الفصل الأول

نطاق التفسيرات

وراء كل هذا بالتأكيد فكرةٌ غاية في البساطة والجمال، لدرجة أننا حين نستوعبها — بعد عقدٍ أو قرنٍ أو ألف عام — سيسأل بعضُنا بعضًا: كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟

جون أرتشيبالد ويلر
«آنالز أوف ذا نيويورك أكاديمي أوف ساينسز» (١٩٨٦)

يبدو الكون لأعيُننا البشرية المجردة فيما وراء مجموعتنا الشمسية كبضعة آلافٍ من النقاط المضيئة في سماء الليل، إلى جانب الأشرطة الخافتة الضبابية لدرب اللبانة؛ لكنك لو سألتَ عالِمَ فلكٍ عمَّا يوجد هنالك بالفعل، فلن يُحدِّثك عن نقاطٍ ولا عن أشرطة، بل عن النجوم؛ تلك الكُرَات من الغاز المتوهِّج التي يبلغ محيطها ملايين الكيلومترات، وتبعد عنَّا عدةَ سنواتٍ ضوئية. سيخبرك أيضًا أن الشمس نجمٌ عادي يبدو مختلفًا عن غيره من النجوم فقط لأننا أقرب إليه كثيرًا، مع أنه يقع على بُعْد نحو ١٥٠ مليون كيلومتر. ومع ذلك، ومع تلك المسافات غير المعقولة، فنحن واثقون من أننا نعلم ما الذي يجعل تلك النجوم تتوهَّج؛ إذ سيخبرك أن الطاقة النووية الناتجة عن «التحوُّل» — أيْ تغيُّر عنصرٍ كيميائيٍّ إلى عنصرٍ آخَر (تحديدًا الهيدروجين إلى الهليوم) — هي ما يمدُّها بذلك الوهج.

تحدث بعض أنواع التحوُّل تلقائيًّا على ظهر الأرض مع تحلُّل العناصر المُشِعَّة، وقد تم تفسير ذلك لأول مرةٍ في عام ١۹٠١ على يد عالِمَيِ الفيزياء فريدريك سودي وإرنست رذرفورد. إلا أن مفهومَ التحوُّل مفهومٌ قديم؛ فقد حلم الخيميائيون لقرونٍ بتحويل «المعادن الوضيعة»، مثل الحديد أو الرصاص، إلى ذهبٍ، لكنهم لم يُدركوا قطُّ ما يتطلَّبه الأمرُ لتحقيق ذلك الحلم؛ لذا لم يحقِّقوه قط، بينما استطاع العلماء في القرن العشرين تحقيقه. وهكذا تفعل النجوم حينما تنفجر كمستعراتٍ عظمى (سوبرنوفا)؛ وهكذا، لا يمكن لأي شيءٍ في هذا الكون غير تلك النجوم والكائنات الذكية التي تفهم العمليات التي تُحرِّكها؛ تحويلُ المعادن الوضيعة إلى ذهب.

أما عن درب اللبانة، فسيخبرك عالِمُ الفلك أنها — رغم مظهرها غير المتماسك — تُعَدُّ أكبر ممَّا يمكن لأعيُننا المجردة أن تراه؛ فهي مجرة تضم مئات المليارات من النجوم التي تترابط فيما بينها بجاذبيتها المتبادلة على مساحةٍ تبلغ عشرات آلاف السنوات الضوئية، ونحن نرى تلك المجرة من الداخل لأننا جزء منها. وسيخبرك عالِم الفلك أيضًا أن الكون، على عكس هدوء سماء الليل ومظهرها شبه الثابت، يموج بنشاطٍ عنيف؛ فأيُّ نجمٍ عادي يُحوِّل ملايين الأطنان من الكتلة إلى طاقةٍ في كل ثانية؛ حيث يطلق كلُّ جرامٍ منها طاقةً مساويةً لتلك المنبعثة من قنبلةٍ ذرية. وسيخبرك أيضًا أنه في مجال رؤية أفضل التلسكوبات التي لدينا، والتي تستطيع رصْدَ مجراتٍ أكثر يفوق عددُها عددَ النجوم الموجودة في مجرتنا؛ يحدث العديد من انفجارات المستعرات العظمى كلَّ ثانية، التي يفوق بريقُها لفترةٍ قصيرةٍ بريقَ كلِّ نجوم مجراتها مجتمعةً. نحن لا نعلم إن كان يوجد حياة وذكاء خارج مجموعتنا الشمسية، أو مكانهما؛ لذا لا نعلم كم من تلك الانفجارات عبارة عن فاجعةٍ كارثية. لكننا نعلم أن أي مستعرٍ أعظم من شأنه أن يُدمِّر كلَّ الكواكب التي قد تدور في مدارٍ حوله، ماحيًا كلَّ أشكال الحياة التي قد توجد عليها، بما فيها أي كائناتٍ ذكية، ما لم تمتلك تكنولوجيا تفوق بكثيرٍ ما نمتلكه نحن؛ إذ إن إشعاعه النيوترينوي وحده يستطيع قتْلَ إنسانٍ على مسافة مليارات الكيلومترات، حتى لو صُفِّحت تلك المسافة بالرصاص بالكامل. ومع ذلك، فإننا ندين بوجودنا للمستعرات العظمى؛ فهي — من خلال ظاهرة التَّحوُّل — كانت مصدر معظم العناصر التي تتكوَّن منها أجسادُنا، وكذلك كوكبنا.

هناك من الظواهر ما يفوق المستعرات العظمى بريقًا؛ ففي مارس ٢٠٠٨، استطاع تلسكوب يعمل بالأشعة السينية موضوع في مدار الأرض رصْدَ انفجارٍ من نوعيةٍ تُعرَف باسم «انفجار أشعة جاما» على بُعْد ٥‚٧ مليارات سنة ضوئية، وهي مسافة بعيدة جدًّا عبر الكون المعروف. كان هذا على الأرجح نجمًا واحدًا ينهار مكوِّنًا ثقبًا أسود؛ وهو جِرم شديد الجاذبية لا يتمكَّن الضوء نفسه من الهرب من ابتلاعه له. كان الانفجار في حقيقته أكثر سطوعًا من مليون مستعرٍ أعظم؛ ممَّا جعله باديًا للعين المجردة من الأرض، على الرغم من أنه كان خافتًا واستمرَّ لثوانٍ قليلةٍ فقط؛ ومن ثَمَّ لم يره أحد هنا على الأرجح. تستمر المستعرات العظمى لفترةٍ أطول وتستغرق في الغالب شهورًا حتى تخبو؛ مما سمح لعلماء الفلك أن يرَوْا القليلَ منها في مجرتنا حتى قبل اختراع التلسكوبات.

هناك فئة أخرى من الوحوش الكونية وهي الكويزرات، أو النجوم الزائفة؛ تلك الأجرامُ ذات السطوع الشديد. وهي بعيدةٌ جدًّا، حتى إنه لا يمكن رصْدُها بالعين المجردة، ويمكن لوهجها أن يفوق المستعرات العظمى لملايين السنين في المرة الواحدة. تستمد الكويزراتُ طاقتَها من الثقوب السوداء الهائلة الواقعة في مراكز المجرات؛ حيث تُبتلَع نجومٌ كاملة — عدة نجوم في اليوم الواحد في حالة الكويزرات الضخمة — وتمزِّقها تأثيراتُ قوى المد والجزر أثناءَ انزلاقها حلزونيًّا للداخل. تقوم الحقول المغناطيسية المكثَّفة بطرد بعض طاقة الجاذبية للخارج مرةً أخرى على هيئة دفقاتٍ نفثيةٍ لجسيماتٍ عالية الطاقة تُضيء بدورها الغاز المحيط بها بقوة تريليون شمس.

ولكن الظروف داخل الثقوب السوداء (في سطح اللاعودة المعروف باسم «أفق الحدث») شديدةُ التطرُّف على كل حال؛ حيث قد يتعرَّض النسيج الأساسي للمكان والزمن نفسيهما للتدمير. يحدث كل ذلك في كون لا يهدأ، آخِذًا في الاتساع منذ أن بدأ قبل ما يقرب من أربعةَ عشرَ مليارَ عامٍ بانفجارٍ ضخمٍ يُسمَّى بالانفجار العظيم، الذي إذا ما قارنَّا به ما وصفتُ هنا من ظواهر كونية، لَبَدَتِ الأخيرةُ بسيطةً وغيرَ ذاتِ أهمية. وهذا الكون كله هو مجرد جزءٍ صغيرٍ من كيانٍ أكبر كثيرًا، هو الوجود المُتعدِّد الأكوان الذي يضمُّ عددًا كبيرًا من الأكوان المماثلة لكوننا.

إن العالم المادي ليس فقط أكبر وأعنف كثيرًا مما بَدَا عليه من قبلُ، بل هو أغنى على نحوٍ كبيرٍ بالتفاصيل والتنوُّع والأحداث كذلك، التي تجري كلها وفقًا لقوانين الفيزياء الرائعة التي نفهمها بشيءٍ من العمق. ولست أدري أي الأمرين أروع: الظواهر ذاتها أم حقيقة أننا نعلم الكثير عنها.

كيف نعلم ما نعلمه؟ إنَّ من أروع ما في العِلْم ذلك التناقضَ بين القوة الكبيرة لأفضل نظرياتنا واتِّساع نطاقها من ناحية، والطرق البسيطة غير الثابتة التي نستخلصها بها من ناحيةٍ أخرى. لم يسبق لإنسانٍ أن خطَا يومًا على سطح نجم، فضلًا عن أن يزور مركزَ هذا النجم حيث تتمُّ عملية التحوُّل وتُنتَج الطاقة؛ ولكننا عندما ننظر إلى السماء ونرى تلك النقاط الباردة، نعلم أننا نحدق في أسطحٍ عاتيةِ السخونة لأفرانٍ نوويةٍ بعيدة. هذه التجربة تتمثَّل ماديًّا فقط في استجابة عقولنا لنبضاتٍ كهربيةٍ من أعيُننا، والأخيرة لا تلتقط سوى الضوء الذي بداخلها وقت وجوده؛ فحقيقة أن ذلك الضوء انبعث من مكانٍ بعيدٍ منذ زمنٍ بعيد — وأن ما حدث وقتها كان أكثر من مجرد عملية انبعاثٍ للضوء — هي أمر لا نراه، وإنما ندركه من خلال النظرية فقط.

إن النظريات العلمية محض «تفسيرات»، أيِ افتراضات عمَّا هو موجود بالفعل وكيفية حدوثه. من أين تأتي هذه النظريات؟ كان المعتقد الخاطئ الذي عمَّ للفترة الأطول في تاريخ العلم هو أننا «نستنتجها» من الدلائل التي تُقدِّمها حواسُّنا، وهو مذهب فلسفي يُدعَى «التجريبية» انظر شكل ١-١.

على سبيل المثال: كتب الفيلسوف جون لوك في ١٦٨٩ قائلًا إن العقل يشبه «الصفحة البيضاء»، التي نَخُطُّ عليها تجاربَنا الحسية، وإن هذا هو مصدر كلِّ معرفتنا بالعالم المادي. ومن الاستعارات التجريبية الأخرى أنه بوسع المرء أن «يقرأ» المعرفةَ من «كتاب الطبيعة» عن طريق الملاحظة. نجد في كلتا الحالتين أن مكتشف المعرفة هو متلقِّيها السلبي، وليس مبتكرها.

ولكن النظريات العلمية في الحقيقة لا «تُستنتَج» من أي شيء؛ فلا نقرؤها في الطبيعة ولا تكتبها الطبيعة فينا؛ بل هي تخمينات أو افتراضات جريئة يبتكرها العقل البشري بدمج الأفكار الموجودة بالفعل وتغييرها وإعادة ترتيبها والإضافة إليها بهدف تطويرها. إننا لا نُولَد «صفحة بيضاء»، بل بتوقُّعاتٍ ونوايا كامنةٍ وقدرةٍ فطريةٍ على العمل على تطويرها باستخدام التفكير والتجربة. والتجربة ضروريةٌ للعلم، ولكن دورها يختلف عمَّا تفترضه التجريبية؛ فهي ليست المصدر الذي تُستنتَج منه النظريات، وإنما هي أداة رئيسية للاختيار بين النظريات التي تمَّ تخمينها بالفعل، وهذا ما يُعرَف ﺑ «التعلُّم من التجربة».

fig1
شكل ١-١: التجريبية.

لكن لم يُفهَم هذا إلا مع انتصاف القرن العشرين، من خلال أعمال الفيلسوف كارل بوبر؛ لذا فإن التجريبية كانت — تاريخيًّا — أولَ مَن دافَعَ على نحوٍ معقولٍ عن العلم التجريبي كما نعرفه اليومَ. لقد انتقد الفلاسفة التجريبيون ورفضوا المناهجَ التقليدية للمعرفة، مثل الإذعان لسلطة الكتب المقدسة والكتابات القديمة والسلطات البشرية كالقساوسة والأكاديميين، والإيمان بالمعارف التقليدية وأحكام الخبرة والأحكام المسلَّم بها دون دليل. كما ناهَضَتِ التجريبيةُ فكرةً معارِضةً وراسخةً لدرجةٍ غريبة، وهي أن الحواس تُعَدُّ مصادرَ للوقوع في الخطأ؛ ولذا يجب تجاهلها. وكانت متفائلة؛ حيث اهتمَّتْ بالتوصُّل إلى الجديد من المعرفة، على عكس مذهب القدرية الذي كان سائدًا في العصور الوسطى، والذي توقَّعَ أن كل ما هو مهم قد أصبح معلومًا بالفعل. وبهذا فإن التجريبية — وإنْ كانت مخطئةً تمامًا بشأن مصدر المعرفة العلمية — كانت خطوةً عظيمةً للأمام في كلٍّ من فلسفةِ العلم وتاريخِه. لكن يبقى السؤال الذي طالما أثاره المتشكِّكون (الودودون والمعادون) منذ البداية: كيف يمكن «استنتاج» المعرفة بما لم نختبرْه ممَّا اختبرناه؟ وأيُّ نوع من التفكير بإمكانه أن يستخلص استنتاجًا صحيحًا عن أحدهما من الآخر؟ لا يمكن أن نتوقَّع استنباطَ معلوماتٍ جغرافيةٍ عن كوكب المريخ من خارطة كوكب الأرض؛ فلماذا نتوقَّع أن نعلم شيئًا عن فيزياء كوكب المريخ من تجارِبَ أُجرِيتْ على كوكب الأرض؟ من الجَليِّ أنَّ الاستنباط المنطقي وحده لا يكفي لذلك؛ فهناك فجوة منطقية مفادها أن أيَّ قدرٍ من الاستنباط يُجرَى على افتراضاتٍ تصف مجموعةً من التجارب، لا يمكنه الوصول إلى نتائج عن أي شيءٍ سوى تلك التجارب.

حل هذه المعضلة، حسب الاعتقاد العام، هو «التكرار»؛ فالمرء إذا مرَّ على نحوٍ متكرِّرٍ بالتجارب نفسِها في ظل الظروف نفسِها، فالمفترض أنه «سيستنبط» أو «سيعمِّم» ذلك النمط ويتنبَّأ باستمراره؛ فمثلًا: لماذا نتوقَّع أن تُشرق الشمس غدًا صباحًا؟ لأننا رأيناها في الماضي (هكذا تسير الحجة) تفعل ذلك كلما نظرنا إلى سماء الصباح؛ من هنا، يُفترَض أن «نستنتج» نظرية أننا حالَ وقوعنا تحت نفس الظروف سنمرُّ دائمًا بنفس التجرِبة بشكلٍ مؤكَّد، أو بشكلٍ مُرجَّح. وفي كل مرةٍ تثبت فيها صحةُ ذلك التنبُّؤ — شريطةَ ألَّا يخفق أبدًا — يُفترض أن احتمالية استمرار صحته ستتزايد؛ لذا فالمفترض أننا نحصل من الماضي على معرفةٍ أوثق بالمستقبل، ومن الخاص بالعام. تُدعَى تلك العملية المزعومةُ «الاستدلالَ الاستقرائي» أو «الاستقراء»، ويُدعَى المذهبُ الذي يعتقد أن النظريات العلمية تتأتَّى بهذه الطريقة ﺑ «الاستقرائية». ولسد الفجوة المنطقية المشار إليها، يتخيَّل بعضُ الاستقرائيين أن هناك قاعدةً للطبيعة — أو قاعدةً استقرائيةً — تُعلِي من احتمالات صحة الاستدلالات الاستقرائية، وإحدى أهم صور تلك القاعدة هي: «المستقبل سيُشبه الماضي»، كما يمكن أن نضيف أن «الشيء البعيد يُشبه الشيء القريب»، وأن «ما لا نراه يُشبه ما نراه»، وهلمَّ جرًّا.

لكن لم يتمكَّن أحدٌ بالمرة من وضع «قاعدة استقرائية» يمكن استخدامها عمليًّا في الوصول إلى نظرياتٍ علميةٍ من التجارب. وقد ركَّزَ النقد الموجَّه للاستقرائية على مرِّ تاريخها على ذلك الإخفاق، وعلى الفجوة المنطقية التي لا يمكن سدُّها، إلا أن هذا نقد هيِّن؛ إذ إنه يُقر بمفهومَيِ الاستقرائية الخاطئَيْن والأكثر خطورةً.

أولًا، تزعم الاستقرائية أنها تسعى إلى تفسير الكيفية التي يتحصَّل بها العلمُ على تنبُّؤاته من التجارب، ولكن معظم المعرفة النظرية التي لدينا لا تأخذ هذا الشكلَ؛ فالتفسيراتُ العلمية تتعلَّق بالواقع، ومعظمُ الواقع ليس من مكوناته تجاربُ الأشخاص؛ فعلى سبيل المثال: لا تَدرس الفيزياءُ الفلكية على نحوٍ رئيسيٍّ الإنسانَ (أو ما سيراه لو نظر إلى السماء)، وإنما تَدرس ماهيةَ النجوم؛ أيْ تركيبَها وأسبابَ توهُّجها وكيفيةَ تكوُّنها والقوانينَ الفيزيائية العامة التي حدث بمقتضاها كلُّ ذلك. لم يخضع قطُّ معظمُ تلك الأمور للملاحظة؛ فلم يَعِشْ أحدٌ منَّا لفترة مليار عام، أو يَخُضْ تجربةَ السفر لمسافةٍ قدْرُها سنةٌ ضوئية، ولم يحضر إنسانٌ ظاهرةَ الانفجار العظيم، كما أنه ليس باستطاعة أحدٍ أن يلمس قانونًا فيزيائيًّا، إلا بعقله من خلال النظرية. ولما كانت كلُّ تنبؤاتنا بما ستكون عليه الأشياء مستقبلًا هي محضَ استنتاجٍ من تلك التفسيرات لما هي عليه الآن، فإن الاستقرائية تخفق حتى في معرفة الكيفية التي نستطيع بها التعرُّفَ أكثر على النجوم والكون بما يتجاوز رؤيتنا القاصرة لها بأنها مجرد نقاط في السماء.

أما عن ثاني المفاهيم الرئيسية الخاطئة في الاستقرائية، فهو تنبُّؤ النظريات العلمية بأن المستقبل سيُشبه الماضي، وأن ما لا نراه سيُشبه ما نراه (أو غالبًا ما سيكون كذلك)، إلى آخِره. ولكن على أرض الواقع، نجد أن المستقبل لا يُشبه الماضي، وأن ما لم يُرَ يختلف بشدةٍ عمَّا يُرَى. يتوقَّع العلم غالبًا — بل يُنتج أيضًا — ظواهرَ مُبهِرةً في اختلافها عن أيِّ شيءٍ اختُبِر من قَبلُ من جانبنا؛ فقد حلم الإنسان بالطيران لآلاف السنين، ولم يلقَ سوى السقوط، ثم توصَّلَ إلى نظرياتٍ تفسيريةٍ جيدةٍ عن الطيران، فاستطاع أن يطير؛ هكذا كان الترتيب. لم يَرَ أيُّ إنسانٍ انفجارًا ناتجًا عن انشطارٍ نوويٍّ (قنبلة ذرية) قبل عام ١۹٤٥، بل ربما لم يحدث واحدٌ من قبلُ في تاريخ الكون، ولكن ذلك الانفجار الأول والظروف التي يمكن أن يحدث فيها، قد تمَّ التنبُّؤ بهما بدقةٍ قبل وقوعهما، لكن بطريقٍ غير افتراضِ مُشابَهة المستقبل للماضي. حتى شروق الشمس — ذلك المثال المحبَّب إلى الاستقرائيين — لا يُرَى دائمًا كلَّ أربعٍ وعشرين ساعة؛ فإنه إذا رُصِد من مدار الأرض فقد يحدث كلَّ تسعين دقيقة، أو لا يحدث إطلاقًا؛ وهو الأمر المعلوم من النظرية قبل أن يصعد أيُّ إنسانٍ إلى مدار كوكب الأرض.

ليس من قبيل الدفاع عن الاستقرائية أن نُشير إلى أنه في كل تلك الحالات سيظل المستقبل مشابهًا للماضي؛ لأنه سيخضع لنفس القوانين الأساسية للطبيعة؛ فهذه جملة فارغة من أي معنًى؛ لأن أيَّ قانونٍ للطبيعة يتناول المستقبل والماضي — سواءٌ أكان صحيحًا أم خاطئًا — يزعم التشابُهَ بينهما من حيث خضوعُ كلٍّ منهما لذلك القانون؛ لذا لا يمكن الاستناد إلى تلك الصورة من «القاعدة الاستقرائية» لاستنتاج أي نظريةٍ أو تنبُّؤٍ من التجربة أو من غيرها.

وحتى في حياتنا اليومية، نحن نُدرك تمامًا أن المستقبل سيختلف عن الماضي؛ لذا ننتقي أي أوجُه تجاربنا نتوقَّع أن يتكرَّر. قبل عام ٢٠۰٠، كانت تجربتي، التي تعرَّضتُ لها آلافَ المرات، تتمثَّل في أن أي تقويمٍ موضوعٍ على نحوٍ ملائمٍ (ويستخدم النظام الجريجوري) يجب أن يعرض رقم السنة منتهيًا ﺑ «١۹»، لكنني توقَّعتُ في منتصف ليل يوم ٣١ ديسمبر ١٩۹٩ أن أرى رقم السنة منتهيًا ﺑ «٢٠» في كل تقويمٍ مماثل، وكذلك توقَّعت أن فاصلًا زمنيًّا قدره ١٧ ألف عامٍ سيمُرُّ قبل أن نرى رقم السنة ينتهي ﺑ «١٩» مرةً أخرى. لم أشهد من قبلُ أنا أو غيري ذلك الرقم «٢٠»، ولم يمرَّ أحدٌ بمثل هذا الفاصل الزمني المشار إليه، بل وجَّهتْنا نظرياتنا التفسيرية إلى توقُّعهما، وهو ما فعلناه.

وكما قال الفيلسوف القديم هرقليطس: «لا يخطو الرجل في نفس النهر مرتين؛ فلا النهر يظل نفس النهر، ولا الرجل نفس الرجل.» ومن ثَمَّ، فنحن عندما نتذكَّر رؤيةَ شروق الشمس «على نحوٍ متكرِّر» وتحت «نفس» الظروف، فإننا نعتمد ضمنيًّا على النظريات التفسيرية لتخبرنا أيٌّ من تراكيب المتغيرات في تجربتنا هو ما علينا أن نعتبره من الظواهر «المتكرِّرة» في الواقع المحيط، وأيُّها غير عامٍّ أو غير هام. على سبيل المثال: تُخبرنا نظريات الهندسة الرياضية والبصريات ألَّا نتوقَّع رؤيةَ شروق الشمس في اليوم الغائم، حتى لو حدث الشروق بالفعل في الحيِّز الذي لا نلاحظه خلف السحاب. من تلك النظريات التفسيرية فقط يمكننا أن نعرف أن الفشل في رؤية الشروق في تلك الأيام لا يعني أنه لم يحدث، وبالمثل تدلُّنا النظرية أن مشاهدة انعكاس شروق الشمس في المرآة أو في فيلمٍ أو في إحدى ألعاب الواقع الافتراضي لا يمكن أن نُعدها رؤيةً ثانيةً له؛ من هنا، نتفهَّم فكرةَ أن التجربة حين تتكرَّر لا تصبح تجربةً حسيةً في حد ذاتها، وإنما نظرية.

إذنْ وداعًا للاستقرائية. وحيث إنه منهج مغلوط، فلا بد أن التجريبية كذلك أيضًا؛ فإذا كنَّا لا نستطيع استنتاج تنبؤاتٍ من التجارب، فبالتأكيد لن نتمكَّنَ من استنتاج تفسيرات. فاكتشاف تفسيرٍ جديدٍ أمر إبداعي بطبيعته، فلا يمكن مثلًا أن يُفسِّر إنسانٌ تلك النقاطَ الموجودةَ في السماء على أنها كراتٌ شديدةُ السخونة يبلغ محيطُها ملايين الكيلومترات، إلا إذا جالتْ أولًا بخاطره الفكرةُ الخاصة بتلك الكرات، وعليه حينها أن يفسِّر لماذا تبدو صغيرةً باردةً، وتبدو وكأنها تتحرَّك ببراعةٍ بإيقاعٍ منتظمٍ حولنا دون أن تقع. إن أفكارًا كتلك لا يمكن أن تَخلق نفسَها ولا أن تُستنتَج آليًّا من أي شيء؛ وإنما لا بد أنه تمَّ تخمينها، لتخضع بعد ذلك للنقد والاختبار. أما ما «تكتبه» في عقولنا رؤيةُ تلك النقاط في السماء، إنْ كان هذا صحيحًا، فهو قطعًا ليس تفسيرات، بل فقط نقاط. كذلك، فإن الطبيعة ليست كتابًا؛ فقد يحاول المرء أن «يقرأ» تلك النقاط في السماء طوال عمره — أو حتى لعدة أعمار — دون أن يتعلَّم أيَّ شيء عن حقيقة ماهيتها.

كان ذلك بالضبط هو ما حدث في الماضي؛ فَلِآلاف السنين، اعتقد أكثر الملاحظين للسماء دقةً أن النجوم هي أضواء مغروسة في «كرة سماوية» مجوَّفة دوَّارة مركزها الأرض (أو أنها ثقوب في تلك الكرة يظهر منها نور السماء). تلك النظرية عن الكون، التي تعتمد على فكرةِ مركزيةِ الأرض، بَدَا أنها مُستنتَجة على نحوٍ مباشِرٍ من التجربة، وأنها تأكَّدتْ على نحوٍ متكرِّر؛ فكلُّ مَن نظر إلى أعلى كان يستطيع أن «يلاحظ مباشَرةً» الكرةَ السماوية، والنجوم محتفظة بمواقعها النسبية عليها دون أن تهويَ تمامًا كما تتنبَّأ النظرية. إلا أن المجموعة الشمسية في واقع الأمر مركزُها الشمس وليس الأرض، والأرض ليست ثابتة وإنما في حالة دورانٍ معقَّد؛ صحيح أن أول رصد لذلك الدوران اليومي كان من خلال ملاحظة النجوم، لكن هذا الدوران ليس سِمة من سِمات النجوم بالمرة، وإنما من سمات الأرض وساكنيها الذين يدورون معها. وهذا مثال كلاسيكي على خداع الحواس؛ إذ إننا نرى الأرضَ ونشعر وكأنها ثابتة تحت أقدامنا، مع أنها في الواقع تتحرك، أما عن الكرة السماوية، فهي على الرغم من وضوحها للعِيان في وضَحِ النهار (مثل السماء)، فإنها في الحقيقة غير موجودةٍ على الإطلاق.

لطالما كان خداع الحواس عقبةً في طريق التجريبية؛ ومن ثَمَّ — كما بَدَا — في طريق العلم. وكان أفضل ما قدَّمه التجريبيون من دفاعٍ هو أن الحواس لا يمكن أن تكون خادعةً في حد ذاتها؛ وإن ما يُضلِّلنا هو التأويلات الخاطئة التي نَقرُنها بالمظهر الخارجي لما حولنا. هذا صحيح بالفعل، لكن فقط لأن حواسنا لا تفعل أي شيء في هذا الشأن؛ فتأويلاتنا لها هي ما يُضلِّلنا؛ لأنها عرضة بشكلٍ كبيرٍ للخطأ. من هنا، نقول إن المفتاح الحقيقي للعلم هو قابلية نظرياتنا التفسيرية — التي تتضمَّن تلك التأويلات — للتحسين من خلال الافتراض والنقد والاختبار.

لم تنجح التجريبية قطُّ في تحقيق هدفها المتمثِّل في تحرير العلم من السلطة؛ فهي وإن أنكرَتِ السلطات التقليدية المقيِّدة له — وهو حتمًا إنجاز مهم — فإنها مع الأسف حقَّقت ذلك بترسيخ سلطتَيْن زائفتَيْن هما: التجربة الحسية، وأي منهجٍ خاطئٍ — كالاستقراء — قد نتخيَّل أن يكون متبَعًا لاستنتاج النظريات من تلك التجربة.

إن احتياج المعرفة إلى سلطةٍ ما لتكون أصلية وموثوقة هو مفهوم خاطئ يرجع إلى عهودٍ قديمة، وهو ما زال سائدًا؛ فحتى اليوم، تنصُّ معظم مناهج فلسفة المعرفة على أن المعرفة هي شكل من أشكال «الاعتقاد المُبرَّر والصحيح»، والمقصود ﺑ «المُبرَّر» أنه عُدَّ اعتقادًا مقبولًا (أو على الأقل محتمَلًا)، بالرجوع لأحد مصادر العلم الموثوق فيها أو معايير المعرفة؛ وبهذا يتحوَّل التساؤل من: «كيف نعلم أن …؟» إلى: «بأي سلطة نزعم أن …؟» وهو تساؤلٌ الْتَهم من وقت الفلاسفة وجهدهم ما فاق فِعلَ أيِّ فكرةٍ أخرى؛ فقد حوَّلَ السعيَ من أجل الحقيقة إلى سعيٍ وراء اليقين (وهو شعور)، أو وراء القَبول (وهو وضع اجتماعي)، ويُدعَى ذلك المفهومُ الخاطئ باسم «التبريرية».

يُسمى المذهبُ المقابِلُ لهذا المذهب «اللامعصومية»؛ وهو الاعتراف بأنه لا توجد مصادر سلطوية للمعرفة، ولا أي وسائل أخرى من شأنها تبرير صحة أو احتمالية الأفكار. إن المؤمنين بالنظرية القائلة بأن المعرفة هي اعتقاد صحيح ومُبرَّر يعتبرون ذلك الاعتراف مدعاةَ قنوطٍ أو سخرية؛ لأنه يعني لهم أن الوصول إلى المعرفة مستحيل. أما أولئك الذين يعني لهم خلقُ المعرفةِ الفهمَ الأفضلَ لما هو واقع بالفعل وسلوكه وأسبابه، فإن اللامعصومية جزء رئيسي من أساليبهم للوصول إلى المعرفة؛ فهؤلاء يتوقَّعون أن تحتويَ حتى أفضلُ تفسيراتهم وأكثرها جوهريةً على بعض المفاهيم الخاطئة، جنبًا إلى جنب مع الحقيقة؛ لذا فَهُم على استعدادٍ لمحاولة تغييرها للأفضل. وعلى العكس، نجد أن منطق التبريرية هو إيجاد سُبُلٍ لتثبيت وتأمين الأفكار ضد التغيير (بل الظن أيضًا أن المرء قد توصَّلَ إلى تلك السُّبُل بالفعل). لا يقتصر منطق اللامعصومية على تصحيح مفاهيم الماضي الخاطئة، بل يأمل أن يجد الباحث ويصحِّح في المستقبل أفكارًا خاطئة لا تُمثِّل اليومَ إشكاليةً ولا يَتشكَّك فيها أحدٌ؛ فاللامعصومية — وليس مجرد رفض السلطة — هي المذهب الضروري للبدء في نموٍّ معرفيٍّ غير محدود، يكون بدايةَ اللانهاية.

تسبَّبَ السعيُ وراء السلطة في أنْ قلَّلَ التجريبيون من شأن «الافتراض»، بل هاجموه أيضًا، مع أنه المصدر الحقيقي لكل نظرياتنا، معلِّلين ذلك بأنه إذا كانت الحواس هي المصدرَ الوحيدَ للمعرفة، فالخطأ (أو على الأقل الخطأ الذي يمكن تجنُّبه) لا يمكن أن يسبِّبه سوى الإضافة لما يُمليه ذلك المصدر أو الانتقاص منه أو إساءة تأويله. لهذا السبب اعتقد التجريبيون أن على العلماء، إلى جانب رفض السلطات والمعارف التقليدية، أن يكبحوا أيَّ أفكارٍ جديدةٍ تراودهم أو يتجاهلوها، فيما عدا تلك التي «استُنتِجَتْ» من التجربة على نحوٍ سليم؛ فكما قال المؤلف آرثر كونان دويل على لسان شخصيته الأدبية المحقِّق شرلوك هولمز في القصة القصيرة «فضيحة في بوهيميا»: «إنه لَخطأ فادح أن نقوم بالتنظير قبل توافر المعطيات.»

إلا أن ذلك في حد ذاته خطأ فادح؛ لأننا لا نملك أيَّ معطيات قبل أن نقوم بتأويلها بالنظريات؛ فكل ملاحظةٍ، كما وصفها بوبر، «مثقلة بالنظرية» — وهو مصطلح صاغه الفيلسوف نوروود راسل هانسون — ومن ثَمَّ تصبح قابلةً للخطأ، مثل كل نظرياتنا. دعونا نتأمَّلِ الإشاراتِ العصبيةَ التي تُرسلها أعضاؤنا الحسية إلى المخ؛ سنجد أنها لا تُقدِّم تعبيرًا مباشِرًا أو خالصًا عن الواقع، بل إننا حتى لا نستشعرها على هيئتها الحقيقية؛ أيْ طقطقات نشاطٍ كهربي، ولا في المكان الذي تحدث فيه بالفعل؛ داخل المخ. بل نقرنها بالواقع الخارجي؛ فنحن لا نرى اللون الأزرق مجردًا، إنما نرى سماءً زرقاءَ هناك بالأعلى؛ ولا نشعر بألمٍ مجرد، بل نشعر بألم الصداع أو مغص البطن. يقرن المخ تلك التأويلات: «الرأس»، و«البطن»، و«هناك بالأعلى» بأحداثٍ تقع في الحقيقة بداخله، حتى أعضاء الحواس نفسها وكل التأويلات التي تقرنها بطريقةٍ واعيةٍ وغير واعيةٍ لمخرجاتها قابلةٌ للخطأ، بدليل نظرية الكرة السماوية وكل خدعةٍ بصريةٍ ولعبةٍ سحرية. إننا لا نُدرِك «أي شيء» على ما هو عليه في الحقيقة؛ فكل هذا تأويل نظري؛ أيِ افتراض.

اقترب كونان دويل من الحقيقة أكثر حين جعل هولمز يلاحظ في القصة القصيرة «لغز وادي بوسكومب» أن «الدليل الظرفي» (وهو دليل عن أحداثٍ لم يشاهدها أحد)، لَهُو أمرٌ «محفوف بالمخاطر … فقد يبدو أنه يُشير بوضوحٍ إلى شيءٍ محدَّد، بينما لو زحزحتَ وجهة نظرك قليلًا، لوجدتَه يشير بنفس الثقة والوضوح إلى شيءٍ مختلفٍ تمامًا … فليس هناك ما هو أكثر خداعًا من الحقيقة الواضحة.» ينطبق الأمر عينه على الاكتشاف العلمي، وهو ما يثير نفس السؤال ثانية: كيف نعلم؟ إذا كانت كل نظرياتنا قد نشأت داخل عقولنا كتخمينات، ولا يمكن وضعها تحت الاختبار إلا بالتجربة، فكيف لها أن تحويَ معرفةً بذلك الاتِّساع والدقة عن الواقع الذي لم نختبرْه قطُّ؟

إنني لا أتساءل هنا عن السلطة التي تَنتج عنها المعرفة العلمية أو تستند إليها، بل ما أعنيه على وجه التحديد هو: بأي طريقةٍ يمكن تمثيل تفسيراتٍ أصح وأكثر تفصيلًا عن العالم في عقولنا بشكلٍ مادي؟ فكيف لنا أن نصل إلى المعرفة بشأن تفاعُلاتٍ تحدث بين جسيماتٍ دون ذريةٍ أثناء عملية التحوُّل في مركزِ نجمٍ بعيد، إذا كان أضعفُ شعاع ضوءٍ يصل إلى أدواتنا من ذلك النجم قد صدر من غازٍ متوهِّجٍ على سطحه على بُعْد مليون كيلومتر من محل حدوث التحوُّل؟ وماذا عن الوضع داخل كرة النار في اللحظات القليلة الأولى التي تَلَتْ الِانفجارَ العظيم، والتي كان بمقدورها القضاءُ على أي كائنٍ واعٍ أو أداةٍ علمية؟ وماذا عن المستقبل الذي لا سبيلَ لقياسه على الإطلاق؟ كيف يمكن أن نتنبَّأ، بدرجةٍ لا بأس بها من الثقة، بأن ذلك التصميم الجديد لرقاقةٍ ما سينجح، أو أن ذلك العقار الجديد سيشفي مرضًا بعينه، مع أنهما لم يوجَدَا من قبلُ قطُّ؟

على مدار معظم تاريخنا البشري لم نكن نعرف كيفيةَ عملِ أيٍّ من ذلك. لم يصمِّم الناس الرقائقَ أو الأدوية أو حتى العجلة، لم يفعل أجدادنا لآلاف الأجيال سوى النظر إلى سماء الليل والتساؤل عن ماهية تلك النجوم: ممَّ تتكوَّن؟ وما الذي يُكسِبها لمعانها؟ وما علاقة بعضها ببعض وبنا؟ وهي تساؤلات تستحقُّ الطرح. كانوا يستخدمون عيونًا وعقولًا لا تختلف تشريحيًّا عن مثيلاتها ممَّا يملكه علماءُ الفلك في العصر الحديث، لكنهم لم يكتشفوا أيَّ شيءٍ على الإطلاق؛ وتنطبق نفس الحقيقة على كل مجالات المعرفة الأخرى. إن هذا لا يرجع إلى نقصٍ في المحاولة أو التفكير؛ فقد راقَبَ الناسُ العالَمَ من حولهم، وحاولوا فهمه، لكن بلا جدوى تقريبًا، وربما استطاعوا من آنٍ لآخَر أن يُميِّزوا بعضَ الأنماط البسيطة في المظاهر الخارجية، لكنهم فَشِلوا تمامًا عندما حاوَلوا اكتشافَ ما هو موجود بالفعل وراء تلك المظاهر.

أتصوَّر أنهم، كما هي الحال اليومَ، لم يتساءلوا عن تلك الأشياء إلا بين الحين والآخَر؛ ربما أثناء استراحاتهم من الانشغال بشئون حياتهم الضيقة الأفق، التي تاقوا فيها أيضًا إلى التوصُّل إلى المعرفة، لكن ليس عن فضولٍ خالص؛ فقد تمنَّوا لو عَرَفوا كيف لهم أن يحموا مواردَهم الغذائية، وأن يستريحوا عند تعبهم دون المخاطرة بالتعرُّض لمجاعة، وأن يتمتعوا بدفءٍ أو برودةٍ أو أمانٍ أكبر، وأن يقل ألمهم؛ في كل منحًى من مناحي حياتهم، تمنَّوا لو عَرَفوا كيف يحقِّقون التقدُّم، ولكنهم — على مستوى أعمارهم الفردية — لم يحقِّقوا أيًّا من ذلك؛ فاكتشافاتٌ مثل النار والملبس والأدوات الحجرية والبرونز وغيرها، كان حدوثها من الندرة بحيث بَدَا في وجهة النظر الفردية أن العالَمَ لا يتطوَّر أبدًا. أدرك الناس في بعض الأحيان (بتبصُّرٍ إعجازيٍّ بعض الشيء) أن إحراز التقدُّم بسُبُلٍ عمليةٍ يعتمد على التقدُّم في فَهْم ظواهرَ محيِّرةٍ بالسماء، حتى إنهم افترضوا وجودَ ارتباطٍ بين الأمرين؛ ومن ثَمَّ نشأَتِ الأساطيرُ التي أبهرتْهم فسيطرت على حياتهم كلها، لكنها لم تتَّسِمْ بأي تشابُهٍ مع الحقيقة. باختصار، لقد أرادوا خلْقَ المعرفة لتحقيق التقدُّم، لكنهم لم يعرفوا كيفية عمل ذلك.

استمرَّ هذا الوضع منذ حِقَبِ ما قبل التاريخ، مرورًا ببزوغ فجر الحضارة وبتقدُّمها البطيء على نحوٍ غير ملحوظٍ نحوَ التطوُّر — مع حدوث انتكاساتٍ عديدة — حتى قرونٍ قليلةٍ ماضية، حين ظهر نمط جديد وقوي من الاكتشاف والتفسير، عُرِف لاحقًا باسم «العلم». لُقِّب ظهورُ ذلك العلم ﺑ «الثورة العلمية»؛ لأنه نجح على نحوٍ شبه فوريٍّ في خلق المعرفة بمعدلٍ ملحوظ، هو في تزايُدٍ من حينها.

ما الذي تغيَّرَ؟ لماذا نجح العلم في فهم العالم المادي، بينما أخفقَتْ كلُّ السُّبُل السابقة له؟ ماذا فعل الناس في ذلك الوقت لأول مرةٍ ليُحدِثوا هذا الفارق؟ بدأت تلك الأسئلةُ تتردَّد فورَ بدء العلم في إحراز النجاح، وتردَّدَتْ كذلك عدة إجاباتٍ متضاربةٍ حمَل بعضُا الحقيقةَ بين طيَّاته. لكن في رأيي، لم تستطِعْ أيٌّ من تلك الإجابات إصابةَ كبد الحقيقة، وعليَّ قبل أن أشرح إجابتي الخاصة أن أُعطيَ نبذةً عن السياق أولًا.

كانت الثورة العلمية جزءًا من ثورةٍ فكريةٍ أوسع نطاقًا، هي «التنوير»، أحدثت تقدُّمًا في المجالات الأخرى، وبخاصةٍ الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وفي مؤسسات المجتمع. لسوء الحظ، يستخدم المؤرِّخون والفلاسفة لفظَ «التنوير» للدلالة على اتجاهاتٍ مختلفة، بعضُها متعارِض بقوةٍ مع البعض الآخَر، أما ما أعنيه أنا به فسيتَّضح من السياق كلما تقدَّمْنا في العرض؛ فالتنوير واحدٌ من أوجه «بداية اللانهاية» العديدة، وهو أحد الأفكار الرئيسية في هذا الكتاب. لكنَّ هناك شيئًا واحدًا تتفق عليه كلُّ مفاهيم التنوير، وهو أنه كان «تمرُّدًا»، تحديدًا ضد السلطة على المعرفة.

لم يكن رفض السلطة على المعرفة أمرًا متعلِّقًا بالتحليل المجرد فحسب، بل كان شرطًا ضروريًّا للتقدُّم؛ ذلك لأن المعتقد السائد قبل التنوير كان أنَّ كلَّ ما هو مهم وقابل للمعرفة قد اكتُشِف بالفعل، وقد أكَّدَتْ ذلك المعتقدَ مصادرُ السلطة المختلفة كالكتابات القديمة والافتراضات التقليدية، وأضفَتْ عليه من قُدسيَّتها. احتوتْ بعض تلك المصادر على بعض المعرفة الحقيقية، إلا أنها كانت على هيئة عقائدَ محصَّنةٍ يُلازمها الكثير من الأخطاء؛ فكان الموقف إذنْ أن كلَّ المصادر التي كان يُعتقَد على نحوٍ عامٍّ أن المعرفة تأتي منها آنذاك لم تملك في الواقع غيرَ أقلِّ قليلٍ من المعرفة الحقيقية، وكان معظم ما تدَّعِي العلم به مغلوطًا؛ لذا اعتمد التقدُّم على تعلُّم كيفية رفض سلطة تلك المصادر؛ لهذا السبب اتَّخذَتِ الجمعيةُ الملكية (وهي واحدة من أقدم الأكاديميات العلمية، وتأسَّسَتْ في لندن عام ١٦٦٠) شعارًا لها هو: «لا تُسلِّم جدلًا بصحة أي رأيٍ دون أن تتحقَّق منه.»

إلا أن التمرُّدَ ضد السلطة لا يمكن أن يكون وحده هو ما أحدث الفارق؛ فلقد رُفِضَتِ السلطة عدة مراتٍ في التاريخ، ونادرًا ما أدَّى هذا إلى أيِّ ناتجٍ طيبٍ دائم؛ لأن ما تلا ذلك عادةً هو أن حلَّتْ سلطاتٌ جديدةٌ محلَّ القديمة؛ لذا، كان من الضروري لنمو المعرفة باستمرارٍ وسرعةٍ أن ينشأ «تقليد النقد». قبل التنوير، كان النقد تقليدًا نادرًا جدًّا؛ إذ عادةً ما يكون الهدفُ الرئيسيُّ من التقاليد هو إبقاءَ الأمور على ما هي عليه.

وبهذا كان التنوير ثورةً في الكيفية التي سعى بها الناس إلى المعرفة؛ بمحاولة عدم الاعتماد على السلطة. كان ذلك هو السياقَ الذي لعبتْ فيه التجريبية — داعيةً إلى الاعتماد على الحواس فحسب لاكتساب المعرفة — دورَها التاريخيَّ المفيد، حتى مع خطأ وسلطوية مفهومها لطبيعة العلم.

من نتائج نشوء تقليد النقد هذا أنْ ظهرَتِ القاعدةُ المنهجية التي تنصُّ على أن النظرية العلمية لا بد أن تكون «قابلةً للاختبار» (وإن لم يُعبَّر عن هذا صراحةً في البداية)، أو بمعنًى آخَر: على النظرية أن تقدِّم تنبُّؤاتٍ يمكن تفنيدُها، في حال كونها خاطئةً، بواسطة ناتجِ عمليةِ ملاحظةٍ ممكنة؛ فمع أن النظرياتِ العلميةَ لا تُستنتَج من التجربة، فإنه يمكن اختبارها بالتجربة؛ أيْ بالملاحظة أو التجربة العلمية؛ فقبل اكتشاف النشاط الإشعاعي مثلًا، اعتقد الكيميائيون أن تحوُّلَ العناصر أمرٌ مستحيل (ووثَّقوا ذلك بعددٍ لا حصرَ له من التجارب)، ثم أتى رذرفورد وسودي وافترضا بجرأةٍ أن اليورانيوم يتحوَّل تلقائيًّا إلى عناصرَ أخرى؛ ومن ثَمَّ فنَّدَا النظريةَ السائدةَ بأنْ قامَا بإنتاج عنصر الراديوم في حاويةٍ مُحكَمةِ الغلق من اليورانيوم؛ ومن ثَمَّ تَقدَّم العلم. وقد نجحَا في ذلك لأن النظرية السابقة نفسَها كانت قابلة للاختبار؛ أي إن إجراء اختبارٍ لاستكشاف وجود الراديوم كان ممكنًا. أما النظرية القديمة القائلة بأن كل الموادِّ تتكوَّن من مزيجٍ من العناصر الأربعة (التراب والهواء والنار والماء) فقد كانت على العكس غيرَ قابلةٍ للاختبار؛ إذ لا تتضمَّن أيَّ وسيلةٍ لاستكشاف وجود أيٍّ من تلك المكونات؛ لذا لا يمكن تفنيدها بالتجربة العلمية؛ ومن ثَمَّ لا يمكن — ولم يحدث قطُّ — أن يتم البناء عليها من خلال التجارِب العلمية. من هنا، يتَّضح أن التنوير كان في جوهره تغييرًا فلسفيًّا.

ربما كان عالم الفيزياء جاليليو جاليلي أولَ مَن تفهَّمَ أهميةَ الاختبارات التجريبية (التي أطلق عليها «المحاكمة بالمحنة») وأدرك تميُّزها عن أشكال التجربة العلمية والملاحظة الأخرى التي يسهل ظنُّها خطأً بأنها «قراءة من كتاب الطبيعة». أما اليومَ، فإن القابلية للاختبار اصطُلِحَ على كونها المزيَّةَ التعريفية للمنهج العلمي، وقد لقَّبَها بوبر ﺑ «معيار الفصل» بين ما هو علم وما ليس بعلم.

غير أنه لا يمكن للقابلية للاختبار أن تكون العاملَ الحاسم المميِّز للثورة العلمية؛ فعلى عكس الاعتقاد السائد الغالب، كانت التنبؤاتُ القابلة للاختبار دائمًا موجودةً؛ فكلُّ قاعدةٍ تقليديةٍ لصنع نصلٍ أو إشعال نار مخيم قابلةٌ للاختبار. وكل مدَّعِي نبوةٍ يزعم أن الشمس ستنطفئ الثلاثاءَ القادمَ لديه نظريةٌ ما قابلة للاختبار، وكذلك لدى كلِّ مقامرٍ يقول في نفسه: «إن هذه ليلةُ حظِّي؛ أستطيع أن أشعر بهذا.» تُرى إذنْ ما العنصرُ الحيوي المسئول عن تحقيق التقدُّمِ، المتوافرُ في العلم والغائب عن النظريات القابلة للاختبار لمدَّعِي النبوة والمقامر؟

لا يمكن أن تكون القابلية للاختبار عنصرًا كافيًا؛ لأن التنبؤ في حد ذاته ليس — ولا يمكن أن يكون — هدفَ العلم. تخيَّلْ جمهورًا يشاهد خدعة سحرية؛ إن ما يواجهونه له نفس منطق المشكلة العلمية؛ فعلى الرغم من أنه ليس هناك ساحرٌ في الطبيعة يحاول خداعنا عن عمد، فإننا نواجه نفسَ الغموض في الحالتين لنفس السبب؛ وهو أن المظهر غير ذاتي التفسير. فلو كان تفسير الخدعة السحرية واضحًا من مظهرها، لما كان هناك خدعة بالمرة؛ ولو كانت تفسيراتُ الظواهر الطبيعية واضحةً في مظهرها، لكانت التجريبية حقيقةً، ولما كانت هناك حاجة إلى العلم كما نعرفه.

ليست المشكلة في التنبؤ بمظهر الخدعة؛ فإذا بَدَا لي أن الساحر مثلًا يضع عدة كُراتٍ تحت عدة أكواب، فقد أتنبَّأ أن تلك الأكواب ستبدو فارغةً فيما بعدُ، وإذا بَدَا لي أنه يشطر شخصًا نصفين بمنشارٍ، فقد أتنبَّأ بأن ذلك الشخص سيظهر على المسرح سالمًا في وقتٍ لاحق، وهذه تنبؤات قابلة للاختبار. قد أَحضُر العديد من العروض السحرية، وأشهد تنبؤاتي تَصدُق في كل مرة، ولكن هذا لا يعالج ولا يفسر المشكلة الخاصة بكيفية حدوث الخدعة، التي يتطلَّب حلُّها تفسيرًا؛ أي افتراضًا عن الواقع يفسر المظهر.

قد يستمتع البعضُ بالخدع السحرية دون أن يرغب أبدًا في معرفة كيفية حدوثها. وبالمثل، اعتقَدَ أغلب الفلاسفة، ومعهم العديد من العلماء في القرن العشرين، أن العلم غير قادرٍ على اكتشاف أي شيءٍ عن الواقع؛ فانطلاقًا من التجريبية، توصَّلوا إلى النتيجة الحتمية (التي كان من شأنها أن تفزع التجريبيين الأوائل)، وهي أن العلم ليس بوسعه سوى التنبؤ بنواتج الملاحظات، ولا ينبغي له ادِّعاءُ القدرة على وصف الواقع المؤدِّي إلى تلك النواتج؛ وهذا ما يُعرَف باسم «الذرائعية»، وهو مذهب يُنكر وجود ما أطلق عليه هنا «التفسير» من الأساس، وهو لا يزال متمتِّعًا بتأثيرٍ واسع، حتى إنه في بعض المجالات (مثل التحليل الإحصائي) اقترن معنى التنبؤ بكلمة «التفسير» ذاتها؛ فقيل مثلًا إن الصيغة الرياضية «تفسِّر» مجموعةً من المعطيات التجريبية، وأن «الواقع» هو فقط «المعطيات المرصودة» التي يفترض في الصيغة الرياضية تقريبها؛ مما لا يترك سبيلًا لوصف الافتراضات الخاصة بالواقع نفسه، سوى أنه «خيال مفيد».

والذرائعية واحدة من عدة طرقٍ لإنكار «الواقعية»، التي هي المذهب المنطقي والحقيقي الذي يعتقد بوجود العالم المادي بالفعل وبقابليته للفحص العقلاني. وبمجرد أن ننكر هذا، فتلك إشارة منطقية ضمنية إلى أن كل المزاعم عن الواقع مساوية للخرافات والأساطير، وإلى أن أيًّا منها لا يتميَّز عن الآخَر على أي نحوٍ موضوعي؛ وهو ما يأخذنا إلى «النسبوية»؛ وهو المذهب الذي يرى أن الافتراضات في مجالٍ معينٍ لا يمكن أن تكون صحيحةً أو خاطئةً على نحوٍ موضوعي، بل يكون الحكم عليها في الغالب تبعًا لمقاييس ثقافية أو إلزامية أخرى.

بخلاف ما تحمله الذرائعية من فداحةٍ فلسفيةٍ باختزالها العلمَ إلى مجرد مجموعةٍ من الافتراضات عن التجارب الإنسانية، فهي كذلك تفتقر إلى المنطق حتى بمقاييسها، فلا يمكن لنظرية أن تكون تنبُّئِيةً خالصة لا تقدِّم أي تفسير؛ إذ لا يمكن للمرء أن يأتيَ حتى بأبسط التنبؤات دون استحضار إطارٍ تفسيريٍّ على قدرٍ من التعقيد؛ فمثلًا: تنطبق التنبؤات الخاصة بالخدع السحرية تحديدًا على الخدع السحرية فقط، وهذه معلومة تفسيرية تُخبرني عدةَ أشياء، منها ألَّا أُعمِّمَ التنبؤات على أنواعٍ متغايرةٍ من المواقف، مهما كانت درجةُ نجاحها في التنبؤ بالخدع السحرية؛ ومن هنا أُدرك أن عليَّ ألَّا أتنبأ بأن المناشير عمومًا آمنةٌ للاستخدام على البشر، كما أستمِرُّ في التنبؤ بأنني إذا وضعتُ كُرةً تحت كوب، فإنها بالتأكيد ستظل في مكانها.

إن مفهوم الخدع السحرية والتمييز بينها وبين المواقف الأخرى مألوف وليس بإشكالية، لدرجة أنه من السهل أن ننسى أنه يعتمد على نظرياتٍ تفسيريةٍ جوهريةٍ عن أشياءَ كثيرةٍ ومتنوعة، مثل آلية عمل الحواس وسلوك المواد الصُّلبة والضوء، بالإضافة إلى تفاصيلَ ثقافيةٍ دقيقة. إن المعرفة المألوفة وغير القابلة للنقاش هي «المعرفة المرجعية»، وأي نظرية تنبُّئِية لا يتكوَّن محتواها التفسيري إلا من معرفةٍ مرجعيةٍ تكون «حُكْمَ خبرةٍ»، وأحكام الخبرة قد تبدو تنبؤاتٍ لا تشتمل على أي تفسير؛ لأننا عادةً ما نأخذ المعرفةَ المرجعيةَ باعتبارها أمرًا مسلَّمًا به، إلا أن هذا دائمًا وهْم.

هناك دائمًا تفسير لنجاح أحكام الخبرة، سواءٌ أعلمناه أم لم نعلمْه، وإنكار وجود تفسيرٍ لبعض الانتظام في الطبيعة يُعادل الإيمانَ بما هو خارق للطبيعة، وكأننا نقول: «هذه ليست خدعةً بل سحر حقيقي.» كما يوجد دائمًا تفسير وراء «إخفاق» أحكام الخبرة؛ فهي بطبيعتها ضيقة الأفق؛ أيْ لا تثبت جدواها إلا في نطاقٍ ضيقٍ من الظروف المألوفة. وعلى هذا، إذا دخل عنصر غير مألوفٍ لخدعة الكُرات والأكواب، فقد يؤدِّي حكم الخبرة الذي افترضته بسهولةٍ إلى تنبُّؤٍ خاطئ؛ فمثلًا: لا أستطيع التنبؤ من خلال حُكم الخبرة بإمكانية استبدال شموعٍ مشتعلةٍ بالكرات لتأدية الخدعة، أما لو كان لديَّ تفسيرٌ لكيفية حدوث الخدعة بنجاح، لَاستطعتُ التنبؤ.

والتفسيرات ضرورية أيضًا للوصول إلى أحكام الخبرة في المقام الأول؛ إذ لا يمكنني تخمين تلك التنبؤات عن الخدع السحرية دون امتلاك قَدرٍ وافرٍ من المعلومات التفسيرية في عقلي، حتى قبل الوصول إلى أي تفسير محدَّد عن آلية عمل الخدع. على سبيل المثال: إن استخلاص مفهوم الأكواب والكُرات من تجربتي مع الخدعة عوضًا عن مفهوم اللونين الأحمر والأزرق مثلًا؛ لا يأتي إلا في ضوء التفسيرات، حتى لو تصادف أن يكون لون الأكواب دائمًا أحمر ولون الكرات أزرق في كل مرةٍ شهدتُ فيها الخدعة.

إن جوهر الاختبار التجريبي هو وجود نظريتَيْن على الأقل قابلتَيْن فيما يبدو للتطبيق ومعروفتَيْن عن الموضوع محل البحث؛ حيث تقدِّمان تنبؤاتٍ متضاربةً يمكن التمييز بينها بالتجربة. وكما أن التنبؤات المتضاربة هي الظرف الداعي إلى التجربة والملاحظة، فإن «الأفكار المتضاربة» — على نطاقٍ أوسع — تدعو إلى كلِّ تفكيرٍ وفحصٍ عقلانيَّيْن؛ فعلى سبيل المثال: إذا اعترانا الفضولُ بخصوصِ أمرٍ ما، فهذا يشير إلى اعتقادنا بعدم كفاية ما لدينا من أفكارٍ لتفسير أو فهم ذلك الأمر على نحوٍ ملائم؛ فيصير أمامنا معيارٌ ما تفشل أفضلُ تفسيراتنا في مطابقته؛ فيصير التفسير الحالي والمعيار هنا فكرتَيْن متضاربتَيْن. وسأطلق على الموقف الذي نواجه فيه أفكارًا متضاربةً «المشكلةَ».

يصوِّر لنا مثالُ الخدع السحرية كيف تمدُّ الملاحظاتُ العلمَ بالمشكلات، معتمدةً في ذلك دومًا على نظرياتٍ تفسيريةٍ سابقة؛ فالخدعة السحرية لا تكون خدعةً إلا إذا جعلتْنا نظن أن شيئًا ما لا يمكن حدوثُه قد حدث فعلًا. ويعتمد شطرَا هذا الموقف على قيامنا بإخضاع مجموعةٍ غنيةٍ من النظريات التفسيرية للتجربة؛ لذا قد لا تحظى الخدعةُ التي تُحيِّر شخصًا ناضجًا باهتمام طفلٍ صغيرٍ؛ لأنه لم يتعلَّم بعدُ التوقعاتِ التي تعتمد عليها الخدعةُ. وحتى أفرادُ الجمهور من غير المهتمين بمعرفة آليةِ عملِ الخدعة لا يُدرِكون وجودَ خدعةٍ إلا بفضل ما حملوه معهم من نظرياتٍ تفسيريةٍ إلى المسرح؛ لذا فإن «حلَّ» أي مشكلةٍ يعني خلقَ تفسيرٍ لا يحوي تضارُبًا.

وبالمثل، لم يكن لأحدٍ أن يتساءل عن كُنْهِ النجوم لو لم تكن هناك توقُّعاتٌ — تفسيرات — مفادها أن الأشياءَ غيرَ المدعمة تسقط، وأن الضوء يحتاج إلى وقودٍ هو بدوره عرضة للنفاد وهكذا، وهي توقُّعات تتعارض مع تأويلات (تفسيرات) ما شُوهِد، مثل سطوع النجوم المستمر وعدم سقوطها. في هذه الحالة كانت تلك التأويلات هي الخاطئة؛ لأن النجوم في الواقع في حالة سقوطٍ حُرٍّ وتحتاج إلى الوقود، لكن اكتشاف كيف يمكن ذلك تَطَلَّبَ قدرًا هائلًا من الافتراض والنقد والاختبار.

قد تنشأ المشكلاتُ أيضًا على نحوٍ نظريٍّ خالص، بلا أي ملاحظات؛ فمثلًا تحدث مشكلةٌ عندما تُنتِج نظريةٌ تنبؤًا غير متوقَّعٍ بالنسبة إلينا، والتوقُّعات هي نظريات أيضًا. بالمثل، تحدث مشكلةٌ في حالة اختلاف وضع الأشياء الحالي (بحسب أفضل تفسيراتنا) عمَّا يجب أن تكون عليه؛ أيْ بحسب معيارنا الحالي لما يجب أن تكون عليه. يغطي ما سبق كلَّ المعاني العادية لكلمة «مشكلة»، سواءٌ أكان المعنى سلبيًّا (مثل رسالة المركبة الفضائية أبوللو ١٣: «هيوستن، لدينا مشكلة هنا»)، أم إيجابيًّا، مثلما كتب بوبر قائلًا:

أعتقد أنه ليس للعلم، أو حتى للفلسفة، إلا طريق واحد: أن تقابل مشكلةً، فترى جمالَها وتُغرَم بها وتقترب منها جدًّا، وتحيا معها في سعادةٍ حتى يُفرِّق بينكما الموتُ، وهذا ما لم تكن قد قابلتَ مشكلةً أخرى أكثر إبهارًا، أو توصَّلْتَ في الواقع إلى حلٍّ للمشكلة الأولى. لكن حتى إذا توصَّلْتَ إلى هذا الحل، فقد تكتشف حينها لدواعي سرورك وجودَ أسرةٍ كاملةٍ من المشكلات الفرعية، المثيرة وربما الصعبة.

من كتاب «الواقعية وهدف العلم» (١۹٨٣)

يشمل الاختبار التجريبي العديد من التفسيرات السابقة بخلاف التفسيرات التي محل الاختبار، مثل النظريات الخاصة بطريقة عمل أدوات القياس المستخدَمة في الاختبار. وينطوي تفنيدُ أيِّ نظريةٍ علميةٍ على نفس منطق الخدعة السحرية من وجهةِ نظرِ مَن توقَّعَ صحةَ تلك النظرية، والفارق الوحيد هو أن الساحر لا يعرف بطبيعة الحال قوانينَ الطبيعة المجهولة لإنجاح خدعته السحرية.

ولمَّا كانت النظريات قد يتعارض بعضها مع بعض، دون أن يحدث تعارُض على أرض الواقع، فمعنى هذا أن كلَّ مشكلةٍ تشير إلى نقصٍ أو عيبٍ في معرفتنا. ربما يكون مفهومنا الخاطئ متعلِّقًا بالواقع الذي نلاحظه، أو بكيفية ارتباط تصوُّراتنا به أو بكليهما. على سبيل المثال: تُقدِّم لنا الخدعةُ السحريةُ مشكلةً سببُها مفاهيمُنا الخاطئة عمَّا لا بد أنه يحدث خلال الخدعة؛ مما يعني أن المعرفة التي نستخدمها لتأويل ما نراه معيبة. قد تكون حقيقةُ ما يحدث جليةً للخبير المتعمِّق في تقاليد الخدع السحرية، حتى إن لم يشاهدها على الإطلاق وإنما تلقَّى عنها وصفًا مضللًا من شخصٍ انطوَتْ عليه الخدعةُ، وهذه حقيقة عامة أخرى عن التفسير العلمي؛ فعند وجود مفهومٍ خاطئ، قد يُحفِّز التضاربُ بين الملاحظات والتوقعاتِ المرءَ للتفكير في افتراضاتٍ أخرى (وقد لا يُحفِّزه)، لكن لن يصحِّحَ أيُّ قدرٍ من الملاحظة المفهومَ الخاطئ إلا بعد أن يتوصَّلَ المرءُ إلى فكرة أفضل. وبالعكس، لو توافرت لدى المرء الفكرةُ الصحيحة، لَاستطاع تفسيرَ الظاهرة حتى في ظل وجود أخطاءٍ كبيرةٍ في المعطيات. ولفظ «معطيات» هو لفظ مضلِّل؛ فتصحيح «المعطيات» أو رفض بعضها لخطئه هو لازمة متكرِّرة مصاحبة للاكتشاف العلمي، ولا يمكن حتى الوصول إلى المعطيات الحاسمة قبل أن تُخبرنا النظريةُ بما يجب البحثُ عنه وكيف ولماذا.

لا تخلو أيُّ خدعةٍ سحريةٍ جديدةٍ تمامًا من ارتباطٍ بخدعٍ موجودةٍ بالفعل؛ فكما هي الحال بالنسبة إلى أي نظريةٍ علميةٍ جديدة، تتشكَّل الخدعةُ بتعديل وإعادة ترتيب وتركيب الأفكار المأخوذة عن الخدع الموجودة بالفعل، وذلك على نحوٍ إبداعي؛ فهي تتطلَّبُ معرفةً سابقةً بسلوك الأشياء المستخدَمة فيها، وبسلوك الجمهور المتلقِّي، وبآلية الخدع الحالية. إذن من أين أتَتْ أقدمُ الخدع السحرية؟ لا بد أنها كانت تعديلاتٍ لأفكارٍ لم تكن خدعًا في الأساس. على سبيل المثال: أفكار خاصة بإخفاء الأشياء على نحو جدي. وبالمثل، من أين أتَتِ الأفكارُ العلمية الأولى؟ قبل العلم كانت هناك أحكامُ خبرةٍ وافتراضاتٌ تفسيرية وخرافاتٌ وأساطيرُ، وهكذا كان هناك الكثير من المادة الخام الصالحة للنقد والافتراض والتجريب، وقبل ذلك كانت هناك افتراضاتنا وتوقُّعاتنا الفطرية؛ فلقد وُلِدنا وبداخلنا أفكار وقدرة على تحقيق التقدُّم بتغيير تلك الأفكار. كما كانت هناك أنماط للسلوك الثقافي، سأتحدَّث عنها أكثر في الفصل الخامس عشر.

ومع ذلك، لا يمكن للنظريات «التفسيرية القابلة للاختبار» أن تكون هي العنصرَ الحاسمَ في صُنع الفارق بين التقدُّم واللاتقدُّم؛ لأنها طالما كانت دارجةً هي الأخرى. تأمَّلْ على سبيل المثال الأسطورةَ الإغريقيةَ المفسِّرةَ لبداية الشتاء كلَّ عام؛ منذ زمنٍ سحيق، اختطف هيدز إله العالم السفلي برسيفوني إلهة الربيع واغتصبها، ففاوضَتْه أمُّها ديميتر إلهة الأرض والزراعة على اتفاقٍ لإطلاق سراح ابنتها، نصَّ على أن تتزوَّج برسيفوني من هيدز، وأن تتناول بذرةً سحريةً تضطرها إلى زيارته مرةً كلَّ عام للأبد، وكلَّما تغيَّبت برسيفوني عن الوفاء بذلك الالتزام، حزنت ديميتر وأمرَتِ العالمَ أن يكون باردًا قاتمًا بحيث لا ينمو أيُّ شيء فيه.

هذه الأسطورة — على زيفها التام — تَصوغ تفسيرًا ما للفصول؛ فهي زعم عن الواقع الخاص بتجربتنا عن الشتاء، كما أنها قابلة للاختبار بوضوح؛ إذ لو كان سببُ الشتاء هو حزنَ ديميتر الدوري، لَتزامَنَ الشتاءُ في كل بقاع الأرض في نفس الوقت؛ وعليه فلو علم اليونانيون القدماء أن موسمَ نموٍّ دافئًا يمرُّ بأستراليا في نفس الوقت، بحسب اعتقادهم، الذي تكون ديميتر فيه في أعمق لحظات حزنها، لَكان بإمكانهم الاستدلال على وجود خطأٍ ما في تفسيرهم للفصول.

لكن الأساطير حتى عندما تتغيَّر أو تخلفها غيرها على مرِّ القرون، فإن الجديدة منها لا تكون أبدًا أقربَ من الحقيقة؛ لماذا؟ تأمَّلِ الدورَ الذي تلعبه عناصرُ محدَّدةٌ في أسطورة برسيفوني في عملية التفسير؛ فمثلًا، تتوافر القوةُ المؤثرة على ظاهرةٍ طبيعيةٍ هائلةٍ في صورة إرادة الآلهة (كقدرة ديميتر على فرض الأوامر على الطقس، بالإضافة إلى هيدز وبذرته السحرية التي تفرض على برسيفوني زيارته؛ ومن ثَمَّ تؤثِّر على ديميتر). لكن لماذا تتناول الأسطورةُ آلهةً دون غيرهم؟ في الأساطير النوردية، تتغيَّر فصولُ العام تبعًا لما يلقاه فرير إله الربيع من مقادير في حربه الأبدية ضد قوى الظلام والبرد؛ فتنعم الأرض بالدفء إبَّان انتصاره، ويحل البرد بخسارته.

تُعلِّل هذه الأسطورةُ تتابُعَ الفصول تقريبًا بنفس منطق أسطورة برسيفوني، لكنها أفضل قليلًا من حيث تفسير سبب عشوائية الطقس، وأسوأ في تفسير انتظام تتابُع الفصول؛ لأن الحروب الحقيقية لا تشتعل وتخبو بهذا الانتظام (إلا إذا كانت تحدث بسبب الفصول نفسها). إن دور عقْد الزواج والبذرة السحرية في أسطورة برسيفوني هو تعليل لذلك الانتظام، لكن لماذا البذرة السحرية خصوصًا وليس أي نوعٍ آخَر من السحر؟ لماذا عقد خاص بزياراتٍ زوجيةٍ وليس أي سببٍ آخَر يجعل الشخص يكرِّر فعلًا ما سنويًّا؟ على سبيل المثال: هناك تفسير آخَر يتماشى مع نفس الحقائق بنفس الدرجة؛ لم يُطلَق سراح برسيفوني بل هربت، وفي كل عام في الربيع عندما تكون قواها في أوجها، تنتقم من هيدز وتُغِير على العالم السفلي وتُبرِّد كل الكهوف بنسيم الربيع؛ ممَّا يرفع الهواءَ الساخن للعالم البشري متسبِّبًا في بدء الصيف، وتحتفل ديميتر بانتقام برسيفوني والذكرى السنوية لهروبها بأن تأمر النباتات أن تنموَ وتُزيِّنَ الأرض. تفسر هذه الأسطورة نفسَ الملاحظات شأن الأسطورة الأصلية، وهي أيضًا قابلة للاختبار (بل في الحقيقة قابلة للدحض) بواسطة نفس الملاحظات، إلا أن ما تؤكِّده عن الواقع يختلف اختلافًا بيِّنًا — ويتناقض في كثيرٍ من الأحيان — مع الأسطورة الأصلية.

كل تفصيلةٍ أخرى في الحكاية قابلةٌ للتغيير، باستثناء تنبُّئِها بحدوث الشتاء مرةً واحدةً فقط في العام. وهكذا، مع أن هذه الأسطورةَ قد صيغتْ لتُفسِّر الفصولَ، فإنها لم تقترب من ذلك إلا سطحيًّا. وعندما تساءَلَ واضِعُ هذه الأسطورة ما الذي يمكن أن يجعل إلهةً تفعل شيئًا ما مرةً واحدةً كل عام، لم يَصِحْ قائلًا: «وجدتُها! لا بد أنه كان عقدَ زواجٍ تفرضه بذرة سحرية!» بل اختار ذلك السياق — مثل كل اختياراته الأخرى باعتباره واضعًا للأسطورة — بِناءً على أسبابٍ ثقافيةٍ وفنية، وليس لأسبابٍ تتعلَّق بالشتاء على الإطلاق. ربما كان أيضًا يحاول تفسيرَ جوانبَ للطبيعة البشرية على نحوٍ مجازي، لكني لا أهتمُّ هنا إلا بقدرة هذه الأسطورة على تفسير الفصول؛ ومن هذا المنطلق أقول حتى إن واضعها لم يكن ليُنكِرَ أنَّ دورَ كل التفاصيل الأخرى كان يمكن لأشياءَ أخرى لا تُحصَى أن تؤدِّيَه بنفس الكفاءة.

تؤكد أسطورتا برسيفوني وفرير على تفاصيلَ غيرِ متوافقةٍ على نحوٍ جوهريٍّ بشأن مَّا يحدث في الواقع متسبِّبًا في حلول الشتاء، إلا أن أحدًا في ظنِّي لم يختَرْ إحداهما بناءً على مقارَنةِ جدارةِ حُجتِها مقابل حجةِ نظيرتها؛ لأنه لا سبيلَ للتمييز بينهما. لو تجاهَلْنا كلَّ التفاصيل السهلة الاستبدال في الأسطورتين، لَوجدنا أن التفسير الجوهري بهما واحدٌ في الحالتين؛ أن هذا من فعل الآلهة. وعلى اختلاف فرير التام باعتباره إلهًا للربيع عن نظيرته برسيفوني، والاختلاف الكامل لمعاركه عن زياراتها الزوجية، فإن كل تلك التفاصيل ليس لها أي وظيفةٍ فيما يتعلَّق بتبرير كلٍّ منهما لسبب حدوث الفصول؛ لذا لا يقدِّم أيٌّ منهما سببًا لاختيار أحد التفسيرين وترك الآخَر.

إن سبب سهولة تغيير تفاصيل هاتين الأسطورتين هو أنها لا ترتبط إلا قليلًا بتفاصيل الظواهر؛ فلا عقد الزواج ولا البذرة السحرية ولا الآلهة برسيفوني وهيدز وديميتر أو فرير يواجه مشكلةَ سببِ حدوث الشتاء. وعندما تتعدَّد النظرياتُ المتغيرة وتتساوى في تعليل ظاهرةٍ إبَّان محاولة تفسيرها، لا يكون هناك سبب لتفضيل أيٍّ منها على الأخرى، ويكون تأييدُ إحداها على الأخرى تصرُّفًا غير عقلاني.

أكثر ما يعيب هذه التفسيراتِ الأسطوريةَ هو الحرية في عمل تغييراتٍ جذريةٍ فيها، وهذه الحرية هي أيضًا السبب في أن صُنْعَ الأساطير عمومًا ليس بالطريقة المثلى لفهم العالم. وهذا صحيح، سواءٌ أكانت تلك الأساطير قابلةً للاختبار أم لا؛ لأنه حين يكون من السهل تغييرُ تفسيرٍ ما دون أن تتغيَّرَ تنبؤاتُه، يكون من السهل أيضًا تغييرُه ليطرح تنبؤاتٍ مختلفةً إذا كانت هناك حاجةٌ إليها؛ فمثلًا: لو كان اليونانيون القدماء قد اكتشفوا تبايُنَ الفصول في نصف الكرة الأرضية الشمالي عنها في نصفها الجنوبي، لَكان لديهم ما لا حصرَ له من الخيارات لتغيير تفاصيلَ بسيطةٍ في الأسطورة، بما يتماشى مع تلك الملاحظة؛ كأنْ تطرد ديميتر الدفء من رحابها — إلى نصف الكرة الجنوبي — حينما تكون في جُلِّ أحزانها. كما يمكن لتغييراتٍ بسيطةٍ في تفسير أسطورة برسيفوني أن تُعلِّلَ أيضًا حدوثَ الفصول التي تُميِّزها أقواسُ قُزح خضراء، أو التي تحدث مرةً أسبوعيًّا، أو التي تأتي متقطِّعة، أو التي لا تأتي على الإطلاق. تنطبق الحال نفسها على المُقامِر المؤمِن بالحظِّ أو مدَّعِي النبوة المتنبئ بنهاية العالم؛ فعندما تدحض التجربةُ نظريتيهما، يتحوَّلان في واقع الأمر إلى نظريةٍ جديدة، لكن بسبب خطأ تفسيراتهما، يصبح باستطاعتهما استيعابُ التجربة الجديدة بسهولةٍ دون تغيير جوهر التفسير؛ إذ يستطيعان ببساطةٍ إعادةَ تفسير العلامات، واختيارَ موعدٍ جديد، والتنبؤَ بالأمر نفسِه مرةً أخرى بلا اختلافٍ نظرًا لعدم وجود نظريةٍ تفسيريةٍ جيدةٍ في المقام الأول. في مثل هذه الحالات لا يساهم اختبار النظريات ونبذها بعد تفنيدها في إحداث أيِّ تقدُّمٍ في فهم العالم؛ فالتفسير إذا صلح لتعليل كلِّ شيءٍ في مجالٍ معيَّنٍ، أكَّدَ ذلك أنه لا يفسِّر في الحقيقة أيَّ شيءٍ.

وعمومًا نقول إن الاختبار التجريبي يكون تقريبًا غيرَ ذي فائدةٍ في تصحيح أخطاء النظريات عندما تكون النظريات سهلةَ التغيير كما وصفت آنفًا، وأدعوها في هذه الحالة ﺑ «التفسيرات السيئة». والنظريةُ عندما يثبت خطؤها بالتجربة، ويُستبدَل تفسيرٌ سيئٌ آخَر بها، لا تدفع صاحِبَها نحو الحقيقة قيد أنملة.

ونظرًا لما يلعبه التفسيرُ من دورٍ محوريٍّ في العلم، ولقلة نفع القابلية للاختبار في حالات التفسيرات السيئة، أفضِّلُ أن أصِفَ الأساطيرَ والخرافاتِ والنظرياتِ المشابِهةَ بأنها غير علميةٍ، حتى إن قدَّمَتْ تنبؤاتٍ قابلةً للاختبار. لكن ما تستخدمه من مفرداتٍ لا يهم ما دام أنه لن يقودك إلى الاعتقاد في وجودِ أيِّ نفعٍ من أسطورة برسيفوني، أو نظريةِ مدَّعِي النبوة النذيرة بنهاية العالَم، أو وهم المقامر؛ فقط لأنها قابلة للاختبار. كما لا يكون المرء قادرًا على تحقيق التقدُّم بمجرد استعدادِه لنبذ نظريةٍ بعد دحْضِها؛ إذ لا بد أن يسعى أيضًا نحو تفسيرٍ أفضلَ للظواهر محل الملاحظة، وهذا هو السياق العقلي الملائم للعلم.

قال عالِم الفيزياء ريتشارد فاينمان: «العلم هو ما تعلَّمناه بشأن كيفية الامتناع عن خداع أنفسنا.» يضمن المقامر ومدَّعِي النبوة القدرةَ على الاستمرار في خداع نفسيهما مهما حدث بتبنِّيهما تفسيراتٍ سهلةَ التغيُّر. وبالكيفية نفسها التي يتبنَّيان بها النظريات غير القابلة للاختبار، نجد أنهما يعزلان نفسيهما عن مواجهة برهان خطئهما في فهم ما هو موجود بالفعل في العالم المادي.

إن البحث عن تفسيراتٍ جيدةٍ هو في رأيي المبدأ المنظِّم الأساسي ليس فقط للعلم وإنما للتنوير بوجهٍ عام، وهو الملمح الذي يُميز تلك المناهج الخاصة بالمعرفة عن غيرها، وهو يتضمَّن شروطَ التقدُّم العلمي الأخرى التي ناقشتُها كافةً، مُلمِّحًا على نحوٍ يسيرٍ إلى أن التنبُّؤَ وحده ليس كافيًا، كما أنه يقود — لكن بتعقيدٍ أكبر — إلى رفض السلطة؛ لأنَّ تَبَنِّيَ نظريةٍ ما خضوعًا للسلطة يعني أيضًا إمكانيةَ قَبولِ الكثيرِ من النظريات المختلفة لنفس السبب؛ ولهذا فهو يشير أيضًا إلى الحاجة إلى ممارسة تقليد النقد، وإلى قاعدةٍ منهجية — أيْ معيارٍ للواقع — مفادها أنه يجب علينا عدم استنتاج مدى واقعية شيءٍ ما، إلا إذا ثبتت صحته وفق أفضل تفسيراتنا له.

إن ذلك البحث كان — ولا يزال — هو روحَ عصر التنوير والثورة العلمية، حتى إن لم يَصُغْه روَّادهما بهذه الصياغة؛ فتلك هي الطريقة التي بدءوا بها التفكيرَ والتصرُّفَ، وذلك بمنهجيةٍ للمرة الأولى. كان ذلك البحث هو ما صنع الفارق الأعظم في معدل التقدُّم على الأنحاء كافة.

كان هناك أفراد قبل عصر التنوير بفترةٍ طويلةٍ ممَّن سَعَوْا للوصول إلى تفسيراتٍ جيدة، حتى إن هذه المناقشة تُرجِّح أن كل ما تحقَّقَ من تقدُّمٍ آنذاك، كما هي الحال اليومَ، كان بفضل هؤلاء؛ لكنهم افتقروا في أغلب العصور إلى وجود تقليدٍ للنقد الذي يُخوِّل لآخرين متابعةَ أفكارهم؛ ومن ثَمَّ لم يحقِّقوا إلا القليلَ الذي لم يترك أيَّ أثرٍ لنرصده. وقد وصل إلى معرفتنا بعض الأمثلة المتفرِّقة والقصيرة عن حالات السعي إلى التفسير الجيد في مجالاتٍ محدودةٍ كالهندسة الرياضية، وحتى عن تقاليدَ قصيرةِ الأجل خاصة بالنقد — أيْ تنويرات صغرى — أُحبِطت سريعًا بكل أسف، كما سأصف في الفصل التاسع. إلا أن التغيُّر الشاسع في قيم وأنماط تفكير مجتمعٍ كاملٍ من المفكرين، الذي أتى بخلقٍ مستمرٍّ ومتسارعٍ للمعرفة لم يحدث سوى مرةٍ واحدةٍ في التاريخ، مع التنوير وثورته العلمية؛ فقد نَمَتْ ثقافةٌ سياسية وأخلاقية واقتصادية وفكرية مكتملة — وهي تقريبًا ما ندعوه اليومَ «الغرب» — حول تلك القيم التي استحدثها السعيُ إلى التفسيرات الجيدة، كاحترام الاختلاف، وتقبُّل التغيير، ونبذ التسلُّط والتعسُّف، والتطلُّع إلى التقدُّم على مستوى الأفراد والثقافة ككلٍّ. وبدوره، عزَّز التقدُّمُ الذي حقَّقته هذه الثقافة المتعددة النواحي تلك القيمَ، مع أنها لم تقترب حتى من التطبيق الكامل، وذلك كما سأشرح في الفصل الخامس عشر.

فَلْننظرِ الآنَ إلى التفسير الحقيقي لظاهرة الفصول. إن ميل محور دوران الأرض بالنسبة إلى مستوى مدارها حول الشمس هو سبب تعاقُبِ فصول السنة؛ حيث يميل نصفُ الكرة الأرضية الشمالي تجاه الشمس لنصف العام مُباعِدًا بينها وبين النصف الجنوبي، ثم يحدث العكسُ في نصف العام الآخَر، وعندما تقع أشعةُ الشمس رأسيًّا على أحد نصفَيِ الكرة الأرضية (حيث تزيد من حرارة السطح لكل وحدة مساحة)، فإنها تسقط بصورةٍ غيرِ مباشِرةٍ على النصف الآخَر (فتمده بحرارةٍ أقل).

هذا تفسير جيد؛ إذ تلعب كلُّ تفاصيله دورًا وظيفيًّا يجعلها غيرَ قابلةٍ للتبديل والتغيير؛ فنحن نعلم مثلًا أن الأسطُح التي تميل بعيدًا عن الحرارة المشعة تسخن أقلَّ ممَّا إذا مالت في اتجاهها — وبإمكاننا اختبارُ ذلك بعيدًا عن تجربتنا الخاصة بالفصول — كما نعلم أن الكرة الدوَّارة في الفضاء تشير إلى اتجاهٍ ثابت، وبإمكاننا تفسير سبب ذلك بنظريات الهندسة الرياضية والحرارة والميكانيكا. كما يظهر ذلك الميل في تفسيرنا لمكان ظهور الشمس بالنسبة إلى الأفق في أوقات العام المختلفة. في المقابل، نجد في أسطورة برسيفوني أن برودة العالم سببها حزن ديميتر، لكن الناس لا يُبردون ما يحيط بهم عندما يحزنون، وليس هناك طريقة نعلم من خلالها إنْ كانت ديميتر تحزن بالفعل أم لا، أو إذا كانت تُبرد العالم من الأساس، سوى بدء فصل الشتاء نفسه. ولا يمكن أن نستبدل القمر بالشمس في نظرية الميل المحوري؛ لأن موضع القمر في السماء ليس متكررًا لمرةٍ واحدةٍ في العام، ولأن أشعة الشمس الرافعة لدرجة حرارة الأرض جزء أساسي في التفسير. كما لا يمكن بسهولةٍ إدراج قصصٍ عن رأي إله الشمس في كل ذلك؛ لأنه إذا كان التفسير الحقيقي للشتاء يكمن في الهندسة الرياضية لحركة الأرض والشمس، فلا صلةَ إذنْ لأي رأيٍ شخصيٍّ بالموضوع، وإذا وُجِد عيب ما بهذا التفسير، فلن تستطيع أيُّ قصةٍ عن رأيٍ شخصيٍّ أن تُصلحه.

fig2
شكل ١-٢: التفسير الحقيقي للفصول. (المقياس غير صحيح!)

تتنبَّأ نظريةُ الميل المحوري كذلك بعدم تزامُن الفصول في نصفَيِ الكرة الأرضية؛ لذا لو حدث أنْ تزامَنَ نفس الفصل في نصفَيْها، لَدُحِضت النظرية كما حدث لكلٍّ من أسطورتَيْ برسيفوني وفرير بالملاحظة التي تُناقضهما. يكمن الاختلاف بين نوعَيِ التفسير هذين في أن المدافعين عن نظرية الميل المحوري لن يستطيعوا تغييرَ تفاصيلها في حالة تفنيدها؛ فلا يمكن لأي تغييرٍ بسيطٍ يُجرَى على المحاور المائلة أن يُسبِّبَ بدء نفس الفصول على الكوكب بأكمله، وستكون هناك حاجة إلى أفكارٍ جديدةٍ من الأساس؛ وهذا ما يجعل التفسيرَ الجيدَ أساسيًّا بالنسبة إلى العلم؛ إذ إنه فقط عندما تكون النظرية عبارةً عن تفسيرٍ جيدٍ لا يمكن التغيير فيه، تصير قابليَّتها للاختبار من عدمها أمرًا ذا أهمية. أما التفسيرات السيئة، فلا نفع منها، بصرف النظر عن قابليَّتها للاختبار.

تقوم معظم تبريرات الاختلاف بين الخرافة والعلم على نحوٍ كبيرٍ على فكرة القابلية للاختبار، كما لو كان خطأ اليونانيين القدماء الأساسي هو أنهم لم يرسلوا بعثاتٍ استكشافيةً إلى نصف الكرة الأرضية الجنوبي لملاحظة الفصول. لكنهم في الواقع لم يكونوا ليُخمِّنوا مطلقًا أن بعثاتٍ كتلك يمكن أن تُقدِّم دليلًا ما عن الفصول، إلا إذا خمَّنوا بالفعل احتماليةَ عدم اتفاق الفصول في نصفَيِ الكرة الأرضية، وكان ذلك تخمينًا صعبٌ التغييرُ فيه، وهو ما يستحيل إلا إذا كان جزءًا من تفسيرٍ جيد؛ أما لو كان تخمينهم سهلَ التغيير، لَكانوا وفَّروا على أنفسِهم عناءَ الرحلة ومكثوا في وطنهم واختبروا النظريةَ السهلةَ الاختبارِ المتمثِّلةَ في أن الشتاء يمكن درؤه بالغناء.

وبما أنه لم يكن لديهم ما هو أفضل من تفسير أسطورة برسيفوني، فلم يكن هناك داعٍ للاختبار؛ إذ لو كانوا يسعَوْن إلى تفسيرٍ جيد، لَحاولوا من فورهم تحسينَ الأسطورة دون اختبارها، وهذا ما نفعله اليوم؛ حيث لا نقوم باختبار كل نظريةٍ قابلةٍ للاختبار، وإنما فقط ما نرى أنها تفسير جيد. ولولا إمكانية نبْذِ الغالبية العظمى من النظريات السيئة بلا اختبارٍ فقط لكونها تفسيراتٍ سيئةً، لَكان العلم مستحيلًا.

تتسم التفسيرات الجيدة غالبًا بالبساطة أو البراعة الشديدتين، وهو ما سأناقشه في الفصل الرابع عشر. من الأسباب الشائعة للتفسيرات السيئة أنها تحوي تفاصيلَ سطحيةً أو اعتباطية، وأحيانًا ما ينتج عن حذفها تفسير جيد. وقد تسبَّبَ هذا في ظهور مفهومٍ خاطئٍ يُعرَف ﺑ «شفرة أوكام» (المسمَّى تيمُّنًا باسم فيلسوفٍ من القرن الرابع عشر يُدعى وليام الأوكامي، وإنْ كان يرجع إلى أقدم من ذلك)، وهو أن على المرء أن يبحث دومًا عن «أبسط التفسيرات». ويتضح ذلك المفهوم في المقولة التي تقول: «لا تُكثِر من الافتراضات بلا ضرورة.» ومع ذلك، يكون التغيير في العديد من التفسيرات الشديدة البساطة شديدَ السهولة (على سبيل المثال: «إن ديميتر فعلتْها»). ومثلما تتسبَّب الافتراضات الأكثر من الضرورية في سوء النظرية من حيث المبدأ، كان هناك الكثير من الأفكار الخاطئة عمَّا هو «ضروري» للنظرية؛ فالذرائعية مثلًا تَعتبِر التفسيرَ نفسَه غيرَ ضروري، وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها الكثير من فلسفات العلم السيئة، وذلك كما سأوضح في الفصل الثاني عشر.

عندما تدحض ملاحظاتٌ جديدةٌ تفسيرًا كان جيدًا، فإنه لا يظل جيدًا؛ لأن المشكلة التي هو بصددها قد اتَّسعت لتشمل تلك الملاحظات الجديدة؛ لذا فإن المنهج العلمي القياسي القائم على نبذ النظريات عند تفنيدها من خلال التجربة العلمية؛ يحمل ضمنيًّا ضرورةَ وجودِ تفسيرٍ جيدٍ في المقام الأول. وأفضلُ التفسيراتِ أكثرُها التزامًا بالمعرفة الموجودة، بما فيها التفسيرات الجيدة الأخرى والمعرفة حول الظواهر المراد تفسيرها؛ وعليه نجد أن التفسيراتِ القابلةَ للاختبار التي نجحتْ في اختباراتٍ قاسيةٍ تصبح تفسيراتٍ عاليةَ الجودة؛ ممَّا يُفسِّر بدوره مبدأَ القابلية للاختبار ودوره في إثراء المعرفة في العلم.

إن الافتراضات هي نواتج الخيال الإبداعي، لكن مشكلة الخيال أنه يمكن أن يخلق الوهم أسهل ممَّا يخلق الحقيقة. كما ذكرت، كانت كلُّ محاولات الإنسان تقريبًا فيما مضى لتفسير ما يواجِه من خبراتٍ في ظل واقعٍ أكبر، هي محضَ خيالٍ ووهمٍ في شكل أساطيرَ وعقائدَ ومفاهيمَ عامةٍ خاطئة، ولا يمكن الاكتفاء بقاعدة القابلية للاختبار لقبول أيٍّ منها. وهنا يأتي دور البحث عن التفسير الجيد؛ فاختلاق الأكاذيب سهل؛ ومن ثَمَّ يسهل التغيير فيها عند كشفها، ولكن اكتشاف التفسيرات الجيدة صعب، وكلما صعب اكتشافها زادَتْ صعوبةُ تعديلها أو التغيير فيها. إن ما يتوق إليه العلمُ التفسيري من هدفٍ أسمى يتضح فيما اقتبسته في بداية هذا الفصل من قول ويلر: «وراء كل هذا بالتأكيد فكرة غاية في البساطة والجمال، لدرجة أننا حين نستوعبها — بعد عقدٍ أو قرنٍ أو ألفِ عام — سيسأل بعضنا بعضًا: «كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟»» وعلامات الاقتباس الداخلية من إضافتي. وسنرى الآن كيف لمفهوم العلم القائم على التفسير هذا أن يُجيب عمَّا طرحت سلفًا من تساؤل: كيف لنا أن نعلم الكثيرَ عن جوانب الواقع «غير المألوفة»؟

تخيَّلْ نفسك في موقف عالم الفلك القديم وهو يفكر في مَيل المحور باعتباره تفسيرًا لفصول السنة، ولتبسيط الأمور سنفترض أنك تبنَّيْتَ نظريةَ مركزيةِ الشمس، وكأنك مثلًا أسطرخس الساموسي، وهو مَن قدَّمَ أقدمَ الافتراضات المعروفة عن نظرية مركزية الشمس، وذلك في القرن الثالث قبل الميلاد.

إنك يا أسطرخس تعلم أن الأرض كُروية، لكنك لا تملك أَّي دليلٍ عن أي مكانٍ أبعد من إثيوبيا جنوبًا أو جزر شيتلاند شمالًا؛ إنك لا تعلم أنَّه هناك محيط أطلنطي أو محيط هادي؛ فالعالَم الذي تعرفه لا يتجاوز أوروبا وشمال أفريقيا وأجزاءً من آسيا وما يحيط بشواطئها من مياه. إلا أنك تستطيع عمل تنبؤاتٍ خاصةٍ بالطقس لمناطقَ مجهولةٍ لم يُسمَع بها، تقع خارج حدود عالَمك، بواسطة نظرية الميل المحوري باعتبارها تفسيرًا لفصول السنة. ستكون بعض هذه التنبؤات عادية، بل يمكن أيضًا الالتباس بينها وبين الاستقراء؛ أي إنك ستتنبأ أنك ستمرُّ بفصول السنة في نفس التوقيت تقريبًا من كل عامٍ أينما ارتحلتَ شرقًا أو غربًا (وإنِ اختلَفَ توقيتَا الشروق والغروب تدريجيًّا باختلاف خط الطول). لكنك ستقوم أيضًا بعمل تنبؤاتٍ مخالفةٍ للبديهة؛ إذ لو سافرتَ أبعد قليلًا إلى الشمال من جُزر شيتلاند، لوصلتَ إلى إقليمٍ متجمِّدٍ يستمر كلُّ نهارٍ فيه وكلُّ ليلٍ ستة أشهر، أما لو سافرتَ إلى أبعدَ من إثيوبيا جنوبًا، لوصلتَ أولًا إلى مكانٍ لا توجد به فصول، ثم إلى الجنوب منه ستصل إلى مكانٍ توجد به فصول، ولكن على منوالٍ معاكسٍ لما يحدث في كل مكانٍ من عالَمِكَ الذي تعرفه. إنك لم تسافر من قبلُ إلى أبعدَ من بضع مئات الكيلومترات عن موطنك بالجزيرة الواقعة بالبحر المتوسط، وعليه فلم تختبر غيرَ الفصول المتوسطية، ولم تقرأ أو تسمع قطُّ عن فصولٍ غيرِ متسقةٍ مع تلك التي تمر بها كلَّ عام، لكنك تعلم أنها موجودة.

ماذا لو كنتَ تفضِّل ألَّا تعلم؟ قد لا تعجبك هذه التنبؤات؛ فقد يسخر منها أصدقاؤك وزملاؤك. قد تحاول تعديلَ التفسيرِ بحيث لا يصل إلى تلك التنبؤات، ولكن دون أن تُفسد اتفاقه مع الملاحظات والأفكار الأخرى التي لا تجد لها بديلًا مناسبًا؛ ولكنك ستفشل. إن هذا ما يفعله التفسير الجيد؛ فمعه يصبح من الصعب عليك أن تخدع نفسك.

على سبيل المثال: قد يخطر لك أن تُعدِّل نظريتك على النحو التالي: «تحدث الفصول في عالَمِنا في أوقات السنة التي تتنبَّأ بها نظريةُ الميل المحوري، كما تحدث أيضًا في نفس تلك الأوقات في أي مكانٍ آخَر على الأرض.» تتنبَّأ هذه النظرية بدقةٍ بكل الأدلة المعلومة لديك، وهي قابلة للاختبار مثل نظريتك الأصلية. ولكن كي تتمكَّنَ من إنكار ما تتنبَّأ نظريةُ الميل المحوري بحدوثه في الأماكن البعيدة، اضطُرِرْتَ إلى إنكار ما تصفه تلك النظريةُ عن الواقع في كل مكانٍ آخَر خارج عالمك؛ ومن ثَمَّ لا تظل تلك النظريةُ المعدلة تفسيرًا للفصول، بل مجرد حكمِ خبرةٍ؛ فعندما أنكرتَ أن التفسير الأصلي يصف السببَ الحقيقي لحدوث فصول السنة في أماكنَ لا تملك دليلًا على وجودها، أجبرك ذلك على إنكارِ وصْفِ التفسيرِ السببَ الحقيقيَّ لحدوث الفصول حتى في موطنك.

لنفترض جدلًا أنك أنت بنفسِك مَن فكَّر في نظرية الميل المحوري؛ أي إنها من تخمينك أنت وإبداعك الشخصي الأصيل. حتى في هذه الحالة لا يمكنك التغيير فيها؛ لأنها تفسير جيد، ولأنها ليست ملكك. لقد اكتسبَتِ النظريةُ معنًى ونطاقَ تطبيقٍ مستقلَّيْن؛ فلا يمكن أن تقصر تنبؤاتها على إقليمٍ من اختيارك؛ فهي تتنبَّأ رغمًا عنك بأحوال المناطق المعروفة وغير المعروفة لك، تنبؤات وردتْ بخاطرك وأخرى لم تَرِدْ. لا بد أن الكواكب المائلة في المدارات المشابهة في المجموعات الشمسية الأخرى تتمتع بتدفئةٍ وبرودةٍ موسميتَيْن، ومنها كواكب في أبعد المجرات، وبعضها لن نراه أبدًا، وبعضها دُمِّرَ منذ دهورٍ، وبعضها لم يتكوَّنْ بعدُ. تتجاوز النظرية أصولَ نشأتها المحدودة في عقل واحدٍ لم تُؤثِّر عليه سوى أجزاءٍ من أدلةٍ غير مكتملةٍ في نصفٍ واحدٍ من كوكبٍ واحد، لتخرج إلى اللانهاية. إن هذا «المدى» الذي تصل إليه التفسيراتُ هو معنًى آخَر ﻟ «بداية اللانهاية»، وهو قدرة بعض تلك التفسيرات على حل مشكلاتٍ أكبر ممَّا ابتُكِرتْ لحلِّه في الأساس.

لنأخذْ نظريةَ الميل المحوري باعتبارها مثالًا: كان الهدف الأصلي منها تفسيرَ التغيُّرات في زاوية ارتفاع الشمس في كل عام، لكن بعد دَمْجها بشيءٍ من المعرفة حول الحرارة والأجسام الدوَّارة، فَسَّرَتِ النظريةُ ظاهرةَ فصول السنة، وفسَّرَتْ أيضًا بلا أيِّ تعديلاتٍ عليها ظواهِرَ مثل تفاوُتِ الفصول في نصفَيِ الكرة الأرضية، وانعدامِها في الأقاليم الاستوائية، وفسَّرَتْ سببَ سطوع الشمس في منتصف الليل في الأقاليم القطبية؛ تلك الظواهر الثلاث ربما لم يُدرِكها حتى مبتكرو النظرية أنفسُهم.

إن مدى التفسير أمر لا يمكن وصفه ﺑ «القاعدة الاستقرائية»؛ إذ لا يمكن لمبتكر التفسير أن يستخدم ذلك المدى للوصول إلى التفسير نفسِه أو لتبريره؛ فهو حتى ليس جزءًا من العملية الإبداعية على الإطلاق، ولا نُدرِكه إلا بعد التوصُّل إلى التفسير، وأحيانًا بعد فترةٍ طويلةٍ من ذلك. إذن ليس لذلك المدى علاقةٌ ﺑ «التعميم» أو «الاستقراء» أو «استنتاج» نظريةٍ ما بأي طريقةٍ أخرى. الحقيقة أن العكس هو الصحيح؛ فسببُ تعدِّي تفسيرِ الفصول لأبعد من تجارب مبتكريه هو عدم ضرورة تعميمه؛ لأنه كان بطبيعته — باعتباره تفسيرًا، عندما طرأ على أذهانهم للمرة الأولى — منطبقًا على النصف الآخَر من الكرة الأرضية، وعلى المجموعة الشمسية بأسرها، وعلى مجموعاتٍ شمسيةٍ أخرى وفي أزمنةٍ أخرى.

وعليه، فمدى تفسيرٍ ما ليس افتراضًا إضافيًّا، كما أنه ليس منفصلًا عن التفسير، بل يُحدِّده محتوى التفسير نفسه؛ فكلما كان التفسير أفضل، تحدَّدَ مداه على نحوٍ أدق؛ لأنه كلما صَعُبَ التغييرُ في التفسير، زادَتْ صعوبةُ إنشاء صورةٍ متغيِّرةٍ منه ذات مدًى مختلف — سواءٌ أكان أوسع أم أضيق — بحيث تظل تفسيرًا. إننا نتوقَّع ألَّا يختلف قانون الجاذبية في المريخ عن نظيره على الأرض؛ إذ لا يوجد غير تفسيرٍ صالحٍ واحدٍ معروفٍ للجاذبية — وهو نظرية النسبية العامة لأينشتاين — وهي نظرية عامة، إلا أننا لا نتوقَّع أن تماثِلَ خريطةُ المريخ خريطةَ الأرض؛ لأن نظرياتنا عمَّا تبدو عليه الأرض، على الرغم من أنها تفسيرات ممتازة، لا تصل إلى مدى وصف مظهر أي جِرمٍ فلكيٍّ آخَر. ودائمًا ما تدلنا النظرياتُ التفسيرية على أي الأوجه في تفسير ظاهرة ما (وهي عادةً ما تكون قليلة) يمكن تعميمه على ظواهرَ أخرى.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى مدى أشكال المعرفة غير التفسيرية؛ مثل أحكام الخبرة، وكذلك المعرفة الكامنة في الجينات التي من شأنها تحقيق التكيُّف البيولوجي. في خدعة الأكواب والكُرات، كما ذكرت، لا يغطِّي مدى حكم الخبرة إلا فئةً محدَّدةً من الخدع، لكن لا يمكنني تمييز تلك الفئة دون الوصول إلى تفسير ذلك الحكم.

لم تسمح المناهج القديمة في التفكير، التي لم تَسْعَ للوصول إلى تفسيرات جيدة، لعمليةٍ مثل العلم بتصحيح الأخطاء والمفاهيم المغلوطة. وكانت مرات حدوث التقدُّم من الندرة بحيث لم يصادف أغلبُ الناس إحداها. اتَّسمت الأفكار بالجمود لفترةٍ طويلة، وحتى أفضلها كان بمنزلة تفسيراتٍ سيئةٍ ذات مدًى قليل؛ لذا كانت هشَّةً لا تصلح للاعتماد عليها خارج نطاق استخداماتها التقليدية، بل أحيانًا لا تصلح للاعتماد عليها بداخله أيضًا. وإنْ حدَثَ أنْ تغيَّرَتِ الأفكارُ، لم يكن ذلك للأفضل إلا نادرًا، وإن تغيَّرَتْ للأفضل لم يزدْ ذلك مداها إلا نادرًا. ثم ظهر العلم، وما أُطلِق عليه التنوير على نحوٍ أعمَّ؛ فكان بداية انتهاء تلك المنظومة الجامدة الضيقة الأفق من الأفكار، وانطلاق الحقبة الحالية في التاريخ الإنساني، الفريدة في تَميُّزها بالخلق السريع والمستمر للمعرفة بمداها الدائم التوسُّع. وتساءَلَ الكثيرون: إلى متى يمكن لهذه الحال أن تستمر؟ وهل من حتميةٍ لانتهائها؟ أم أن هذه هي بداية اللانهاية؟ بمعنًى آخَر، هل يكون لهذا النهج القدرةُ غير المحدودة لخلق معرفةٍ أكبر؟ قد يكون من التناقُض زعْمُ شيءٍ بهذه الضخامة (حتى ولو على سبيل الاحتمال) عن مشروعٍ محا كلَّ الأساطير القديمة التي أعطَتِ الإنسانَ أهميةً خاصةً في شئون الحياة. لكن لو كانت قدراتُ البشر العقلانية والإبداعية، التي جاءت بالتنوير، لا محدودةً بالفعل، أَلَا يكون لهم حقًّا تلك الأهمية؟

ومع ذلك، وكما قلت في بداية هذا الفصل، لا يمكن للذهب أن يوجد إلا بواسطة النجوم أو بأيدي كائناتٍ ذكية؛ فلو وُجِدتْ قطعة ذهب في أي مكانٍ بالكون، فكُنْ متأكِّدًا أن في تاريخها مستعرًا أعظم أو كائنًا ذكيًّا لديه تفسير. ولو وجدتَ تفسيرًا في أي مكانٍ في الكون، فاعلم أن هناك كائنًا ذكيًّا توصَّلَ إليه؛ فالمستعرات العظمى وحدها لا تكفي.

لكن ماذا بعدُ؟ إن الذهب على أهميته لنا ليس له غير أهميةٍ ضئيلةٍ في منظومة الكون. التفسيرات كذلك مهمة لنا؛ فنحن بحاجة إليها للاستمرار في الحياة، لكن هل لتلك العملية الضئيلة التي تحدث داخل العقل أيُّ أهميةٍ في منظومة الكون؟ سنعالج هذه المسألةَ في الفصل الثالث، بعد أن نناقِشَ بضعَة أفكارٍ عن المظهر والواقع.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • تفسير: افتراضٌ بشأن ما هو موجود وما يفعله وكيف ولماذا.
  • مدى: قدرة بعض التفسيرات على حل مشكلاتٍ أبعد ممَّا ابتُكِرَتْ لحلِّه.
  • إبداع: القدرة على ابتكار تفسيراتٍ جديدة.
  • التجريبية: مفهوم خاطئ مفاده أننا «نستنتج» المعرفة كلها من الخبرات الحسية.
  • مثقل بالنظرية: لا تتصف أي تجربةٍ بكونها «خامًا»؛ فكل خبرتنا بالعالم تأتي من طبقاتٍ من التأويلات الواعية وغير الواعية.
  • الاستقرائية: مفهوم خاطئ مفاده أن النظريات العلمية يتم الوصول إليها بتعميم التجارب المتكررة، وبأنه كلما أكدت الملاحظة النظرية زادَتِ احتماليةُ صحةِ النظرية.
  • الاستقراء: عملية «الوصول» غير الموجودة في الواقع، والمشار إليها في الإدخال السابق.
  • قاعدة استقرائية: الفكرة القاضية بأن «المستقبل سيُشبه الماضي» مقترِنةً بالمفهوم الخاطئ القاضي بأن ذلك يمكن أن يفترض أي شيءٍ عن المستقبل.
  • الواقعية: فكرة مفادها أن العالم المادي موجود في الواقع، وأن المعرفة به موجودة كذلك.
  • النسبوية: مفهوم خاطئ مفاده أن الافتراضات لا يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة على نحوٍ موضوعي، بل يكون الحكم عليها في الغالب تبعًا لمقاييسَ ثقافيةٍ أو إلزاميةٍ أخرى.
  • الذرائعية: مفهوم خاطئ مفاده أن كل ما يستطيعه العلم هو أن يتنبَّأ بنتائج الملاحظات، لا أن يصف الواقع.
  • التبريرية: مفهوم خاطئ مفاده أن المعرفة لا تكون حقيقية أو موثوقة إلا إذا برَّرَها مصدرٌ أو معيارٌ ما.
  • اللامعصومية: الاعتراف بأنه ليست هناك مصادر سلطوية على المعرفة، ولا أي وسائل موثوق بها لتبرير المعرفة بكونها حقيقية أو محتملة.
  • المعرفة المرجعية: المعرفة المألوفة وغير القابلة للنقاش في الوقت الحالي.
  • حكم الخبرة: «نظرية تنبُّئِية محضة» (نظريةٌ كلُّ محتواها التفسيري هو المعرفة المرجعية).
  • مشكلة: توجد المشكلة عند وقوع تضارُبٍ بين فكرتين.
  • تفسير جيد/سيئ: تفسير صعب/سهل التغيير فيه بحيث يظل معلِّلًا لما عليه أن يعلِّلَ.
  • التنوير: (بداية) طريقة للسعي إلى المعرفة مع وجود تقليدٍ للنقد والبحث عن تفسيراتٍ جيدةٍ بدلًا من الاعتماد على السلطة.
  • تنويرات صغرى: تقاليد نقدٍ قصيرة الأجل.
  • عقلاني: محاولة حل المشكلات بواسطة البحث عن تفسيراتٍ جيدة، والسعي النَّشِط لتصحيح الأخطاء بنقد الأفكار الموجودة والمطروحة.
  • الغرب: الثقافة السياسية والأخلاقية والاقتصادية والفكرية التي نَمَتْ حول قِيَم التنوير من عِلْمٍ وعقلانيةٍ وحرية.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • وجود مدًى لبعض التفسيرات.

  • المدى العمومي لبعض التفسيرات.

  • التنوير.

  • تقليد النقد.

  • الافتراض: أصل كل المعرفة.

  • اكتشاف كيفية إحراز التقدُّم: العلم، والثورة العلمية، والبحث عن تفسيراتٍ جيدة، ومبادئ الغرب السياسية.

  • اللامعصومية.

ملخص هذا الفصل

المظاهر خادعة، إلا أننا نملك قدرًا هائلًا من المعرفة عن الواقع الواسع وغير المألوف الذي يتسبَّب فيها، وعن القوانين العامة الأنيقة التي تحكم هذا الواقع. تتكوَّن هذه المعرفة من تفسيراتٍ؛ افتراضاتٍ عن حقيقةِ ما هو كائن خلف تلك المظاهر وعن سلوكه. لم ننجح تقريبًا في معظم تاريخ البشرية في خلق هذه المعرفة؛ فمن أين تأتي؟ تدَّعِي التجريبية أننا نستنتجها من الخبرات الحسية، وهذا غير حقيقي؛ فإن المصدر الحقيقي لنظرياتنا هو الافتراض، والمصدر الحقيقي لمعرفتنا هو المبادلة بين الافتراض والنقد. إننا نبتكر النظريات بإعادة ترتيب الأفكار الحالية ودمجها والتبديل بينها والإضافة إليها بِنِيَّة العمل على تطويرها. يكمن دورُ التجريب والملاحظة في الاختيار بين النظريات الحالية، لا أن يكونَا مصدرًا للجديد منها. إننا نُؤَوِّل تجاربنا من خلال النظريات التفسيرية، لكن التفسيرات الجيدة ليست بديهية. تستهدف اللامعصومية نبْذَ فكرة وجود سلطةٍ في العلم والاعتراف باحتمالية كوننا على خطأ، ومحاولة تصحيح ذلك الخطأ؛ إننا لا ندرك ذلك إلا بالبحث عن تفسيراتٍ جيدةٍ صعبةِ التغيير، بمعنى أن تغيير تفاصيلها يُدمِّر التفسيرَ نفسه. كان ذلك — وليس الاختبار التجريبي — هو العاملَ الحاسمَ في الثورة العلمية، وكذلك في التقدُّم الفريد والسريع والمستمر في المجالات الأخرى المشتركة في التنوير، وكان هذا بمنزلة ثورةٍ على السلطة، وهو على عكس معظم ما شابَهَه من ثورات، حاوَلَ ألَّا يسعى لتبريراتٍ سلطويةٍ للنظريات، بل أوجَدَ تقليدَ النقد. كان لبعض الأفكار الناتجة مدًى واسع؛ حيث فسَّرَتْ أكثر ممَّا ابتُكِرَت من أجله، ومدى التفسير هو سمة جوهرية فيه، وليس افتراضًا نُخمِّنه بشأنه كما تدَّعِي التجريبية والاستقرائية.

والآن سأتحدَّث أكثر عن المظهر والواقع، وعن التفسير واللانهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤