رسالة ابن المقفع في الصحابة

أمَّا بعد … أصلحَ الله أميرَ المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرَّحمة، فإنَّ أمير المؤمنين — حفظه الله — يجمعُ مع علمه المسألَة والاسْتِمَاع، كما كان ولاة الشر يَجْمَعُون مع جهلهم العُجْبَ والاستغناء، ويستوثِقُ لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته، فيما يَلْطُفُ له من الفحص عن أمورهم، كما كان أولئك يكتفون بالدعة، ويَرْضُون بدحوض الحجَّة وانقطَاعِ العُذْرِ في الامتناع أن يجترئ عليهم أحدٌ بِرَأي أو خبر مع تسليط الدَّيَّان، وقد عصم الله أمير المؤمنين — حين أهلك عدوه وشَفَى غَليله، ومَكَّن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها — من أن يشغل نفسه بالتمتُّع والتفتيش والتأثُّل والإخلاد، وأن يرضى ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفس منه، وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه، وذلك من أبين علامات السعادة، وأنجح الأعوان على الخير، وقد قَصَّ الله — عز وجل — علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه، وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، وجمع له شمله، وأقر عينه بأبويه وإخوته أثنى على الله — عز وجل — بنعمته ثم سلا عما كان فيه، وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (يوسف: ١٠١).

وفي الذي قد عَرَفْنا من طريقة أمير المؤمنين مَا يُشَجِّع ذا الرأي على تناوُله بالخبرة، فيما ظَنَّ أنه لم يبلغه إياه غيره، وبالتذكير بما قد انتهى إليه، ولا يزيد صاحب الرَّأي على أن يكون مخبرًا أو مُذَكِّرًا، وكل عندَ أَمير المؤمنين مقبولٌ إِنْ شاء الله مع أن مما يزيد ذوي الألباب نَشَاطًا إعمالَ ذوي الرَّأي فيما يُصلح الله به الأُمَّة في يُومها، أو غابر دَهْرِها الذي أصبَحُوا قد طمعوا فيه، ولعلَّ ذلكَ أن يكون على يدي أمير المؤمنين؛ فإنَّ مع الطَّمع الجد ومع اليأس القنوط، وقلَّمَا ضعف الرَّجاء إلا ذَهَبَ الرَّخاء، وطَلَبُ المؤيس عجز، وطَلَبُ الطامع حزم، ولم نُدْرِك الناس نحن وآباؤنا، إلا وهم يَرَوْن فيها خلًّا لا يَقْطَعُ الرَّأي ويمسك بالأفواه، من حَال وال لم يُهمه الإصلاح أو أهمه ذلك، ولم يَثِقْ فيه بفضل رأي، أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صول بصرامة أو حزم، أو كان ذلك استئثارًا منه على النَّاس بنشب، أو قِلَّة تَقَدُّم لما يجمع أو يقسم، أو حالِ أعوان ينيل بهم، الولاة ليسوا على الخير بأعوان. وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر، ومخافة الدُّول والفساد إنْ واجههم، أو انتقص ما في أيديهم، أو حَال رعية مُتَّزرة ليس لها من أمرها النَّصَفُ في نفسها؛ فإنْ أخذت بالشدة حميت، وإنْ أخذت باللين طَغَتْ، وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين، فآتاه الله ما آتاه في نيَّته ومَقْدِرَته وعَزْمه ثم لم يزل يرى ذلك منه الناس، حتى عرفه منه جُهَّالُهم فضلًا عن علمائهم.

وصَنَعَ الله لأمير المؤمنين ألطف الصنع في اقتلاع من كان يشركه في أمره على غير طريقته ورأيه، حتى أراحَه الله وأمنه منهم، بما جعلوا من الحجة والسبيل على أنفسهم، وما قوَّى الله عليه أمير المؤمنين في رأيه واتباعه مرضاته، وأذَلَّ الله لأميرِ المؤمنينَ رَعِيَّته بما جمع له من اللين والعفو؛ فإنْ لانَ لأحَدٍ منهم، ففي الإثخان له، شهيدٌ على أن ذلك ليس بضعف ولا مُصَانعة، وإن اشتد على أحد منهم، ففي العفو شهيد على أن ذلك ليس بعُنْفٍ ولا خَرْق، مع أمور سوى ذلك يُكَفُّ عن ذكرها كَرَاهة أن يكون كأنا نصبنا المدح، فما أخْلَقَ هذه الأشياء أن تكون عتادًا لكل جسيم من الخير في الدُّنيا والآخرة واليوم والغد والخاصَّة والعامَّة، وما أرجانا لأن يكون أمير المؤمنين بما أصلح الله الأمة من بعده أشدَّ اهتمامًا من بعض الوُلاة بما لا يُصْلِحُ رعيته في سُلْطَانه، وما أشَدَّ ما قد استبان لنا أن أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية، ولها نظرًا وتقديرًا من الرجل منا بخاصَّة أهله، ففي دون هذا ما يثبت الأمل ويُنَشِّطُ للعمل — ولا قُوَّة إلا بالله، ولله الحمد وعلى الله التمام.

فمن الأُمور التي يُذْكَرُ بها أمير المؤمنين — أمتع الله به — أمر هذا الجند من أهل خراسان؛ فإنهم جندٌ لم يُدْرَك مِثْلُهم في الإسلام، وفيهم مَنَعَةٌ بها يتم فضلهم، إن شاء الله، أمَّا هم: فأهلُ بصر بالطَّاعة وفضل عند الناس، وعَفَاف نفوس وفروج، وكفٍّ عن الفساد وذُلٍّ للولاة فَهَذِه حالٌ لا نعلمها توجد عند أحد غيرهم، وأمَّا ما يحتاجون فيه إلى المنعة من ذلك فتقويمُ أيْدِيهم ورَأيهم وكلامِهِم؛ فإنَّ في ذلك اليوم اختلاطًا من رأس مُفَرِّطٍ غَالٍ، وتَابِعٍ مُتَحَيِّرٍ شَاكٍّ، ومَن كان إنما يصولُ على النَّاس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرَّأي والقول والسيرة فهو كراكب الأسد الذي يُوجِلُ من رآه والراكب أشد وجلا، فلو أن أمير المؤمنين كتب لهم أمانًا معروفًا بليغًا وجيزًا محيطًا بكل شيء يجب أن يقول فيه، ويكُفُّوا عنه بالغًا في الحجة قاصرًا عن الغلو يحفظه رؤساؤهم حتى يقود به دهماءهم، ويتعهد به منهم من لا يؤبه له من عرض الناس لكان ذلك — إن شاء الله — لرأيهم صلاحًا، وعلى من سواهم حُجَّة وعند الله عذرًا، فإن كثيرًا من المتكلمين من قُوَّاد أمير المؤمنين اليوم، إنما عامَّة كلامهم فيما يؤمر الأمر ويُرغم الرغم أن أمير المؤمنين لو أَمَرَ الجبال أن تسير سارت. ولو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فُعلَ ذلك، وهذا كلام قلما «يرتضيه» من كان مخالفًا، وقلَّما يرد في سمع السامع إلا أحدث في قلبه ريبة وشكًا، والذي يقُولُ أهل القَصْدِ من المسلمين هو أقوى للأمر، وأعَزُّ للسُّلْطَانِ وأقْمَعُ للمُخَالف وأرضَى للموافق، وأثبت للعذر عند الله — عز وجل.

فإنا قد سمعنا فريقًا من الناس يقولون لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، بنوا قولهم هذا بناءً معوجًّا. فقالوا: إنْ أمرنا الإمام بمعصية الله، فهو أهل أن يُعصَى، وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يُطاع، فإذا كان الإمام يُعصى في المعصية. وكان غير الإمام يُطاع في الطاعة فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء، وهذا قول معلوم يجدُهُ السُّلْطَانُ ذَرِيعَةً إلى الطاعة والذي فيه أمْنِيَّتُه لئلا يكون للناس نظائر، ولا يقوم بأمرهم إمام، ولا يكون على عدوهم منهم ثقل.

سمعنا آخرين يقولون: بل نُطِيعُ الأئِمَّةَ في كل أمُورنا، ولا نُفَتِّش عن طاعة الله ولا معصيته، ولا يكونُ أحدٌ منا عليهم حسيبًا، هم وُلاةُ الأمرِ وأهلُ العِلْم، ونحنُ الأتباع وعلينا الطاعة والتسليمُ. وليس هذا القول بأقلَّ ضررًا في توهين السُّلطان، وتهجين الطَّاعة من القَوْلِ الذي قَبْلَه؛ لأنه ينتهي إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهارًا صَرَاحًا. وقال أهلُ الفضل والصواب: قد أصاب الذين قالوا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولم يصيبوا في تعطيلهم طاعة الأئمة وتسخيفهم إياها، وأصاب الذين أقروا بطاعة الأئمة لما حققوا منها، ولم يصيبوا ما أبهموا من ذلك في الأمور كلها، فأما إقرارُنا بأنه لا يُطاع الإمام في معصية الله؛ فإنما ذلك في عزائم الفرائض، والحدود التي لم يجعل الله لأحد عليها سلطانًا. ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج، أو مَنَعَ الحدُودَ وأبَاحَ ما حَرَّمَ الله لم يكن له في ذلك أمر.

فأمَّا إثباتُنا للإمامِ الطاعةَ فيمَا لا يُطَاعُ فيه غيره؛ فإنَّ ذلك في الرأي والتدبير، والأمر الذي جَعَل الله أَزِمَّتَه وعراه بأيدي الأئمة ليس لأحد فيه أمر، ولا طاعة من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والترك والحكم بالرأي، فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة، ومُحَاربة العدو ومُخَادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عليهم، وهذه الأمُورُ وأشبَاهُها من طاعة الله — عز وجل — الواجبة وليس لأحد من النَّاس فيها حَقٌّ إِلَّا الإمَامَ، ومن عَصَى الإمَام فيها أو خذله فقد أوتغ نفسه. وليس يفترق هذان الأمران إلا ببرهان من الله — عز وجل — عظيم، وذلك أن الله جعل قوام الناس، وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين: الدِّين والعَقْل، ولم تكن عقولهم وإنْ كانت نِعْمَةُ الله — عز وجل — عَظُمَت عليهم فيها بالغة معرفة الهدى ولا مبلغة أهلها رضوان الله، إلا مَا أكمَل لهم من النِّعْمة بالدِّين الذي شرع لهم، وشرح به صدر من أَرَاد هُدَاه منهم، ثم لو أن الدِّين جاء من الله لم يُغَادِر حَرْفًا من الأَحْكام والرأي والأَمْرِ وجميع ما هو واردٌ على النَّاس، وجَازَ فيهم مُذْ بَعَث اللهُ رسُولَه إلى يوم يلقونه إلا جَاءَ فيه بعزيمة، لكانوا قد كُلِّفُوا غَيْرَ وُسْعِهِم، فضَيَّق عليهم في دينهم وآتاهم ما لم تسع أسماعُهم لاستِمَاعِهِ ولا قلوبهم لفهمه، ولحارَتْ عُقُولهم وألبابهم التي امتنَّ الله بها عليهم ولَكانت لغوًا لا يحتاجون إليها في شيء، ولا يعملونها إلا في أمرٍ قَد أَتَاهمْ به تنزيلٌ، ولكنَّ الله مَنَّ عَليهم بِدينهم الذي لم يكن يسَعُه رأيهم، كما قال عباد الله المتقون: ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ثم جَعَل ما سوى ذلك من الأمرِ والتَّدْبير إلى الرَّأي، وجعل الرَّأي إلى ولاة الأمر ليس للنَّاس في ذلك الأمر شيء إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدَّعوة والنَّصيحة بظهر الغيب، ولا يستحقُّ الوالي هذه الطاعة إلا بإقامة العزائم والسنن مما هو في معنى ذلك، ثم ليس من وجوه القولِ وحْدَه يلتمس فيه ملتمس إثباتَ فَضْلِ أهل بيت أمير المؤمنين على أهل بيتِ «مَنْ سواه» وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى ذكره، إلا وهو موجودٌ فيه من الكلام الفاضل المعروف، مما هو أبلغُ مما يَغُلو فيه الغالون؛ فإن الحجة ثابتة، والأمر واضح — بحمد الله ونعمته.

ومما ينظر فيه لِصَلاح هذا الجند ألا يولي أحدًا منهم شيئًا من الخراج؛ فإنَّ ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، ولم يزل الناسُ يتحامون ذلك منهم وينحونه عنهم؛ لأنهم أهل ذاك ودعوى بلاء، وإذا خَلَا بالدَّرَاهم والدَّنَانير اجترأ عليهما، وإذا وَقَعَ في الخيانة صار كُلُّ أمرٍ مَدْخُولًا نصيحَتَه وطَاعَتَهُ؛ فإنْ حِيلَ بينه وبين رفعته أمرٌ ضنته الحمية، مع أن ولاية الخراج داعية إلى ذلة وعقوبة وهوان، وإنما منزلة المقاتل منزلة الكرامة واللطف، ومما ينظر فيه من أمرهم أن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم، فلو التمسوا وصنعوا كانوا عُدَّةً وقُوَّةً وكان ذلك صلاحًا لمن فوقهم من القادة ومن دونهم من العامة.

ومن ذَلِكَ تَعَهُّد أدَبِهِمْ في تَعْلِيمِ الكتاب والتفقه في السُّنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى، وأنْ يظهر فيهم من القَصْد والتَّوَاضُعِ، واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه، ولا يزالُ يَطْلُعُ من أمير المؤمنين ويخرج منه القولُ، ما يُعَرِّفُ مَقته للإتراف والإسراف وأهلهما ومحبته القصد والتواضُع، ومن أخذ بهما حَتَّى يعلموا أن مَعْرُوفَ أميرِ المؤْمنينَ محظورٌ عَمَّنْ يَكْنزُه بخلًا أن ينفقه سرفًا في العطر واللباس والمغالاة بالنِّساء والمراتب؛ فإنَّ أمير المؤمنين يؤثر بالمعروف مَنْ وُجْهَتُه المعروف والمؤَاسَاةُ، وَمن ذَلك أمرُ أَرْزَاقهم أن يُوَقت لهم أمير المؤمنين فيها وقتًا يعرفونه في كل ثلاثة أشهُر أو أربعة أو ما بَدَا لهُ.

وأن يعلم عامَّتُهم العُذْرَ الذي في ذَلِكَ من إِقَامَةِ دِيوانَهِمْ وتحمل أسمائهم، ويعلموا الوقت الذي يأخذون فيه فينقطع الاستبطاء والشكوى؛ فإنَّ الكلمة الواحدة تخرج من أحدهم في ذلك أهلٌ أن تُسْتَعْظَمَ؛ فإنَّ بَابَ ذلك جديرٌ أنْ يُحسَمَ، مع أن أمير المؤمنين قد علم كثرة أرزاقهم، وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن هَذا الخرَاجَ إنْ يَكُنْ رَائجًا لِغَلاءِ السِّعر؛ فإنَّه لا بُدَّ من الكَسَاد والكَسْر، وأن لكُلِّ شيء دُرَّة وغزارة، وإنما درر خراج العراق بارتفاع الأسعار، وإنما يحتاج الجند اليوم إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر.

فمن حُسن التقدير — إن شَاءَ الله — ألَّا يَدْخُلَ على الأرض ضَرَرٌ، ولا بيتِ المالِ نُقْصَانٌ من قبل الرَّحمن إلا دخل ذلك عليهم في أرزاقهم، مع أنه ليس عليهم في ذلك نقصان؛ لأنهم يشترون بالقليل مثل ما كانوا يشترون بالكثير، فأقول: لو أن أمير المؤمنين ما خلا شيئًا من الرِّزق، فيَجْعَلُ بَعْضَه طعامًا ويجعل بعضه علفًا فأعطوه بأعيانهم فإنْ قُوِّمَتْ لهم قيمةٌ، فَخَرَجَ ما خرج على حسابه قيمة الطعام والعلف، لم يكُن في أرزاقهم لذلك نقصان عاجلٌ يستنكرونه. وكان ذلك نزالهم لحمل العدو وإنصاف بيت المال من أنفسهم فيما يستبطئون، مع أنه إن زاد السعر أخذوا بحصتهم من فضل ذلك.

ومن جِمَاعِ الأمر وقِوَامِهِ — بإذن الله — ألَّا يخفى على أميرِ المؤمنين شيءٌ من أخبارِهِم وحَالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النَّفقة ولا يستعين فيه إلا بالثقات النُّصَّاح؛ فإنَّ ترك ذلك وأشباهه أحزمُ بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فتصير جنة للجهالة والكذب.

ومما يُذكر به أمير المؤمنين — أمتَعَ الله به — أمر هذين المصرين؛ فإنهم بعد أهل خراسان أقربُ الناس إلى أن يكونوا شِيعته ومعينيه مع اختلاطهم بأهل خُرَاسان، وإنهم منهم وهامتهم، وإنما ينظُرُ أميرُ المؤمنين منهم، صدق رابطتهم، أو ما أراد من أمورهم معرفته استثقالُ أهل خراسان ذَلك لهم من أمرِهِم، مع الذي في ذلك من جمال الأمر، واختلاط النَّاس بالنَّاس العرب بالعجم، وأهل خراسان بِالْمِصْرَيْن.

إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة، شيء لا يكاد يُشَكُّ أنه ليس في جميع مَنْ سِوَاهم من أهْلِ القِبْلَة مِثْلُهُ، ولا مثل نِصْفِهِ فلو أراد أمير المؤمنين أنْ يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل الطبقة من الناس؛ رجونا أن يكون ذلك فيهم موجودًا، وقد أزرى بأهلِ العراق في تلك الطبقة أن ولاة العراق، فيما مضى كانوا أشرار الوُلاة وإنَّ أعوانهم من أهل أمصارهم «كذلك»، فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفُسُول، وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشَّام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدَّولة فلم يتعلَّق من دونكم من الوزراء والعُمَّال إلا بالأقْرَبِ فالأقرب مما دنا منهم، أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقَعَ رجَالٌ مواقع شائنة لجميع أهل العراق، حيثما وقعوا من صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهادٍ. وكان من رأي أهلِ الفَضْل أن يُقْصَدُوا حتى يلتمسوا، فأبطأ ذلك بهم أنْ يُعرفوا وينتفع بهم، وإن كان صاحب السلطان لم يعرف النَّاس قبل أن يليهم ثم لم يزل يسألُ عنهم من يعرفهم، ولم يستثبتْ في استقصائهم، فزالت الأمورُ عن مراكزها ونزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقونه إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهلَ النَّقْصِ هم أشدُّ تصنعًا، وأحلَى ألسنَةً وأَرْفَقُ تَلَطُّفًا للوزراء أو تمحلًا لأن يُثنى عليهم من وراء وراء، فإذا آثر الوالي أنْ يَسْتَخْلِصَ رَجُلًا واحدًا ممن ليس لذلك أهلًا دعا إلى نَفْسِهِ جميعَ ذلك الشَّرح، وطمعوا فيه واجترئوا عليه وتوردوه وزحموا على ما عنده، وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه، وباعدوا منه وكرهوا أن يروا في غير موضعهم، أو يزاحموا غير نظرائهم.

ومما يَنْظُر أميرُ المؤمنينَ فيه من أَمْرِ هَذَينِ المصرين وغيرهما من الأَمْصَار والنَّواحي، اختلافُ هذه الأحكام المتناقضة التي قد بَلَغَ اختلافُها أمرًا عظيمًا في الدماء والفروج والأموال، فيُستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيُستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانِهِ نَافِذٌ على المسْلِمِين في دمائهم وحُرُمِهِم يَقْضِي به قضاةٌ جائزٌ أمرُهمْ وحكمهم، مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريقٌ إلا قد لج بهم العُجْبُ، بما في أيْدِيهمْ، والاستخفافُ ممن سِوَاهم، فأقْحَمَهم ذلك في الأمور التي يشفع بها من سمعها من ذوي الألباب.

أمَّا من يَدَّعِي لُزُوم السُّنَّة منهم؛ فيجعل ما ليس له سُنَّةٌ سنةً، حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجة على الأمر الذي يزعم أنه سنة، وإذا سُئِلَ عن ذَلِكَ لم يستطعْ أن يقُولَ: هُريقَ فيه دم على عهد رسُول الله أو أئمة الهدى من بَعْدِه، وإذا قيل له: أيُّ دمٍ سُفِكَ على هذه السنة التي تزعمون؟ قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أميرٌ من بعض أولئك الأمراء، وإنما من يأخُذُ بالرَّأي فيبلغ به الاعتزام عن رأيه أن يقُول في الأمرِ الجسيم من أَمْرِ المسلمين قولًا لا يُوافقه عليه أحدٌ من المسلمين، ثم لا يستوحشُ لانفراده بذلك، وإمضائه الحكم عليه، وهو مُقِرٌّ أنه رأيٌ منه لا يحتج بكتاب ولا سنة، فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فتُرفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضَى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابًا جامعًا عزمًا لَرَجَوْنَا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصوابُ بالخطأ حُكمًا واحدًا صوابًا، ورَجَونَا أن يكُونَ اجتماع السيرِ قُرْبَة لإجماع الأمر برأي أميرِ المؤمنين وعلى لِسَانِهِ، ثم يكون ذلك من إِمَامٍ آخَرَ آخِرَ الدَّهر — إن شاء الله.

فأمَّا اختلافُ الأحكام، إمَّا شيءٌ مأثورٌ عَنِ السَّلف غير مجمع عليه يدبره قوم على وجه، ويُدبره آخرون على وجه آخر، فيُنْظُر فيه إلى أَحَقِّ الفريقين بالتصديق، وأشبه الأمرين بالعدل، وإمَّا رأيٌ أجراه أهله على القياس، فاختلفَ وانتشَرَ ما يَغْلَطُ في أصل المقايسة، وابتدأ أمرٌ على غير مثاله، وإمَّا لطول مُلازمته القياس؛ فإنَّ من أراد أن يلزم القياس ولا يُفارقه أبدًا في أمر الدين والحكْمِ، وَقَعَ في الورطات ومضى على الشبهات، وغمُضَ على القَبيحِ الذِي يَعْرِفُه ويُبْصِرُهُ، فأبى أن يَتْرُكه كَرَاهة ترك القياس، وإنما القياسُ دليلٌ يُسْتَدَلُّ به على المحاسن، فإذا كان ما يَقُودُ إليه حَسَنًا معروفًا أخذ به، وإذا قاد إلى القبيح المستنكر تُرِكَ لأن المبتَغِي ليس غير القياس يبغي، ولكنَّ محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق الحق بأهله. ولو أن شيئًا مُستقيمًا على الناس ومنقادًا حيث قُيِّدَ، لكان الصِّدْقُ هو الذي أولى أن يُعتبر بالمقاييس؛ فإنه لو أراد أن يقوده الصدق لم ينقد له، وذلك أن رجلًا لو قال: أتأمرني أن أصْدُقَ، فلا أكذب كذبة أبدًا لَكان جوابه أن يقول: نَعَم، ثم لو التمس منه قود ذلك فقال: أتصدق في كذا وكذا، حتى يبلغ به أن يقول الصدق في رجل هارب استدلني عليه طالبٌ ليظلمه فيقتله لكسر عليه قياده. وكان الرأي له أن يترك ذلك، وينصرف إلى المجمع عليه المعروف المستحسن.

ومما يُذَكَّر به أمير المؤمنين أهل الشام؛ فإنهم أشدُّ النَّاس مُؤنَةً وأخْوَفُهم عداوةً وبائقةً. وليس يُؤَاخِذُهم أمير المؤمنين بالعَدَاوة، ولا يَطْمَعُ منهم في الاستجماع على المودة، فمن الرأي في أمرِهِم أنْ يختص أمير المؤمنين منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحًا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء؛ فإنَّ أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويَدْخُلوا فيما حُملوا عليه من أمرهم، فَقَد رأينَا أشْبَاه أولئك من أهل العراق الذين استدخلهم أهل الشام. وليس أحدٌ في أمرِ أهْلِ السِّلْمِ عَلَى القصاص حُرِمُوا، كما كانوا يحرمون الناس وجُعِل فيئُهم إلى غيرهم، كما كان فيءُ غيرهم إليهم، ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا يُنَحُّونَ عن ذلك مَن لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومُنعَت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامَّة؛ فإنْ رغب أمير المؤمنين لنفسه عن هذه السيرة وما أشبهها، فلم يُعَارِضْ ما عَابَ ولم يمثل ما سَخِطَ، كان العَدْلُ أن يقتصر بهم على فيئهم، فيجعل ما خَرَجَ من كُورِ الشَّام، فضلًا عَنِ النَّفَقَات، وما خرج من مصر فضلًا عن حقوق أهل المدينة ومكة بأنْ يجعل أمير المؤمنين ديوان مقاتلهم ديوانهم أو يزيد أو ينقص، غير أنه يأخذ أهل القوة والغناء وخِفَّةِ المؤْنَةِ والعِفَّة في الطاعة، ولا يُفَضِّلُ أحدًا منهم على أحد إلا على خاصَّة معلومة، ويكون الدِّيوَانُ كالغرض المستأنف، ويأمُرُ لكُلِّ جُنْدٍ من أجنادِ أهل الشام بعُدَّة من العيال يقترعون عليها، ويُسوي بينهم فيما لم يكونوا أسوة فيه فيمن مات من عيالاتهم، ولا يَصْنَعُ بأحد من المسلمين.

وأمَّا ما يتخوَّفُ المتخوِّفُون من نزواتهم، فلَعَمْري لئنْ أُخِذوا بالحق، ولم يأخذوا به إنهم لخلقاء أن يكون لهم نزوات ونزقات، ولكنَّا على مثل اليقين — بحمد الله — من أنهم لم يشركوا بذلك إلا أنْفُسَهم، وإن الدائرة لأمير المؤمنين عليهم آخر الدهر — إن شاء الله — فإنَّه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بِهائِمٍ، كان ذلك التوثُّب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.

ومما يُذَكَّرُ به أمير المؤمنين أمرُ أصحَابِهِ؛ فإنَّ من أولى أمْرِ الوالي منه بالتثبت والتحيز أمر أصحابه الذين هم بهاء فنائه، وزينَةُ مجلسِهِ، وألسنَةُ رعيته، والأعوان على رأيه، ومواضِعُ كَرَامَتِهِ والخاصَّة من عامته؛ فإنَّ أمرَ هذه الصحابة قد عمِلَ فيه من كان وليه من الوزارة والكُتَّاب قبل خلافة أمير المؤمنين عملًا قبيحًا مُفرِطَ القُبح مفسدًا للحسب والأدب والسياسة، دَاعيًا للأشْرَارِ طَاردًا للأخْيَار، فصَارتْ صحبة الخليط أمرًا سخيفًا، فطمع فيه الأوغاد وتَزَهَّدَ فيه من كان يرغب فيما دُونه، حتى إذا التقينا أبا العباس — رحمة الله عليه — وكُنت في ناسٍ من صُلَحَاء أهلِ البَصْرة ووجُوههم، فكنتُ في عصابة منهم أبوا أن يأتوه، فمنهم من تغيب فلم يَقْدَم، ومنهم مَنْ هَرَبَ بعدَ قُدُومه اختيارًا للمعصية على سُوءِ الموضِعِ، لا يَعْتَذِرُون في ذلك إلا بضياع المكتب والدعوة والمدخل، يَقُولون هذه مَنْزِلَةٌ كان من هو أشرف من أبنائنا يرغبون فيما هو دونها عند من هو أصغر أمراء ولاتنا اليوم، ولكنها قد كانت مكرمة وحسبًا إذ الناس ينظرون ويسأل عنهم، فأما اليوم ونحن نرى فُلانًا وفلانًا يَنْفِرُ بأسمائهم على غير قديمٍ سلف، ولا بلاءٍ حَدَثَ، فمَنْ يَرْغَبُ فيما هَهُنَا، يا أميرَ المؤمنينَ أكرمك الله، إمَّا يَصيرُ العدل كله إلى تقوى الله — عز وجل — وإنزال الأمور مَنَازلها فإن الأول قال:

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهمْ
وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهمْ سَادُوا

وقال:

همْ سَوَّدُوا نَصْرًا وَكُلُّ قَبِيلَةٍ
يُبَيِّنُ عن أَحْلَامِها مَنْ يَسُودُها

وإنَّ أَمْرَ هذه الصَّحَابة قد كان فيه أعاجيبُ دخلتْ فيه مظالمُ، أمَّا العجب فقد سمعنا من الناس من يقُولُ: ما رأينا أعْجُوبة قطُّ أعجَبَ من هذه الصحابة، ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف، ثُمَّ هو مسخُوطُ الرَّأي مشهورٌ بالفُجُور في أهل مصر قد غبر عامة دهره صانعًا يعمل بيده ولا يعتد مع ذلك ببلاء ولا غناء، إلا أنه مكنه من الأمر صَاغَ فاحتَوَى حيثُ أحَبَّ، فصَارَ يُؤذَنُ له على الخليفة قبل كثيرٍ من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قَرَابَةِ أميرِ المؤمنينَ وأهلِ بُيُوتَاتِ العَرَب، ويجري عليه من الرزق الضِّعْفُ مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سَرَوَات قُرَيْشٍ ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم ولا فقه في دين ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء ولا عدة يستعدُّ بها. وليس بفارس ولا خطيب ولا عَلَّامَة إلا أنه خدم كاتبًا أو حَاجبًا، فأخْبَرَ أن الدِّين لا يَقُوم إلا به حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.

وأمَّا المظلمة التي دخلت في ذلك فعظيمة، قد خَصَّتْ قريشًا وعمت كثيرًا من النَّاس وأدخلت على الأحساب والمروءات محنةً شديدة وضياعًا كثيرًا؛ فإنَّ في إذن الخليفة والمدخل عليه والمجلس عنده وما يجري على صحابته من الرزق والمعونة، وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حُكْمًا عظيمًا على أن الناس في أنسابهم وأخطارهم وبلاء أهل البلاء منهم، ولَيْسَ ذلك كخَوَاص المعروف ولطيف المنازل، أو الأعمال التي يختصُّ بها المولى مَنْ أحَبَّ، ولكنه بابٌ من القضاء جسيمٌ عامٌّ يقضى فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين وأهل البلاء والغناء بالعدل، أو بما يُحال فيه عليهم؛ فإنَّ أحق المظالم بتعجيل الرفع والتغيير ما كان ضَرُّه عَائِبًا. وكان للسلطان شائنًا، ثُمَّ لم يكن في رفعِهِ مُؤْنَةٌ ولا شغْبٌ ولا توغير بصدور عامَّة ولا للقوة ولا إضرار سَبَبٍ.

ولِصَحَابَةِ أميرِ المؤمنِينَ — أكرَمَه الله — مزيةٌ وفَضْلٌ، وهي مَكْرُمَةٌ سنية حرية أن تكون شرفًا لأهلها وحسبًا لأعقابهم حقيقة أن تصان وتحظر، ولا يكون فيها إلا رجل بَدَرَ بخصلة من الخصال، ومن رجل له عند أمير المؤمنين خاصَّة بقرابة، أو رجُلٍ يكون شرفُه ورأيه وعمله أهلًا بمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته، أو صاحب نجدة يُعْرَف بها ويستعد لها يجمعُ مع نجدته حسبًا وعفافًا، فيرفَعُ من الجند إلى الصحابة، ورجل فَقِيهٍ مُصْلِحٍ يُوضَعُ بين أظهُرِ النَّاسِ لينْتَفِعُوا بصَلاحِهِ وفقهه، أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها، فأمَّا من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يُكتفى له بالمعروف والبر فيما لا يَهْجِنُ رأيًا، ولا يزيل أمرًا عن مَرْتبته، ثُمَّ تكُونُ تلكَ الصُّحْبَةُ المخلصة على منازلها ومداخلها، لا يكُونُ للكَاتب فيها أمرٌ في رفع رزق ولا وضعه ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.

ومما يُذكَّر به أمير المؤمنينَ أمرُ فتيان أهل بَيته، وبني أبيه وبني عَليٍّ وبني العَبَّاس؛ فإنَّ فيهم رجالًا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهًا. وكانوا عدة لأخرى.

ومما يُذَكَّر به أمير المؤمنين أمر الأرض والخراج؛ فإن أجسم ذلك وأعظمه خطرًا وأشده مؤنة وأقربه من الضياع ما بين سَهْله وجَبَلِه ليس لها تفسيرٌ على الرساتيق والقُرى، فليسَ للعُمَّال أمرٌ يَنْتَهُون إليه ولا يحاسَبُون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها في العِمَارَة ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إمَّا رجلٌ أخَذَ بالخَرْقِ والعُنْفِ من حيثُ وجد وتتبع الرجال والرَّساتيق بالمغالاة ممن وَجَدَ، وإمَّا رَجُلٌ صَاحِبُ سماحة يستخرج ممن زرع، ويترك من لم يزرع فيُعمر من عَمَّر ويُسَلِّمُ من أخرب، مع أن أصول الوظائف على الكور لم يكن لها ثبت ولا عَلَم. وليس من كورة إلا وقد غيرت وظيفتها مرارًا فخفيت وظائف بعضها وبقيت وظائف بعض، فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيَه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وَظَائِفَ مَعْلُومَة وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصُول حتى لا يؤخذ رجلٌ إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهدُ في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها؛ لَرجونا أنْ يكون في ذلك صلاحٌ للرَّعية وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العُمَّال، وهذا رأي مؤنتُه شديدَةٌ ورجالُه قليلٌ ونفعه متأخرٌ. وليس بعْدَ هذا في أمر الخراج إلا رأيٌ قد رأينا … المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله من تخير العمال وتفقدهم، والاستعتاب لهم والاستبدال بهم.

ومما نذكر به أمير المؤمنين جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة، وما سوى ذلك، أنْ يكون من رأي أمير المؤمنين إذا سختْ نفسه عن أموالها من الصدقات، وغيرها أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكْرَمَه بها من الرَّأي الذي هو — بإذن الله — حمى ونظام لهذه الأُمورِ كُلِّها، في الأمصَار والأجناد والثغور والكور.

إن بالنَّاس من الاستخراج والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم، ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشُون بها، وأهلُ كل مصر وجُند أو ثَغر فُقراء إلى أن يكُونَ لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون يذكرون ويبصرون المخطئ، ويعظون عن الجهل ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن ويتفقدون أمور عامَّة مَنْ هو بين أظهرهم، حتى لا يخفى عليهم منها مُهمٌّ ثم يستصلحون ذلك، ويُعَالجون على ما استنكروا منه بالرَّأي والرفق والنصح، ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قُوَّتَه عليهم مأمونين عَلَى سير ذلك وتحصينه، بُصَراء بالرأي حين يبدو، وأطباء باستئصاله قبل أن يتمكن.

وَفي كُلِّ قَومٍ خواصُّ رجَال عندهم على هذا معُونة إذا صنعوا لذلك وتَلطف لهم، وأعينوا على رأيهم وقووا على معاشهم ببعض ما يُفَرِّغهم لذلك ويبسطهم له، وخَطَرُ هذا جسيم في أمرين: أحَدُهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمرُ الآخر ألَّا يتحرَّك متحرك في أمر من أمور العامة، إلا وعينٌ ناصحةٌ ترمقه، ولا يهمس هامسٌ إلا وأذنٌ شفيقة تصيخُ نحوه، وإذا كان ذلك لم يقدر أهل الفساد على تربيص الأمور وتلقيحها، وإذا لم تلقح كان نتاجها — بإذن الله — مأمونًا.

وقد علمنا عِلْمًا لا يُخَالطُه شَكٌّ، أن عَامَّةً قَطُّ لم تَصْلُح من قبل أنفُسِها ولم يأتها الصلاح إلا من قِبَل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها، وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها؛ وذلك لأن عدد الناس في ضَعَفَتِهم وجُهَّالهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم، ولا يحملون العِلْم ولا يتقدمون في الأمور، فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون إليهم ويسمعون منهم؛ اهتمت خواصهم بأمور عوامهم، وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة جعل الله ذلك صلاحًا لجماعتهم، وسببًا لأهل الصلاح من خواصهم وزيَادَةٌ، فيمَا أنعَمَ الله بِهِ عَلَيْهم وبَلاغًا إلى الخير كُلِّه.

وحَاجَة الخواص إلى الإمام الذي يُصْلِحُهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك، فبالإمام يجمع الله أمرهم ويكبت أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم، ويُبَيِّن لهم عند العامَّة منزلتهم، ويجعل لهم الحجة والأيد والمقال على من نكب عن سبيل حقهم، فلَمَّا رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض، وعرفنا من أمر أمير المؤمنين ما بمثله جمع الله خواص المسلمين على الرغبة في حسن المعاونة والمؤازرة، والسعي في صلاح عامتهم، طمعنا لهم في ذلك يا أمير المؤمنين، وطمعنا فيه لعامتهم ورجونا ألَّا يعمل بهذا الأمر أحدٌ إلا رزقه الله المتابعة فيه والقوة عليه؛ فإنَّ الآمر إذا أعان على نفسه جعل للقائل مقالًا وهيأ للساعي نجاحًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو رب الخلق وولي الأمر يقضي في أمورهم، يدبر أمره بقدرةٍ عزيزةٍ وعلمٍ سابقٍ، فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد ويحصنه بالحفظ والثبات والسلام، ولله الحمد والشكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤