩٦٧م، ودمروا بنية الوطن التحتية، وأزهقوا أرواح مئات الألوف من أبناء الوطن الأبرياء في صراع كبارهم الأماثل على السلطة فيما صرح به أكثر من مصدر من بينهم، كان أوضحها حديث حسين الشافعي إلى قناة الجزيرة في شهادته الفضيحة على العصر، وجلبوا العار لتاريخهم وفلسفتهم. ورغم كل هذه النتائج المخجلة ما زلنا عند المبدأ نرفع أعلامه ونحرسه بسيوف الأمن منعًا لأي معلومة أو أي معرفة، لأي وعي، حتى يستتب الأمن. هذا رغم أن المعلومة موجودة بالضرورة، خاصة في هذا الزمن، والوعي بها حادث حادث، ووضعها في إطار معرفي يعيها سيكون سيكون.

(٣) ألغام الفتنة

ما دمنا في مقام مناقشة طروحات الخطاب الاتهامي والتعرف على منطقه، نقف مع مؤرخ مصري مسيحي مستنير، هو أحد أعلام الفكر المحترم في مصر الدكتور يونان لبيب رزق، لكن انظره معي وهو يدفع الجزية حين يقول للعربي بتاريخ ١ / ٧ / ٢٠٠٠م: «لكن إذا كانت هناك مشاكل، فذلك لا يعني أن تكون الحلول واردة من الخارج.» إنها عبارة لا تصدر عن مثله إلا لدرء الأذى ودفع الجزية بالوقوف تحت الراية الرسمية منافحًا. لأنه لا شك وهو أستاذ تاريخ حديث متمرس، يعلم جيدًا أننا لم نملك بأيدينا أية حلول من الداخل بسبب مناهجنا التليدة. فحركة النهضة التي بدأها محمد علي تمت باستقدامه خبراء أجانب وإرسال الوفود لطلب العلم والمعرفة في بلاد الغرب، ولم ينزعج أهل الغرب لذلك ولم يحتسبوه نهبًا معلوماتيًّا. ومفكرو عصر النهضة العرب أنتجوا معارفهم بالتماسِّ مع المعارف في الغرب المتقدم والتفاعل معها. وخرج الإنجليز من مصر برعاية أمريكية، حيث تم توقيع اتفاقية الجلاء في بيت السفير الأمريكي «كافري» بالقاهرة عام ١٩٥٤م. وعندما كان عبد الناصر يعلن في الأزهر أنه قد كتب علينا القتال ولم يكتب علينا الانهزام كانت الهزيمة قد وقعت بالفعل قبل هذا الإعلان، وكانت إسرائيل قد احتلت كل شبر في سيناء، ولم تنته معركة ١٩٥٦م بسبب القتال الذي كتب علينا (رغم البطولات العظيمة لشعبنا المصري آنذاك)، بل بتدخل روسي أمريكي. وكان تسليحنا أجنبيًّا، وبناء السد العالي بتمويل وخبرة علمية أجنبية، وكانت مبادرة روجرز أجنبية. ومن ١٩٧٣م حتى الآن وكل الحلول المتعلقة بأمننا القومي تأتي من الولايات المتحدة الأمريكية … إنه الفرق بين المعرفة واللامعرفة، بين القوة والضعف.

ولا شك أن الدكتور يونان، بما له من خزائن معلوماتية، يعلم أن المعلومة ليس لها داخل ولا خارج، ولا وطن لها، وأننا أصبحنا اليوم نحصل على ما نريد من معلومات ونحن جلوس في بيوتنا، وأن مجتمع الشفافية في بلاد الحريات هو ما جعلنا في بلادنا نعلم ما يحدث لرئيس أكبر دولة في العالم علنًا (محاكمة كلينتون، وقبلها ووترجيت، وغيرهما كثير). أما إذا كانت معلوماتنا بهذه الخطورة العالمية التي نحتاج إلى حفظها وإخفائها في لفائف محنطة، فهو الأمر الذي يفسر ما آلت إليه أحوالنا بين الأمم.

وفي سياق الخطاب الاتهامي، يطل علينا رجل آخر هو من المستنيرين والمتفتحين وذوي الرصيد العلمي، لكن ليهاجم مركز ابن خلدون وباحثيه، ويقف إلى جانب جوقة التكفير الوطني، بعبارة تشككنا في مساحة صدق مفكرينا المستنيرين، مع كل احترامنا له هو الدكتور نور فرحات، إذ يقول: «إن تبني بعض المثقفين للخطاب الأجنبي يمكن أن يؤدي إلى إشعال الفتنة الطائفية في مصر» (انظر الأهرام العربي بتاريخ ٨ / ٧ / ٢٠٠٠م). أو هذا ما نسبته إليه الصحيفة. ومسألة الفتنة الطائفية تلك، ستأتي في موقعها من هذه الدراسة، لكن ما يحير الفهم هو هلَّا يعلم سيادة الدكتور أن الخطاب الأجنبي المكروه من العامة، هو الذي يفهم منه الخاصة من أمثال سيادته أنه خطاب ديكارت ونيوتن وكانط وفرويد وهيجل وفيبر وماركس … إلخ؟!

على ذات الخط يصب الدكتور حمدي عبد العظيم مدير مركز البحوث بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية جامَّ غضبه على المؤسسات الأجنبية الداعمة للمراكز البحثية في دول العالم الثالث بقوله: «تحاول هذه المؤسسات إشراك الشركات المصرية في برامجها التدريبية والبحثية بمقابل مالي ضخم، وذلك لتسهيل الحصول على المعلومات التي لو أرادها أحد الباحثين أو الصحفيين المصريين ما استطاع إليها سبيلًا» (انظر العربي في ١ / ٧ / ٢٠٠٠م).

الرجل المؤسسي الكبير في واحدة من مؤسسات الدولة الأكاديمية البحثية يعترف — من حيث أراد أن يدين — أن دولته تحجب عنه المعلومات بعد أن عينته لهذا العمل مديرًا لمركز معلوماتي كبير، وبصرف النظر عما يعانيه أمثالنا من الباحثين المستقلين الغلابة للحصول على المعلومة، فإن هذا الكبير تكمن معاناته في وضعه الوظيفي وحلمه البحثي، ويعترف بتقاعسه عن العمل والإنتاج في مؤسسة تصبح بلا معنًى وهدرًا لمال الوطن في اللاشيء، لأنه إما أن يحتفظ بمركزه المرموق، وإما أن يجازف بطلب المعلومة. ولم يسأل الرجل نفسه: إذا كانت هناك معوقات تضعها الدولة أمام الباحث المصري للحصول على المعلومة، فهل يكون ذلك ذنب المؤسسات الأجنبية التي تحصل عليها من مؤسساتنا دونه؟ وهل هي من يستحق غضبه؟ ولا بد هنا أن يبرز السؤال: لماذا الحرص على إخفاء ما يخصنا من معلومات عن الغير؟ وكيف تتم لعبة الإخفاء؟

هنا نستأنس بأكثر من مرشد لنعرف السر العظيم الذي نحرص على إخفائه عن العالم وعن باحثينا، لنسمع الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير «الأهرام» يردد: «إن حرية توفير المعلومة الدقيقة وحرية تداولها، لا ينبغي أن تمس الأمن الداخلي لأي دولة تحت أي مبرر.» و«إن حرية البحث العلمي مكفولة شرط ألا يمس ذلك الأمن القومي المصري.»

لا بأس من التكرار حتى نتأكد من حكمة الإخفاء وخطورة المعلومات التي لو فشت أضرت بأمننا القومي، فتتفق صحف المعارضة مع صحف الحكومة لتسمي العربي الناصري في ٩ / ٧ / ٢٠٠٠م تلك المعلومات بالألغام في مانشيت «ألغام البحث العلمي في مصر»، وهو ما كررته المجلة القومية روز اليوسف في ١٣ / ٣ / ١٩٩٩م تحت مانشيت «الألغام المؤجلة»!

الأمر هنا يصيب الفهم بحيرة شديدة، فهل ما نخفيه من معلومات في شكل ألغام هو أسرار كشوف عسكرية غير مسبوقة سنستخدمها في المكان المناسب والوقت الذي نحدده ضد من يعادينا، أم أنها معلومات أجنبية تم دفنها في بلادنا في غفلة منا لتفجيرها في وجوهنا وقت اللزوم؟ وإذا كانت ضدنا ونعرف أمرها فلماذا نخفيها بدلًا من تعريتها ونزع فتيلها؟ الأمر هنا في غاية الالتباس والاضطراب والاستعصاء على الفهم.

انظر معي ذات التعبير المرتعب في تعليق كاتب من لون آخر هو الكاتب الإسلامي الأستاذ فهمي هويدي على مؤتمر الأقليات الذي عقده ابن خلدون، وذلك في ٦ مايو ١٩٩٤م، حيث قال بصحيفة الوطن العربي: «لست مطمئنًّا لأهداف هذا المؤتمر، وأظن المؤتمر قد جمع ألغام الأمة العربية كلها وأراد أن يعبث بها.»

وتتتالى التساؤلات يقفو بعضها بعضًا بعد أن علمنا أن تلك الألغام ستنفجر في وجوهنا … فمن زرعها؟ الأجانب الذين يحيكون لنا المؤامرات ليل نهار دون كلل ولا ملل، أم نحن الزارعون؟

الكارثة أن حديث الألغام هذا كان عن وضع أقليات البلدان العربية، خاصة وضع أقباط مصر الذي استشاط لوضعه على بنود المؤتمر كل السدنة والكتبة، ومجيئه في وقت متأزم بعد أن رفع الأقباط مطالبهم مرة تلو أخرى لأولي الأمر منا دون جدوى حتى أصابهم القنوط، فنزحوا عن الوطن في هروب جماعي وهم زهرة شبابه المنتج، أعطيناهم لبلاد الغرب المكروه لدينا بشدة، بلا ثمن، ليعلو هناك صوتهم بمطالب الأقباط، وليشكلوا للدبلوماسية المصرية في بلاد الحريات أرقًا مزمنًا. بينما فضلنا من جانبنا طوال الوقت دفنها وتغطيتها رغم تسميتهم لها بالألغام، وهو الأمر الذي بدت بوادره عندما وصل الصوت القبطي إلى المحافل الدولية، مما دفع بالباحثين المستقلين إلى محاولة المساهمة في تفهم الأزمة ووضع البحوث بشأنها بغرض حلها ونزع فتيل ألغامها، فقام العناتر يتهمونهم بالعبث بالألغام التي لم يزرعوها، ولا زرعها الغرب المكروه، إنما كانت وراءها طائفيتنا وعنصريتنا وفاشيتنا … كنا نحن الزارعين.

فهناك إذن ألغام حقيقية لا مجازًا، لكن أي محاولة لتعريتها هي خيانة للوطن وشق للصف الوطني ونشر للفتنة الطائفية وإضرار بالأمن القومي (؟!) … رغم أن الدنيا قد أصبحت غير الدنيا، وأصبح هناك أكثر من مليوني قبطي يتحدثون خارج البلاد بلا تحريمات ولا حرج، ونحن نصر على عدم الحَراك خارج زمن الخيمة والقبيلة والبعير، ولا نفعل شيئًا مطلقًا لتطهير أرضنا من الألغام بل نستمر في زرع المزيد.

لماذا … لماذا يا خلق؟!

الإجابة البسيطة الواضحة، لكنها المؤلمة حقًّا، تكمن في مواد الدستور الأولى الطائفية تمامًا العنصرية بالكامل، حيث للدولة دين هو الإسلام، وحيث الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فماذا ستفعل دولة تعلن أنها دولة إسلامية بهذه المواد؟ وبعد أن نفت من دستورها مواطنين لا يدينون بالإسلام، بل نفتهم من المواطنة؟ ماذا ستقول لجماهيرنا المؤمنة الطائفية صاحبة الدين الرسمي بعد أن زرعت فيهم الطائفية والعنصرية زرعًا نما وترعرع عبر وسائل إعلامها وتعليمها وأزهرها الميمون صباحَ مساءَ وغدوًّا وعشيًّا؟ وبعد أن ظلت تبكي عدالة الإنسانية المهدورة في أفغانستان ثم في البوسنة والهرسك بانتماء إسلامي شق المواطنة المصرية شقًّا، حيث انتمى المصري المسلم لطوائف خارج وطنه، ووضع الإثم كله على رأس الطائفة المتاحة أمامه من بني وطنه ليدفعوا ثمن ما يحدث في بلاد الأفغان وبلاد تركب الأفيال، وهو منطق يعني بوضوح أن غير المسلم في وطنه قد أصبح رهينة لأنه ينتمي إلى طائفة معادية.

هل يمكن أن نصدق أن في العالم اليوم دولًا (عدانا بالطبع) تفكر هكذا؟ وتبني سياستها داخليًّا وخارجيًّا على أسس كتلك؟

المهم أن الرد الدائم على مطالب الأقباط هو الكذب والإنكار الذي ما عاد يمر في زمن سيولة المعلومات، بزعمٍ يردده الجميع طوال الوقت أن المصريين مسلمين ومسيحيين كانوا وما زالوا سبيكة واحدة. فماذا عن تلك السبيكة؟!

(٤) السبيكة الوطنية

إثباتًا لوجود السبيكة المسبوكة يستشهد المسبكاتية بالأقباط أنفسهم في أمثلة تاريخية نادرة المثال في الوطنية، فتعيد صحيفة الشعب ١٨ / ٥ / ١٩٩٤م المتأسلمة تذكير المصريين، أو بالأحرى تذكير الأقباط المحتجين، بعبارة مكرم عبيد الشهيرة عندما قال زمن الاحتلال الإنجليزي: «إنني مسلم وطنًا قبطي دينًا» وبصرخة القمص سرجيوس في ثورة ١٩١٩م ضد الاحتلال: «إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط، فأقول: ليمت الأقباط وليحي المسلمون أحرارًا.»

ومن نماذج أقباط اليوم نقرأ رد بعضهم على ما سمي فتنة أقباط المهجر من قبيل: «نحن مصريون إلى آخر الزمان، لا حب ولا انتماء لغير مصر» … وكلامًا شبيهًا لكثير من الوجوه القبطية الرسمية يدلك الغرائز؛ ومنه قول البعض في الأهرام الحكومية: «فنحن لا ننتمي إلى الدولار الأمريكي ولا إلى الحضارة الغربية» … لا بأس أيضًا رغم المغالطة بكلام إنشائي، فالعالم اليوم نظام إن شئنا الانخراط فيه فلا بد أن ننتمي بكل طوائفنا، ولا بد أن نصبح دولة منتجة يترجَم إنتاجها ويُسلَّع ويصنَّف ويقيَّم ويوضع بسعر عملة موحدة، هي بورصة الأوراق المالية العالمية. كذلك حتى لو لم نشأ. وتبقى المجاملات الإنشائية بعيدة عن الموضوع.

ويتم الانطلاق من مقولات الأقباط الذين رفضوا وصفهم بالأقلية لأنهم مواطنون أصلًا (لكنهم أقلية حقوقية)، لتخوين دعاة المجتمع المدني ووصمهم بشق الصف الوطني وزرع الشقاق بين عنصري الأمة، بمثل تلك الشهادات القبطية الإنشائية الهلامية الزئبقية.

وهنا يتقاطع موضوعنا مع قضية سعد الدين مرة أخرى، عندما نقرأ في صحيفة الجمهورية الحكومية في ٣ / ٧ / ٢٠٠٠م: «روى مصدر أمني للجمهورية قصة تورط سعد الدين إبراهيم في علاقات مشبوهة ببعض الدول الأجنبية، وكيفية القبض عليه، فقال: إن تحريات أمن الدولة وبعض الأجهزة الرقابية أكدت أن رئيس المركز المقيم بالمعادي يحصل على أموال طائلة من جهات أجنبية في مقابل إمدادها بمعلومات مشبوهة عن اضطهاد الأقباط في مصر.»

لنستمع إذن، ما دامت الشهادات مطلوبة حول السبيكة، إلى أقباط يقولون قولًا آخر، ونحكم أي القولين يدفع الجزية حديثًا خطابيًّا في الهواء الطلق للحفاظ على مكاسب أو مناصب أو رضًا رسمي، ومن يعلن سخطه الكامل بحقائق نرجو من أصحاب نظرية السبيكة أن يقدموا وثائق جحدها وإنكارها ليستبين لنا الخيط الأسود من الخيط الأبيض. وإبان ذلك نتأسى بذكرياتنا عن مكرم عبيد والقمص سرجيوس وموقف الأقباط التاريخي مع إخوانهم المسلمين ضد الاستعمار، وكيف تم رد الجميل لهم بعد طرد الاستعمار واستيلاء الخفر المحلي في يوليو ١٩٥٢م على حكم البلاد … وحتى الآن.

يقول نبيل عزيز عبد الملك: «بينما بدأت الدولة عهد عبد الناصر في التوسع فيما يعرف بالتعليم الأزهري بدءًا من المراحل الأولى للتعليم وحتى الجامعة من خلال مؤسسات تعليمية مقصورة على المسلمين، استولت على كل المدارس القبطية التي كانت تضم تلاميذ من المسلمين والمسيحيين. كما بدأت زيادة تدعيم المؤسسات الدينية الإسلامية، فأقامت مجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والإدارة العامة للدعوة الإسلامية … هذا إضافة إلى إنشاء المكتبات الإسلامية بطول البلاد وعرضها، وفي مراكز الشباب والنقابات، كما أنشأت محطة إذاعة دينية إسلامية، وكل ذلك بدعم مالي ضخم، في الوقت الذي لم تُقِم فيه الدولة المعاهد الدينية أو الثقافية القبطية على الإطلاق. وبعد أن أممت الدولة كل المدارس القبطية ومدارس الإرساليات في أواخر الخمسينيات، أضافت إلى مادة اللغة العربية المقررة على جميع الطلبة بصرف النظر عن انتمائهم الديني، وفي كل مراحل التعليم، كمية كبيرة من النصوص القرآنية، بها العديد مما يتعارض مع عقائد المسيحيين ويسيء إليهم. بل فرضت على التلاميذ المسيحيين حفظ القرآن كنصوص لغة عربية.

وفي الثمانينيات والتسعينيات تطورت الأمور إلى ما هو أخطر، وذلك بسماح الدولة بإقامة مدارس خاصة مقصورة على الأطفال المسلمين، وفيها يلقنون الأطفال ما يحض على كراهية غير المسلمين، واللافت للنظر أن إيراد هذه المدارس مُعفًى من الضرائب.

أما في مجال الإعلام المرئي والمسموع … فيتمتع المسلمون بساعات البث الديني والثقافي الديني يوميًّا … ولم يُعطَ الأقباط إلا نصف ساعة لإذاعة جزء من قداس الأحد، وحوالي ساعة لإذاعة جزء من عيد القيامة وأخرى لإذاعة عيد الميلاد السنوي. ونلاحظ نفس التمييز فيما يتعلق بالإعلام المقروء، فبينما لا توفر الصحافة القومية أية مساحة عن الديانة المسيحية أو الثقافة القبطية إلا في العيدين المشار إليهما، تخصص الصحف والمجلات شبه الرسمية الصفحات الأسبوعية للثقافة الإسلامية.

وعلى مستوى الجامعة بينما وُجد قسمان للآثار أحدهما مصري قديم والآخر إسلامي، لم تنشئ الدولة قسمًا للآثار القبطية، هذا على الرغم من أن الفترة القبطية تمتد لأكثر من ألف ومائتي عام (من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن العاشر الميلادي). في الوقت الذي تهتم فيه معظم جامعات العالم بالثقافة القبطية وحضارتها. وكان المؤتمر الدولي للدراسات القبطية، ومقره بروما، قد طالب الدولة على مدى العشرين سنة الماضية بإنشاء مثل هذا القسم، كما طالب الأقباط بإنشائه لكن دون جدوى. وقد شهدت السنوات العشرون الماضية على وجه الخصوص سيلًا عارمًا من الكتب والمجلات الصادرة عن الأزهر … وكلها تهاجم العقيدة المسيحية، ليس فقط بأسلوب بعيد عن أمانة البحث، بل وبعيد أيضًا عن أدب الكتابة … كما دأبت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمملوكة للدولة على السير في نفس الخط، لتصل الإباحة والاستباحة إلى نشر أحاديث صريحة مسجلة على أشرطة فيديو يطالب فيها قائلوها جموع المسلمين بعدم التعامل مع المواطنين الأقباط ولا مجرد تحيتهم.»

هذه شهادة باحث تفرش لنا الأرضية الواضحة للاحتجاج القبطي. ومن نماذجها شهادة مريت بطرس غالي في مذكرته التي رفعها للدولة في ١٩٧٩م يقول فيها: «فضيحة منكرة واعتداء على النظام العام أن يعتنق مسلم واحد الديانة المسيحية، وجائز ومقبول ومستحب أن يعتنق الإسلام مئات من الأقباط فتُقدَّم لهم التسهيلات والعلاوات والهدايا وتقام لهم حفلات الزفاف والأفراح في الشوارع … ومن يعتنق المسيحية طواعية من المسلمين يتعرض للسجن والتعذيب والتطليق من زوجته وفقدان حضانة أولاده … هذه أمثلة لانتهاكات حرية العقيدة وهي حرية من المفروض أنها مصونة حسب نص الدستور المصري، ومع ذلك تلغيها المادة ٩٨ ف من قانون العقوبات في حال تغيير المسلم دينه، بادعاء أن هذا التغيير يعتبر تحقيرًا للأديان، كما أنه ينطوي على تهديد للوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.»

مثال آخر نموذجه الباحث المسيحي سامح فوزي الذي لاحظ ما جاء في هامش مجلة الوعي الإسلامي في العدد ١٧٤ الصادر في إبريل ١٩٧٩م ص ١٠٨، ١٠٩ في فتوى مرعبة حقًّا وكريهة ومنفرة وبشعة تقول نصًّا: «إن المسيحي الذي يقتل في الحرب إلى جوار المسلمين ليس له من آخرته شيء من الإيمان بالله ورسوله … والمسيحيون … أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، لأنهم آثروا الكفر على الإيمان وتركوا الحق واتبعوا الباطل فكيف يتشرفون بالشهادة.»

كما رصد الفتوى المنشورة في عدد روز اليوسف الصادر ٥ / ٤ / ١٩٩٣م بعدم جواز تهنئة المسلم للمسيحي بعيد القيامة لأن في ذلك اعترافًا بقيامة المسيح، وعدم جواز مشاركتهم أفراحهم ومآتمهم لأنها تجري داخل الكنيسة.

ولاحظ الصحفي المسيحي سليمان شفيق أمورًا أخرى منها: «اختصار فترة التجنيد في القوات المسلحة إلى ستة أشهر لمن حفظ القرآن الكريم … ولا تُختصر نفس المدة للمسيحي الذي يحفظ الإنجيل … والميزانية السنوية للأزهر والدعوة الإسلامية بشكل قانوني من المال العام الذي يساهم فيه الأقباط دون أن ينالوا نصيبًا، مع عدم قبول جامعة الأزهر للطلاب المسيحيين وعدم السماح للمسيحيين بإقامة جامعة مثيلة … وفي قضايا الأحوال الشخصية أي نزاع ينشأ بين زوجين مسيحيين بسبب اعتناق أي من الطرفين للإسلام بعد الزواج تُطبَّق معه أحكام القانون الإسلامي.»

ثم يحيطنا الباحث المسيحي محب زكي علمًا أنه قد «أصبح عرفًا لا استثناء فيه الامتناع الكلي عن تعيين الأقباط في بعض الإدارات الحساسة مثل المخابرات العامة ورئاسة الجمهورية، حيث ينظر لهم على أنهم خطر على الأمن القومي … واختيار وزيرين من الأقباط من باب المحافظة على الشكل لتولي وزارتين هامشيتين، ومن بين حوالي ٦٠٠ وكيل وزارة فإن عدد الأقباط منهم لا يزيد على ١٥. كما يوجد عشرة أقباط بين رؤساء الشركات المملوكة للدولة والتي يزيد عددها على ٣٦٠٠ شركة. ويوجد سفير لمصر معين في دولة لا أهمية لها مطلقًا لمصر … ونسبة موظفي وزارة الخارجية من الأقباط حوالي ٢٫٥ ٪، ولا يوجد من الأقباط محافظ واحد أو مدير منطقة أو مدير جامعة أو عميد أو حتى وكيل كلية أو مؤسسة تعليمية عليا من مجموع هذه المؤسسات التعليمية التي يفوق عددها المائتين.»

وإزاء كل هذا الحديث عن السبيكة المسبوكة يرى الدكتور إبراهيم كروان أن الفضيلة الغائبة عن دولتنا هي فضيلة المصارحة مع خداع النفس تحت دعوى حماية الذات الوطنية والقومية. ثم يتساءل: «هل من الصحيح أن مواطنين مصريين مثل المسلمين تمامًا مستبعدون عمليًّا من قيادات الوزارات السيادية للدولة، ليس بسبب اعتبارات تتعلق بانعدام الكفاءة إنما بسبب انتمائهم الديني، أم أن مجرد طرح السؤال هو جزء من المؤامرة؟»

يبقى أن نعلم أن تلك الشهادات جميعًا مأخوذة من تقرير مركز ابن خلدون «الملل والنحل» الصادر في ١٩٩٥م، ومن كتاب «هموم الأقباط» الصادر عن المركز ذاته، وهو ما يفسر لنا سر الغضب الرسمي على المركز وصاحبه، إضافة للأسباب الأخرى التي سبق الإشارة إليها (انظر التقرير ص ١٢٤، ١٢٥، ١١٩، ٢٠٤، ٢٠٥، ٢٠٦، ٢٠٧، ١٣٣، ١٣٥).

هذه أمثلة قليلة من كثير مفجع، ومع ذلك فإن مؤسسات السلطة ومثقفيها ينفون وجود المشكلة أساسًا، بل ويعمدون لإثبات أن الأقباط أكثر أقلية سعيدة في العالم.

وهكذا لن نحتاج إلى جهد كبير لاستخلاص أن دولتنا تفكر بعقلية القبيلة العربية الغازية المستوطنة في غير وطنها، بعقلية السيد الفاتح الذي يستبعد من تاريخ البلد المفتوح كل ما سبق الفتح، عقلية تستبعد من تاريخ مصر الحقبة القبطية بالكامل من مناهج الإعلام والتعليم؛ لأنها كانت حقبة مسيحية غير عربية، رغم أنها حقبة مصرية وجزء لا يتجزأ من تاريخ مصر المتصل. دولتنا تفكر بعقلية الغازي المغتصب حتى اليوم، كما لا ترى في مصر مشاكل للأقباط، بل ربما هم غير موجودين في قاموسها اليومي أصلًا. ولا غرابة أن تتفق بذلك مع زعيم جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها العام السيد مشهور الذي أعلن منذ سنوات أنه يجب عدم تجنيد الأقباط في الجيش تحسبًا لخيانتهم مع وجوب دفعهم الجزية، فهل ثمة جزية بعد كل هذا؟!

المصيبة في مناهج مثقفينا اتفاقهم على العويل لما يجري للأقليات المسلمة في أوروبا أو بلاد تركب الأفيال، لكنهم لا يرون أبدًا حقوق أهل الوطن. هو ذات المنطق الصهيوني عندما كانت إسرائيل تنفي وجود شعب فلسطين في أرض فلسطين … ويلعنون منطق الصهاينة بكرة وأصيلًا، رغم شاعرنا الذي وبخ من ينهى عن فعل ويأتي مثله، لأنه عار علينا إن فعلنا عظيم.

(٥) عن ضرورة المراكز البحثية

في ثقافتنا المنشورة يظهر لدينا مع أزمة سعد الدين إبراهيم اتجاه آخر يرى أنه لا حاجة بنا إلى باحثين مستقلين، ولا مراكز بحثية أهلية، لسبب واضح مقنع هو أن الدولة لديها مراكزها البحثية، وفيها كفاية وغنى (؟!) هذه ليست مُلحة ولا نادرة فكِهة … تعالَوا نقرأ معًا مجلة آخر ساعة المملوكة للدولة في ٢٠ / ١٠ / ١٩٩٩م في نص لطيف ظريف لا يعرف ما هو البحث العلمي ولا معناه، لكنه يصول ويجول في صحف الدولة ومجلاتها، يقول فيه المثقف العريف الفهيم: «علماؤنا يؤكدون أن في مصر مركزًا قوميًّا للبحوث الاجتماعية تابعًا للدولة، ولديه خطط ومبادئ وخطوط فاصلة، تغنينا عن أية مراكز بحثية خاصة تمس أمننا الاجتماعي والقومي، فهذه المراكز الخاصة تحتضن عقولًا مشغولة بجميع العملات الصعبة، أكثر من انشغالها بمشاكل المجتمع.»

وهكذا فالدولة عند مثقفيها هي صاحب الحق الأوحد في البحث، وغيرها مشغول بجمع الأموال بحجة البحث العلمي … وهذا توجه وفهم وطرح بحاجة إلى مناقشة.

لنستمع إلى باحثي هذا المركز القومي التابع للدولة إذن … مستشار المركز الدكتور أحمد المجذوب يقول ﻟ «آخر ساعة» بذات التاريخ في ذات الموضوع: «إن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي أنشئ منذ عام ١٩٥٦م قد أنجز كمًّا هائلًا من الدراسات والبحوث في كل المجالات التي تخطر لك على بال. مما يغنينا عن أية مراكز بحثية تمس الأمن الاجتماعي والقومي.»

حتى الآن لا مشكلة (لو سلمنا دون مناقشة)، لكن المشكلة تظهر عندما نقرأ للدكتور المجذوب نفسه، لكن في تصريح آخر لصحيفة العربي بتاريخ ٩ / ٧ / ٢٠٠٠م تحت مانشيت «ألغام البحث العلمي في مصر» يقول فيه قولًا آخر، لا بد أن يكون فيه أحد القولين كاذبًا وملفقًا ومزورًا.

لنستمع إذن: «إن تبعية المركز المباشرة للدولة من خلال وزارة الشئون الاجتماعية قد وضعت له خطوطًا حمراء لا يتجاوزها البحث العلمي، لذلك لا تجد دراسة موضوعية عن واقع الأوضاع السياسية في مصر. بل رغم وجود المركز في قلب أحداث إمبابة الشهيرة لم يقم حتى الآن بدراسة ميدانية عن الإرهاب. ولقد تقدمت بمشروع دراسة عن ذات الموضوع، عندما كانت آمال عثمان وزيرة للشئون الاجتماعية، وكانت مديرة المركز د. ناهد صالح، وتم رفض المشروع بحجة عدم وجود ميزانية كافية. ولطابع المركز الحكومي لا يمكن إذن أن ننتظر فيه دراسة كالتي قام بها سعد الدين إبراهيم عن الوعي لدى الناخب المصري. ويضيف د. المجذوب: هناك عوامل أخرى تقيد نشاط المركز البحثي؛ أهمها على الإطلاق طبيعة المناخ السياسي الديمقراطي العام. فكما أن الحرية مفقودة في الحياة السياسية والإعلامية فهي أيضًا غائبة في الحياة العلمية … فلا يستطيع باحث من المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية جمع بيانات من خلال استمارة استبيان إلا بموافقة جهاز التعبئة العامة والإحصاء على موضوع البحث والدراسة، بل إنه لا يستطيع الحصول على تقارير مصلحة الأمن العام، أو أي بيانات أو معلومات أخرى متعلقة بالجريمة تصدرها تقارير وزارة الداخلية، دون إذن وزير الداخلية شخصيًّا، ودون أن يمر موضوع الدراسة على مكتبه ويحصل على تأشيرة الموافقة.»

وفي حركة إدانة مبطنة للرأي المخالف تنشر «آخر ساعة» في العدد المشار إليه قول الدكتور سينوت حليم (وهو مسيحي كما يظهر من اسمه) وهو عضو في مؤسسات هامة؛ منها المركز القومي الذي نحن بصدده: «المركز القومي تمويله قليل فنحن لا نستطيع أن نشتري الدوريات العالمية، بل نحصل عليها إما بالاقتراض أو بالتصوير … أنا عايز معلومة معينة، من الذي يمولها؟ الأمر لا يهمني.»

نستمر ننقب وراء المركز القومي الذي يغنينا عن أي بحوث فردية أو مستقلة أو أهلية، لنستمع إلى قول منسوب إلى مستشار المركز السابق علي فهمي يقول لصحيفة العربي بذات التاريخ، ردًّا على الدكتور المجذوب (؟!): «ليس صحيحًا أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قد أهمل قضايا خطيرة مثل الإرهاب أو عمل استطلاعات رأي من قبل جهات سياسية مباشرة، فمثل هذه الدراسات يتم تكليف المركز بها من قبل جهات سيادية أو صانع القرار، وفي هذه الحالة تتخذ تلك الدراسات طابع السرية، حيث لا يُعلَن عن نتائجها لأسباب متعلقة بالأمن القومي. وليس معنى رفض مشروع لدراسة الإرهاب للدكتور أحمد المجذوب أن هذه القضية لم تدرس، فهناك عشرات المشاريع التي تُرفض.»

إذن لا يحزن المجذوب على مشروعه وحياته العلمية وشهاداته لأن قواعدنا فوقية، وليس مشروعه فقط هو الذي لم يدرس فهناك عشرات المشاريع ترفض، وفي الوقت ذاته فإن المركز لا يهمل قضايا (؟!) … هذا قول منسوب لباحث كان مستشارًا للمركز (؟!).

ونتابع مع الصحيفة حوارها مع المستشار السابق فتقول عنه: «لكن الدكتور علي في ذات الوقت يؤكد حقيقة أخرى هي ضعف المستوى العام وضعف أداء الباحثين الجدد، ويقول إن عنصر الواسطة قد دخل في اختيار الباحثين … ويمكن عد الباحثين المتميزين على أصابع اليد الواحدة.» ويضيف علي فهمي: «إن مركز البحوث يعاني خللًا خطيرًا في هيكله الإداري، حتى إنه عندما قامت د. زينب رضوان بتقديم استقالتها، وكانت رئيسة وحدة البحوث الدينية، أُلغيت هذه الوحدة!» ويكمل تقييمه للمركز قائلًا: «إن ميزانية المركز معقولة والباحثين متوافرون بشكل جيد، لكن الناتج النهائي ضعيف من ناحية الكيف.»

الكلام ليس بحاجة لشرح ولا تعليق، فمركز الحكومة البحثي مثله مثل كل لافتات الدولة المرفوعة كواجهة تجميلية أمام العالم، لهذا لا يتم حل المشاكل ولا تُفكَّك الألغام التي يتحدثون عنها. حتى يكاد الظن يذهب بنا إلى أن ترك هذه الألغام كما هي أمر مقصود كي يظل المواطن رهينة عند السلطة، وكي يبتعد الجميع عن حقول الألغام خوفًا ورعبًا. أما الخلل الذي أشار إليه المدافعون عن مركز الحكومة البحثي فمعناه عدم الأداء … اللاعمل. وعندما يأتي باحث من خارج السلطة ليعمل ويحاول نزع فتيل الألغام يصبح من الخونة الذين يشقون الصف الوطني … يعني لا نور ولا ماء ولا هواء، ويصبح حجب المعلومة خارجًا وداخلًا واجبًا وطنيًّا، وبالطبع حجبها بالأساس عن المواطن المزروعة تحت قدميه.

أما الملحوظة التي تفرض نفسها بقوة فهي أن مراكز الحكومة البحثية لا تبحث لأنها تنتقي مشكلات وطن يستحق عناء الباحثين، لكن لأنه يتم تكليفها بموضوعات البحث من جهات سيادية وتتخذ طابع السرية لأسباب تتعلق بالأمن القومي، في وقت تركت فيه ذات الجهات السيادية المرحوم الشيخ الشعراوي يكفر بنصف الأمة في تليفزيون الدولة لسنوات … فماذا عن الأمن القومي هنا؟! ومن يثير الفتنة الطائفية؟ أم أن الحكاية تشبه حكاية الفتوة الذي لا يستطيع أن يخفي قبحه فيخيف الناس برفع الغطاء عن عورته؟

(٦) عن المعلومة والأمن

في مذكرة الدفاع التي تم تقديمها إبان التحقيقات الأولية مع سعد الدين إبراهيم، برزت عدة ملاحظات جديرة بالعرض، وهاكم تلك الملحوظات حتى يمكن لمن أحب إقامة سرادقات العزاء لنقول لبعضنا البعض: عظم الله أجركم في مصر!

انظر معي: الزمن وقت الاستعداد لانتخابات برلمانية جديدة، بعد دوي هائل أحدثه حكم المحكمة الدستورية بعدم شرعية البرلمان السابق، هو أيضًا الزمن الذي أعلن فيه سعد الدين إبراهيم عزمه على توسعة التجربة السابقة لمراقبة الانتخابات، ولقيت دعوة الدكتور سعد صداها في عدد كبير من وسائل الإعلام العالمي، التي لم تعد بحاجة إلى دعوة لحضور حدث الانتخابات. أيضًا هو الزمن الذي يشهد تداعيات المشاكل مع أقباط المهجر وصوتهم العالي في مهجرهم، وتعالي اللغط حول الحريات في مصر بالكونجرس الأمريكي.

في هذا الزمن تحديدًا، وليس قبله وليس بعده، تقرر السلطة اعتقال سعد الدين بعد اتفاق واضح تم إبرامه سلفًا مع معظم الصحف المصرية، إن لم يكن جميعها، لتشن حملة تشويه وتشنيع واسعة النطاق وغير مسبوقة. هذا رغم كل ما لسعد من حول وطول؛ فهو رجل علم اجتماع معروف دوليًّا، وناشط سياسي عريق، وداعية ديمقراطية معلوم الشأن، وجنسيته الثانية أمريكية، وذو علاقات دولية واسعة، إضافة لصداقته لعدد كبير من الوزراء والمتنفذين في مصر، وكان من خيرة مساعدي النظام عند الاحتياج إليه. ورغم كل ما لدى سعد اعتقلوا سعدًا وتم تشويهه بالكامل، والنتيجة المنطقية التي لا بد أن يصل إليها أي مفكر أو باحث خارج السلطة «لقد هلك سعد، انج بجلدك يا سعيد». وكانت هذه هي الرسالة الموجهة إلى الداخل بعد بيان المائة الذي وقعه المثقفون إبان أحداث قرية الكشح.

وكان أبرز الاتهامات في صحافتنا، وبأقلام مثقفي السلطة، أن سعدًا أساء إلى سمعة مصر في الخارج، وصحب الاتهامات زفة التجريس المعلومة في بلادنا منذ زمن المماليك، أيام كانوا يحلقون رأس المحكوم ويضعونه عكسيًّا على دابة تطوف به المدينة في زفة تجريس علنية … واستمرت الزفة لاغتيال سعد مدنيًّا رغم تلاحق التقارير المصورة في وكالات الأنباء الدولية لرجال الشرطة يضربون الناخبين، ولما حدث في الجولة الثالثة للانتخابات التشريعية الجديدة، دون أن يُحتسب ذلك بالطبع إساءة لصورة مصر في الخارج.

مرة أخرى يتساءل العقل عمن يسيء إلى سمعة مصر في الخارج، وهو يتذكر أيام كان العالم المتحضر يستعد في ديسمبر ١٩٩٨م للاحتفال باليوبيل الذهبي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في باريس ١٩٤٨م، عندما اختار جهازنا الأمني التوقيت المناسب لاعتقال حافظ أبو سعدة أمين عام المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في وقت كان ينتظره فيه الرئيس الفرنسي شيراك، لأنه بين المكرمين في المناسبة التاريخية.

وبينما كانوا يبدءون عندنا زفة التجريس بحلق شعر رأس أبو سعدة بدرجة «زيرو» كما يقول أهل المدن أو «ظلبطة» كما يقول أهل الريف (حيث إن ثقافة الإذلال الإنساني في بلادنا أصبحت لها لغتها الخاصة لعراقتها)، كان الرئيس الفرنسي يتصل بالسلطات المصرية مستفسرًا عن صحة ما بلغه، لتفرج عنه السلطات وتضعه على أول طائرة إلى باريس ليتسلم الرجل نيشانه ولم تزل آثار المهانة على رأسه تلمع.

الملاحظ في الحالتين غياب منهجي تعتم معه رؤية متغيرات العالم، وغياب كامل للمعلومة المفترض أنها مهمة جهاز الأمن الأولى … لقد آمن جهاز الأمن بأن المعلومة خطر فمنعها على الناس وجرمهم بسببها، وإمعانًا في الإخلاص منعها على نفسه.

وتتوتر العلاقات الأمريكية المصرية فيكون الرد العاجل اتهام سعد بالتخابر لصالح أمريكا في تحقيق يوم السبت ٢٠٠٠/٨/٥م … وقامت التهمة على دعوة تم العثور عليها في أوراق سعد للمشاركة بورقة بحثية وجهها إليه معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية. وهنا أيضًا تغيب المعلومة في موقف دبلوماسي مع أكبر دولة في العالم، حيث يكشف سعد في التحقيق أنه كان مدعوًّا ضمن وفد مصري يضم عددًا من السفراء وضباط الجيش المصريين، وأيضًا الوزير الحالي علي الدين هلال، ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام الدكتور عبد المنعم سعيد، واللواء أحمد فخر، إضافة إلى أن أعمال هذا المؤتمر قد تم نشرها هنا في كتاب … (؟!) وتتراجع الدولة بعد الاكتشاف، ويعلن النائب العام أنه لم يتم توجيه تهمة التخابر لسعد، بعد أن تم نشرها في كل الصحف ووكالات الأنباء مع زفة التجريس المعتادة لمرتكب جريمة الخيانة العظمى (؟!).

فمن الذي يسيء إلى صورة مصر أمام العالم؟

مثال أخير من نماذج كثيرة بهذا الصدد، يتمثل في اتهام سعد الدين إبراهيم بتلقي أموال من الاتحاد الأوروبي نظير معلومات تضر بالأمن القومي المصري، لكن ليعلن الدفاع أن مركز ابن خلدون لم يتعامل أو يتعاقد على الإطلاق مع كيان أو هيئة تسمى الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه وحتى الاعتقال، إنما تعامل مع «الجماعة الأوروبية» وهي كيان كونفيدرالي سيادي له مفوضية مستقلة بالقاهرة، وله أمانة عامة في بروكسيل، ويرتبط مع مصر باتفاقات ومعاهدات أصبحت جزءًا من القانون بعد أن أقرها مجلس الشعب، وهذه الجماعة الأوروبية تتعامل مع الحكومات ومع تنظيمات المجتمع المدني والقطاع الأهلي، وأن مصر وقعت معها اتفاق برشلونة الذي يتضمن اتفاقًا على مخصصات من هذه الجماعة تُمنح للجماعات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني بموافقة الحكومة المصرية. ومع بدء اعتقال سعد واتهامه أصدرت الجماعة الأوروبية بيانًا من بروكسيل في ٢٠٠٠/١٢/١٢م تؤكد هذه المعاني، وأن الحكومة المصرية شريك موقع على الاتفاق بدعم دعاة الديمقراطية والمجتمع المدني، ثم أضافت نصًّا له مغزاه ودلالته يقول: «إن مشروعَي مركز ابن خلدون وهيئة دعم الناخبات قد خضعا لمراجعة خارجية أثناء تنفيذه، ولم تشر تقارير المراجع الخارجي إلى ما يمكن أن يثير أي تساؤل مالي أو مضموني»! ولا تعليق إلا علامات التعجب والدهشة.

(٧) التمويل المحلي والأجنبي

في هذه المنطقة الحساسة عند صحفيينا ومثقفينا الأشاوس الذين لا يجدون أي غضاضة في التمول من أي نظام عربي فاشي، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها على أي متمول من المؤسسات الأهلية في بلاد الغرب الحر، لا بد أن أوضح أن كاتب هذه السطور، بالتعبير المصري العامي الدارج، راجل فقري، لا يملك لحب الفقر دفعًا، فلم يتمول من أجنبي ولا من عربي ولا من مصري، ويعيش كفافًا كافيًا نفسه شر المتطهرين من مثقفينا المحترمين، وسعيد بما لديه، هذا رغم أن هذا الأسلوب في الحياة لباحثٍ يحمِّله فوق الطاقة للحصول على مصادر مادته العلمية، لأن أي بحث علمي يحتاج إلى تمويل يجب أن تقدمه الدولة والمؤسسات، حكوميةً أو أهليةً أو أفرادًا قادرين، للباحثين المتفرغين للعمل العلمي. لكن تجربتي الشخصية أثبتت أنه إذا أردت أن أكون مستقلًّا تمامًا حتى أقول ما أريد دون قيد أو تحريمات أو ضغوط في بلاد كبلادنا فعليَّ أن أتحمل وحدي نفقات عملي نأيًا بنفسي عن الاتهامات والتشويهات، وأهدي ما أعمل لأبناء وطني حبًّا وكرامة، بينما يترصدني بعضهم ليدخل بدمي جنات الرحمن.

هذا على مستوى البحث العلمي النظري، فماذا عن مستوًى آخر هو مستوى البحث الميداني والحركي النشط، الذي يحتاج إلى عدد من الباحثين في فريق وعاملين وإداريين، إضافة إلى الأنشطة الميدانية والندوات والمؤتمرات ليحقق وجوده المسموع والمؤثر؟ هنا يصبح حديث الرهبان عن الباحث الزاهد كلامًا أقرب إلى الخرافة، قد يصح مع شخصي الضعيف الذي ينشغل في عمله بالخرافة والأسطورة، لكنه لن يصح أبدًا بحالٍ مع العمل الحركي النشط، ويصبح التمويل ضرورة دونها العبث.

وتعالوا نناقش المسألة، نسمع من الدكتور سعد الدين إبراهيم إجابته عن السؤال حول تمويله من الخارج، في صحيفة الأحرار ٢٠٠٠/٧/٥م، بقوله المبرر والمتطهر: «إن الهدف من عملنا دائمًا هو مصلحة مصر.» وبغض النظر عن تثمين هذه الإجابة، يشغلنا رد الصحفي المستنكر: «ومصلحة مصر بأموال أجنبية؟!» ورد سعد بشكل ربما أفضل بعض الشيء من رده السابق: «المهم أبحاثنا هل تخدم الناس أم لا؟»

هذا الصحفي نموذج للعقل الغائب أو الفصامي، فهو يستغرب الإجابة، لكنه يثير الاستغراب والغرابة، ولا يستذكر أن مصر أكبر دولة مموَّلة من العالم؛ إذ يصل حجم تمويلها إلى خمسة مليارات دولار سنويًّا من مختلف دول العالم. وهو باستغرابه وعدم استنكاره يعبر عن أخلاق مجتمع لا يريد معرفة ذاته بمثل تلك الأبحاث، بل ويهرب من مواجهة نفسه، بعكس المجتمعات المتقدمة التي تسعى لمعرفة ذاتها ونقد مناهجها وبيان أخطائها بكل أنواع التمويل لمراكزها البحثية التي تقدم لها هذه المعلومات.

هذا مستوًى، وهناك مستوًى ضمني في رد الصحفي المستنكِر المستغرِب، لأن التمويل يصبح خطيئة أخلاقية عندما لا تعطي المقابل، عندما لا تنتج، وسعد أنتج، فماذا عن مؤسسات دولتنا المموَّلة جميعًا؟ وماذا عن الديمقراطية في بلادنا؟ وهي المقابل المعلن للتمويل الغربي، لتمكيننا من إنجاز الإصلاح الاقتصادي ومن ثم ديمقراطية سليمة. لقد قبضت الدولة الفلوس فهل سلمت البضاعة؟ هذا منطق السوق. هل أقمنا ديمقراطية مقابل الفلوس؟

إضافة إلى مقارنة واجبة بهذا الشأن، أن مركز ابن خلدون والجهات المانحة لا تعمل في السر، بل تعلن عن مشاريعها وأهدافها وقيمة التمويل، وتنتج المقابل وتنفذ، بل وتدفع عنه الضرائب للدولة (؟!)، لكن هل بيد أحدنا أي تفاصيل حول المعونات الأجنبية للدولة، ومشاريع وجهات صرفها؟ ناهيك عن كون التمويل على مستوى الحكومة مشروطًا وغير شفاف، فهل المعنى في عقل المثقف الذي يمثله صاحبنا الصحفي هنا أن الأفضل أن تضلل وتلتبس وتزيف ويكون هذا مقبولًا، أما أن تكون واضحًا شفافًا فإنك تصبح مصدرًا للقلق. هو ذات الخط النظري الذي حول مواطنينا إلى شيوخ يتطهرون بالشعارات والحديث المتوضئ بالنصوص المقدسة، بينما السلوك على كل المستويات في الاتجاه النقيض.

إن المقارنات الواجبة أكثر من أن تحصى، لذلك نستذكر فقط الأمثلة. وما أوضحه في الذكرى مؤتمر القاهرة للسكان الذي كان ممولًا من الألف إلى الياء، وحاربت الدولة من أجل عقده بالقاهرة، لتجميل وجهها أمام العالم المتحضر.

ومن ذكريات ذلك المؤتمر الطريفة أو الحزينة، أن الدولة المصرية جهزت ورقتها التي ستلقيها في المؤتمر كبقية التقارير الخطابية المعلنة على شعبها، فكل شيء تمام في نظام مثالي أنجز ما لم ينجزه آخر. لولا عاقل في النظام تنبه للورقة الفضيحة فذهب يسعى باحثًا عمن يستطيع أن يكتب ورقة تناسب لغة العالم المدنية ليخاطب بها العالم، وفي اللحظات الأخيرة تمت كتابة الورقة من جديد، وكان كاتبها هو الدكتور سعد الدين إبراهيم (فيما أحاطني به شخصيًّا، ولتوثيق الأمر سجلت هذا الحديث على شريط كاسيت) لتقدم باسم الحكومة المصرية. فالنظام فقير معرفيًّا ومنهجيًّا، وليس لديه مثقفون بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنه اختار من يكتبون له ما يحب ويريد، وما يضمن استمرار الولاء له والدفاع عنه، لذلك لم يتم العثور على واحد فقط بين مثقفي النظام يمكنه أن يفهم لغة الخطاب المطلوب أمام العالم.

وتكررت المأساة الملهاة مرة أخرى في مؤتمر المرأة في بكين، وكان الأداء الدولي المصري مثارًا للسخرية لأنهم ذهبوا يجملون وجه النظام في بكين، وكاد العار يلحق مصر جميعًا لولا نشاط الجمعيات المصرية الأهلية المتهمة بالتمويل جميعًا، وكان دورها هناك ممولًا بدوره، لكنه كان الإنقاذ، لكن حتى تكون الفضيحة بجلاجل، فإن من هاجم الأوراق المقدمة من الجمعيات الأهلية المصرية داخل المؤتمر، كانوا هم العناصر التي اختارتها الدولة المصرية لتمثيلها هناك، فكشفوا عن وجه عنصري طائفي فاشي متطرف أساء لوجه مصر إساءة تحدث بها الركبان.

السؤال هنا إزاء قبول الدولة للتمويل أو السماح به كما في مؤتمر السكان ومؤتمر المرأة، ما الحكمة إذن في تجريمه مع ذات الجماعات الأهلية عندما تتحدث عن حقوق الإنسان، بينما تمويل الدولة نفسه هو من أجل ديمقراطية سليمة ومن أجل حقوق الإنسان؟ أين المباح وأين الممنوع حتى نفهم ولا نخطئ ولا نُجرَّم ونحاكَم ونُسجَن؟

إن ما تفعله الدولة تُدينه، وهذا يشوشنا فلم نعد نعرف ما هو المسموح به وما هو غير المسموح، ولا بد للدولة من قواعد واضحة، وما ينطبق على الأفراد لا بد أن ينطبق أولًا على سياسة الدولة التي هي النموذج المثالي للمواطن. ثم ألا يصح في مقامنا هذا أن نتساءل عن حجم التمويلات التي تصل إلى مؤسسة كالأزهر الظاهر منها والخفي، أم أن الأزهر منطقة حرام؟ التساؤل يلحقه بالضرورة سؤال آخر: ماذا ينتج الأزهر؟ إننا نعلم أن الدين ليس إنتاجًا إنسانيًّا بل هو وحي إلهي، إذن لا إنتاج يقدمه الأزهر. وفي حسابات الفلوس والتمويل لا بد أن نتساءل عن العائد والإنتاج المضاف إلى رصيد الوطن … فما هو؟

إن قراءة مادة واحدة تُدرَّس في كلية الدعوة بالأزهر تكفينا لمعرفة مصدر الإرهاب الفكري والدموي. وعندما يقوم مركز ابن خلدون بإعادة تأهيل التائبين من الإرهابيين يصبح فعله جريمة وفضيحة وسرقة، رغم أنه كان يقوم بتأهيل ضحايا الدولة وأزهرها، وهذا ممول وهذا ممول، لكن الأزهر هو المبرراتي الشرعي لتصرفات السلطة، والمصدق الديني لقراراتها.

ومع الخط النظري للدولة ومواطنيها، وعمليات تزييف الوعي والتجهيل الإعلامي والتعليمي، نجد الدولة والأفراد غاية في الكرم عندما يقيمون آلاف المساجد ويستوردون لها الرخام والسيراميك والأخشاب النادرة من البلاد الشقراء الحسناء، لكن يصيبهم العطَب والشح عندما يكون ذلك من أجل البحث العلمي. ولا نعلم كيف لا يخجل من يعلنون نسبة البحث العلمي في ميزانية الدولة «ستة من عشرة بالمائة» بينما هي «ثلاثة بالمائة» في دولة إسرائيل، وهو التفسير الواضح الفصيح لخيباتنا إزاءها، وهو ما دفع مجدي يعقوب وفاروق الباز وأحمد زويل وغيرهم كثير لترك الوطن إلى بلاد العلم، حيث التمويل من أجل الإنتاج والإنجاز وليس مقايضة الفساد بالفساد. فالدولة هنا شديدة الكرم فقط في العمولات المقننة لحراسها ومثقفيها ومؤسساتها الدينية الذين يرفلون في النعيم العظيم لأنهم في النهاية يردون الجميل.

السؤال البسيط هنا عن وضع سعد الدين إبراهيم في المعتقل لتمويله أو لأنه تحدث عن تزوير الانتخابات ووجوب مراقبتها (رغم حكم المحكمة الدستورية ببطلان شرعية المجلس المنحل)، فماذا عن تقنين الرشوة باسم العمولات؟ انظر ما نشرته العربي الناصري في ١٠ سبتمبر ٢٠٠٠م تحت عنوان «حاكموا سليمان متولي أو حاكمونا»، تؤكد أن العمولات التي تلقاها المسئولون عن قطاع الاتصالات في مصر الذي رأسه الوزير سليمان متولي بلغت ستة عشر مليار دولار عمولات، زمن وزير واحد في قطاع واحد. تُرى كم عمولات الآخرين في مختلف القطاعات؟ تُرى كم كان بإمكانها تمويله من بحوث علمية ومراكز بحثية أرقامٌ خيالية كتلك؟

في ضوء هذا البذخ لماذا لم تمول الدولة مركز ابن خلدون؟ وهل كانت ستموله حقًّا وفق أهدافه المعلنة؟ تعطيه ثمن عمله ليعطيها إنتاجًا في شكل معرفة؟ بالطبع هذه أسئلة افتراضية لأن الدولة لديها مثقفوها الذين يبررون كل قرار وبدون إثارة مشاكل. لكن المواطن خارج سلطانها ليس له سعر، وليس لعمله سعر. إما أن يعمل ما تريد ويكون تابعًا أو لا يعمل، وإن عمل وتمول خارجيًّا يُعتقل لأنه ليس هناك تقييم عمل من أي نوع. التقييم الأزلي الأصيل الموروث هو الوحيد الباقي: سادةٌ وبطانتها، والبقية عبيد وموالٍ، ووجهة نظر الدولة هي الحلال المشروع، وغيرها هو الحرام والضلال والخيانة الوطنية والقومية والدينية. ألم نقل إنها امتداد للزمن الخليفي؟

١  كُتِبَ هذا الموضوع قبل الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، لكن بعده من الطبيعي أن نكون مركز اهتمام العالم (؟!)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤