قصة الأب براون الخيالية

كانت مدينة هايلجفالدنشتاين الخلَّابة ذات السيادة المستقلة واحدةً من تلك الممالك البالِغة الصِّغَر التي ما زالت تتكون منها بعض أجزاء الإمبراطورية الألمانية. وقد أصبحت خاضعةً للهيمنة البروسية في فترةٍ متأخِّرة من التاريخ؛ أي قبل نحو خمسين عامًا من ذلك اليوم الصيفي الرائع الذي وجدَ فيه فلامبو والأب براون نفسيهما وقد جلسا في حدائقها ويشربان من جِعتها. كانت الذاكرة الحيَّة للمدينة متأثِّرةً بقدرٍ غير هَيِّنٍ من آثار الحرب والعدالة الهوجاء، كما سيتضح قريبًا. ولكن بمجرَّد النظر إلى المدينة، لا يسعُ المرءَ إلا أن يلحظ ذلك الطابعَ الطفولي الذي يُعدُّ الجانب الأشدَّ سحرًا في ألمانيا، تلك الممالك الهَزلية الصغيرة التي تخضع لسلطة الإمبراطورية الأم الصاحبة السيادة، والتي يبدو فيها الملوك أشخاصًا مَحلِّيين عاديين مثلهم مثل الطُّهاة؛ إذ كان الجنود الألمان في أكشاك الحراسة التي لا تُعَد ولا تُحصى يَبدون أشبه بدُمًى ألمانية على نحوٍ غريب، فيما كانت الشُّرُفات المُفرَّجة التي تُزيِّن أسوار القلعة ذات الفتحات المُفرَّغة بإتقان، والتي تبدو كما لو كانت مطليةً بالذهب تحت تأثير أشعة الشمس، تُشبِه كعك الزنجبيل المُذهَّب؛ وذلك لأنَّ الطقس كان رائعًا. كانت السماءُ مكسوةً بلونٍ أزرق بروسي، كهذا الذي ربما تتمنَّاه مدينة بوتسدام نفسها، لكنَّه كان طاغيًا بشدةٍ كما لو أنَّ طفلًا اشترى عُلبة ألوانٍ بِشِلِن وأفرَط في استخدامها. وحتى الأشجار ذات الأضلاع الرمادية التي تُغطِّي جذوعها بدت يانعة؛ لأنَّ البراعم المُدبَّبة على أغصانها كانت ما تزال وردية، وفي ظل تراصِّها بنمطٍ مُعيَّن أمام خلفية السماء الزرقاء الطاغية، بدت كأنَّها عددٌ لا يُحصى من الرسومات الطفولية.

وبالرغم من مظهر الأب براون الذي يبدو عاديًّا وتوجهه العملي في حياته بوجهٍ عام، لم يكن تكوينه يخلو من لمسةٍ رومانسية، لكنَّه عادةً ما كان يحتفظ بأحلام اليقظة لنفسه، كما يفعل العديد من الأطفال. فوسط هذه الألوان الساطعة الزاهية في يومٍ كهذا، وداخل ذلك الإطار الذي يُشبه إطارات شعارات النبالة لمدينةٍ كهذه، راوده شعورٌ بأنَّه قد دخلَ قصةً خيالية. لقد كان يستمتع استمتاعًا طفوليًّا، كما قد يفعل أخٌ أصغر مع أخيه الأكبر، بالعُكَّاز ذي نصل السيف الذي كان فلامبو يحمله معه دائمًا أثناء سيره، والذي كان يقف منتصبًا في هذه اللحظة بجانب قدحه الطويل المصنوع في ميونخ. بَل، وفي ظل صفاء ذهنه من مسئولياته، وجدَ نفسه يتأمَّل الرأس الأخرق المُدَملَك لمظلته البالية، مع انهماكه في بعض الذكريات الخافتة عن عصا الغول التي كانت تظهر في كُتب الأطفال المُلوَّنة، لكنَّه لم يؤلِّف أي شيءٍ خياليٍّ قط، باستثناء القصة التالية:

قال الأب براون: «أتساءل عمَّا إذا كان المرء بإمكانه أن يخوض مغامراتٍ حقيقية في مكانٍ مثل هذا، لو أقحمَ نفسَه فيها واعترضها بنفسه. صحيحٌ أنَّ المدينة تُتيح خلفيةً رائعة للمغامرات، لكنني أشعر دائمًا بأنَّ مواطنيها سيقاتلونك بسيوفٍ من الورق المقوَّى لا بتلك السيوف الحقيقية المُروِّعة.»

فقال له صديقه: «أنت مخطئٌ؛ في هذا المكان، لا يقاتلون بالسيوف فحسب، بل يقتلون بلا سيوف. ويوجد ما هو أسوأ من ذلك.»

قال براون: «عَجَبًا! ماذا تقصد؟»

فأجابه فلامبو: «حسنًا، يتعيَّن عليَّ أن أُخبرك بأنَّ هذا هو المكان الوحيد في أوروبا الذي أُرديَ فيه رجلٌ قتيلًا بدون سلاحٍ ناري.»

سأله براون متعجبًا: «أتقصد أنَّه قُتِلَ بقوس وسهم؟»

فأجابَ فلامبو: «بل أقصد رصاصةً في الدماغ. ألَا تعرف قصة الأمير الراحل لهذه المدينة؟ لقد كانت أحد الألغاز التي حيَّرت الشرطة منذ ما يقرُب من عشرين عامًا. لعلك تذكر بالطبع أنَّ هذه المدينة ضُمَّت بالقوة إبان مخططات بسمارك المُبكِّرة جدًّا للدمج، أو بالأحرى ضُمَّت بالقوة، ولكن لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق؛ إذ أرسلت الإمبراطورية (أو تلك التي أرادت أن تكون إمبراطورية) الأمير أوتو، أمير مدينة جروسنمارك، ليحكم هذه المدينة وفقًا للمصالح الإمبراطورية. لقد شاهدنا صورته في المعرض هناك، كان نبيلًا وسيمًا متقدِّمًا في السن، لم يكن لديه شعرٌ أو حاجبان، وكان يبدو كنسرٍ لا يحمل وجهه أي تجاعيد، لكنَّه واجه أمورًا أزعجته وأقضَّت مضجعه، كما سأوضِّح في غضون دقيقة. كان أوتو جنديًّا يتمتع بمهارة فائقة ونجاحٍ بارز، لكنَّ مهمته لم تكن سهلة إطلاقًا في هذه المدينة الصغيرة؛ إذ هُزِم في عدة معارك على يد الأشقَّاء أرنولد المشهورين، وهم كانوا ثلاثة فدائيين وطنيين في المقاومة الشعبية نَظَمَ فيهم سوينبرن قصيدةً، هل تذكرها؟ كانت تقول:

ذئابٌ ترتدي فِراء الملوك،
وغِربانٌ تعتمر تيجان الملوك،
انتشرت تلك الأشياءُ كالجراد،
لكنَّ الثلاثةَ لها بالمرصاد.

أو شيءٌ من هذا القبيل. وفي الواقع، لم يكن ممكنًا الجزم بأيِّ حالٍ من الأحوال أنَّ الاحتلال كان سينجح لو لم يتخلَّ بول الذي كان أحد الأشقاء الثلاثة — في خطوةٍ خسيسة لكنَّها حاسمةٌ للغاية — عن الوقوف لهذه الأمور بالمرصاد، ويضمن القضاء على الانتفاضة بتسليم جميع أسرارها، وترقيته لمنصب حاجِب الأمير أوتو. وبعدها قُتِل لودفيج، الذي كان البطل الحقيقي الوحيد بين أبطال السيد سوينبرن، حاملًا سيفه في يده أثناء الاستيلاء على المدينة، أمَّا الشقيق الثالث هاينريش، الذي كان مُنصاعًا وجبانًا بالمقارنة بشقيقيه الهُمامَيْن — وإن لم يكن خائنًا — فقد انعزل في مكانٍ أشبه بالصَّوْمَعة، واعتنقَ مذهب السَّكينة المسيحي الذي كان أشبه بممارسات الكويكريين (أو أعضاء جمعية الأصدقاء الدينية)، ولم يختلط بأحدٍ قَط إلَّا الفقراء الذين تصدَّق عليهم بكل ما يملكه تقريبًا. لقد أخبروني أنه ظل يُرى حتى وقتٍ ليس ببعيدٍ في أرجاء الحيِّ من حينٍ إلى آخر، رجلًا مرتديًا عباءةً سوداء، شِبه ضريرٍ، بشعرٍ أبيض أشعث للغاية، ووجهٍ ناعم بدرجةٍ مدهشة.»

فقال الأبُ براون: «أعرفُ، رأيتُه ذات مرةٍ.»

نظر إليه صديقه بشيء من الدهشة، وقال: «لم أكن أعلم أنَّك جئتَ إلى هنا من قبل. ربما تعرف الكثير عن هذه المدينة مثلما أعرف. على أي حال، هذه هي قصة الأشقَّاء أرنولد، وكان هاينريش آخر الناجين منهم، بل ومن جميع الرجال الذين شاركوا في تلك الأحداث.»

فقال براون: «هل تقصد أن الأمير أيضًا مات قبل فترةٍ طويلة؟»

قال فلامبو: «لقد ماتَ، وهذا كلُّ ما يُمكننا قوله تقريبًا. يجب أن تُدرِك أنَّه في أيامه الأخيرة بدأ يُصاب بتلك الهواجس العصبية التي كثيرًا ما تُصيب الطغاة؛ فضاعَف الحراسة النهارية والليلية المعتادة حول قلعته، حتى إنَّ أكشاك الحراسة باتت فيما يبدو أكثر من المنازل في المدينة، وكان الأشخاص المُشتَبَه فيهم يُعدَمون رميًا بالرصاص بلا رحمة. قضى كل حياته تقريبًا في حُجيرة تقع في قلب متاهةٍ هائلة من الحُجرات الأخرى، بل وشيَّد في هذه الحُجيرة نفسها قُمرةً أو خزانةً مُبطَّنة بالفولاذ مثل خَزنةٍ أو سفينةٍ حربية. يقول البعض إنَّ أسفل أرضية هذه الحُجيرة كان ثمة قبوٌ سِرِّيٌّ في باطن الأرض، مساحته لا تسع أحدًا سواه؛ ومن ثمَّ ففي ظل قلقه وحرصه الشديد على تفادي القبر، كان مستعدًّا للعيش في مكانٍ يُشبهه كثيرًا، لكنه لم يكتفِ بذلك؛ فعلى الرغم من أنه كان من المفترَض أنَّ الرَّعية قد جُرِّدوا تمامًا من السلاح منذ قمع الثورة، أصرَّ أوتو — إصرارًا نادرًا ما تُصِرُّه الحكومات — على تطبيق نزع سلاحٍ مُطلَق وحرفيٍّ بِكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى. وبالفعل طُبِّق نزع السلاح بأقصى درجات الصرامة والشمولية على يَدِ مسئولين على درجة عالية جدًّا من التنظيم في منطقةٍ صغيرةٍ ومألوفة، وبِقَدر ما يُمكن أن تبلغه قوة الإنسان وعِلمه من التيقُّن المطلق من أي شيءٍ، كان الأمير أوتو على يقينٍ تام من عدم مقدرة أيِّ شخصٍ على إدخال أيِّ سلاحٍ في مدينة هايلجفالدنشتاين، ولو كان مسدسًا من المُسدسات غير الحقيقية التي يلهو بها الأطفال.»

قال الأب براون وهو ما زال ينظر إلى البراعم الحمراء في الأغصان التي تعلو رأسه: «لا يتسنَّى لعِلم الإنسان أن يجعله متيقنًا يقينًا تامًّا من أشياء كهذه؛ على الأقل بسبب صعوبة تعريف مثل هذه الأشياء ودلالتها. فما تعريفُ السلاح؟ هناك أناسٌ قُتِلوا بأبسط الأدوات المنزلية، منهم مَن قُتِل على سبيل اليقين بغلَّايات الشاي، وربما منهم من قُتِل بأغطية أباريق الشاي. ومن ناحية أخرى، فإذا أظهرت لرجلٍ من البريطونيين القُدماء مُسدسًا، فإنني أظنُّ قطعًا أنَّه لن يعرف كونه سلاحًا حتى يتلقَّى رصاصةً منه. ربما استطاع شخصٌ ما إدخال سلاحٍ ناريٍّ جديدٍ جدًّا لدرجة أنَّه لم يَبدُ سلاحًا ناريًّا من الأساس. ربما بدا كالكُشْتِبان، أو شيءٍ من هذا القبيل. ألم تكن الرصاصة غريبةً على أي حال؟»

أجابه فلامبو: «لم أسمع شيئًا عن ذلك قَط، لكنَّ معلوماتي منقوصة، ولم يخبرني بها سوى صديقي القديم جريم. لقد كان مُحقِّقًا بارعًا للغاية في الشرطة الألمانية، وكان يحاول إلقاء القبض عليَّ، لكنِّي أنا مَن استوقفتُه، وتبادلنا أطراف الحديث عن العديد من الأمور المشوِّقة. كان مسئولًا عن التحقيق هنا بشأن مقتل الأمير أوتو، لكنِّي نسيت أن أسأله عن أي شيءٍ بشأن الرصاصة. وحسب ما ذكره جريم، ما حدث كان كالتالي.» ثم سَكَت بُرهةً ليجرع معظم جعته الداكنة جرعة واحدة، قبل أن يستأنف كلامه قائلًا:

في مساء اليوم الموعود، كان من المتوقع فيما يبدو قدوم الأمير إلى إحدى الغُرَف الخارجية؛ إذ كان عليه أن يستقبل بعض الزوَّار الذين كان يرغب بشدةٍ في لقائهم. وكان هؤلاء الزوَّار خبراءَ جيولوجيين أُرسِلوا للتحقيق في المسألة القديمة عن مزاعم استخراج الذهب من بعض الصخور الموجودة هنا في الأرجاء، وهو ما اعتمدت عليه هذه المدينة الصغيرة ذات السيادة (كما قِيل) في الحفاظ طويلًا على مكانتها وقدرتها على التفاوض مع جيرانها، حتى تحت وطأة القصف المتواصل من جانب جيوشٍ أكبر. وحتى هذه اللحظة، لم يُعثَر على الذهب رغم إجراء أدقِّ التحقيقات التي كان في وسعها أن …

فقال الأب براون مبتسمًا: «التي كان في وسعها أن تكون مُتيقِّنة تمامًا من اكتشاف مُسدسٍ من المُسدسات غير الحقيقية التي يلهو بها الأطفال. ولكن ماذا عن الأخ الخائن؟ ألم يكن لديه ما يُخبر به الأمير؟»

فأجاب فلامبو: «دائمًا ما كان يجزِم أنَّه لا يعرف شيئًا، وأنَّ هذا هو السرُّ الوحيد الذي لم يُخبِره شقيقاه به. وتحرِّيًا للأمانة، تأكَّد ادِّعاؤه نوعًا ما ببعض الكلمات المنقوصة التي تلفَّظ بها لودفيج العظيم لحظة موته، حين نظر إلى هاينريش بينما أشار إلى بول، قائلًا: «أنت لم تُخبره بأنَّ …» ثم سرعان ما سَكَت إلى الأبد. على أيِّ حال، كان وفد علماء التعدين والجيولوجيا المتميزين القادمين من باريس وبرلين ماثلين في الغُرفة مرتدين أفخم الثياب وأنسبها؛ إذ لم يكن يروق لأحدٍ اتخاذ زينته بقدر العلماء، مثلما هو معروفٌ لأي شخصٍ حضرَ من قبل أمسيةً احتفاليةً من أمسيات الجمعية المَلَكية. كانت احتفالية رائعة، لكنَّها أُقيمت في وقتٍ متأخر للغاية، وبمرور الوقت، كان حاجبُ الأمير — الذي رأيتَ صورته أيضًا في المعرض، ذاك الرجل الأسود الحاجبيْن الحاد العينين ترتسم على شفتيه ابتسامةٌ جوفاء — قد اكتشفَ أنَّ الأميرَ مفقودٌ. فبَحَث عنه في جميع قاعات الاستقبال الخارجية، ثم تذكَّر نوبات الخوف التي تعتري الأمير، فهُرِع إلى الحُجيرة الداخلية. كانت شاغرةً هي الأخرى، لكنَّه اتجه إلى القُمرة أو البُرج الفولاذي الشبيه بأبراج السُّفُن الحربية والمُقام في وسط الحُجيرة التي استغرق فتحُها بعض الوقت. وحين فتحها، وجدها شاغرةً أيضًا. فذَهَب وألقى نظرةً داخل القبو المحفور تحت الأرض، الذي كان يبدو أعمَق وأشبه بطريقةٍ ما بَقبْرٍ، على حدِّ قوله بالطبع. وبينما كان ينظر داخل القبو، سَمِع صرخاتٍ مدويَّة وهَرْجًا ومرجًا في الغُرف والأروقة الطويلة بالخارج.

في البداية، كان صوت ضجيجٍ وصخبٍ يأتي من بعيدٍ، وكان من المُستبعَد أن يكون صدر عن شيء في نطاق الحشد، ولو حتى خارج جنبات القلعة. ثم أعقب ذلك صراخٌ بكلماتٍ غير واضحة وقريبٌ إلى حدٍّ مُرعب، ثم تعالت حدَّته بما يكفي ليكون واضحًا لو لم تتداخل الكلمات ويطغَ بعضها على بعض. ثم سُمِعَت الكلمات بوضوحٍ أثار الفزع في النفوس وأصبحت أقرب فأقرب، إلى أن اندفع رجلٌ داخل الحُجيرة وقال الخَبَر بإيجازٍ معهودٍ في مثل هذه المواقف.

كان أوتو، أمير هايلجفالدنشتاين وجروسنمارك، مستلقيًا على الأرض في نَدى الشَّفَق المُظلِم في الغابة خارج حدود القلعة، فيما كانت ذراعاه ممدودتَينِ بعيدًا عن جسده، ويحدق بعينين متسعتين إلى القمر. كانت الدماءُ ما تزال تقطر من صدغه وفكِّه المُهشَّمَيْن، لكنَّها كانت الجزءَ الوحيد الذي يتحرَّك كشيءٍ حَيٍّ في جسده. وكان أوتو في كامل هيئته الرسمية مرتديًا زيَّه الأبيض والأصفر، استعدادًا لاستقبال ضيوفه داخل القلعة، باستثناء أنَّ الحزامَ أو الوشاح كان مُنحلًّا ومُكوَّمًا بجانبه. وكان قد فارَق الحياة بالفعل قبل أن يحملوه. ولكن، سواءٌ في محياه أم مماته، كان يُمثِّل أُحجية؛ فهو الذي كان يختبئ دومًا في الحُجيرة الداخلية الحصينة والآن يرقدُ في الغابة النَّدِيَّة أعزلَ وحيدًا.»

وهنا سأله الأب براون: «مَن الذي عثرَ على جُثَّته؟»

فأجابَ صديقُه: «فتاةٌ شابة أُلحِقَت ببلاط القصر اسمُها هيدفيج فون، لا أتذكر بقية الاسم بالضبط، كانت تقطف بعض الأزهار البَرِّية في الغابة.»

فسأله القَسُّ مُحدِّقًا إلى الغطاء الذي يعلو رأسه من الأغصان فوقه وكأنه شاغرُ الذهنِ لحدٍّ ما: «هل قطفتْ أيًّا منها؟»

فأجابَ فلامبو قائلًا: «نعم، أذكرُ بوضوحٍ أنَّ حاجَب الأمير، أو صديقي القديم جريم أو شخصًا ما، قال إنَّ المشهد كان مروِّعًا للغاية حين أتوا، بناءً على ندائها، فرأَوْا فتاةً تحمل أزهارًا ربيعية وتنحني بجسدها مُحدِّقةً إلى تلك الجثة المضرجة في دمائها. غير أنَّ النقطة الأهم أنَّه فارقَ الحياة بالفعل قبل وصول المساعدة، وكان لا بد بالطبع من نقل هذا الخبر إلى القلعة. كان الذعر الذي أحدثه إعلان الخبر يتجاوز ذلك الذُّعر الطبيعي الذي يسودُ جنبات قصرٍ عند إعلان موت الملك. فيما كان الزوار الأجانب، لا سيَّما خبراء التعدين، في أشدِّ درجات الحيرة والانفعال، وكذلك العديد من المسئولين البروسيين البارزين، وسرعان ما بدأ يتكشَّفُ أنَّ مُخطط العثور على الكنز له دَخلٌ كبيرٌ بالحادث أكثر ممَّا قد يظن البعضُ؛ إذ تلقَّى الخبراء والمسئولون وعودًا بالحصول على جوائز عظيمة أو امتيازاتٍ دولية، بل قال البعضُ إنَّ الغُرَف السِّريَّة والحماية العسكرية المنيعة التي أقامها الأمير لم تكن بسبب خوفه من الرَّعية بِقَدر ما كانت سعيًا وراء إجراء بعض التحقيقات السرية بشأن …»

قاطعه الأب براون متسائلًا: «أكانت سيقان الأزهار التي قطفتها الفتاة طويلة؟»

حَدَّق فيه فلامبو قائلًا: «يا لكَ من شخصٍ غريب! هذا بالضبط ما قاله جريم. لقد قال إنَّ الجزء الأقبح في هذه القضية في رأيه — أي الأقبح حتى من الدماء والرصاصة — أنَّ سيقان الأزهار كانت قصيرةً جدًّا، وأنَّها قُطِفت من جزءٍ قريب من رأس الزهرة.»

فقال براون: «بالطبع، فحين تقطف فتاةٌ بالغة الأزهار حقًّا، تقطفها من أسفل الساق. أمَّا إذا قطفتها من عند أسفل الرأس مباشرةً، مثلما يفعل الأطفال، فيبدو كما لو …» وتَردَّد بُرهةً.

فسأله فلامبو: «كما لو ماذا؟»

فاستأنفَ قائلًا: «كما لو أنَّها انتزعتها بتوتُّرٍ؛ لتبرير وجودها هناك بعدما كانت هناك بالفعل.»

فقال فلامبو بعبوسٍ: «أعرف ما الذي تُلمِّح إليه، لكنَّ هذا الشكَّ وكلَّ ما عداه من شكوكٍ يتلاشى أمام نقطةٍ واحدة؛ ضرورة وجود سلاحٍ. كان من الممكن أن يُقتَل بالكثير من الأشياء الأخرى، كما قُلتَ، أو حتى بوِشاحه العسكري، لكنَّ مَرْبَط الفرس هنا ليس أن نفسِّر كيفية مقتله، بل كيفية إطلاق النار عليه. والحقيقة أننا لا نستطيع تفسير ذلك. لقد فتَّشوا الفتاة تفتيشًا صارمًا بلا هوادة؛ لأنَّها كانت — إحقاقًا للحقِّ — مُشتبهًا فيها قليلًا، مع أنَّها كانت ابنة أخت الحاجِب الأسبق الفاسِد بول أرنولد، وكانت تعيش تحت وصايته، لكنَّها كانت رومانسية للغاية، وكان يُشتبه في تعاطفها مع الحماسة الثورية القديمة في عائلتها. ومع ذلك، فمهما كنت رومانسيًّا، فسيانِ هما الأمران ولا يمكنك أن تتخيَّل استقرار رصاصةٍ كبيرة في فكِّ رجلٍ أو دماغه دون استخدام بندقية أو مسدسٍ. ولم يُعثَر على مسدسٍ، بالرغم من وجود طلقتَي مسدسٍ بالفعل؛ ولذا أترك لك حلَّ هذا اللُّغز يا صديقي.»

سأله القَسُّ النحيل: «ما الذي أدراكَ بوجود طلقتين؟»

فقال رفيقه: «لم تكن هناك سوى رصاصةٍ واحدة في رأسه، ولكن كان يوجد ثقبٌ آخر ناجم عن رصاصةٍ في الوشاح.»

فقَطَب الأبُ براون جبينه الأملس فجأةً، وسأله: «هل عُثِر على الرصاصة الأخرى؟»

فشَرَد فلامبو قليلًا، ثم قال: «لا أظنني أذكر ذلك.»

صاح براون قاطبًا جبينه أكثر فأكثر بتركيزٍ فضولي غير معتاد، قائلًا: «رويدك! رويدك! رويدك! لا تظنني وقحًا. دعني أفكر في ذلك لحظةً.»

فقال فلامبو ضاحكًا وهو يرتشِف آخر ما تبقَّى من الجعة: «حسنًا.» وفي هذه الأثناء، هَبَّ نسيمٌ خفيف أثار الأشجار المتبرعمة، وساقَ في السماء سُحُبًا صغيرةً بيضاء ووردية بَدَت كأنَّها جعلت السماء أشدَّ زُرقةً وأضفت على المنظر المُلوَّن بأكمله مزيدًا من الجاذبية. فيما بَدَت هذه السُّحُب الصغيرة كملائكة صغار يعودون إلى ديارهم الأشبه بحضانةٍ سماوية. بينما كان أقدم بُرجٍ في القلعة، برج دراجون، يقف شامخًا مثل قَدَحٍ طويل، ولكنه عادي. وخلف البرج، كانت الغابة التي مات فيها الأمير تومِض وميضًا خافتًا.

وأخيرًا تساءل القَسُّ: «وما الذي حدثَ لهذه الفتاة المدعوة هيدفيج في نهاية المطاف؟»

فقال فلامبو: «إنها متزوجة من الجنرال شوارتز. لا شك أنَّك سمعتَ عن مسيرته العسكرية، التي كانت رومانسية إلى حدٍّ ما. لقد حاز لنفسه مكانةً مُميَّزة حتى قبل مآثره البطولية في معركتَي سادوفا وجرافيلوت، وفي الواقع، لقد تَرَقَّى من أدنى الرُّتَب العسكرية، وهو ما كان أمرًا غير معتادٍ حتى في أصغر المؤسسات العسكرية الألمانية …»

فاعتدل الأبُ براون في جلسته فجأةً.

صاح فاغرًا فاه كأنَّه يُصفِّر: «تَرَقَّى من أدنى الرتَب العسكرية! حسنًا حسنًا، يا لها من قصَّةٍ عجيبة! ويا لها من طريقةٍ غريبة لقتل إنسان، لكنِّي أعتقد أنَّها كانت الطريقة الوحيدة الممكنة، لكن من العجيب أن تتحلَّى الكراهية بهذا القدر من الصبر …»

وهنا سأله فلامبو: «ماذا تقصد؟ بأيِّ طريقةٍ قتلوا الرجل؟»

فقال براون بتأنٍّ: «لقد قتلوه بالوشاح.» ثم أضاف بينما كان فلامبو يَهمُّ بالاعتراض: «نعم، نعم، أعرفُ بشأن الرصاصة. ربما كان من الأفضل أن أقول إنَّه مات بسبب وجود وشاح. أعلم أنَّ الوشاح لا يبدو كمَرَضٍ عُضالٍ يُفضي إلى الموت.»

فقال فلامبو: «أعتقد أنَّ لديك فكرةً ما تدور في رأسك، لكن لن يكون من السهل تجاهل الرصاصة التي اخترقت وشاحه. فكما أوضحتُ من قبل، ربما يكون قد خُنِق ببساطةٍ، لكنَّه تعرَّض لإطلاق النار. فمَن الفاعِل؟ وبأي سلاحٍ؟»

وهنا قال القَسُّ: «لقد أُطلِقَ عليه الرصاصُ بناءً على أوامره.»

سأله فلامبو: «أتقصدُ أنَّه انتحر؟»

فأجاب الأبُ براون: «لم أقل بناءً على رغبته. بل قلتُ بناءً على أوامره.»

فقال فلامبو: «حسنًا، على أيِّ حال، ما نظريتك بشأن ما حدث؟»

ضحك الأبُ براون، وقال: «إنني في عُطلتي حاليًّا؛ ومن ثمَّ لا مجال أمامي للتنظير. كلُّ ما هنالك أن هذا المكان يُذكِّرني بالقصص الخيالية، وإذا أردتَ، فسأحكي لك قصةً منها.»

ارتفعت السُّحب الوردية الصغيرة، التي بَدَت كالحلوى، لتُشكِّل إكليلًا حول أبراج القلعة ذات الأسوار الشبيهة بكعك الزنجبيل المُذهَّب، وبدا أن الأغصان الوردية الوليدة للأشجار المتبرعمة تنتشر وتمتدُّ لتصل إليهما، فيما بدأت السماءُ الزرقاء تكتسب لونًا بنفسجيًّا ساطعًا إيذانًا باقتراب المساء، حيث استأنفَ الأبُ براون حديثه فجأةً، قائلًا:

«في ليلةٍ مُوحِشة، بينما كانت الأمطار ما تزال تتساقط على الأشجار وحبَّات الندى تتجمَّع، خرج الأمير أوتو أمير جروسنمارك في عُجالةٍ من بابٍ جانبيٍّ للقلعة، وسار مهرولًا نحو الغابة. وقد حيَّاه أحدُ الحرَّاس الذين لا حصر لهم، لكنَّه لم يلحظ ذلك. ولم يكن يرغب في أن يلاحظ أحدٌ أنَّه الأمير نفسه. سُرَّ حين ابتلعته الأشجار الضخمة الرمادية التي صارت لزجةً إثر اتشاحها بمياه الأمطار، مثل مستنقعٍ. وتعمَّد اختيار أكثر جانبٍ غير مطروقٍ من قصره، ولكن حتى ذلك الجانب كان غير مطروقٍ أكثر مما يتمنَّى، ولكن لم يكن هناك احتمالٌ ولو ضئيلًا أن يتبعه أحدٌ بدافع الفضول أو الملاحقة الدبلوماسية؛ لأنَّ خروجه جاء فجأة. وفي تلك اللحظة، كان جميع الدبلوماسيين ذوي الثياب الرسمية الكاملة الذين خلَّفهم وراءه غير مُهمِّين. لقد أدرك فجأةً أنَّه يستطيع الاستغناءَ عنهم.

لم يكن هوسه الأكبر هو خوفه من الموت، بل رغبته الغريبة الأقل نُبلًا بكثير في الحصول على الذهب. فبسبب هذه القصة القديمة عن الذهب، ترك جروسنمارك وغزا هايلجفالدنشتاين. وبسببها فقط، اشترى الخائن وذَبَح البطل، وبسببها، لطالما شكَّك في صِدق الحاجِب الكاذب واستجوبه، حتى استنتج أنَّ هذا الخائن كان يقول الحقيقة بالفعل حين شَعَرَ بصِدقِ جهله بمكان الذهب، وبسببها، أنفق الأموال ووعد بإنفاق المزيد، على مضضٍ بعض الشيء؛ رهانًا على الحصول على الغنيمة الكُبرى، وبسببها، تسلَّل من قصره خُفيةً مثل لصٍّ تحت الأمطار؛ لأنَّه فكرَ في وسيلةٍ أخرى لنَيل رغبته الشديدة، وتحقيقها بطريقةٍ وضيعة.

وبعيدًا في الطرف العلوي من مسارٍ جَبَليٍّ متعرج حيث كان يشقُّ طريقه، بين الصخور الراسخة على طول سلسلة التلال التي تُشرف على المدينة من الأعلى، كانت توجد الصَّوْمَعة، التي لم تكن أكثر من مُجرَّد كهفٍ محاط بنباتاتٍ شائكة، والتي انعزل فيها ثالثُ الأشقاء العظماء فترةً طويلةً حاجبًا نفسه عن العالم. وكان الأمير أوتو يعتقد أنه لا يُمكن أن يكون لديه سببٌ حقيقي لرفض التخلِّي عن الذهب. لقد كان يعرف مكانه منذ سنوات، ولم يبذل أيَّ جهدٍ للعثور عليه، حتى قبل أن تجعله عقيدته التصوُّفية الجديدة زاهدًا في ممتلكاته ومَلذَّاته. صحيحٌ أنَّه كان عَدُوًّا للأمير، لكنَّه الآن اعتنق مَذْهَبًا يُحتِّم عليه التطهُّرَ من أيِّ عداوات؛ ومن ثَمَّ، فربما إبداءُ بعض التملُّق لمعتقداته، واستمالة مبادئه، يجعلانه يبوح بمكان الذهب. لم يكن أوتو جبانًا، بالرغم من شبكة الاحتياطات العسكرية التي أقامها، وعلى أي حال، كان جشعُه أقوى من مخاوفه. كما أنه لم يكن هناك سببٌ قوي يجعله يخشى الذهاب إلى هناك. فإذا كان مُتيقِّنًا من عدم وجود أي أسلحةٍ خاصة في الإمارة كُلِّها، فقد كان تيقُّنه من عدم وجود أي سلاح في صومعة الزاهد الصغيرة فوق التل يفوق ذلك مائة مرة، حيث كان يقتاتُ على الأعشاب، برفقة خادمَين ساذجَين مُسِنَّين، وبدون أن يتعامل مع أي إنسانٍ آخَر سنةً تلو الأخرى. نظر الأمير أوتو إلى الأسفل بابتسامةٍ مُتجهِّمة نحو المتاهات المُربَّعة الساطعة في المدينة المضاءة بأنوار المصابيح أسفل منه. وبِقَدر ما تسنَّى له أن يرى، كان أصدقاؤه مُدجَّجين بالبنادق، بينما لم يكن هناك ذرة بارود واحدة مع أعدائه. تَمَرْكز الحُرَّاس المُدجَّجون بالبنادق على مَقرُبةٍ شديدة، حتى من هذا المسار الجبلي، لدرجة أنَّ صرخةً واحدةً منه كانت ستجعل الجنود يصعدون سريعًا إلى أعلى التل، فضلًا عن أنَّ الغابة والتلال كانتا تخضعان لدوريات حراسةٍ منتظمة؛ إذ كان الحرَّاس متمركِزين على بُعدٍ هائل في الغابة المُعتِمة لدرجة أنَّهم بَدوا أقزامًا بفِعل المسافة، وعلى الضفة الأخرى من النهر، حتى إنه يستحيل أن يتسلَّل أيُّ عدو إلى المدينة، ولو عبْر أيِّ طريقٍ جانبي. أُحيط القصر نفسه بحُرَّاسٍ عند الباب الغربي والباب الشرقي والباب الشمالي والجنوبي، وبطول الواجهات الأربع التي تربط هذه الأبواب. وحينئذٍ، تيقَّن الأميرُ من أنَّه آمنٌ تمامًا.

ثم تعزَّز ذلك اليقين حين بلغَ قمة التل، ووجد أنَّ عُشَّ عدوه القديم مُجرَّدٌ تمامًا من أيِّ مصدر خطورةٍ عليه؛ إذ وجد نفسه على منصةٍ صخريةٍ صغيرة تنتهي أطرافُها فجأةً عند أركان الجُرف الثلاثة. وخلفه كان يوجد الغارُ الأسود المُحاط بنباتاتٍ خضراء شائكة كانت منخفضة للغاية حتى إنه كان يصعُب تصديق أنَّ أيَّ رجلٍ يستطيع دخول الغار. أمَّا أمامه، فكانت هاوية الجُرف ومنظر الوادي الذي بدا فسيحًا لكنَّه ضبابي. وعلى المنصَّة الصخرية الصغيرة، كانت توجد مِقرَأة أو منبر قراءة برونزيٌّ قديم آيلٌ للانهيار تحت وطأة إنجيلٍ ألماني ثقيل. وكان لونه البرونزي أو النحاسي قد اكتسى بصبغةٍ خضراء في ظل عوامل التعرية الجوية في مكانٍ مرتفع كهذا، وهنا خَطَر على بال أوتو فورًا أنَّهم «حتى لو كانت لديهم أسلحة، فلا بُدَّ أنَّ الصدأ قد أصابها الآن.» وبدا بزوغ القمر شاحبًا شحوبَ الموتِ وراء القمم والصخور، وتوقَّف هطولُ المطر.

وخلف المنبر، وقفَ رجلٌ هَرِمٌ ناظرًا صوبَ الوادي ومرتديًا عباءةً سوداء تنسدل جوانبها نحو الأرض باستقامةٍ كالأجرافِ المُحيطة به، لكنَّ شعره الأبيض وصوته الواهن كانا مُتهدِّجين وسط الرياح. وكان من الواضح أنه يقرأ وعْظًا كجزءٍ من طقوسه الدينية. قال: «إنهم يثقون في خيولهم …»

فقال له أمير هايلجفالدنشتاين بنبرةٍ لطيفة غير مُعتادة: «سيدي، أودُّ أن تسمح لي بكلمةٍ واحدة فقط معك.»

وهنا كان الرجلُ الهَرِم يواصل القراءة بصوته الواهن قائلًا: «… وفي عجلاتهم الحربية، لكننا نثق في قدرة ربِّ الجيوش …» وأصبحت كلماته الأخيرة غير مسموعة، ثُمَّ أغلق الكتابَ بوقار، ولأنَّه كان شبه ضرير، تَحَسَّس بيديه إلى أنْ أمسكَ بالمنبر. وهنا سرعان ما هَبَّ خادماه من الغار المنخفض وأسنداه. كانا يرتديان عباءتين سوداوين باهتتين كعباءته، لكنَّ شعرهما لم يكن يعلوه الشيبُ الأبيض الرمادي الذي اعتلى رأسه، وكذلك لم تكن ملامحهما شاحبةً كملامحه التي أضناها الدهرُ بصروفه؛ إذ كانا ريفيَّين، من كرواتيا أو المجر، لهما وجهان عريضان فَظَّان وأعين تختلس النظرات. وللوهلة الأولى، أزعجَ شيءٌ ما الأميرَ، إلا أن هذا لم يفتَّ في عضد شجاعته وحسِّه الدبلوماسي.

وقال: «يؤسفني أننا لم نلتقِ منذ الهجوم المدفعي الرهيب الذي مات فيه شقيقك المسكين.»

فقال الرجلُ الهَرِم الذي كان ما يزال ناظرًا صوب الوادي: «كلا شقيقيَّ قد مات.» ثم التفت لحظةً واحدة بوجهه الناعم المتدلِّي وشعره الأبيض الذي بدا منسابًا على حاجبيه مثل رقاقات الثلج المُتهدِّلة، وأضافَ: «وكما ترى، فأنا أيضًا ميت.»

فقال له الأمير وهو ينتقي ألفاظه كأنَّه يسترضيه: «آملُ أن تتفهَّم أنني لست هنا لأُطاردك، وكأنني شَبَح لتلك النزاعات الشديدة. دعنا لا نتحدَّث أيُّنا كان محقًّا أو أيُّنا كان مخطئًا في تلك النزاعات، فثمة نقطةٌ واحدة على الأقل لم نكن مخطئين بشأنها إطلاقًا؛ لأنَّك دائمًا ما كنت مُحِقًّا. ومهما قيل عن سياسة عائلتك، لا يتخيل أحدٌ ولو للحظة واحدة أنَّ الذهب يستهويك، لقد أثبتَّ أنَّك فوق مستوى الشُّبهات في أنَّ …»

وحتى تلك اللحظة، كان الرجل الهَرِم ذو العباءة السوداء ما زال يُحدِّق إليه بعينيه الزرقاوين الدامعتين وبعض ملامح الحكمة الواهنة ترتسم على وجهه، ولكن حالما سمع كلمة «الذهب»، مَدَّ يده كأنَّه يوقِف شيئًا ما، وأشاحَ وجهه بعيدًا ناظرًا نحو الجبال.

وقال: «إنَّه يتحدَّثُ عن الذهب. إنَّه يتحدَّثُ عن أشياء مُحرَّمة. أسكِتوه.»

كان أوتو لديه عيبٌ متأصِّل في السمات والتقاليد البروسية، وهو أنه لا يعتبر النجاحَ أمرًا يصل إليه بعد جهدٍ، بل سمةً فُطِرَ عليها البروسيون. لقد كان يتصوَّر أنَّ قَدَره وقَدَرَ أمثاله من البروسيين هو الانتصارُ الأبدي على شعوبٍ مُقدَّرٍ لها أن تظل مقهورةً إلى الأبد؛ ومن ثمَّ، لم يكن ضليعًا في التعامل مع الأمور المُباغِتة، ولم يكن مستعدًّا للحركة التالية، التي باغتته وشَلَّت أركانه. فبينما همَّ بفتح فمه للرد على الناسك، شُلَّ فمه وخُنِق صوته بكِمامةٍ ناعمة قوية الْتفَّتْ فجأةً حول رأسه مثل مِرقأةٍ لإيقاف النزيف. ومرَّت أربعون ثانيةً كاملة قبل أن يُدرِك أنَّ الخادمَين المجريَّين هما اللذان كمَّماه، وأنَّهما فَعَلا ذلك بوشاحه العسكري.

ثم ذهَبَ الرجلُ الهَرِم مرةً أخرى بخطواتٍ واهنة إلى إنجيله الثقيل المسنود على المنبر النُّحاسي، وقَلَّب في أوراقه بصَبرٍ فظيع، حتى وصلَ إلى رسالة يعقوب، ثم بدأ يتلو قائلًا: «اللسانُ عضوٌ صغير، ولكن …»

ويبدو أنَّ شيئًا ما في صوت الرجل جعل الأميرَ يستدير فجأةً ويركض بأقصى سرعته نزولًا على المسار الجبلي الذي صَعِده. ثم أصبح في منتصف الطريق نحو حدائق القصر قبل أن يحاول حتى تمزيق الوشاح الخانق وإزالته عن عنقه وفكَّيه. لقد حاول تمزيقه مرارًا وتكرارًا، لكنَّ ذلك كان مستحيلًا؛ فالرجلان اللذان عقدا هذه الكمامة يعرفان الفَرق بين ما يستطيع الرجل فعله ويداه أمامه وما يستطيع فعله ويداه خلف رأسه. كانت ساقاه طليقتين ليقفز كيفما يشاء مثل الظباء في الجبال، وكانت ذراعاه حُرَّتين ليشير بأيِّ إيماءة أو يلوِّح بأي إشارة، لكنَّه كان عاجزًا عن الكلام. كان أشبه بشيطان أخرس.

ثم اقتربَ من الغابة المُحوِّطة لأسوار قلعته قبل أن يدرك تمامًا ما الذي يعنيه عجزه عن الكلام وما الذي كان مقصودًا بإسكاته هكذا. وحينئذٍ، نظرَ نظرةً أخرى مُتجهِّمةً إلى الأسفل نحو المتاهات المُربَّعة الساطعة في المدينة المضاءة بأنوار المصابيح، لكنَّه لم يكن يبتسم هذه المرة. وشَعر بنفسه يُكرِّر العبارات التي خَطَرت على باله في أثناء صعوده بسُخريةٍ قاتلة. فبِقَدر ما تسنَّى له أن يرى، رأى حُرَّاسه مُدجَّجين بالبنادق، لكنَّ كُلَّ واحدٍ منهم سيُرديه قتيلًا رميًا بالرصاص إذا لم يَرُد على ندائه حين يعترضه. كان حشدٌ من الحُرَّاس المُدجَّجين بالبنادق متمركِزًا على مسافةٍ قريبة للغاية بحيث يتسنَّى إقامة دوريات حراسةٍ منتظمة في الغابة والتل؛ ومن ثمَّ فلا فائدةَ من الاختباء في الغابة حتى الصباح. وكان حشدٌ آخر من الحُرَّاس المُدجَّجين بالبنادق متمركزًا على مسافةٍ بعيدة للغاية حتى إنه يستحيل لأيِّ عدو التسلل إلى المدينة، ولو عبْر أيِّ طريقٍ جانبي؛ ومن ثمَّ لم تكن هناك جدوى من محاولة العودة إلى المدينة عبر أيِّ مسار بعيد. وصحيحٌ أنَّ صرخةً واحدة منه كانت ستستحضر جنوده سريعًا إلى أعلى التل. لكنَّه كان عاجزًا عن إطلاق أيِّ صرخة.

كان ضوءُ القمر الفِضِّي يشتد لمعانًا، بينما ظهرت خطوطٌ زرقاء ليلية لامعة في السماء بين خطوطٍ سوداء من أشجار الصنوبر المحيطة بالقلعة. وفي اللحظة نفسها، كانت هناك أزهارٌ عريضة ريشية — لم يعرف نوعها بالضبط لأنَّه لم يلاحظ مثل هذه الأشياء من قبل — لامعةٌ وتبدو بلونٍ مغاير تحت ضوء القمر، وبدت رائعةً على نحوٍ يفوق الوصف بينما كانت تتجمَّع معًا كما لو كانت تزحف حول جذور الأشجار. وربما كان قد فقدَ صوابه فجأةً بسبب الكمامة غير المعتادة التي تُخرِس لسانه، لكنَّه شعرَ في تلك الغابة بشيءٍ ألماني على نحوٍ غير مفهوم؛ ألا وهو القصة الخيالية. كان يُدِرك بنصف صوابه الذي لم يفقده أنَّه يقترب من قلعة غول، ونَسِي أنَّه هو الغول. وتَذَكَّر حين كان يسأل والدته عَمَّا إذا كانت الدِّببة تعيش في المُتنزَّه القديم في موطنه. ثم انحنى ليقطف زهرةً، كما لو كانت تعويذةً تحميه من السحر. كانت ساقُ الزهرة أقوى ممَّا كان يتوقع، فكُسِرَت مُحدِثة صوتَ فَرقعةٍ خفيفًا. وبينما كان يحاول وضعها بحرصٍ في وشاحه، سمع جُنديًّا يُنادي بصوتٍ عالٍ: «مَنْ هناك؟» ثم تَذَكَّر أنَّ الوشاح لم يكن في مكانه المعتاد.

حاول الصراخ، لكنَّه كان مُكَمَّمًا. ثم جاءت صيحةُ النداء الثانية، متبوعةً برصاصةٍ أحدَثت صوتًا عاليًا سَكَن فجأةً بعد اختراقها له. وحينئذٍ، جثا أوتو أمير جروسنمارك بسلامٍ تام بين الأشجار الخيالية، وما عاد ليؤذي أحدًا، لا بالذهب ولا الفولاذ، ولم يكن ثمة ما يكشف مكانَ وشاحه الرسمي العسكري المعقود بإحكام يصعُب حلُّه أو التجاعيد المحفورة على جبينه المُسِن سوى شعاع الضوء الفِضِّي الخافت المنبعث من القمر. فليرحَم الله روحه.

أمَّا الحارس الذي أطلق النار، بناءً على الأوامر الصارمة الصادرة إلى حَرَس القلعة، فرَكَض إلى الأمام بطبيعة الحال ليعثر على شيءٍ من آثار الطريد الذي رماه بالرصاص. كان هذا الحارس جنديًّا يُدعى شوارتز — وقد صار بعدها بطلًا عسكريًّا شهيرًا — ووجد أنَّ الشخص الذي أرداه قتيلًا رجلٌ أصلع يرتدي زِيًّا عسكريًّا رسميًّا، لكنَّ وجهه مُكمَّمٌ بوشاحه العسكري حتى إنه لا يُرى فيه سوى عينين فاغرتين فارقتا الحياة، تلمعان كالحجر في ضوء القمر. لقد اخترقت الرصاصة الكمامة ثم استقرَّت في الفك؛ ولذا كان يوجد ثقبٌ ناجمٌ عن رصاصةٍ في الوشاح، لكنَّه مات بطلقةٍ واحدةٍ فقط. وبطبيعة الحال، حتى وإن لم يُعدَّ هذا هو التصرُّف السليم في مثل هذه المواقف، مَزَّق شوارتز الشابُّ الفَتِيُّ الكمامةَ الحريرية الغامضة وألقى بها على العشب. ثم أدرك هوية الشخص الذي قتله.

لا يمكننا التيقُّن ممَّا حدث بعد ذلك، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأنَّ هذه الغابة الصغيرة قد شهدت — رغم كل شيءٍ — قصةً خيالية فظيعةً كالحادثة التي نجمت عنها. فبخصوصِ ما إذا كانت السيدة الشابة المدعوة هيدفيج كانت لديها أيُّ معرفةٍ سابقة بالجندي الذي أنقذته وتزوجته في نهاية المطاف، أم أنَّها كانت موجودة بمحض الصدفة في مكان الحادث ثم بدأت العلاقة الغرامية بينهما في تلك الليلة، فربما لن نعرف ذلك أبدًا، لكن يمكننا أن نتخيل أنَّ هيدفيج كانت بطلة واستحقَّت الزواج برَجُلٍ أصبح بطلًا. لقد تصرَّفت التصرُّفَ الجريء والحكيم؛ إذ أقنعت الحارس بالعودة إلى موقعه، حيث لم يكن هناك شيءٌ يربطه بالحادث؛ لأنَّه كان مُجرَّد واحدٍ من أخلَص الحُرَّاس الخمسين القريبين من مكان الحادث وأكثرهم انضباطًا. أمَّا هي، فبقيت بجوار الجُثَّة، وصاحت مُعلنةً الخبر. ولم يكن هناك ما يربطها هي الأخرى بالحادث؛ لأنَّها لم تكن تملك أيَّ أسلحةٍ نارية، ولم يكن بوسعها الحصول على أيٍّ منها.»

ثم قال الأبُ براون وهو ينهض مُنتشيًا: «حسنًا، آملُ أن يكونا سعيدين.»

سأله فلامبو: «إلى أين أنت ذاهب؟»

فأجابَ القَسُّ: «سألقي نظرةً أخرى على صورة الحاجِب، الشقيق بول أرنولد الذي خان شقيقيه. إنني أتساءل: إذا خان الرجلُ رفاقه ثم خان عَدُوَّه، فهل يُهوِّن ذلك من خيانته الأولى؟»

ووقفَ يتأملُ مليًّا صورة رجلٍ أبيض الشعر أسود الحاجبيْن ذي ابتسامةٍ وردية مُصطنعة تبدو متناقضةً مع النظرة التحذيرية الشريرة المنبعثة من عينيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤