الفصل التاسع

شهددار

جلس طومان بين يدي عمه الغوري ينتظر أنْ يأذن له ليفضي إليه بما عنده من الأخبار، وكان الغوري قد عاد لساعته من جولة في المدينة زار فيها بيوت بعض الأمراء من أصدقائه، فعرف من أخبار القصر ما لم يكن يعرف. إنه اليوم أكثر اطمئنانًا إلى يومه وغده … وليس في المدينة كلها أحد يعرف ما اجتمعت عليه نيته، وليس هنالك من يظن ظنًّا أنَّ تلك الفتن الثائرة في المدينة وفيما حولها، هي من وحيه وتدبيره؛ ليبلغ من ورائها ما يأمل أنْ يبلغ … لقد تفانى الأمراء العِظَام وأكل بعضهم بعضًا، فليس أمامه من يخشاه اليوم … ومن ذا الذي يخشاه الغوري بعدُ؟ أقنصوه الخال، ذلك الشاب الغرير الذي يحسب الأمر كله شركة بينه وبين السلطان الصبي، لا ينافسهما في الأمر أحد؟ أم جانبلاط نائب حلب الذي زين له هوى أصل باي أمُّ السلطان أنه صاحب الحل والعقد؛ لأنه صديق الأم والخال؟ أم الدوادار الثاني طومان باي الذي يظن أنه بالغدر والحيلة قد كسب عطف الخال، فما هو إلَّا أنْ يخطو خطوة أخرى فيقع ظله على العرش؟ مَن هؤلاء جميعًا؟ وأين كانوا؟ وماذا كانت مكانتهم بين الأمراء حتى يكون لهم مطمع في الوثوب على العرش؟! ولكنه سيتركهم وما يأملون حتى يبلغ منهم … بالصبر والحيلة.

لو شاء لوثب بأتباعه وثبة تزيح من طريقه كل أولئك، وتصعد به إلى العرش، ولكنه لا يشاء الآن، إنه لا يريد أنْ يصعد إلى العرش على أشلاء ودماء؛ لأنه يريد أنْ يلي العرش وليس عليه ثأر يُطلب به … يريد أنْ يلي العرش؛ ليعمَّر على العرش أطول مما عُمِّر أستاذه السلطان قايتباي، ولا سبيل إلى ذلك إلَّا أنْ يتفانى أعداؤه ويأكل بعضهم بعضًا، ولم يرفع هو سيفًا ولم يسفك دمًا، وينفرد في الميدان بالصبر والحيلة، وحينئذٍ تقع عليه الخيرة … عليه هو وحده؛ لأنه هو وحده الأمير في الميدان …

كانت هذه الخواطر تُطيف برأس الغوري، وقد عاد من جولته في المدينة، وطومان جالس بين يديه ينتظر أنْ يأذن له في الحديث ليفضي إليه بما عنده … ولم يحس طومان — وهو في مجلس عمه — بأن انتظاره قد طال، ولم يملَّ؛ فقد كان رأسه هو أيضًا يموج بخواطر شتى تذهب به من قريب إلى بعيد، وكانت تملأ خياله صورة تلك الفتاة التي لقيها منذ أيام — على غير ميعاد — في دار أقبردي الدوادار …

– لا، ليست هي مصرباي!

إنه لم ينظر يومًا ما إلى مصرباي نظرة فتى إلى فتاة، كل ما كان بينه وبينها من العاطفة أنها أخت، صديقة، فرضت عليه الرجولة الباكرة أنْ يحميها ويدفع عنها، ولكنها اختارت لنفسها فتركها وما اختارت، وإنْ لم ينسَ ما عليه لها من واجب الأُخُوَّة، وما عليها له … وعَرَفَ أنها تقيم في دار أقبردي الدوادار، وسمعها تهتِفُ باسمِه … فأرسل إليها جاريته الكاتبة الأريبة التي باعه إياها جاني باي … يستزيرها، فأذنت له في الزيارة، ولقيها بعد سنين من القطيعة، وتحدَّث إليها وتحدَّثت إليه، وعرَف أين هي اليوم مما كانت منذ سنين. إنها اليوم سيدة من طبقة أخرى، فليس بينها وبين تلك الفتاة التي فارقها في حلب صلة قريبة، لقد تغيرت تغيرًا تامًّا عمَّا كانت: في أخلاقها، وعواطفها، وفي نظرتها إلى الحياة والأحياء، وذهبت بها الأماني مذهبًا بعيدًا، كأنما لم تكُن يومًا جارية بين يَدَيْ نخاس خوارزم يسومها المليء والمفلس، إنها اليوم تطمع أنْ تكون سلطانة على عرش مصر، أو أمَّ سلطان …

وأراد طومان أنْ يستعينها على بعض أمره، فتكون له لسانًا وعينًا وأذنًا، يسمع بها ويرى ما يريد أنْ يسمع، ويرى مما يجري في قصور أصحاب السلطان؛ فهي تعرفهم جميعًا، وتسعى إلى مرضاتهم جميعًا، إنها لتطمع أنْ يكون السلطان يومًا واحدًا من أولئك الأمراء، وإنها لتأمل أنْ تكون يومًا ما سلطانة، فتلك مكانتُهم عندها وتلك مكانتها منهم، وإنها بهذه المكانة لَتَستطيع أنْ تكون عينًا وأذنًا ولسانًا لصديقها طومان وأستاذه الغوري … ولكن طومان لم يمضِ فيما أراد؛ فقد أبى أنْ ينزل بمصرباي أخته إلى ذلك الدرك، فأمسك عما اعتزم، وهمَّ أنْ يفارقها ويمضي، حين سطعت له في قصر أقبردي لؤلؤة فريدة تتضوَّأ لعينيه، كأنما يريد القدر أنْ يربط بينه وبينها بشعاع من النور … تلك هي شهددار بنت أقبردي الدوادار، ذلك الأمير الذي وقف يومًا على عتبة العرش وكاد يضع التاج على رأسه، ثم رده القدر … هذه هي ابنته، قد جاءت الساعة لتتحدث حديثًا إلى مصرباي أرملة عمها، ولم تكن تحسب أنَّ في مجلسها أحدًا. والتقت عيناها بعيني طومان، فتعثرت في خطاها وارتدَّتْ مذعورة، فصاحت بها مصرباي: تعالَيْ يا شهددار، إنه أخي طومان.

وانعقدت بينهما منذ اليوم آصرة لا تنفصم، فلا يزال طومان يسعى إلى دارها مصبحًا وممسيًا، ولا تزال جاريته الكاتبة الأريبة تسعى بينهما، تحمل إليها رسائله وتعود بالجواب … ولا يزال كلما ذهب إلى دار أقبردي ليلقى صاحبته، لقيته مصرباي فتحدثت إليه ساعة وتحدث إليها، فهي له في بيوت الأمراء عين وأذن ولسان، وإنْ لم يُرد ذلك طومان وإنْ لم ترده مصرباي، أو لعلها كانت تريد، فليس يخفى على فطنتها أنَّ عمه الشيخ قنصوه الغوري قد يصير يومًا ما سلطانًا.

ووجد طومان في زيارة دار أقبردي الدوادار إحساسًا يغمره بالسعادة، ويُجدُّ له أماني لذيذة ساحرة، ولكنه لم يكن يخفى عليه ما كان بين عمه وبين أقبردي الدوادار من جفاء، وقد ذهب أقبردي ولعله لا يعود، ولكن عمه لا يمكن أنْ يرضى أنْ تكون زوجة طومان ابن أخيه هي بنت عدوه أقبردي الدوادار …

تلك فكرة كانت تطيف برأس طومان، فتنغص عليه ما يَجِدُ من السعادة حين يلقى صاحبته شهددار في مجلس أخته مصرباي، ولكنه مع ذلك لم يقطع الأمل …

وطال حديث طومان إلى نفسه، وتزاحمت خواطره وهو جالس بين يدي عمه ينتظر أنْ يُؤذَن له في الكلام، وطال حديث الغوري إلى نفسه وابنُ أخيه ينتظر بين يديه … ثم فاء كلٌّ منهما إلى نفسه، فقال الغوري: هيه! ماذا وراءك يا طومان؟ لعلك قد عرَفت جديدًا من أمر السلطان الناصر وخاله قنصوه؟

قال طومان: نعم، فقد خرج قنصوه في سرحته لتأديب الثائرين من أعراب البادية؛ طاعة لأمر أخته أصل باي، وخرج خاير بن ملباي سفيرًا إلى ابن عثمان.

فقاطعه الغوري باسمًا: نعم؛ ليخلو الجو للناصر وصاحبتك مصرباي الجركسية!

قال طومان مدهوشًا: كأنك تعرف يا عم!

قال الغوري: نعم يا بني، وكأنما كانت أمه تهيئ له هذه الفرصة، وهي تريد أنْ تدفع عنه، فقد قرر الناصر أنْ يتَّخِذَ مصرباي زوجًا، قبل أنْ يعود خاير بن ملباي من سفارته، وقنصوه الخال من سرحته في البادية.

قال طومان: ويْ! ولكن ماذا يكون موقف أمه منه، وإنها لتكره هذه الجارية؟!

فقهقه الغوري ضاحكًا وهو يقول: لا أمه، ولا خاله، ولا خاير بن ملباي … لن يكون له صديق من هؤلاء الثلاثة منذ اليوم!

فمط طومان شفتيه أسفًا وهو يقول: يا للفتى الأحمق، ويا لمصرباي!

ثم حضرتْه صورة أخرى، فأغمض عينيه وسبح في أحلامه، وهمس لنفسه في لهفة وجزع: آه يا شهددار! أين ألقاك بعد اليوم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤