الحركة بركة

١٩١٦

شكا الناس هذا العام وما فيه من كثرة الجلبة في ميادين القتال وقلة الحركة في ميادين الأعمال. قال بعضهم إن مصر فارغة في هذه الشهور فراغ جيب البخيل. وقال آخرون إن جيب البخيل لا تفرغ إن كانت يده لا تمتلئ؛ فسعى بالصلح جماعة أرضوا الفريقين بقولهم: «بل قد تكون جيب البخيل ويدهُ ملآنين ولكن عينه تبقى فارغة.»

هؤلاء الناس سفسطائيون لا يعرفون شيئًا. أيها القارئ، لا بد أن أسمِّيك اليوم لبيبًا؛ إذ لديَّ من الأقوال ما أودُّ أن تقبله بلا اعتراض، وأن تضحك له لا منهُ، لهذا لا بد أن تكون لبيبًا، فإذا كان دولاب الأشغال (كما يقول الاختصاصيون) قد أكله الصدأ، وما كثر في هذه الأيام من العمَّال إلا العاطلون فلا تظن الحالة موجبة لليأس. صحيح أن البورصة تُحزن السماسرة بعض الحزن؛ لأنها عنيدةٌ تأمل الطلوع، لكني أعترفُ لك سرًّا بأنها مصيبة، فليست الأيام أيام طلوع، وكلُّ مرتفع مُعرض للمقذوفات. إنما الزمان زمان خنادق. حفرت البورصة لنفسها خندقًا ملائمًا للأحوال ونزلت فيه صامتة.

غير أني أكرر أن الحالة لا توجب اليأس؛ لأن اللصوص قوم أذكياء، إذا هدأت الحركات غلت حركاتهم وتنوعت، يتهادون بين المنازل والدكاكين تهادي ربات الجمال وذوات الحجال، يسيرون من باب إلى بابٍ، ومن مستودعات الجواهر إلى مستودعات الأموال، بخفة وهدوءٍ لئلَّا يقلقوا راحة النائمين. الأدب حسن في كل حين، واللصوص جماعة «جنتلمن».

على أني أعجب للمسروقين لماذا يغضبهم أنهم لا ينتبهون لمرور الساعة الرهيبة؛ أهذا جزاء المعروف، يا سادتي؟ أما البوليس فلا اعتراض على وقفته: يقفُ في النهار بكرامة، وعلى مقربة منه تتخاصم الناس وتتصادم المركبات، وهو — ولله الحمد — واقفٌ بالسلامة، منصوبٌ قوامه إلَّا من طرفيه كالألف المتقنة الصنع، وهذا يزيدهُ شبهًا بإلهِ الحدود القديم عند الرومان.

أستغفر الله! لست أعني أنه يظلُّ واقفًا كالتمثال! كلَّا ثم كلَّا! إنه يمشي أحيانًا، ويرفع يده مسَلِّمًا على بعض المارين في المركبات، وطرف حديث مع الإخوان لا يزعجه بل بالعكس، وهو مع ذلك متممٌ أمور وظيفته، فإذا رأى قبيل المساء حوذيًّا لم ينوِّر شمعتَي مركبته صاح إلهُ الحدود الجديد باسطًا ذراعيه إلى الأمام وقال: «نَوِّرْ يا أسطى!» إنهُ لبطل شجاع لا يحابي أحدًا، وهو لا يخشى هولًا إذا ما أمره الواجب! علينا أن نعترف من جهة أخرى بأن الحوذي يطيع مرة في المئة ويعصي تسعًا وتسعين مرة، مكتفيًا بأن يجيب على أمر البوليس «حاضر يا سيدي»! يقول المثل «لاقني ولا تعَشِّني.» وكذا يعمل الحوذي؛ لأنَّ ثقته في حلم البوليس لا حدَّ لها، مهما كان المرءُ بوليسًا فإنه يظل إنسانًا رحيمًا.

هذه حالة البوليس في النهار، أما عن الليل فلا تسلني! قيل لي في قديم الزمان وسالف العصر والأوان إن بوليس الليل يُدعى خفيرًا، وهو كذلك. إنه ما زال بوليسًا معتبرًا ما دام قائمًا مقام البوليس، ولا أعرف عن هذا البطل الآخر سوى حادثة صغيرة جرت في شارعنا منذ أسبوعين تقريبًا: دخل لص بيتًا فأفاق أهل البيت، وانتبه الجيران، وقبض هؤلاء وأولئك على اللص وشريكه، ثم تساءلوا أين البوليس أو القائم مقامه، فبعد أن بحثوا عن رجل الساعة وجدوه نائمًا كطفل بريء … فأيقظوه! ويلٌ لقساة القلوب إنهم لا يشفقون!

من ألذ أخبار اليوم حوادث ثلاث: سرقتان لمبالغ ٥٠ جنيهًا و١١٥ جنيهًا من بعض المخازن، وسرقة حلي وجواهر من منزل سيدة وطنية بقيمة خمسين ألفًا من الفرنكات.

بارك الله فيكم أيها اللصوص! إن ضاعت أيامكم فإن لياليكم لا تضيع! تذكرون قول الأمريكان «الوقت من ذهب»، وقول السويسريين «السكوت من ذهب» وتستخدمون الوقت والسكوت معًا، فينقلب الذهبان بين أيديكم لآلئ وجواهر! بارك الله فيكم جميعًا! أليس كذلك أيها القارئ اللبيب؟

والبوليس؟ لا توقظوه! إنه نائم بالسلامة كطفل بريء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤