الفصل الخامس والثلاثون

الحرب سجال

ارتجَّت القاهرة رجة عنيفة كأنما رجفت بها زلزلة في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ٩٢٢، حين تدفقت عليها جيوش العثمانيين كالسيل الجارف لا يعترض سبيله شيء، ثم لم تلبث إلَّا أيامًا حتى رجفت بها زلزلة أخرى أعنف، وأقسى في مساء الثلاثاء الرابع من المحرم سنة ٩٢٣، ولكن هذه الرجفة الأخيرة — على عنفها وقسوتها — كانت أرْوح لقلوب المصريين، وأخفَّ وقعًا على نفوسهم؛ فقد كانت هذه زلزلة أقدام المصريين من جند السلطان طومان باي، يقتحمون على العثمانيين مضاربهم في هدأة الليل ويدخلون القاهرة بعد خمسة أيام من جلائهم عنها، فلم يلبثوا أنْ تغلغلوا في السكك والدروب، واحتلوا الدور والمصانع، ووضعوا سيوفهم في أقفية الروم، وأضرموا النار في مضاربهم على حين لهو وغفلة.

وسرى النبأ بسرعة في المدينة النائمة فهبت من رقادها تستطلع الأخبار، فما هي إلَّا ساعة حتى كانت البشرى على كل لسان بأن السلطان طومان باي قد عاد إلى القاهرة بجيش لجب فأحاط بجيش ابن عثمان … فهب كل مصريٍّ إلى سلاحه وأخذ أهبته لمعونة السلطان الباسل، فما أشرق الصبح حتى كان جيش السلطان طومان باي قد استرد أكثر أحياء المدينة وكاد يغلب على سائرها، واجتمع في المدينة جيش من المصريين على رأسه الأمير علان الدوادار، فزحف من الناصرية لينضم إلى عسكر السلطان!

واتخذ طومان باي مسجد الأمير شيخو بالصليبة مقرًّا لقيادته، وعادت رحى الحرب تدور بين المصريين والعثمانيين في دروب المدينة. ونادى المنادي في القاهرة بالأمان لمن يستأسر من جند ابن عثمان، ويدخل في طاعة السلطان طومان باي. وعاد الطالب مطلوبًا!

واستمرت الحرب في القاهرة أيامًا، فلما كان يوم الجمعة السابع من المحرم، خُطب في مساجد القاهرة ثانية باسم السلطان طومان باي ملك القطرين، وسيد البحرين، وحامي حمى الحرمين.

وكانت نوركلدي تطل من شرفة دارها في سوق مرجوش؛ لتشهد جند المصريين يجوسون خلال الديار يبحثون عن المختبئين من أمراء ابن عثمان وجنده، فيسوقونهم أسرى إلى حيث كان السلطان طومان باي في مركز قيادته بمسجد الأمير شيخو، وكان هتاف الرجال وزغاريد النساء تتجاوب أصداؤها بين أبعاد المدينة، وفيالق فتيان الزعر وكتائب الأعراب تتوالى مواكبها على عينيها في طريقها إلى حيث تأتمر بأمر السلطان المجاهد طومان باي.

وسألت نوركلدي نفسها وفي عينيها دموعها: ترى أين أرقم الساعة ليحدثها حديثه وينبئها بما يعرف من خبر السلطان؟! إنه لغائب عن عينيها منذ ذاع في المدينة النبأ برجوع السلطان طومان باي، وإنها لتنتظر مَقدمه قلِقة تريد أنْ تعرف كيف ينتهي ذلك الأمر فيصحبها على الطريق إلى حيث تلقى ولدها الذي لم تَزَلْ على الطريق إليه منذ ثلاثين سنة.

وطالت غيبة أرقم ثم عاد …

– ورأيته بعينيك يا أرقم؟

– نعم!

– وتحدثت إليه بلسانك؟

– نعم!

– واستمعت إلى حديثه بأذنيك؟

– نعم!

– ومتى تراه أمه بعينيها يا أرقم وتتحدث إليه بلسانها وتستمع إلى نجواه؟

– قريبًا ترينه يا نوركلدي بعينيك وتتحدثين إليه بلسانك وتسمعين نجواه، أمَّا اليوم فما أراك تستطيعين وإنَّ بينك وبينه طريقًا قد ازدحمت على جانبيه رمم القتلى من المصريين والروم، وإنَّ الموت ليتطاير فيه على رءوس السابلة؛ ففي كل شارع معركة دامية، وإنَّ أولئك الروم الغلاظ ليحملون بنادق البارود يرسلون قذائفها من نوافذ الدُّور ومن فوق السطوح ومآذن المساجد، فلا يكاد يخلص برُوحه عابرُ سبيل … لو كان بالسيف والرمح والمزراق ما بيننا وبين الروم من معارك لأيقنَّا بالنصر؛ فإن أولئك الروم لا خبرة لهم بأساليب الحرب، وليس لهم صبر على القتال، لولا هذه النار!

– ماذا تقول يا أرقم؟ أفلست موقنًا بالنصر؟

– بلى، ولكنَّ دون ذلك أهوالًا يا نوركلدي …

– ويتعرض طومان باي للشر؟

– لا تخافي يا سيدتي!

– وتظنه يعود إلى عرشه في القلعة؟

– الصبر يا نوركلدي، إنَّ الحرب مراحل!

– وفي أي مراحلها هي اليوم؟

– ستعرفين بعد قريب؛ فإن جيشًا من جند ابن عثمان قد احتشد بمصر العتيقة في طريقه إلى الصليبة للقاء المصريين عند جامع شيخو …

– ثم يكون ماذا يا أرقم؟

– ثم يكون النصر إنْ شاء الله!

– وأرى ولدي طومان؟

– وترينه وتتحدثين إليه!

– ويومئذٍ أصف له ما لقيت من صاحبه أرقم الرمَّال، وأسأله أنْ يُضعف له المكافأة!

وصرَّت أسنان أرقم وضاق بما يضمر من سرِّه فهمَّ أنْ يجيب، ثم أمسك وهو يقول لنفسه في همس: ويومئذٍ يكون أرقم في غير حاجة إلى مكافأة نوركلدي أو مكافأة السلطان، ويمضي لوجهه فلا يراه أحد … حسبه يومئذٍ أنْ يرى امرأته وولده في سعادة وأمان!

ثم نهض لبعض شأنه، فتعلقت به نوركلدي تسأله أنْ يبقى، ولكنه كان في حاجة إلى أنْ يستروح بعض أنفاس الحياة في جوٍّ طلق، ويذرف دموعًا قد ازدحمت في عينيه …

لو ثبت جند السلطان طومان باي ساعة من نهار أمام الجيش العثماني الذي دهمهم في معسكرهم عند جامع شيخو، لتمَّ لهم النصر، ولارتدت فلول الروم منهزمة إلى الشرق وجلت عن القاهرة، ولكن جند السلطان طومان باي لم يثبتوا لقذائف البارود التي تحصدهم، وليس في أيديهم إلَّا الرماح والسيوف، لا ينالون بها رماة البنادق الذين أشرفوا عليهم من التل القريب وصبوا عليهم النار الحامية، وصاح طومان باي بأصحابه: اقتحموا عليهم بسيوفكم فإن قذائفهم لا تنال إلَّا البعيد! ثم قذف بنفسه في المعركة ومن حوله طائفة من أتباعه يفلقون بسيوفهم الهامَ، ويشقون المرائر ويجندلون الأبطال، فأثخنوا في العدو ونالوا منه بحد السيف أكثر مما نال منهم بقذائف البارود، ولكن الكثرة من أصحابه لم يلبثوا أنْ انفضُّوا، فنظر حوله فإذا هو والطائفة القليلة من أتباعه قد أوشك جيش الروم أنْ يُطبق عليهم من كل جانب، فتقهقر والسيف في يده لم يزل يميل به ويعتدل وهو يقطر من دم العدو، حتى خلص من الزحام وما كاد …

وكانت خوند شهددار جالسة في دارها الجديدة عند بركة الفيل، تنتظر ما يكون من أنباء المعركة بقلب واجف، وبين يديها طفلة في الثالثة تهتف باسم أبيها الذي يجالد الأبطال بسيفه وحيدًا في المعركة، والمنايا من حوله تحصد النفوس …

وسمعت شهددار طرقًا على الباب فخَفَّتْ إليه ملهوفة؛ لترى من الطارق في وقت لم تكن تنتظر أنْ يزورها فيه حبيب ولا نسيب، ورأت أمامها السلطان والسيف في يده لم تزل يقطر دمًا، وفي وجهه أمارات الإعياء وفي عينيه نظرة يأس، وقد اصطبغت حلته الملوكية بما تطاير إليها من دماء القتلى …

وتراجعت شهددار وهي تقول في إنكار: لغير انتظار مقدمك في تلك الساعة جلستُ مجلسي هذا يا طومان!

قال طومان وقد أغلق الباب دونه وتقدم إليها خطوات: ولغير هذه الخاتمة جاهدتُ ما جاهدت يا خوند!

– الخاتمة! إذن فقد يئستَ يا طومان!

– لا وحقك يا حبيبتي! ولكن ماذا يصنع فرد قد انفض من حوله أمراؤه وأصحابه، وطارت أنفسهم شعاعًا من قذائف النار فخلفوه في طائفة قليلة لا يغني غناء بين هذه الآلاف؟

– يجاهد وحيدًا حتى ينتصر أو يموت!

– وأنتِ؟

– وأشهد العيد يوم يعود إليَّ منتصرًا يزين مفرقه التاج!

– ويوم يجيئك منعاي يا شهددار؟

– أباهي بأنني امرأة السلطان الذي حارب وحيدًا؛ دفاعًا عن وطنه حتى استشهد في ساحة الجهاد!

– ونوركلدي، ابنتنا الصغيرة التي توشك أنْ تفقد أباها في المعركة، كما فقدت نوركلدي الأخرى في بلاد الغور ولدها في غير حرب ولا قتال؟

– ليست نوركلدي الصغيرة بأعزَّ من وطنك الغالي يا طومان!

– وإذن فهو الوداع!

– وداع إلى لقاء!

figure
ليست نوركلدي الصغيرة بأعز من وطنك الغالي يا طومان.

وانحدرت دمعتان على وجنتيها الشاحبتين فجاوبتهما دمعتان على وجنتيه، وتلاصقا صدرًا لصدر، وكانت خفقات قلبيهما تمامَ الحديث الذي لم تلفظه الشفاه!

وعلى مقربة من الزوجين المتعانقين عناق الوداع، كانت طفلة في الثالثة واقفة وقد تعلقت عيناها بأبويها وظلت صامتة كأنْ قد سمعت وفهمت، وعرفت كل ما هنالك، ثم استهلت هاتفة بعد فترة: أبي!

فتناولها الرجل بين ذراعيه فطبع على جبينها قبلة، وجفف في صدرها دمعه، ثم أرسلها من بين يديه واتخذ طريقه إلى الباب!

قال أرقم: لقد ذهب ولكنه سيعود!

قالت نوركلدي: وأراه يا أرقم وأجلس إليه وأسمع من حديثه؟

– نعم، وتحدثينه بما لقي منك أرقم الرمَّال! ويكون أرقم يومئذٍ في غير حاجة إلى مكافأة منك أو مكافأة من السلطان، ويمضي لوجه فلا يراه أحد!

قالت نوركلدي عاتبة: لا تزال يا أرقم تمن بما لقيتَ من النصب في سبيل معونة أمٍّ بائسة تريد أنْ تشتفي مما تجد من ألم الحرمان منذ ثلاثين عامًا أو يزيد، فهلا عذرت امرأة لم تَذُقْ طعم الحنان منذ الشباب، ولم تزل — منذ كانت — تعيش في عالم من الذكريات والأماني قد انقطعت فيه عن دنيا الناس!

وحضره بثُّه، إنَّ من حقه مثلها أنْ يشتفي مما يجد من ألم الحرمان أربعين عامًا أو يزيد، إنه لرجل ولكنه مثلها لم يَذُقْ طعم الحنان منذ الشباب، ولم يزل منذ كان يعيش في عالم من الذكريات والأماني، لم يقطعه عن دنيا الناس وحسب، بل قطعه كذلك عن دنيا نفسه، إنه في سبيل سعادة من يحب قد أنكر ذاته وشخصه، وعاد في نظر أحب الناس إليه شخصًا غريبًا فلا هو منه، ولا هو من نفسه!

ودمعت عيناه، فأخفى وجهه في راحتيه ومال برأسه، ونظرت إليه نوركلدي وقد اختفت سحنته الدميمة في راحتيه عن مرأى عينيها، فلم ترَ بين يديها حينئذٍ أرقم المسيخ، ولكنها رأت إنسانًا آخر لا تزال تذكره على رغم السنين، وعاد إليها الصدى يردد آخر كلماته، فكأن لم تسمع صوت أرقم الرمَّال الشيخ، بل صوت فتى في ريِّق الشباب كان يجلس إليها منذ أربعين عامًا يتحدث إليها وتسمع منه، وإنَّ صوته لينفذ في أعماقها …

ودنت منه ولا يزال وجهه مخبوءًا في راحتيه، فوقفت خلفه ومست كتفيه بكلتا يديها وهي تقول في تأثُّر: ما بك اليوم يا أرقم؟

وسرت بينهما كهرباء الذكرى حين تلامسا، فارتجفت يداها وانتفض بدنه كله، أمَّا هو فكان يعرف عرفان اليقين من هذه التي تتحدث إليه وقد أسندت يديها إلى كتفيه، وأمَّا هي فلم يكن بها إلَّا إحساس القلب الملهم!

واستدار نحوها فالتقت عيناها بعينيه، فلم تلبث سحنته الدميمة أنْ أسدلت الستار بينها وبين ذلك الماضي البعيد، فأغضت المرأة من حياء وأنغض الرجل رأسه من ألم، وأطبق الصمت على المكان!

وتمثلت لعينيهما في وقت معًا صورةٌ واحدة قد التقيا عندها قلبًا وفكرًا وعاطفة، واجتمعا في الوهم على حقيقة حين مثلتْ لهما في الخيال صورة طومان باي، فتعانق حول صورته شعاع من فكرها وشعاع من فكره، وقد تجافيا جسدين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤