الفصل السابع عشر

لفتات الذكرى

لم يكن طومان ابن أخي الغوري هادئًا ساكن النفس في هذه الأيام، إنَّ في رأسه خواطر تصطرع، وإنَّ القلق ليتوزَّعه ويذهب به مذاهبه؛ لأنه لا يكاد يعرف أين هو من دنياه هذه التي تموج بالأحداث …

إنَّ العادل طومان باي اليوم يجلس على عرش قايتباي العظيم بالغدر والخيانة وسفك الدم، وما أعظمها سخرية أنْ يكون دواداره الكبير هو قنصوه الغوري، وأين العادل طومان باي من الغوري؟! أهذا الذي كان منذ سنوات مملوكًا من المماليك الخاصة — حين كان الغوري أميرًا له شأن وقدر وسابقة — يثب إلى العرش على أشلاء ثلاثة سلاطين، ولا يجد الغوري حرجًا في أنْ يكون دواداره؟ يا للدوادار الشيخ! هل نالت منه السنون وهدت عزيمته حتى رضي لنفسه هذا المقام؟!

ولكن ما له وللسياسة وأساليبها الملتوية؟! لقد نفض يده منها منذ أغفل عمه مشورته واستقل برأيه، فليس به اليوم نزوع إليها ولا فكر فيها، فليستقل عمه بتدبيره ولينظر هو في أمر نفسه، إنه منذ بعيد لم يلقَ صاحبته شهددار بنت أقبردي، ولم تختلف إليها جاريته، إنَّ بينها اليوم وبين السلطان سببًا، أليست خوند فاطمة بنت العلاء — زوج السلطان — خالتها، وأين له اليوم أنْ يلقاها أو يرسل إليها رسوله، ثم إنها حتى اليوم لم تزل في نظر عمه الغوري بنتَ أقبردي الدوادار، الذي كان الغوري يخاصمه يومًا ما، فمن أين لطومان أنْ يلتمس عند عمه المعونة على ما يلقاه من حبها؟! وهل يرضى الغوري لابن أخيه أنْ يكون زوجًا لبنت أقبردي؟ أم تراه يستعين على أمره بمصرباي؟ ولكن مصرباي اليوم في منزلة أخرى، إنها طريدة الجالس على العرش، فما في طوقها أنْ تكون عونًا له على الوصول إلى بنت أخت السلطانة.

ما هذا؟! أكلما حاول أنْ يفر من حديث السياسة والفكر فيها، رأى نفسه منساقًا إليها من حيث لا يدري، غارقًا في لجتها المائجة؟!

وثقل عليه ما يحمل من همٍّ، فاتخذ طريقه إلى كوم الجارح، يلتمس عند شيخه أبي السعود شيئًا من الرَّوْح والاطمئنان وهدوء البال. ولأول مرة منذ تعود أنْ يلقى شيخه في حلقته، لم تقع عينه على أرقم خادم الشيخ، ودار بعينيه فيما حوله ومن حوله فلم يعثر به، وكان شيخه يرقبه، فقال باسمًا: أحسبك تريد أنْ تسأل عن أرقم؟

فاحمرَّ وجه طومان وأجاب: نعم، إنني لا أراه هنا اليوم!

قال الشيخ ولم تزل على شفتيه ابتسامته: ولعلك لا تراه بعدُ، لقد فارَقَنا مغضبًا منذ أيام، وأحسبه لن يعود.

ثم صمت برهة وعاد يقول: إنَّ أرقم صندوق مغلق على ما فيه من غيب الله، لم يطلع على سره أحد، لست أنكر أنه من أهل الصلاح والتحرُّج، ولكن به إلى ذلك نزغات شيطانية يجب أنْ تخلص من مثلها قلوب أهل الصلاح والخير …

وبدا الاهتمام في وجه طومان، وسأل شيخه: تعني يا سيدنا أنَّ وراء مظهره ذلك حقيقة خبيثة!

قال الشيخ مستغفرًا: معاذ الله! ولكنه على صلاحه وتحرُّجه لا يسلم من بوادر الغضب، وأحسب أنَّ له ماضيًا يجتهد لإخفائه أو لنسيانه؛ فإن له أحيانًا سبحات خيالية تتراءى في عينيه بعض صورها ثم يمحوها الدمع … وإنه أحيانًا ليحب أنْ يأكل لحم بعض الناس …

قال طومان: أمَّا هذا فنعم، وقد تحدَّث إليَّ مرة فلم يتحرج أمامي أنْ يذكر عمي قنصوه بما يسوءني، ولكنه رجل منكوب فليس عليه حرج أنْ يسخط حظه، وأنْ يجري على لسانه بعض ما يكره الناس.

وغادر طومان مجلس الشيخ كما دخله، لم يتفرج من همه أو يتخفف من أثقاله، فإنه لفي بعض الطريق وقد جاوز الرملة إذ وافق خاير بك خارجًا من دار أقبردي يوفض في السير عجلان.

ولأول مرة منذ افترقا في خان مسعود بحلب قبل اثنتي عشرة سنة التقى خاير بك وطومان، وكان لقاؤهما عند دار مصرباي الجركسية، في مثل موقفهما ذات صباح هناك، أمَّا طومان فقد عرف صاحبه كأن لم يفارقه إلَّا منذ اليوم، وأمَّا خاير فأنكر ذلك الوجه. لقد كان طومان في ذلك الماضي غلامًا أمرد نحيل البدن، وإنه اليوم لشابٌّ قد بلغ مبلغه من النضج والقوة، وهتف طومان وقد مد يده باسمًا: أفلست تعرفني يا خاير؟ إنني أنا طومان …

وعاد الزمان القهقرى فرد الرجلين إلى ذلك الماضي برهة، ثم عاد كلٌّ منهما إلى مكانته، وجاوبت ابتسامةٌ أختها وتعارفا، ثم تدابرا، ومضى كلٌّ منهما يفكر في شأن صاحبه، أمَّا خاير فتذكر تلك الكلمة التي قالها له طومان في ذلك الصباح البعيد على باب الغرفة التي تجلس وراءها مصرباي: اذهب حيث تشاء فلا بُدَّ أنْ نلتقي يومًا!

فانقبضت نفسه لهذه الذكرى، وركبه الهم وتوزعه القلق، وأمَّا طومان فلم يتمثل في تلك اللحظة إلَّا مصرباي جالسة بين يدي أستاذها جقمق في غرفته من خان مسعود بحلب، وفي وجهها أمارات القلق واللهفة، وخاير بن ملباي يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة، ثم عاد يتمثلها في قصرها هذا الأنيق جالسة بين يدي مواشطها، تتهيأ لاستقبال ذلك الضيف … فانقبضت نفسه لهذه الصورة أكثر مما انقبضت نفس صاحبه ذاك لتلك الكلمة التي لفظتها شفتا طومان منذ سنين.

وضاق طومان بهمه، وازدحمت عليه الخواطر المؤلمة تدفعه من حال إلى حال شرٍّ منها، فاتخذ طريقه إلى شمال المدينة يلتمس فرجة في الخلاء عند بساتين قبة يشبك، فلما انتهى إلى حيث أراد، ترجل عن فرسه ودخل القبة فصلى صلاته، ثم خرج إلى البساتين النضرة راجلًا يجتلي بهجة النفس، وقرة العين في مناظرها الفاتنة.

ثم عاد إلى فرسه فشدَّ لجامها ووضع رجله في الركاب، وتأهب للعودة إلى دار عمه، وفجأة قفزت إلى خاطره صورة أرقم، ذلك المسيخ المنكوب الذي اصطلحت عليه هموم الدنيا فليس له نصيب من سعادتها، فودَّ لو لقيه في تلك الساعة؛ ليخفف عنه بعض ما يلقى من أنكاد الحياة، ويحاول أنْ يصلح بينه وبين شيخه. وعجب طومان لنفسه، ماذا أذكره أرقم في تلك الساعة وأحضر في خياله صورته تلك، وإنها لبغيضة المنظر إلى جميع من يراه؟!

ولو أنَّ طومان حين سأل نفسه هذا السؤال قد مدَّ عينيه إلى قريب، لرأى أرقم جالسًا في ظل سرحة فينانة، وبين يديه منديل مبسوط قد فُرِشَ عليه رمل أصفر، وراحت أصابعه تخط عليه خطوطًا متوازية ومتقاطعة، وأحاط به حلقة من الناس يستنبئونه الغيب …

لقد أصبح أرقم رَمَّالًا منذ فارق شيخه أبا السعود الجارحي مغضبًا، ولم يجد في نفسه حرجًا من احتراف هذه المهنة حين ضاقت به أسباب العيش، وعزَّ عليه أنْ يحصل على الرزق الحلال! وماذا عليه في أنْ يكون رَمَّالًا كأبي النجم، يجفف دموع المحزونين، ويمسح على قلوب البائسين، ويهب لليائسين الصبر والأمل، وأي عمل أكثر مثوبة عند الله من ذاك؟! ليته يؤمن بمثل ما يؤمن به الناس؛ ليجد من يجفف دمعه، ويمسح على قلبه، ويهب له الصبر والأمل!

ورأى أرقمُ طومانَ وهو يهم أنْ يعتلي فرسه، فأتبعه عينيه حتى غاب، ونفذت صورته إلى خاطره ولم تره عيناه، ورأى أهل الحلقة أرقم وهو يرفع عينيه ويدور بهما نحو الطريق الذي سلكه طومان، فلم يظنوا إلَّا أنها سبحاتٌ رُوحية تتمثل في نظرة عينين، فأمسكوا عن القول حتى عاد إليهم من سبحته، ومضى فيما كان فيه من تخطيط وتخليط.

وبلغ طومان دار عمه وهو متعب مكدود الفكر والجسد، فأوى إلى فراشه ساعة لينام، وفي خياله صور شتى وخواطر متضاربة، ولكنه لم يلبث أنْ نام …

وانتقلت خواطره في النوم إلى البعيد البعيد، وحضرته صورة أخرى لم تحضره منذ سنين، صورة امرأة تشبه نوركلدي شبهًا بعيدًا، لولا ذبول في عينيها، ونحول في جسدها، وشحوب في وجنتيها، وشعرات بيض في رأسها تلوح وتخفى، كما يهتز الشعاع على سطح الماء في ليلة حالكة السواد …

وكانت في ثياب الحداد، مُلَثَّمَة لا يبدو من وجهها الشاحب إلَّا عينان تبصان، وإنها لتقتلع أقدامها اقتلاعًا في بادية رملية سحيقة، ليس وراءها إلَّا الرمال، وليس أمامها إلَّا الرمال، وقد أصابها الكلال والظمأ في تلك الطريق الطويلة الشاقة، فإنها لتنظر حواليها فلا ترى أحدًا، وتنظر أمامها فلا ترى أحدًا، ولكنها لم تنظر وراءها قط، كأنما عاهدت نفسها أنْ تموت أو تبلغ آخر هذه الطريق.

وأحست بالضعف والوهن، فهتفت وإنَّ حلقها ليكاد ينشق: ولدي طومان!

فدوى الصوت في أرجاء هذه المتاهة العمياء، ثم ارتد إليها الصدى، فكأنما سمعت في أطوائه جواب النداء، فاستمدت من عزمها قوة، واستمرت تمشي وهي تقتلع أقدامها اقتلاعًا في رمال تلك البادية السحيقة …

وهَبَّ طومان من نومه مذعورًا يتلفَّت، كأنما أيقظه ذلك الصوت البعيد البعيد تهتف به امرأة غاب وحيدُها، فلم تزل على الطريق إليه منذ بضع عشرة سنة!

وهتف طومان وهو يدير عينيه فيما حوله بين جدران أربعة: أمي نوركلدي!

فلم يتردد له صدى، ولكن صوته اخترق الأبعاد، واجتاز المسافات، وقطع الطريق من غرب الأرض إلى الشرق أسرع من الشعاع النافذ، فإذا أمه تسمعه هنالك، فتستأنف سيرها في ذلك الطريق الطويل الموحش، معتزمة مصممة؛ لتبلغ حيث أرادت، وتلقاه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤