العودة إلى الروحانيات ومشكلة المرأة١

حين كنت أستاذة زائرة في جامعة ديوك خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، وحين تجولت في عدد من الجامعات الأمريكية في زيارات قصيرة لإلقاء محاضرة، أو زيارات أطول لأقوم بتدريس Semester أو أكثر من «سيميستر»، لاحظت أن هناك اتجاهًا بين النساء (وبعض الرجال) نحو ما يمكن أن يُسمى «العودة إلى الروحانيات».
وكنت أسألهم دائمًا: «ماذا تعنون بكلمة الروحانيات أو الروحانية Spirituality؟» لم تكن عندهم إجابة واضحة، وإنما كلمات غامضة من نوع: «الروحانية هي أن نرفض هذه الحضارة المادية التي لا تهتم إلا بالماديات والشهوات الجسدية وتنسى الروحانيات.»
كانت الواحدة من هؤلاء تَعتبر نفسها امرأة متحررة، أو Feminist، ومع ذلك هي تخفي وجهها الحقيقي تحت طبقة سميكة من المكياج، في أذنيها يتدلَّى حلق كبير ضخم، في قدميها حذاء له كعب عالٍ مدبب، ملابسها شبه عارية كاشفة عن فخذيها وجزء من نهديها، هي تتبع كل مواصفات الموضة وأدوات الزينة الحديثة وما بعد الحديثة، ومع ذلك تَعتبر نفسها امرأة روحانية متحررة …

– هل تعرية جسد المرأة نوع من الروحانية الجديدة؟

– هل تغطية وجه المرأة بطبقة من المساحيق نوع من التحرر؟!

– ما الفرق بين تغطية وجه المرأة بالمساحيق وتغطيته بقطعة قماش، أعني «الحجاب»؟!

كنت أتحاور كثيرًا مع هؤلاء النساء الروحانيات المتحررات، وأندهش لهذا التناقض الكبير الذي يعشن فيه، فالروحانية مثلًا تعني أن المرأة تفصل بين جسدها وروحها، وأنها تهتم أكثر بروحها، إلا أن معظم هؤلاء النساء يوجهن اهتمامهن لجسدهن وشكلهن الخارجي أكثر من أي شيء آخر؛ مما يتناقض مع فلسفة تحرير المرأة أو Leminism. إن هذه الفلسفة تنقد فكرة فصل الجسد عن الروح والجسد، أصبح الله هو الروح، والجسد هو الشيطان، أصبح الرجل يرمز إلى الروح والإله، والمرأة ترمز إلى الجسد والشيطان.
كيف إذن تكون المرأة متحررة (أي Leminist) ثم تؤمن بانفصال الروحانيات عن الماديات؟!

في رأيي أن عبارة «العودة إلى الروحانيات» لا تختلف كثيرًا عن عبارة «العودة إلى الأديان» التي تطلقها الحركات الدينية السياسية المسيحية والإسلامية واليهودية والبوذية والهندوكية … إلخ، إنهم يستخدمون العبارات ذاتها، ويقولون أيضًا إن الحضارة الغربية هي حضارة مادية؛ ولهذا أدت إلى تعاسة الإنسان، لكن العودة إلى الله أو الدين (العودة إلى الإنجيل، التوراة، القرآن …) هي التي سوف تنقذ الإنسان وتملأ قلبه بالإيمان والسلام والسعادة.

يتحدثون دائمًا عن الإيمان والسلام والسعادة، وهي كلمات بلا معنًى إذا كانت عامة مطلقة غير خاضعة لمكان معين وزمان معين.

أصبحت كلمة «السلام» مرادفة لكلمة الروحاني أو الملائكية. يقولون ملائكة السلام، ولا يقولون شياطين السلام. في حين أن كلمة «السلام» قد تخفي تحتها كل ما ينتهك السلام الحقيقي القائم على العدل.

إن ترابط الروح بالجسد هو نفسه ترابط السلام بالعدل، وقد نشأت العبودية (أو النظام الطبقي الأبوي) في التاريخ على هذا الفصل بين العدل والسلام. اندرجت النساء والعبيد والحيوانات تحت بند الأشياء التي يملكها الرجل صاحب الأسرة (الفاميليا)، وقع الظلم على النساء والعبيد والأُجراء وفُرض عليهم السلام أيضًا رغم وقوع الظلم. لم يكن لهؤلاء النساء والعبيد أن يحاربوا الأسياد الآلهة، وإلا اعتُبِروا شياطين وكفرة، ومن الواجب قتلهم أو حرقهم أو نفيهم خارج البلاد.

هذا حدث على مدار التاريخ منذ احتكار الإله الذكر الواحد لعرش السموات والأرض، رغم أن هذا العرش في مصر القديمة مثلًا كانت تجلس عليه الإلهة «نوت» والإلهة إيزيس وغيرهما من الإلهات الإناث وآلهة أيضًا من الذكور.

بل إنه يحدث أيضًا اليوم في عدد من بلاد العالم أن يُقتل رجال ونساء يطالبون بالعدل في العلاقات بين البشر دوليًّا ومحليًّا وداخل العائلة.

إننا نتابع ضحايا التيارات الدينية السياسية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وعندنا الأمثلة في بلادنا العربية في الجزائر وفي مصر، أنا شخصيًّا تعرضت للتهديد بالقتل في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ووُضع اسمي فيما سُمي «قائمة الموت» مع عدد من أسماء الأدباء والمفكرين المصريين والعرب يبلغ عددهم خمسين اسمًا، وقد وضعت الحكومة المصرية حراسة مسلحة أمام بيتي ليل نهار وبودي جارد bodyguard يرافقني حيثما ذهبت، وقد اضطُررت إزاء هذا الوضع أن أغادر مصر وأعيش في المنفى خمس سنوات تقريبًا خارج الوطن (من ١٩٩٢م حتى ١٩٩٧). لم أعد إلى مصر إلا في يناير ١٩٩٧. ضمن الاتهامات التي وُجهت إليَّ أنني ضد الإسلام، وأنني أحرض النساء (والشباب) للتمرد على أوامر الله الواردة في الكتب السماوية.

منذ طفولتي أمرني أبي بدراسة القرآن والإنجيل والتوراة، هذه الكتب الإلهية الثلاثة يؤمن بها المسلمون، لا يمكن أن يكون المسلم مسلمًا دون أن يؤمن بالدين اليهودي والدين المسيحي. إن الفروق بين الأديان السماوية الثلاثة ليست جوهرية، بدليل أن الله أمر المسلمين بالإيمان بكتبه الثلاثة.

إذا درسنا هذه الكتب الثلاثة بعمق اكتشفنا التشابه الكبير بينها، وأنها تقوم على فلسفة واحدة هي فصل الروح عن الجسد، فصل المكان عن الزمان، فصل الأرض عن السماء، فصل المرأة عن الرجل.

أصبح الله يرمز إلى الروح والزمان والسماء، والرجل هو الفاعل الإيجابي الذي يملك الشرف واللذة والقانون، وأصبحت المرأة هي المفعول به، هي الجسد، هي المكان، هي الأرض، هي الآثمة حواء (ذاقت لذة المعرفة)، هي الطاهرة العذراء (إن حُرمت اللذة وعاشت بلا جنس، وبلا معرفة).

هناك علاقة تاريخية بين الاتجاه الروحي أو الديني في التاريخ وعبودية المرأة وظلمها. لا يمكن الفصل بين الاتجاه الديني والاتجاه الروحاني، كلاهما واحد، وإن اختلفت اللغة وتغيرت أشكال الروحانية فهي تنبع من فلسفة الفصل بين الروح والجسد، واعتبار الروح أسمى من الجسد. إن الرجل أسمى من المرأة؛ لأن الرجل يمثل الله على الأرض، والله يخاطَب بلغة المذكر في الأديان والكتب السماوية، وجميع الأنبياء ذكور.

إن النظام الذي نعيشه اليوم يقوم على هذه الفلسفة الانفصالية بين الروح والجسد. إنه نظام عبودي في أساسه رغم أننا يمكن أن نصفه بأنه حديث وأيضًا Postmodern، إلا أن الفلسفة لم تتغير في جوهرها، إلا في القليل النادر من الكتابات التي تنقد هذا النظام الطبقي الأبوي وتسوق فلسفة جديدة قائمة على الوحدة بين الروح والجسد والزمان والمكان والله والشيطان والرجل والمرأة.

إلا أن معظم الفلاسفة والمفكرين في العالم شرقًا وغربًا لا زالوا يستمدون فلسفتهم من الروحانية الدينية، ويعتبرون أن مصدر المعرفة هو الله أو كتاب الله.

«مَن تنبع معرفته من نفسه فهو مفكر (أو مفكرة)، ومن تنبع معرفته من الله فهو رسول فقط.» والفرق كبير بين الرسول أو النبي، وبين المفكر من الرجال أو المفكرة من النساء. إن الرسول ليس إلا رسولًا ينقل رسالة ما، لكن المفكر هو خالق المعرفة، إنه لا ينقلها بل يخلقها بنفسه أو بنفسها من حياتها وتجاربها في الحياة.

الاتجاه نحو الروحانية أو العودة إلى الأديان هو اتجاه نحو النقل، هو اتجاه معاكس للإبداع. هناك علاقة وثيقة بين الإبداع والتمرد على منابع المعرفة الثابتة على شكل نصوص مقدسة في الكتب.

هناك محاولة اليوم لإعادة تفسير الآيات الإلهية في الإنجيل أو التوراة أو القرآن، وهناك مجموعات من النساء في جميع بلاد العالم يشتغلن بإعادة تفسير هذه الآيات بحيث تلغي الظلم الواقع على النساء. وهي محاولات مطلوبة في هذه المرحلة الانتقالية من الفلسفة العبودية (الطبقية الأبوية) إلى فلسفة جديدة إنسانية تعيد إلى الإنسان الوحدة الطبيعية بين الجسد والروح، وتقضي على الترتيب العبودي الهرمي للمخلوقات.

الله الروح الرجل. المرأة الجسد الحيوان. إلا أنها مرحلة مؤقتة للخروج من الفلسفة العبودية نهائيًّا وبدء الفلسفة الإنسانية.

من الفلاسفة العرب في القرن الثالث الهجري كان أبو عثمان الجاحظ يرى أن المعرفة منبعها عقل الإنسان وليس كتاب الله أو أحاديث الأنبياء، كان يحارب رجال الدين ويقول إنهم سبب الفساد يساندون الملوك، يستخدمون الله لتحقيق مصالحهم المادية. مات الجاحظ فقيرًا معزولًا مضروبًا من السلطة الحاكمة.

هل يمكن القول إن الاتجاهات الروحانية والدينية في عصرنا هذا هي محاولات جديدة لاستخدام «الروح» أو الله لتحقيق المصالح المادية؟

إن الفلسفة الإنسانية المعادية للروحانية المزيفة لم تبدأ مؤخرًا، ولكنها بدأت في الحضارات القديمة قبل نشوء العبودية، في مصر القديمة والعراق وفلسطين وسوريا.

لم يكف النضال ضد الفلسفة العبودية منذ بدأت حتى اليوم. إن كثيرًا من الفلاسفة في الغرب (في أوروبا وأمريكا) يتصورون أن البلاد التي أطلقوا عليها بلاد العالم الثالث لم يخرج منها فلاسفة من الرجال أو النساء، لكن دراسة التاريخ تؤكد أن عددًا غير قليل من الفلاسفة الرجال والنساء عاشوا في بلاد أفريقية وآسيوية، وكانوا روادًا ورائدات للحركة الفكرية المعادية للروحانيات والأديان، في مصر مثلًا كانت الفيلسوفة المصرية هيباثيا التي قُتلت عام ٤١٥ ميلادية وحُرقت كتبها في مدينة الإسكندرية.

حضرت منذ شهور في القاهرة (مارس ١٩٩٧) مؤتمرًا تحت عنوان «الصراعات الثقافية في العالم»، لاحظت أن أغلب الحاضرين كانوا رجالًا، إنهم رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية (يسار اشتراكي أو يمين رأسمالي) ورغم انتماءاتهم الدينية (مسلمون وأقباط مسيحيون) فإن معظمهم تحزبوا مع الاتجاه الداعي إلى العودة إلى الإسلام والروحانية، والتمسك بالقيم القديمة للحفاظ على العائلة من التفكك في مواجهة الانحلال الأخلاقي في الغرب!

أحد الأساتذة المصريين في المؤتمر صعد إلى المنصة حول عنقه جهاز سماعات أمريكي الصنع، يرتدي بدلة من الصوف الإنجليزي، يمتلك سيارة أمريكية، في بيته جهاز كمبيوتر وإنترنت، أولاده وبناته يدرسون في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، يتحدث كلمات عربية إنجليزية، عاش في أمريكا خمسة وثلاثين عامًا، ثم عاد إلى مصر أستاذًا بالجامعة ينادي بالعودة إلى الإسلام والروحانيات. لماذا؟ لأن الحضارة الغربية مادية.

تذكرت على الفور السيدة الأمريكية التي تخفي وجهها تحت طبقة من المساحيق تكشف عن فخذيها في الميكروجيب ثم تنادي بالعودة إلى المسيحية والروحانيات. لماذا؟ لأن الحضارة الغربية مادية.

ويقولون الحضارة الشرقية روحانية؛ لهذا يتغنى بعض الأساتذة اليوم بالحضارة الصينية أو الإسلامية، يقولون إن هذه الحضارات الروحانية الشرقية سوف تكون هي المستقبل، على نقيض ما يقوله بعض الأساتذة الأمريكيين (من أمثال فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنجتون) أن هذه الحضارة الغربية التي حققت نجاحًا على غيرها من الحضارات وأصبحت سيدة العالم بدليل سيادة أمريكا.

هذه في رأيي أفكار أحادية، أساسها الفلسفة العبودية، التي ترى «الروح» هي الخير المطلق، و«المادة» هي الشر المطلق.

إن الحضارة في الغرب ليست مادية فقط، بل هي مادية في أمور الاقتصاد والسياسة والحرب والاستغلال الطبقي الأبوي، وهي روحانية في أمور الدين ومحاولة إخفاء المصالح الاقتصادية والعسكرية تحت شعارات دينية روحية وإنسانية كاذبة.

كما أن الحضارة في الشرق ليست روحانية فقط، بل هي مادية ولها جوانبها السلبية والإيجابية كأي حضارة أخرى.

نحن في حاجة إلى إعادة النظر في كل هذه التقسيمات المضللة: شرق وغرب، روح ومادة، ذكر وأنثى، إله وشيطان … إلخ. وهذا هو المطلوب، وليس المطلوب هو أن نرث هذه التقسيمات ثم نتشدق بالروحانيات على حين نغرق في ملذات الماديات.

١  القاهرة، يونيو ١٩٩٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤