وليمة لأعشاب البحر وحلف خراب مصر

إن رجال الدين في جميع الأمم والعصور يطلبون الحكم ويريدون أن يكون بيدهم زمام الناس يأمرون فيهم وينهون، ويحرمون عليهم ويحللون. فإذا لم يستطيعوا أن يكونوا هم أنفسهم ولاة الأمر وأرباب السلطان التجئوا إلى رجال الحكم السياسي يستمدون منهم القوة ويتخذونهم وسيلة إلى الحكم. والحكام السياسيون من الجهة الأخرى يريدون أن يكون لهم على قلوب الرعية سلطان ديني، يثبِّت لهم الحكم ويمكن لهم من رقاب الأمة، لذلك كانوا يزعمون أنهم ينوبون في الحكم عن الله … وعلى هذا الأساس أرادت القوة السياسية من قديم الزمان أن تحدث لها في مصر قوة دينية تؤيدها وتعاضدها، فأنشأت الجامع الأزهر وأسبغت عليه اسم الدين وعلى أهله بردًا دينيًّا، وما برح الأزهر منذ يومئذ ربيب السياسة وآلة الحكام السياسيين وسندهم.

الشيخ علي عبد الرازق

هناك أمور تحدث في الوطن قد يتم التوافق على مرورها بهدوء منعًا لنتائج أفدح وأوخم، لكن هناك أمورًا أخرى لا يمكن السكوت عليها مهما كانت النتائج؛ لأن الصمت أو الحديث الحذر ستكون نتائجه مدمرة؛ لأنها تتعلق بمصير الوطن ووجوده على صفحة التاريخ. وأهم تلك الأحداث الخطيرة الوخيمة العواقب، تلك الهزة الكبرى التي أحدثتها رواية «وليمة لأعشاب البحر» الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة إحدى هيئات وزارة الثقافة، وما لحق تلك الهزة من توابع متلاحقة شديدة الزلزلة. وهو الأمر الذي سنستثمره لدراسة ما هو أبعد وأجدى بالبحث في جذور المسائل ومسبباتها الكامنة. لذلك سنبدأ بالوقوف مليًّا، نُعمِل قوانين الفكر فيما حدث وما قد يحدث نتيجة امتداد الحدث في جذور عميقة تحت السطح الظاهر. نحاول الفهم والتحليل، وإعادة ترتيب الأحداث، للوصول إلى نتائج واضحة حول الأسباب والدوافع والأدوار الكامنة وراء الأحداث، وأصحاب تلك الأدوار، حتى لا يتكرر الحدث الهائل مرة أخرى وأخرى، فيجر على البلاد خرابًا ودمارًا، ومصر فيها ما يكفيها. فهو نوع من الأحداث التي لم يعد بالإمكان السكوت عنها أو على اللاعبين بنيرانها. وحيث إن صاحب هذا القلم لا يخشى أحدًا وليس على رأسه أي بطحة من أي نوع، ولا يملك أموالًا يخشى ضياعها ولا تمويلًا يخاف عليه من الانقطاع، ولا يحتاج لعلاقات بذوي نفوذ يخشى خسارة منافعهم، ولا يملك سوى قلمه وأوراقه وحريته التي يصر على تفعيلها بشجاعة لا تهاب أحدًا ولا تستأذن أحدًا، ويثق بأنه صاحب نصيب في تراب هذا الوطن سيأخذه حيًّا أو ميتًا، لهذا جميعًا سنلقي في هذه الدراسة قولًا ثقيلًا، لا يضع بحسبانه أية حسابات لأي شخص أو هيئة أو مؤسسة، سوى مستقبل يعيش فيه أبنائي زمنًا أفضل مما عشت، ومصلحة وطن هو فوق كل المصالح وفوق جميع الشخوص وفوق كل المقامات، وأغلى من كل القباب المقدسة.

وحتى نفهم ونحلل ونستنتج، لنكتشف أدوار اللعبة واللاعبين، علينا أولًا إعادة ترتيب الأحداث الأخيرة المؤسفة، وفك خيوطها المتشابكة حتى نكتشف أين تكمن العقد الرابطة بينها، وإلى أي يد ينتهي طرف الخيط، والعقول المدبرة التي تقف وراءه.

ظللنا طويلًا نختبر مدى صلابة الهامش الديمقراطي المسموح به في مصر إزاء ما كانت تقوم به صحيفة الشعب، ومع كل فتنة كبرى كانت تثيرها تلك الصحيفة كنا نطمئن النفس أحيانًا على ذلك الهامش وإمكانات اتساعه يومًا بعد يوم، مع صبر مفهوم من مؤسسات الدولة إزاء صحيفة لا تنشغل إلا بإشعال الحرائق في الوطن، وأخص بالذكر مقالات الطبيب «محمد عباس» الذي استمر ما يُنيِّف على عقد من الزمان يكتب ما لا يمكن تصنيفه ضمن أبواب النقد المثمر أو الأغراض الإصلاحية، بقدر ما كان لونًا من السفه والبذاءات المتكررة الدائمة. حيث كان يوزع الاتهامات الشنيعة دون وثائق إدانة ثبوتية واضحة على الجميع، بلون يشير إلى قلم مصاب بلوثة غير مسبوقة. ولم يسلم من لسانه الصحفيون ولا المبدعون ولا المثقفون ولا المفكرون ولا الوزراء ولا حتى رئيس الجمهورية ذاته.

ومع ذلك لم نسمع أن أحدًا قد قبض عليه وأودعه حبس المخابيل بسبب ما يكتب، ولم يتم إيداعه معتقلًا، وكان استمراره فيما يكتب حقيقة ليس طمأنة بقدر ما كان بيانًا وإيضاحًا لمساحة السماح للطرف الآخر في الحلف. واستمرأ هذا «العباس» لذة السعار فقام ينهش الناس في شخوصهم وشرفهم وأعراضهم بسب وقذف علني. وفي الوقت ذاته كان هذا العباس مع جوقة عصابة الإخوان بحزب العمل لا يملون رفع عقيرتهم بالغناء لما تحقق من إنجازات كبرى ودولة كاملة مثالية في السودان الممزق مع الدفاع الحار عن بلاد الأفغان ورجال طالبان.

وفجأة تكتشف صحيفة الشعب أن رواية «الأعشاب» بها عبارات تتطاول على الذات الإلهية وعلى القرآن وعلى نبي الإسلام، ومن ثم قامت بإطلاق مسعورها الملتاث ينفث سمومه في صفحة كاملة، زرع في كل سطر فيها قنبلة.

لكن السيد «عادل حسين» أمين عام الحزب (الذي أصبح مقر نشاط جماعة الإخوان المحظورة، تحت سمع الحكومة وبصرها) يفاجئنا مفاجأة أخرى، وهي أن أمر رواية «الأعشاب» كان معلومًا لديهم منذ صدورها أول مرة، لكن رد فعل الحزب كان مؤجلًا إلى حين، حيث كانت لديهم معارك تمهيدية يجب أن ينتهوا منها كمراحل تكتيكية؛ كمعركتهم مع اللواء الألفي والدكتور والي والدكتور صبور، ليصلوا إلى العمل الأعظم، حيث حان الوقت ودقت الساعة معلنة بداية المعركة الحقيقية والهدف المرتجى، وأن تلك البداية سيكون ظاهرها مع وزير الثقافة، وأن التأجيل الذي صبروا عليه طويلًا كان تكتيكًا مرحليًّا قبل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي الذي تمت دراسته بتأنٍّ وعمق من أجل تثوير شعب بكامله، بعد شحنه في المراحل التكتيكية السابقة، باستغلال العواطف الدينية المعلومة لهذا الشعب منذ رع وأمون مرورًا بيسوع المسيحية وإله الإسلام، وذلك بتأكيد السيد عادل حسين القائل: «إننا لا نعبر عن أنفسنا بل عن مبادئ الإسلام، والخارج عليها لن ترحمه الأمة.» وقوله «إن حزبنا يحتكم إلى شرائع الإسلام ومبادئه الأساسية.» لذلك كان تكراره لنداء عباس الملتاث «من يبايعنا على الموت والدم والاستشهاد»!

إذن فالهدف لم يكن إسقاط وزير الثقافة، بل إسقاط نظام الدولة برمته. وهكذا تصور حزب العمل وعصابة الإخوان وحلفاؤهم من أصحاب العمائم (الذين أثنى على مواقفهم زعماء جماعات الإرهاب الدموي في بيانات تأييد علنية) أن الثمرة أمست ناضجة وحان قطافها لاستلام إدارة شئون البلاد وإقامة الدولة المقدسة بعد إقصاء الحليف الحاكم، على ردم من الخراب بطول الوادي، وبالخوض في بحار الدم، وهو الأمر الذي نطقت به صحيفة الحزب ومؤتمره الحاشد دون تحفظ.

وكان تكتيك ساعة الصفر يعتمد أساسًا على حلف الإخوان وزعماء الإرهاب (بدليل بيانات التأييد) مع رجال الأزهر بالذات وبالخصوص، وهو الأمر الذي يعنينا هنا، فالآخرون وجوههم مكشوفة وأمرهم معلوم، أما الأزاهرة فهم من يحتاجون وقفة طويلة، بعد أن تجلى تحالفهم في أكثر من مشهد:

  • مشهد تواجد أكثر العمائم نكارة ودموية على منصة القيادة في مؤتمر الحزب الحاشد، وتحريضها السافر للجماهير على الانفلات والعصيان المدني، دون أن تَكنَّ أو تحتشم ولو من باب التقية التي مارسوا فنونها طويلًا، فكرسي السلطان قد بات قريبًا ولا خوف من حذر. وضمن تلك الوجوه الأزهرية، سواء على المنصة أم بين الحشد الجامع، كان مشايخ المنسر الذين كانوا وراء اغتيال الشهيد فرج فودة ببيان ندوتهم الذي أفتوا فيه بارتداده، وبالكتاب الذي أصدروه بعد استشهاده بعنوان «من قتل فرج فودة؟» يشرحون فيه مبررات الاغتيال. وكانوا وراء سيل الدم وقنابل الغدر بعد فتواهم باتجاهات الدولة غير الحلالية، وحرمة أموال السياحة وربوية أموال البنوك، فتفجرت القنابل عند البنوك، وانطلقت رصاصات الغدر تعجن طين مصر الطاهر بدم ضيوفها لتلطخ به وجوهنا أمام العالم، وتخرب بيوت مئات ألوف الأسر التي تعتاش من أرزاق السياحة، وتدمر اقتصاد الوطن وسمعته أمام العالمين، ناهيك عن استباحة دماء أشقائنا في الوطن من مسيحيين، وما جره على سمعة الوطن والإسلام نفسه أمام الرأي العام العالمي.

  • مشهد العمل السري لنسخ ألوف الصور من مقال عباس، وتوزيع الأدوار بين من يقومون بالنسخ ومن يقومون بتوزيع النسخ على طلبة وطالبات الأزهر. فإذا لم يكن هناك تحالف وعمل تحت الأرض، فلماذا تم ذلك في جامعة الأزهر بالذات ولم يتم في جامعات مصر الأخرى؟ ويقفز السؤال يطلب إجابة من الجهات الأمنية: من الذين خططوا؟ ومن الذين نفذوا وصوروا ووزعوا؟ ومتى وكيف تم تحديد ساعة الصفر؟

  • مشهد قيام رئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم بوصفه رئيسًا للجنة الشئون الدينية والاجتماعية بمجلس الشعب، بإذاعة بيان تحريضي سافر تحت قبة المجلس لتثوير أعضائه بالمرة، أقل ما يوصف به، مع كل الأدب الممكن، بأنه بيان هستيري أدان فيه الجميع، وطالب بمصادرة الرواية ومحاسبة مؤلفها وناشريها، بل والمطالبة بحرقها (؟!)، وهي العادة المألوفة في أمر رعاة شئون التقديس مع الثقافة عبر العصور الطويلة المظلمة، منذ المعتزلة حتى ابن رشد مرورًا بمصادرات هذا الزمان وقائمتها الطويلة.

  • اكتشفت العصابات المتحالفة خطأ حساباتها، بإعلان السيد عادل حسين فشل الخطة وانحسار نهر الدم المنتظر، في سوء تقدير للزمن، حيث كان الطلبة في جامعات مصر الأخرى منشغلين بأداء الامتحانات السنوية، ولولا هذا الخطأ لنجحت الخطة وغرقت مصر في دماء أبنائها. وساعد إفشال الخطة التحرك الأمني السريع بينما كانت بقية الوزارات تتخبط في إدارة الأزمة.

  • بعد فشل خطة التثوير الكامل لم يترك الحلف غير المقدس الفرصة دون تحقيق مكاسب في بدائل تم ترتيبها مسبقًا، فقد أصدر الأزهر عبر مجلسه البحثي بيانًا تم توزيعه في ذات اليوم على كافة وكالات الأنباء والمحطات الفضائية بسرعة قياسية مذهلة، وقد استثمر البيان ما حدث، ليضع مطالب أو ربما «أوامر» للحصول على مكاسب سريعة. بوضع مبدأ فرضه على الحكومة وعلى الناس، بطرق الحديد وهو ساخن، بفقرة تتحدث عن ضرورة عرض أي عمل أدبي أو ثقافي أو فني على الأزهر قبل نشره لبيان رأي الدين فيه (؟!). ولم تعد مهمة الأزهر قاصرة على مراقبة الأعمال الدينية، لإعلاء سلطان الأزاهرة، أحد أضلاع الحلف، فوق كل سلطان في الوطن، ليصبحوا المرجعية الأولى والأخيرة في كل شأن. وبعدها صرح شيخ الأزهر لمجلة روز اليوسف في ٢٠ / ٥ / ٢٠٠٠م بأن القانون ١٠٣ لسنة ٦١ بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها يقول: «إن الأزهر وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص للمصنفات.» وهو كلام أُلقي على عواهنه إلقاءً لأن هناك كلامًا كثيرًا حول هذا القانون بالذات لا يعطي الأزهر هذا الحق.

  • ومع الفشل الذريع الذي مُنيت به خطة خراب مصر جاءت بدائل أخرى جاهزة من نوع آخر، من قبيل رفع ستين عالمًا أزهريًّا نداء للسيد رئيس الجمهورية، يفزعون إليه بعد الله تعالى حماية العقيدة من العبث وحماية الأخلاق الفاضلة من الكتابات المغرضة التي تحاول إصابة الأمة في أثبت ثوابتها.

  • هذا ما كان عن تكتيك حلف العمل والإخوان والجماعات الإرهابية والأزاهرة في تذكرة فقط لم نناقشها بعد، فماذا عن موقف مؤسسات الدولة إبان الأزمة؟

    بعد ارتباك معهود ناتج عن خلل أزلي في فن إدارة الأزمات في حكومتنا الرشيدة، كلف وزير الثقافة لجنة من أكْفَاء نقاد الأدب في مصر، لكتابة تقرير حول الرواية النكبة. وتمت دعوة السيد الدكتور عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر ليكون عضوًا باللجنة، بعد أن أرسل إليه المجلس الأعلى للثقافة نسخة من الرواية للاطلاع. لكن سيادته لم يحضر، وسيادته لم يعتذر حتى عن عدم الحضور، فقد كان فيما يبدو مشغولًا بصياغة بيانه التثويري داخل مجلس الشعب دون أن يجهد نفسه بقراءة الرواية (؟!). وما حدث بعد ذلك كان أنكى وأمر، فقد قام السيد رئيس الوزراء بتحويل تقرير الأساتذة المتخصصين إلى رعاة التقديس الأزاهرة (؟!).

    ولا نعلم هل كان السيد رئيس الوزراء يطمح إلى إقناع الضلع الأزهري في حلف خراب مصر (الذي ما عاد يعلم من شئون الكون سوى حفظ النصوص وشروح المتون وفقه الحيض والنفاس وتوريث الرقيق)، بالتقرير الأكاديمي الرفيع، أم كان يطلب موافقة الأزاهرة على التقرير ووضع بصمة الأزهر الكريمة المباركة بجوار توقيعات أساتذة الأدب الكبار، أم تُراه كان يطلب الرضا والسماح من أهل السماح على الحكومة وغفران خطيئتها المبينة؟ وبدلًا من أن يتم تحويل أعضاء حلف خراب مصر إلى التحقيق، بوثائق إدانة معلنة بأفواههم في مؤتمرهم وبأقلامهم في صحيفتهم، تم تحويل أديب كبير مثل إبراهيم أصلان مع زملائه إلى المحاكمة بحسبانهم المسئولين عن نشر الرواية.

    إن هذه سقطة أخرى وكبرى من سقطات الدولة إبان إدارتها للأزمات يجب الوقوف عندها طويلًا لتقصي أسبابها، ولاستيضاح الأسباب الكامنة وراء ما آل إليه حال البلاد والعباد في مصر.

    في الأزهر تحديدًا تم تصوير ألوف النسخ من مقال «محمد عباس» المنشور بصحيفة الشعب، حول رواية «وليمة لأعشاب البحر»، وفي الأزهر بالتخصيص تم توزيع هذه النسخ على الطلبة والطالبات، ومن الأزهر بالذات انطلقت مظاهرات الغضب لطلبة لم يقرأ أحدهم الرواية التي خرج يتظاهر ضدها. وهو ما يشير إلى بشر تم انتزاع عقولهم وتحولوا إلى كائنات يكفي أن تُصدر لها همس التحريض أو مجرد الصفير ليصبحوا وحوشًا كاسرة. تُرى هل هم من ظلموا أنفسهم أم نحن الظالمون؟

    السؤال جِد هام وخطير، ويحتاج إلى إجابة واضحة ستأتي في موضعها من هذه الدراسة.

  • وأساتذة الأزهر هم من حرضوا الطلبة ثم جلسوا على منصة قيادة حزب العمل لتثوير مصر، ينادون جماهير مصر أن تبايعهم على الدم والهدم.

  • ورجال الأزهر هم من أسسوا ندوة تحولت إلى جمعية لها ملف طويل من المواقف المعلنة إلى جانب الإرهاب الدموي، ومن الفتاوى القادمة من قبور المحتضَرين وثقافة موتى التاريخ، لقبر أي تجديد أو اجتهاد أو أي محاولة للتكيف مع واقع الدنيا المتغير. وهو ما نتج عنه بالضرورة — وهم يعلمون سلفًا — إسالة الدماء الزكية، مع خراب للاقتصاد المصري في مرحلة تحول مأزومة. مما يشير إلى الارتباط تحت الأرضي بين أصحاب الفتاوى والأوامر الدموية وبين المنفذين.

  • ورجال الأزهر هم من شكلوا القسم الأعظم في عصابة الإخوان المحظورة منذ نشأتها الأولى، بل كانوا أعضاء في تنظيمها الدموي المعروف بالتنظيم السري، وهو ما يفسر لنا الارتباط الوثيق حتى اليوم مع جماعات الإرهاب ومع حزب العمل الإخواني.

  • والأزهر هو من تقلب، في انتهازية رخيصة فاضحة، مع تقلبات المؤسسة السياسية، فكان مع الحرب مرة ومع السلام أخرى، ومع الاشتراكية مرة ومع اقتصاد السوق أخرى. مما يشير إلى عدم احترام حقيقي وصادق للإسلام، بقدر ما هي منافع اقتصادية ومكاسب سياسية لا علاقة لها بدين ولا بوطن. فلا يزعمَنَّ لنا اليوم أنه راعي الدين المخلص بحلفه مع زعماء الإرهاب وإخوان حزب العمل.

  • ورجال الأزهر اليوم، هم النجوم اللوامع في سماء المحطات الفضائية التي تدفع لهم بسخاء، وهم أصحاب الجاه والوجاهة الاجتماعية، حتى باتوا يطلقون اسم من يدفع أكثر على قاعات أزهرهم، ويتهمون غيرهم بالفساد والارتشاء والعمالة للأجنبي.

  • ورجال الأزهر هم من أصدروا البيان الأخير القاضي بتحويلهم إلى مجلس رقابي أعلى على كل حركة أو سكنة في عقل الوطن، مستندين إلى نص القانون المدني القاضي بمعاقبة ازدراء الأديان، رغم أنهم لا يعترفون بالقانون المدني لأنه وضعي، في انتهازية رخيصة، لمحاكمة المبدعين والمفكرين. علمًا أن هذا القانون يُدين ازدراء الأديان وليس الإسلام وحده، ومع ذلك يؤلفون الكتب ويقررونها على طلبة الأزهر، وهي كتب تزدري كل دين أو فكرة خارج حدود فكرهم، إن جاز تسميته فكرًا، ويغرسون في أرواح طلبتهم كراهية إخوانهم في الوطن عبر دراسات يتم تدريسها خاصة في كلية الدعوة تزدري الدين المسيحي علنًا. فهل هناك انتهازية فاضحة كتلك؟ فينهون عن المنكر ويأتون بما هو أنكر منه (!)، ويستخدمون نصوص قانون وضعي لا يعترفون به، لنهش من يخالفهم بينما يكسرونه عيانًا بيانًا وبكل بجاحة؟

  • وبيانهم الأخير بعد أزمة رواية «الوليمة» يعني أنهم يطلبون لأنفسهم الوكالة عن الله في الأرض، بحسبانهم ممثلي الإسلام ونواب السماء، والمالكين وحدهم لمفاتيح الفهم الصحيح الوحيد لنصوص الدين؛ ليتحولوا إلى بابوات بيدهم مفاتيح الجنة والنار، يؤسلمون ويكفرون، ويطلعون وحدهم على المقاصد الإلهية إزاء أي مسلم يرى رأيًا يخالفهم في فهم نصوص الدين.

  • هم باختصار يطلبون كهانة رسمية ليست في الإسلام السني ولن تكون، ويطلبون عصمة لا نعترف أبدًا إلا أنها لله وحده لا شريك له. ومعلوم أن دار الإفتاء لم تقر بعصمة اجتهادات الأزهر ولا صحتها أصلًا في أكثر من موقف، وكلاهما من الرجال الأزاهرة.

والآن انظر معي قارئي إلى مدى الخبث والدهاء في مؤسسة تزعم أنها المعبِّر الطاهر للدين وللرأي المعصوم، بشكل لا يمكن توصيفه — مع كل الحذر الممكن — إلا بالاحتيال غير المحترم. فمنذ سنوات طلبت هذه المؤسسة الدينية مصادرة كتابي «رب الزمان» ومحاكمتي معه، بتهمة ازدراء الأديان، فبرأني القضاء وأفرج عني وعن كتابي، فماذا فعلوا بعدها إزاء الحكم النزيه؟

هناك أمر لا أفهمه ولا أفهم معاييره، حيث لا يمكن السماح في جمارك مصر بتصدير أي كتاب للخارج إلا بعد موافقة الأزهر (؟!) … لماذا؟ هل يخشون مثلًا تصدير ما يرونه كفرًا إلى بلاد الفرنجة في أمستردام ولندن ونيويورك حرصًا على الدين في تلك البلاد؟

وعندما تقوم مؤسسات التصدير الرسمية كالأهرام مثلًا (وهو ما حدث فعلًا) برفع قوائم بأسماء الكتب المطلوب تصديرها من تأليفي وتأليف غيري إلى الأزهر لأخذ الموافقة، فإن الأزهر يقوم بشطب كل أعمالي من بين الكتب الموجودة بالقائمة. وعندما طلبنا منهم إعطاء إفادة رسمية مكتوبة بالمنع وأسبابه رفضوا. وحتى تاريخ كتابة هذا الموضوع ما زالت أعمالي تُمنع من التصدير بهذا الأسلوب الرخيص في محاربة الأرزاق، وبهدف آخر أهم هو التعتيم على أعمالي ومنعها من الانتشار، رغم المعلوم أن ذلك لا يتم إلا بحكم محكمة، ومع ذلك فهو يتم بمعرفة جهات التصدير والجمارك والأمن معًا (؟!) فهل أفادنا المسئولون — يرحمهم الله — ما السبيل إلى الفكاك من هذا الفخ اللئيم، أم سيظلون في صمت القبور؟

انظر معي قارئي إلى لون آخر من رخص الأساليب التي يستخدمها نواب الله في الأرض في بيانهم الأخير الذي طلب محاكمة رواية «الأعشاب» وناشريها، مشفوعًا بإشارة إلى أن كاتب الرواية يسب فيها كل الملوك والرؤساء العرب، في تحريض وخبث فلاحي مضحك، رغم المعلوم أن الرواية تروي أحداثًا يُفترض تخيليًّا أنها قد حدثت في حقبة الستينيات (!).

وهو ذات الرخص والابتذال في التحريض الذي تضمنه تقريرهم ضد كتابي «رب الزمان»، حيث أشاروا للقاضي الذي سيحاكمني إلى أنني قمت بسب القضاء وقذفه بسبب حكمه في قضية نصر أبو زيد، وهو ما يعلمنا بوضوح أي عقل يسكن تحت العمامة، وأي ضمير يتمتع به العاملون تحت القباب المقدسة.

ثم انظر معي قارئي إلى الشيخ عبد المعز الجزار الذي كتب تقرير الإدانة لكتابي المذكور، يصرح في ١٩٩٦/٨/٢٩م لصحيفة المصور تصريحًا مذهلًا يقول فيه: «أنا حققت خلال الثلاثة شهور الماضية خمسين ألف كتاب» وضمنها كتابي «رب الزمان». وبحسبة بسيطة نجد الرجل الصادق ابن الأزهر (الشريف) قد قرأ خلال هذه الأشهر الثلاثة عدد ٥٥٥ كتابًا يوميًّا، واستوعبها ونقدها واتخذ القرار بشأنها (؟!). وبحسبة أخرى نجده قد قرأ كتابي وطلب إدانته ومصادرته ومحاكمتي، وما قد يجره ذلك إلى مجزرة اللئام، فقط في دقيقتين وعشرين ثانية (؟!) … هذا بالطبع مع عدم احتساب أوقات راحته وقضاء حاجات فضيلته البيولوجية ولذائذه الضرورية. فهل رأيت قارئي مدى أمانة وصدق الأزاهرة في إصدار الأحكام على الكُتَّاب والمفكرين؟

وعلى الجانب الآخر نجد أعضاء حلف خراب مصر المنتشرين في كل مكان، يأخذون تقرير الأزهر ضد كتابي وينشرون بعضه بمجلة اللواء الإسلامي (التي يصدرها الحزب الوطني) قبل إجراء المحاكمة أو الإدانة أو البراءة ليعلنوا لحراس العقيدة من حملة الرشاشات والسيوف في سبتمبر ١٩٩٧م تحت عناوين جذابة تلك الإعلانات: «رب الزمان: أحدث صيحة للفكر الضال، مشحون بالإسفاف والتجريح، ولم يسلم منه الأنبياء ورجال الدين». ولك أن تلاحظ مساواة التقرير بين الأنبياء ورجال الدين؛ ذلك التقرير الذي وصل إلى مجلة اللواء الإسلامي بمجرد صدوره، وظللنا نلهث وراءه لنعرف تهمتنا ولماذا نحاكَم، فلم نظفر به وطاشت جهودنا ولم نعرف بالتهم إلا أمام القاضي ونيابة أمن الدولة العليا.

ثم هناك أمر آخر علمته صدفة بالممارسة، وهو أمر شفاهي لا يتم أبدًا بشكل رسمي مكتوب؛ لأنه ببساطة غير قانوني ولا دستوري، فعلى أي مطبعة في مصر أن تقوم بإحالة أي كتاب يصلها، خاصة من أمثالي، إلى مباحث أمن الدولة، التي ترفعه بدورها إلى الأزهر ليوافق عليه أولًا، وبعد ذلك يأذن أمن الدولة تليفونيًّا لصاحب المطبعة بالطباعة، ويا ويله وظلام ليله لو لم ينفذ صاحب المطبعة تلك الأوامر الشفاهية. فهل من إجابة يا أصحاب السيادة المسئولين عن تفعيل مواد القانون والدستور؟ … لقد كانت هذه تجربتي الخاصة عندما قررت طباعة أعمالي بنفسي، ووقع صاحب المطبعة بيني وبين أمن الدولة في حيص بيص، ولولا زيارة من جانبي لأمن الدولة لتوقفت أعمالي داخل أروقة الأزهر تنتظر الرفض المؤكد، ولا أظن أن أمن الدولة قرر السماح للمطبعة بطباعة أعمالي لسواد عيوني وهيبة مشهدي المتواضع، إنما بعد مناقشة جادة واضحة لا تقبل لبسًا، أوضحت فيها معرفتي لحقوقي وكيف يمكنني الدفاع عنها بشكل علني سافر.

إن هذا جميعه ليس عرضًا لأمور شخصية، بل هو الأمر الذي يتعرض له جميع مثقفي هذا الوطن دون سند من قانون ولا دستور، وهو أيضًا محاولة للوصول إلى الأسباب التي أدت بالأزهر إلى بلوغ هذا السلطان العظيم ليصبح بهذا التورم الهائل القابع فوق قلب الوطن وعقله مصيبًا إياه بالشلل التام. ومن هنا وجب البحث عن العلة، والتعرف على أسبابها.

لولا ظروف تاريخية بعينها لكان المسجد الأزهري كأي مسجد آخر في الديار المصرية، فقد أنشأه الاستعمار الفاطمي لمصر، حتى يكون بوق دعاية سياسية للسلاطين الفاطمية، ومذهبهم الشيعي، وكان ذلك عام ٩٧٠ ميلاديًّا.

وبزوال الاستعمار الفاطمي، وعودة الاستعمار العباسي السني المذهب على يد الكردي العِرق «صلاح الدين الأيوبي»، تم إغلاق هذا المسجد بالضبة والمفتاح. وإبان صراع العبيد؛ المصطلح على تسميتهم المماليك (المستجلبين من بلاد الترك والديلم والألبان)، على الحكم والسلطان في مصر، تمكن العبد (الظاهر بيبرس) من حكم مصر سنة ١٢٦٠ ميلادية. ولما كان بحاجة سريعة لمسجد يدعو له ويضع لحكمه المشروعية، قام بإعادة فتح المسجد الأزهر مرة أخرى لنفسه، كي يتم الدعاء له فيه كحاكم شرعي باسم الإسلام ومشايخ الإسلام الأزاهرة. وجعل منه الجامع الأول الرسمي في مصر، المتحالف مع السلطة السياسية. إلى أن جاء إلى البلاد احتلال آخر باسم الإسلام هو الاحتلال العثمانلي سنة ١٧٦٠ ميلادية. لكن هذا الاحتلال ظل مؤرَّقًا بنفوذ وقوة المماليك الذين بنوا مساجد لأنفسهم مثل مسجد قلاوون ومسجد برقوق وغيرهما، مما اضطر العثمانيين، بعد ١٥٠ سنة من الاحتلال، إلى إصدار فرمان سلطاني بتحويل المسجد الأزهر إلى المؤسسة الدينية الأولى في مصر، وإعلانه المسجد الرسمي التابع للسلطنة مباشرة، ويُدعى فيه فقط للسلطان العثماني، وأقيمت فيه مشيخة ذات تراتب وظيفي عُين على رأسها أول شيخ رسمي للأزهر هو الشيخ الخراشي. وحُددت وظيفته بالولاء للسلطان، وتنظيم أمور المسجد، والإشراف على أوقافه، ورئاسة شيوخه؛ لتمكين السلطان من استخدام الدين للسيطرة على البلاد في مواجهة التمرد المملوكي الدائم.

وعند دخول الحملة الفرنسية مصر شارك الأزهر في مناهضتها، لكن نابليون أدرك أهمية هذه القيادات الدينية فأشركها في ديوان الإدارة الذي أسسه، ومن بينهم من كتب قصائد الشعر الغزلي المكشوف غرامًا وصبابة في ضباط نابليون وعيونهم الزرق وشعرهم الذهب. وجاء الإنجليز ليحتلوا مصر بعد الفرنسيس، والأزهر على حاله ومكانته، حتى استولت حركة عسكر الجيش على السلطة في عام ١٩٥٢م، وهنا بدأ عهد آخر للأزهر وبدأ نجمه في الارتفاع والسطوع، حيث احتاج العسكر إلى الأزهر اكتسابًا للمشروعية، وحدث بينهما الزواج والوصال. وهكذا تقلب الأزهر ما بين شيعي وسني، وبين مملوكي وعثمانلي، وبين فرنساوي وإنجليزي وملكي، وبين محافظ وثوري، لكن مع يوليو ٥٢ أصبح شأنه شأنًا، فقد أصبحت مشيخة الأزهر تتم بالتعيين من رأس المؤسسة الحاكمة، وأصبحت مهمته تبرير توجهات الجهاز الحاكم السياسية، مقابل مِنح وأُعطيات ومقامات رفيعة عالية، إضافة إلى قوانين تعطي الأزهر بعض السلطات، مثل القانون ١٠٣ لسنة ١٩٦١م بشأن إعادة تنظيم الأزهر. ومعلوم أن تلك الأعطية بالذات وبالتحديد كانت مقابل سكوت الأزهر عن القوانين الاشتراكية، بل ودعمها وتأسيسها في جذور الإسلام.

وقد نص هذا القانون على حق الأزهر في «البحث في الدراسات الإسلامية، وتجديد الثقافة الإسلامية، وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي، وتوسيع نطاق العلم بها، وتحقيق التراث الإسلامي ونشره.»

أما الفقرة التي يستند إليها أزاهرة اليوم في حق الرقابة والمصادرة، فتستند إلى آخر نص مبهم في هذا القانون يقول: «وبيان الرأي فيما يَجِدُّ من مشكلات مذهبية واجتماعية تتعلق بالعقيدة.» وهو ما لا ينطق بما نطق به شيخ الأزهر الدكتور طنطاوي لمجلة روز اليوسف في قوله إن القانون ينص على «أن الأزهر وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص للمصنفات الفنية.» وهو الأمر الذي يذكرنا دومًا بدور الأزاهرة في ألاعيب السياسة، وهو ما تكرر مثله عندما أطلق السادات يد الأزاهرة والإسلاميين المتشددين في كل ساحات مصر تمهيدًا لقبولهم صلحه مع إسرائيل، وقام بتوسيع فقرة الشريعة الإسلامية بالدستور لتصبح هي المصدر الرئيسي للتشريع. وهي التي يستند إليها كل من هب ودب من اللاعبين بالدين والمشتغلين بالسياسة وبالنار، رغم أن هذه الفقرة مع قانون ٦١ بشأن الأزهر قرارات ذات أسباب مرحلية مؤقتة كان يجب أن تزول بزوال أسبابها … لكن الأزهر كان قد أصبح أزهرَ آخر ولم يعد ذلك المسجد الذي أغلقه صلاح الدين بكل بساطة، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة أخرى شارحة مفصلة.

نتابع إذن ما حدث من زواج ووصال بين العسكر وأصحاب العمائم الأزهرية منذ يوليو ١٩٥٢م حتى الآن، حيث تم منح شيخ الأزهر لقبًا عظيمًا فخيمًا هو «الإمام الأكبر» فأصبح هو الإمام فوق كل إمام، وصار هو صاحب الرأي في كل ما يتصل بشئون الإسلام، وباختصار أصبح هو المسئول عن الإسلام في الأرض.

وقبل عقد الزواج المتين هذا، لم يكن في مصر كلها سوى سبع مدارس ابتدائية وثانوية تتبع الأزهر في كل أصقاع مصر، أُطلق عليها من بعدُ (تفخيمًا) لقب «المعاهد الأزهرية». ولك أن تندهش، أو تُصعق إن شئت، عندما تعلم أن عددها الآن قد أصبح ينيف على ستة آلاف معهد، إضافة إلى ٢٨٠ معهدًا عاليًا للعلوم الدينية وحدها (؟!)، مع ملاحظة هامة وخطيرة هي عدم تبعية هذه المدارس أو المعاهد لوزارة التربية ونظمها على الإطلاق.

ثم لك أن تعلم أن عدد تلاميذ المراحل قبل الجامعية بهذه المدارس قد بلغ مليونًا ونصف مليون تلميذ، تم احتضانهم في عمليات عسكرة إلى معسكرات مثل: معسكر عمر بن الخطاب ومعسكر أبي بكر الصديق بالإسكندرية.

ثم تم تحويل الأزهر من جامعة لاهوتية تختص بأمور الدين وعلومه إلى جامعة كاملة فيها كل ألوان العلوم الدنيوية من كليات الهندسة إلى الطب إلى العلوم إلى الصيدلة، إضافة إلى ثلاث عشرة كلية لها فروع أخرى بالمحافظات، وشرطها الأول لقبول الطالب أن يكون مسلمًا. وبذلك قامت بتخريج ألوف الخريجين الموزعين في مؤسسات الدولة على أساس عنصري وطائفي كامل.

أما عدا ذلك فليست هناك أية شروط، فمصروفات تلميذ المرحلة قبل الجامعية في المعاهد الأزهرية ٢١٠ قروش، وتصل المصروفات السنوية الجامعية للطالب إلى خمسة جنيهات.

وأقام الأزهر لنفسه لائحة نظام خاصة غير مسبوقة ولا مكررة في أي دار علم أخرى؛ فلطلاب الثانوية الأزهرية الحق في دخول امتحان دورٍ ثانٍ في أربع مواد، بالإضافة إلى مادة القرآن الكريم (؟)، وذلك إذا فشل الطالب في اجتياز الدور الأول. أما جامعات الأزهر فتستوعب جميع الناجحين في مدارس الأزهر حتى لو بلغت درجاتهم الحد الأدنى فقط للنجاح. ومن ثم ضم الأزهر جميع الفاشلين علميًّا ليلقنهم فنون التطرف والعنصرية والطائفية، ويُخرِّج ١٢٪ من نسبة خريجي التعليم في مصر جميعًا، مشكِّلًا بهم بنيته التحتية وميليشياته وقت الحاجة، الذين يدينون له بالفضل والولاء العظيم، ويمكن تحريكهم بإشارة أو بصفارة كما حدث في فتنة «الوليمة» التي دبرها حلف خراب مصر.

وإبان الأزمة الانتقالية التي مرت بها مصر من اقتصاد مِلكية الدولة الملقب بالاشتراكي إلى نظام السوق (وهي الأزمة التي كان لا بد أن يمر بها أي وطن في نفس الظروف)، استشعر رجال الأزهر مدى حاجة الدولة إليهم لتبرير توجهاتها الجديدة. وزاد الطين ظهور جماعات الإرهاب الدموي، مما دفع الدولة أكثر إلى قبضة الأزهر في حاجة لمؤسساتها الدينية لإثبات أن الدولة أكثر حرصًا على الدين من المتطرفين. بينما كان الأزهر يستشعر كل يوم قوته، ويلعب لعبة مزدوجة، يصدر معها بيانات التأييد للدولة، ثم بيانات التأييد للإرهاب.

وهكذا أدرك الأزاهرة مدى ضعف مؤسسة الحكم وهشاشتها في تلك الفترة الانتقالية، وأدركوا فرصتهم السانحة ليفرضوا وجودهم على الدولة كقوة مشاركة في صياغة القرار السيادي، وليس فقط مجرد مشايخ للتبرير، وكان مشهد الشيخ شعراوي — تجاوز الله عن سيئاته — وهو يربت فجأة فوق كتف الرئيس مبارك، بعد محاولة الاغتيال الآثمة في أديس أبابا أمام عدسات التليفزيون العالمية، يحمل أكثر من مغزًى ومعنًى ودلالة، في حركة لا يسمح بها أبدًا موقع الرئيس ولا أصول البروتوكول، ومررها الرئيس بتسامح وحكمة احتاجهما الموقف. ثم أخيرًا جاءت أحداث الوليمة ليجازف الأزهر بمشاركة بعض رجاله في حركة التثوير الفاشلة التي تمت تحت راية حزب العمل.

ولنا أن نلاحظ أن طلاق بينونة صغرى بين المؤسستين السياسية والدينية قد بدأت بوادره عندما بدأ الأزهر يصدر بيانات وفتاوى تخرج تمامًا على إرادة الدولة وسلطتها (رحم الله شيخ الأزهر جاد الحق وتجاوز عن سيئاته)، كما أصبح بإمكان مشايخهم في كل القرى والنجوع الوقوف ضد إرادة الدولة في تحديد النسل والسياحة والبنوك، وأصبح بإمكانهم صناعة مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة كندوة علماء الأزهر التي تحولت لتحمل اسمًا له مغزًى، فأصبحت «الجبهة». وتمكنوا من إنشاء مدارس دينية مستقلة. إضافة إلى عشرات الصحف والمجلات ودور النشر وشركات الكاسيت، بل وإقامة شركات اقتصادية متكاملة، بعد أن حصلوا على الاستقلال الاقتصادي بخروج شيوخهم إلى دول النفط، وحصولهم على التمويل اللازم ببذخٍ قلَّ نظيره، ثم إنشائهم منظمات عالمية كمنظمة رابطة العالم الإسلامي، ناهيك عن التمويلات الشخصية السرية.

وكان التزايد العددي الهائل مع التسامح في قبول الفاشلين في الدراسة الثانوية العامة وتأهيلهم عنصريًّا وطائفيًّا في معهد الإعداد والتوجيه، ثم التحول بهم إلى تخصيصهم سنة تمهيدية بالأزهر قبل الانخراط بالكليات العلمية بالأزهر أيضًا لتلقينهم فنون العنصرية الطائفية … كل هذا له دوره في إيجاد منظومة كبرى قوية تشبه منظومات العسكر التي لا تملك عقلًا للتفكير بقدر ما تطيع فقط الأوامر. وهو ما يذكرنا بالضباط الذين كانت تخرجهم الكليات الحربية بعد قبولهم فيها بأدنى المجاميع من الدرجات العلمية، فكان ما كان من خسائر ودمار أمام عدو جاءت به مثل تلك السياسات إلى حدود الدلتا الشرقية في عام ١٩٦٧م.

وللعلم، فقد وصل عدد الشيوخ الأزاهرة في مصر إلى خمسمائة ألف شيخ، ينتشرون في ١٩٠٠٠٠ مسجد وزاوية حسب إحصاء عام ١٩٩٢م، إضافة إلى ١٢٠٠٠٠ أزهري يقومون بالتدريس في مدارس الأزهر قبل الجامعية، إضافة إلى خريجي الكليات الأخرى كالهندسة والطب الذين يدينون بالفضل في وظائفهم وألقابهم إلى الأزهر.١

فهل تعلم الدولة هذه الحقائق المرعبة، أم هي لا تدري بها؟ وهل الثمن المدفوع للدولة من قِبل الأزهر يقابل ما كان يمكن حدوثه لو انفلت أمر المظاهرات ونجح حلف خراب مصر، وهو الأمر الذي يمكن حدوثه في أي لحظة؟

وهل الأكثر أمنًا وأمانًا أن تظل الدولة بحاجة لمشايخ التبرير الديني، أم إلحاق كل تلك المعاهد بوزارة التربية وعودة الأزهر لدوره الديني، مع تواصل الدولة مع شعبها تمنحه الحقائق وتطلب منه المشاركة في تجاوز الأزمات؟ وهل الأسلوب المتبع حتى الآن في الإعلام والتعليم العام، والذي يقوم بالتخديم على ذات المبادئ، سواء ذعرًا (وهنا مصيبة) أو إيمانًا بها (وهنا المصيبة الأعظم) … هل هذا الأسلوب يمكن أن يخدم أهداف الدولة المدنية المرتقبة المترافقة بالضرورة مع نظام السوق؟ إن الملاحِظ والمتابع سيكتشف أن الإعلام والتعليم قد هيأ الشارع بعد أن مُحي وعيه لأى انفلات قد تقوده أحلاف الخراب، بعد أن ظل هذان الجهازان يزايدان على تيارات الإسلام السياسي لإثبات التحاء الدولة وتدينها.

ويبقى السؤال الأخطر: هل كانت المظاهرات وكل ما حدث بسبب كلام فلوت في رواية لكاتب سوري؟ أم أن المناخ كله (نتيجة سوء السياسات) قد تهيأ لخراب مصر؟

وبعد صدور بيان الأزهر الأخير إزاء المثقفين والكتَّاب، نقف نتساءل هل يملك الأزهر بالفعل الحقيقة الكاملة والمطلقة في كل قضية، وأن مثقفي هذا الوطن معتوهون ومعوقون بالكامل وبحاجة إلى هذه الوصاية البغيضة؟ وهل يتصل الأزاهرة بالسماء عبر وحي متصل ما زال يحمله الملاك جبرائيل، أم أنه قد رُفعت الأقلام وجفت الصحف؟

لقد كانت سلسلة المصادرات السابقة تحتج باجتهادات المفكرين فيما يخص البشر من شرائع الدين، لكن الأستاذ عادل حسين أعلن على قناة الجزيرة الفضائية في برنامج الاتجاه المعاكس بتاريخ ٢٠٠٠/٥/٣٠م أن ثورته مع حزبه وأزاهرته كان لها سبب آخر، حيث إن الروايات تطاولت على الله نفسه، وهو الأمر غير المسبوق، لهذا كانت المبايعة على الموت والدم والهدم والخراب.

وهنا لا نجد سوى استفسار شديد البراءة: ما دمتم تحتجون قبل ذلك في المصادرات بالدفاع عن الشريعة، وما دام الأمر وصل هذه المرة إلى الاعتداء على الله نفسه، فلماذا لا تتركون الله يدافع عن نفسه؟ ولنا في عبد المطلب بن هاشم أسوة حسنة عندما قال لأبرهة الحبشي: «رد عليَّ إبلي فللبيت رب يحميه» … لماذا إذن لا تتركون الله يدافع عن نفسه بنفسه حتى يعود عصر المعجزات والطير الأبابيل؟ ولماذا تعكسون الأوضاع بعد أن قال تعالى في كتابه الكريم: إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (الحج: ٣٨) وليس العكس (؟!)، ولماذا تصرون أن عليكم حقًّا جهاديًّا بتوحيد كل الألوان والأفكار والتباينات، بينما القرآن الكريم قد أقر أن التعددية والاختلاف والتمايز قرار إلهي بحقوق الإنسان، في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (المائدة: ٤٨).

وهنا لا بد أن يطرح المؤمن إيمان العوامِّ أسئلته المترتبة على ما سبق:

لماذا يا أزهر، وقد أنعمت عليك مؤسسة الحكم وأغدقت، فرفل رجالك في النعيم، وأصبحوا نجومًا ذوي أبهة ومنازل اجتماعية رفيعة؟

لماذا يا أزهر وقد أنعموا عليك بلقب «الشريف» وجعلوك رمزًا للإسلام، رغم أنه لا يوجد في صحيح الإسلام رموز، ولا يوجد في القرآن كله ولا في الحديث كله شيء اسمه الأزهر ولا رجال الأزهر؟

لماذا يا أزهر وقد سمحوا لك بجعل معاهدك وجامعتك مأوى لكل فاشل دراسيًّا، ثم أنعموا على خريجيك بلقب العلماء، ومن يومها اختفى من بلادنا علماء الفيزياء والكيمياء والأحياء ولم يبق سوى علمائك، ورضينا بهم قسمة وحظًّا ونصيبًا؟

لماذا أيها «الشريف» وأنت تتقلب كل مرة في النعيم مع تقلبات المؤسسة السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وبالعكس، ولم يسألك أحد يا شريف عن تقلباتك أو سؤالك عن موقعك من صحيح الإسلام؟

لماذا يا أزهر؟
أسئلة إجاباتها لا شك معلومة لدى جهاز الدولة الحاكم، وهو بها أدرى.
١  للمزيد حول هذه الحقائق المرعبة ارجع إلى أعمال الدكتور كمال مغيث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤