الفصل الحادي والثلاثون

الثأر

هل كان سليم ابن عثمان يعبئ جيشه لحرب الصفوية أو للغارة على بلاد مصر؟

وهل كان مقدم الغوري في جيشه ذاك؛ ليحاول الصلح بين ابن عثمان والصفوي — كما زعم — أو ليتأهب للدفاع عن حدود بلاده؟

ذانك هما السؤالان اللذان كانا يترددان على شفاه العسكرين في تلك الأيام الشداد، وكان الغوري والسلطان سليم يحاول كلٌّ منهما أنْ يخدع صاحبه ليخفي عنه مقصده حتى يستكمل أهبته، ولكن الجواب الصريح لم يلبث أنْ جاء الغوري على لسان سفيره مغل باي، حين عاد من بلاد ابن عثمان حَلِيق اللحية خلق الثياب على رأسه طرطور، وتحته حمار هزيل لا يكاد يقله، وكأنما لطمه السلطان سليم لطمة أطارت لحيته وعمامته، ورده إلى مولاه كسيرًا يحمل إليه نذير الحرب.

وكان الموعد مرج دابق على مسيرة يوم شمالي حلب.

وإذن فهي الحرب لا مناص.

وخرج الغوري في حاشيته يرفرف عليه لواؤه السلطاني، ويحيط به الخليفة العباسي، وشيوخ الصوفية، وطائفة من الدراويش وأهل الصلاح والخير، وكان على ميمنته سيباي أمير الشام، وعلى الميسرة خاير بن ملباي أمير حلب، وفي المقدمة القرانصة من مماليك السلاطين الماضين، وقبع الجلبان مماليك السلطان الغوري في المؤخرة، يأملون أنْ يغني عنهم دفاع القرانصة الشجعان فلا يصلَوْن حر القتال في الصفوف الأولى …

وفي الجمع المحتشد من الصوفية والدراويش والفقهاء تحت لواء السلطان، كان شيخ مَسِيخٌ، مشوه الخلق، مائل الفك، مستكرش البطن، أحمش الساقين، قد لصق بظهر فرسه متكورًا عليه كأنه صرة ثياب يتدلى على جانبيها عصوان من قصب، وكان في يده سيف مشهور يترقرق في مائه شعاع الشمس، وعيناه تدوران في محجريهما إلى يمين وإلى شمال، لا يريد أنْ تفوته حركة مما حوله …

ذلك أرقم الرمَّال قد خرج في يوم الكريهة ليؤدي فريضته.

والتقى العسكران، وحمل الفرسان من جيش الغوري على عسكر الروم، فأثخنوا فيهم طعنًا بالرماح وضربًا بالسيوف يشقون الصفوف المتراصة، وتبعهم من تبع من الركبان والرجالة يحصدون الرءوس عن أيمانهم وعن شمائلهم، فلا يكاد يثبت لهم راجل ولا راكب، والغوري في موقفه يشهد المعركة راضيًا قد خُيِّل إليه النصر … وكان على رأس أولئك الفرسان قائد الميمنة سيباي أمير الشام، وهتف الغوري في زهو وحماسة: سلمتْ يداك ولا عاش من يشْناك يا سيباي!

وفجأة برق في الجو شعاع من نار، وثار غبار، وسُمع دويٌّ قاصف كالرعد، وخر مائة من المصريين صرعى من طلقة مدفع، ثم توالت الطلقات وانهالت قذائف البارود تحصد المصريين حصدًا فلا تبقي ولا تذر …

ما هذه النار الخاطفة كأنما انبعثت من طاق الجحيم؟ وما تلك الشظايا الملتهبة على الرءوس، كطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجِّيل؟!

هذا سلاح جديد في يد الروم، لم يحسب المصريون حسابه، ولم يتخذوا له أسبابه، وصاح صائح المصريين يستنفرهم: اقتحموا عليهم قبل أنْ يحاط بكم، فإن نارهم لا تَنال إلَّا من بُعد.

فاندفعت الميمنة إلى جيش العدو واقتحمت على الرماة، فأسكتت أفواه المدافع وهمَّ العدو أنْ يرتد …

وفي اللحظة التي حان فيها النصر وأوشكت أنْ تنتهي المعركة، تقهقر خاير بمن وراءه من الميسرة وحطم جناح الجيش، وأُحيط بسيباي ومن معه من الفرسان، فسقطوا صرعى تنوشهم سيوف الروم من كل جانب.

وصاح خاير في الجند ليفل جموعهم: النجاة! النجاة قبل أنْ يحاط بكم فقد مات السلطان!

فتفرق الجيش المصري أباديد على ظهر البادية، وخلى أمراءه على الأديم صرعى، وخلى سلطانه على فرسه يصيح بمن حوله ليثبتهم فلا يستجاب له. وانطوى اللواء المنشور على رأس السلطان وفرَّ حامله، فلوى عِنان فرسه يطلب لنفسه النجاة فيمن نجا، فلم يكد يفعل حتى تراءت لعينيه صورة، ورنَّ في أذنيه صوت … فجفل الفرس وألقى براكبه على الغبراء، وراح يعدو خفيف الظهر ليدرك غبار الجيش المنهزم …

وهمَّ السلطان أنْ ينهض من كبوته فما أطاق، ورأى سيفًا مسلولًا يلمع على رأسه في يد شيخ مسيخ، مشوه الخلق، مائل الفك، بشع المنظر. وكأنما تجسد الموت بشرًا، فكانت صورته هي ذلك المسيخ في يده ذلك السيف المسلول، وانعقد لسان السلطان من الرعب فلم ينطق، وهوى الشيخ بسيفه على رأس السلطان وهو يصيح في نشوة: خذها من يد أركماس!

فتح الغوري فمه مذعورًا، واتسعت حدقتاه، ومدَّ زراعيه أمامه كأنما يحاول أنْ يدفع بهما شبحًا بغيضًا يتراءى له، وقد انبعثت في خياله صورة ماضيه البعيد حيَّةً، كأن لم تمض دونها تلك السنون، وحرك فكيه وقد سال الدم إلى فمه من الجرح الغائر في جبهته، وهو يقول بصوت مختنق: أركماس!

صاح الشيخ في غلظة والسيف في يده يقطر دمًا: نعم، أركماس الذي ظننت يومًا أنه مات تحت أخفاق البعير الهائج في دروب القاهرة وذهب إلى غير معاد، قد نُشر اليوم من موت ليأخذ منك ثأر أبيه، الذي جاء يطلبك به من أقصى بلاد الأرض منذ أربعين سنة!

قال الغوري وقد ارتخت أجفانه وسقطت ذراعاه الممدودتان إلى جانبه، وامتلأ فمه بالدم حتى فاض: أنت … أنت … أرقماس … أرقما …

ومال رأسه وانطبقت أجفانه، ولفظ النفس …

واحتز أرقم رأسه فألقاه في جبٍّ قريب، وخلف على الغبراء جسدًا بلا رأس، لا يعرفه أدنى الناس إليه صلة وأقربهم مودة، ومسح الدم عن سيفه وهو يقول في شماتة: فليبق قنصوه الغوري في هذه المفازة طريحًا، حتى يتخطفه الطير فلا يضم جسده ضريح في بطن الأرض … كذلك دعاها عليه مختص الطواشي حين اغتصب الغوري قبره فخط عليه مسجده، وقد استجاب الله دعوته!

ثم استدار أرقم فاتخذ طريقه في أدبار الجيش المنهزم إلى حلب.

أوصدت حلب بابها في أوجه المرتدين من جيش الغوري؛ توقيًا من مثل ما نالها من مظالم الجند قبل رحيلهم إلى مرج دابق، وضنًّا بأقواتهم أنْ يستنفدها هؤلاء المتبطلون، وحفاظًا على أهليهم ودمائهم وأموالهم من الهتك والسفك والنهب، وطمعًا فيما خلف عندهم أمراء المماليك والجندُ من الودائع الغالية، واستجابة لنصيحة أميرهم خاير بن ملباي …

وتبعثر جند الغوري على الطريق بين حلب ودمشق، لا يملك أحد منهم زادًا ولا مأوى ولا راحلة، واستسلمت قلعة حلب الحصينة للفاتح بلا قتال، وتسلم مفاتيحها جنديٌّ واحد من جند ابن عثمان، هزيل معروق أعرج ليس معه إلَّا سيف من خشب، فوضع يده على كل ما كان في خزائن القلعة من ودائع الغوري التي جلبها معه من مصر، وبينها من الذهب والفضة مقادير لا تُكال ولا تُوزن ولا تُعَدُّ، وبينها من أدوات القتال وعتاد الحرب ما لا يَثبُت له جيش في الأرض، وبينها من نفائس الآثار وتراث سلاطين الماضين ما لا يُقَوَّم بمال ولا يُعَوَّضُ بثمن … ورفرفت الراية العثمانية على القلعة المصرية الأولى، وشهد الاحتفالَ برفع الراية خاير بن ملباي أمير المدينة!

والتفت السلطان سليم إلى وزرائه وهو يقول مشيرًا إلى خاير مبتسمًا: ذلك فضل صديقنا خاين بك فاذكروه له!

فاختلج خاير وأحس في قلبه ألم الوخزة الدامية فلم يجب.

وقال خشقدم الرومي: إنَّ اسمه خاير بك يا مولاي!

قال السلطان: نعم، أعرفه، وإنما هي نكتة مصرية، فقد سمعتهم يتندرون قائلين: السلطان سليم «خان»، وما «خنت» ولا غدرت، ولكنه اسمي ولقب ورثته عن أجدادي، فماذا على صاحبك في أنْ يسموه منذ اليوم: خاين بك!

وضحك، وضحك أصحابه، وأنغض خاير بك رأسه خزيان، ثم انصرفوا جميعًا لتدبير ما يشغلهم من الأمر …

ولم يطب المقام لكثير من أهل حلب في ظل الراية العثمانية، فغادروها على آثار الجيش المصري إلى دمشق والقاهرة، وغادرتها نوركلدي في قافلة من المهاجرين، تأمل أنْ تبلغ القاهرة فتلقى ولدها طومان باي، نائب السلطنة طومان، ذلك الصبي الظريف الذي فارقته ولم تزل تطلبه منذ ثلاثين سنة، لا تعرف أين ذهب به نخاسه، وإنها لتطمع أنْ تراه اليوم سلطانًا على عرش مصر أو نائبَ سلطان!

أتراها تعرفه حين تراه؟ أم تراه يعرفها؟

أمَّا هي فنور الأمومة يهديها، وأمَّا هو … فمن يدري؟! إنها لتتخيله الساعة كأنها تراه رأي العين: شابٌّ مستدير اللحية في زي أمراء المماليك، على رأسه عمامته، وفي وسطه منطقة مرصعة بالجوهر يتدلى منها خنجر في جرابه، وبين يديه طائفة من المماليك السلطانية يسعون بين يديه، وعلى شفتيه تلك الابتسامة العذبة التي طالما تخيلتها على شفتي أبيه أركماس …

آه! ها هي ذي تذكر أركماس الساعة، ترى أين هو؟ أحيٌّ فترجوه أم ميت لا رجاء في لقائه؟ أين هو الساعة ليرى ولده طومان باي سلطانًا على عرش مصر أو نائب سلطان؟ طومان الذي لم يرَ أباه قط، ولم يره أبوه قط، ولا يعرف اسمًا يناديه به حين يلقاه؛ لأنه مضى لوجهه وخلَّفه جنينًا في بطن أمه لا يعرف أتتمخض عنه ذكرًا أم أنثى … ليته اليوم حيٌّ ليراه ويعرفه ويناديه مرة واحدة: يا ولدي! ثم يعود ثانية إلى حيث كان … ليته اليوم حيٌّ فيصحبها على ذلك الطريق إلى القاهرة لرؤية ولدها، فليس يكفيها أنْ ترى ولدها بعينين اثنتين، وليس يشفي ما بها من الحنين أنْ تسمعه يناديها: أمي! نوركلدي! ولا تسمع شفتيه تهتفان: أبي! أركماس!

ولكن من أين لها … من أين لها أنْ تظفر بمثل هاتين الأمنيتين الغاليتين في وقت معًا؟! إنَّ الأقدار لبخيلة، إنها لتمنح النعمة أحيانًا، ولكن في سبيل نعمة أخرى تسلبها، فكيف تطمع نوركلدي أنْ تنال أمنيتين عزيزتين في وقت معًا؟ إنَّ الطبيعة نفسها تأبى أنْ تجمع على الإنسان سعادتين، فأماني الشباب لا تتحقق في العادة إلَّا حين يؤذن الهرم، فتجيء أسباب السعادة التي يتمناها الشباب، ولكن حين لا شباب، فمع الشباب دائمًا الحرمان والشوق واللهفة، ومع سعادة الوجدان والظفر عجزُ الشيخوخة والهرم. هذه هي السُّنَّة، هي الطبيعة، وهذه سبيل الأقدار فيما تمنح وتمنع، وفيما تعطي وتسلب. إنَّ الشارب المنتشي لا يجد لذته الكاملة إلَّا حين الكأسُ بين يديه فارغة من الشراب، فمع امتلاء الكأس الشوقُ واللهفة، ومع امتلاء النفس بالنشوة تفرغ الكأس، فليست بعد ذلك إلَّا زجاجة للتحطيم!

figure
إنها لتتخيله الساعة كأنها تراه رأي العين: شابٌّ في زي أمراء المماليك على رأسه عمامته.

أتريد الطبيعة أنْ تعلمنا — في أسلوب من أساليبها الصارمة — أنَّ السعادة حق السعادة هي الحرمان، والشوق، واللهفة؛ لأن مع كل ذلك الأمل، وأنَّ الظفر والوجدان وحصول المطلوب المتمنَّى هو أول التعس والشقاء؛ لأنه آخر الأمل!

ما أقساها حقيقة لو علم الناس!

كذلك كانت نوركلدي تحدث نفسها حين خطر في خيالها أركماس، وقد هيأت أسبابها للرحلة الأخيرة … إلى القاهرة، حيث تأمل أنْ تجد ولدها طومان باي.

إنها منذ ثلاثين عامًا على الطريق، لا تفكر في غير طومان، ولا يتراءى لعينيها في اليقظة والمنام غير صورته، أمَّا اليوم وقد أوشكت أمانيها في لقائه أنْ تتحقق فقد خطرت على قلبها صورة أخرى، فتذكرت أركماس، أركماس زوجها الحبيب الذي فارقها وخلَّف في أحشائها بُضعة منه منذ أربعين عامًا أو يزيد، لم تسمع عنه فيها خبرًا أو تقف له على أثر … يا ليتها وليته … ولكن لا، إنَّ مثل ذلك التمني ضرب من المحال، لقد عرفت في هذه السنين الثلاثين ما لم تكن تعرف من علم الحياة، حَسْبُهَا من الأمل أنْ تلقى ولدها طومان باي!

وعلى الطريق بين مرج دابق وحلب كان شخص آخر يفكر من أمره في مثل ما تفكر فيه نوركلدي …

ذلك هو أرقم — أركماس — لقد خلف وراءه في بلاد الغور منذ أربعين عامًا أو يزيد، امرأة في أحشائها جنين يرتكض، امرأة كان يحبها ويتمنى لها ولنفسه الأماني، ولكنَّ دَمَ أبيه المطلول كان يصرخ دائمًا في أذنيه، يطلب منه أنْ يدرك ثأره من قاتله، فلما أمكنته الفرصة أو خُيِّل إليه أنها ممكنة، خلَّف وراءه زوجته وجنينها وراح يقتصُّ الأثر ليدرك الثأر، آملًا أنْ يعود إليها بعد أنْ يغسل الدم بالدم، وقد مضت تلك السنون الأربعون وهو لا يفكر إلَّا في تلك الغاية التي غادر من أجلها بلاده، لقد شغله ما مرَّ به من الأحداث عن ماضيه، وعن زوجته، وعن ذلك الجنين، وقد أشرف على الموت ذات مرة في سبيل ذلك الثأر، ولكنه نجا، أو لعله قد مات حقًّا ثم بُعث؛ فقد ألقاه الفرس عن ظهره في اللحظة التي همَّ فيها أنْ يقد عدوه بالسيف قدًّا، وسقط تحت أخفاف البعير الهائج فهشم أضلاعه، وحطم فكه، ورضرض فخذيه، فلولا أنَّ القدر كان يدخره ليدرك ثأر أبيه لصار يومئذٍ عجينة من لحم ودم، بل لقد صار يومئذٍ عجينة من لحم ودم، ثم نُفخ فيه الروح ثانية وعاد إلى الحياة، وسأله منقذه عن اسمه، فنطق به ولم يكد، مما به من الضعف والإعياء، فلم يسمع محدثه من مقاطع اسمه إلَّا «أركم» وصار ذلك اسمه من بعد، لا يعرفه الناس إلا باسم أرقم المسيخ، ثم أرقم الرمَّال، وما كان ينبغي له أنْ يعود إلى اسمه الأول، فليس هو اسمه بعدُ، لقد مات أركماس تحت أخفاف البعير الهائج، فهو منذ ذلك اليوم شخص آخر. هذه السحنة المنكَرة، وهذا الوجه البشع، وذلك الفك المائل، وهاتان الساقان، وهذا البطن … ذلك كله ليس من أركماس الرشيق الخفيف الحركة المعتدل القد المشرق الخد، الدائم الابتسام وإنْ لم يبتسم، من ذا يراه الساعة فيظنه ذلك الفتى الذي كان؟ لا أحد، حتى لو أنَّ أباه وأمه قد بُعِثَا من موت لأنكرا صورته ولم يصدقا أنه أركماس، إنه ليخشى أنْ يظن أبوه في ذلك العالم الثاني أنَّ ولده أركماس لم يدرك ثأره، وإنما أدركه شخص آخر؛ لأن أرقم الذي قتل قنصوه الغوري لا يمكن أنْ يخطر في وهم أحد أنه أركماس! ولكن الناس في العالم الثاني يعرفون من حقائق الأشياء ما لا يعرف الناس في هذا العالم … فليس ينبغي أنْ يشك في أنَّ أباه قد عرَف الحقيقة ونعم باله؛ لأن ولده قد أخذ له بثأره.

إنه الساعة على الطريق إلى حلب؛ ليستجم أيامًا قبل أنْ يبدأ رحلته إلى … إلى الغور من بلاد القبج، حيث يأمل أنْ يجد زوجته تنتظر، وأنْ يجد له ولدًا أو بنتًا، وأنْ تضمه وأسرته دار، بعد طول السفار!

ولكن لا، لا، لقد مات أركماس منذ بعيد، أما هو فإنه أرقم، أرقم المسيخ، أو أرقم الرمَّال، فلن يصدق أحد في بلاد الغور حين يراه أنه أركماس، فأين صورته اليوم من تلك الصورة التي يعرفها الناس؟! سينكره ولا ريب كل من يراه، حتى زوجته نوركلدي، وحتى ولدها الذي لم يره قط، سينكر كلٌّ منهما أنْ يكون ذلك المسيخ المشوَّه الخلق هو أركماس، وقد تعرفه نوركلدي ولا تنكره، فهل يرضيه أنْ يفرض عليها العيش معه، تطالع منه كل يوم هذه الخلقة البشعة، وهذا الوجه المنكر، وهي زينة بنات الغور، وأجمل نساء الحلة؟

زينة البنات! وأجمل النساء! ما هذا الهراء؟! لقد مضى منذ فارقها أربعون عامًا أو يزيد، فإنها اليوم عجوز قد أشرفت على الستين أو جاوزتها … نعم، ذلك حق، ولكن صورة أركماس مع ذلك لم تزل في خيالها صورة فتى رشيق، خفيف الحركة، معتدل القد، مصقول الخد، دائم الابتسام وإنْ لم يبتسم، وإنها لأعز عليه من أنْ يطلع في مرآتها بصورته هذه البشعة، فيمحو تلك الصورة الجميلة التي بقيت لها من سعادة ذلك الماضي البعيد.

لا لا، لقد مات أركماس، مات منذ بعيد تحت أخفاف البعير الهائج في دروب القاهرة، وإنما أنشره الله من موت لغاية واحدة، هي إدراك الثأر، وقد أدركه واستراح وأراح الناس من مظالم قنصوه الغوري، وليس في العالم اليوم من يذكر أركماس، غير امرأة وولدها، إنْ كانت هي وولدها لم يزالا كلاهما أو أحدهما في الأحياء، أمَّا أرقم فإن كثيرًا في القاهرة يعرفونه ويذكرون اسمه، وإنَّ كثيرًا منهم ليتمنَّوْنَ أنْ يعود، فليعد إلى القاهرة، وليجعل أول قصده إلى شيخه أبي السعود الجارحي يستغفره من بعض ما كان منه، ويسأله أنْ يأذن له في شرف الصحبة حتى يلقى الله، لقد مات قنصوه الغوري، فلا شيء هناك بعدُ يمكن أنْ يفسد بين شيخه وبينه، وقد انقطع ما بينه وبين الناس من أسباب المحمدة والمذمَّة …

ولوى أرقم عِنَان فرسه فلم يدخل حلب، ولحق بقافلة من المهاجرين فصحبها على الطريق إلى دمشق، فالقاهرة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤