الفصل الخامس عشر

تطوُّر الثقافة

أفكار باقية

«الثقافة» مجموعة من الأفكار التي تجعل معتنقيها يتصرَّفون تصرُّفاتٍ متماثلةً في بعض المناحي. أعني «بالأفكار» أيَّ معلوماتٍ قابلةٍ للتخزين في عقول البشر، وقادرةٍ على التأثير على سلوكهم؛ على هذا، تكون القِيَمُ المشتركة في أمة، والقدرةُ على التواصُل بلغةٍ ما، والمعرفةُ المشتركةُ في حقلٍ أكاديميٍّ ما، وتذوُّقُ لونٍ موسيقيٍّ معيَّن؛ كلها — بوجهٍ أو بآخَر — «مجموعات أفكار» تُعرِّفُ الثقافات. لا يمكن التعبير عن كثيرٍ من هذه المجموعات، بل إنَّ كل الأفكار في الواقع تضمُّ بين مكوناتها مكوِّنًا غير صريحٍ على نحوٍ ما؛ لأنه حتى معرفتنا بمعاني الكلمات تظل غيرَ صريحةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ في أذهاننا. لبعض المهارات البدنية — كالقدرة على ركوب الدراجات — محتوًى غيرُ صريحٍ على نحوٍ كبيرٍ بصورةٍ خاصة، مثلما هي الحال في المفاهيم الفلسفية كالحرية والمعرفة. إن الفارق بين الصريح وغير الصريح ليس حاسمًا على الدوام؛ فقد تتناول قصيدةٌ أو عملٌ ساخرٌ مثلًا على المستوى الصريح موضوعًا، بينما يُؤَوِّلها جمهورُ ثقافةٍ بعينها — ودون تلقين — على أنها تتناول موضوعًا مختلفًا.

تكوَّنَتْ ثقافات العالم المهمة — بما فيها الأمم، واللغات، والحركات الفلسفية والفنية، والتقاليد الاجتماعية، والأديان — على نحوٍ تراكميٍّ على مدار مئات بل آلاف الأعوام. تملك أغلب الأفكار المعرِّفة لهذه الثقافات — بما فيها الأفكار غير الصريحة — تاريخًا طويلًا من التناقل من شخصٍ لآخَر؛ ممَّا يجعل هذه الأفكارَ «ميماتٍ»، أو أفكارًا ناسخة.

لكن الثقافات تتغيَّر؛ إذ يُعدِّل الناسُ الأفكارَ الثقافية في أذهانهم، وأحيانًا ما يتناقلون تلك النُّسَخَ المعدَّلة، فلا مناص من حدوث بعض التعديلات بغير عمدٍ كذلك، يقع بعضها نتيجةً للخطأ الصريح، وبعضها لصعوبة توصيل الأفكار غير الصريحة على نحوٍ دقيق؛ فما من سبيلٍ لنقلها مباشَرةً من عقلٍ لآخَر كمثل برامج الكمبيوتر. إن تعريفات المتحدثين الأصليين لنفس اللغة للكلمة الواحدة تتباين، لذا لا تجد شخصين لديهما نفس الفكرة الثقافية بالضبط في عقلَيْهما إلا نادرًا. ولهذا السبب بمجرد أن يموت مؤسِّس حركةٍ سياسيةٍ أو فلسفية، أو دين، أو حتى قبل ذلك، يقع الشقاق بين التابعين. كثيرًا ما يُصدَم أصدق معتنقي الحركة لاكتشاف الاختلاف فيما بينهم حول الماهية «الحقيقية» لعقائدها، ولا يختلف الأمر كثيرًا حين يكون للدين كتابٌ مقدس تُذكَر فيه العقائد بوضوح؛ فحينئذٍ تنشب الخلافات حول معاني الكلمات فيه، وتأويل الجمل.

وعلى هذا، فالثقافة لا تُعرَّف عمليًّا على أنها مجموعة من الميمات التامة التماثل، بل على أنها مجموعة من التنويعات التي تُنتج سلوكياتٍ أساسيةً يختلف بعضها قليلًا عن بعض. تميل بعض التنويعات إلى التأثير على معتنقيها بتنفيذها أو الحديث عنها أكثر من غيرها، في حين أن البعض الآخَر يقل تأثيره في هذا النطاق، هذا بالإضافة إلى أن بعضها أسهل في النسخ إلى أذهان متلقيه المحتملين من غيره. تؤثر هذه العوامل مع غيرها على مدى إمكانية تناقُل كل تنويعٍ من أحد الميمات على نحوٍ دقيق، غير أن بعض التنويعات الاستثنائية تميل — بمجرد أن تبزغ في عقل واحد — إلى أن تنتشر في الثقافة برُمَّتها دون تغييرٍ يُذكَر في معناها (كما يتبيَّن من السلوكيات التي تنجم عنها). مثل هذه الميمات مألوف لنا؛ إذ تتكوَّن منها الثقافات الطويلة العمر، ولكنها مع ذلك أنواع فذَّة من الأفكار؛ فأكثر الأفكار قصيرُ العمر. يفاضل العقل البشري بين أفكارٍ عدةٍ قبل أن ينتقيَ أيَّ فكرةٍ يتصرَّف بناءً عليها، وتُنتج نسبةٌ ضئيلةٌ من هذه الأفكار المنتقاة سلوكًا يلاحظه الآخَرون، ولا ينسخ الآخَرون إلى عقولهم من هذه الأخيرة إلا نسبةً ضئيلة؛ وبذلك تختفي الأغلبية العظمى من الأفكار في عمرٍ واحدٍ أو أقل؛ ومن ثَمَّ يتحدَّد جزءٌ من سلوك الأشخاص في الثقافات الطويلة الأمد جزئيًّا بواسطة الأفكار الحديثة التي لن تلبث أن تزول، وجزئيًّا بواسطة الميمات «الطويلة الأمد»؛ أيِ الأفكار الاستثنائية التي نُسِخت بدقةٍ لمراتٍ عديدةٍ متلاحقة.

ثَمَّةَ سؤال أساسي في دراسة الثقافات: من أين للميم الطويل الأمد قدرتُه الاستثنائية على مقاومة التغيير عبر عمليات النسخ المتعددة؟ وثَمَّةَ سؤال آخَر — وهو محوري فيما يتعلَّق بالموضوع العام لهذا الكتاب — وهو: عندما تتغيَّر تلك الميماتُ بالفعل، ما هي الظروف التي يمكن أن تتغير في ظلها إلى الأفضل؟

تبلغ فكرة تطوُّر الثقافات من القِدَم على الأقل ما لفكرة التطوُّر من القِدَم في علم البيولوجيا، ولكن أغلب محاولات فهم كيفية تطوُّرِها بُنِيت على فهمٍ خاطئٍ للتطوُّر. اعتقد المفكِّر الشيوعي كارل ماركس مثلًا أن نظريته عن التاريخ كانت نظريةً تطوريةً لأنها تحدَّثت عن ارتقاءٍ عبر المراحل التاريخية حدَّدته «قوانينُ الحركة» الاقتصادية، لكن نظرية التطوُّر الحقيقية لا علاقةَ لها بالتنبُّؤِ بسمات الكائنات الحية من خلال سمات أسلافها. اعتقد ماركس أيضًا أن نظرية داروين عن التطوُّر «تقدِّم أساسًا في العلوم الطبيعية لصراع الطبقات التاريخي»؛ إذ كان يقارن بين فكرته عن الصراع المتأصِّل بين الطبقات الاجتماعية الاقتصادية وبين المنافسة المفترضة بين الأنواع البيولوجية. ولقد استَخدمَتْ بالمثل الأيديولوجياتُ الفاشية كالنازية أفكارًا تطوريةً محرَّفةً أو غير دقيقةٍ مثل «البقاء للأقوى»، وذلك من أجل تبرير العنف؛ على أن المنافسة في التطوُّر البيولوجي في حقيقة الأمر ليست بين الأنواع، بل بين «تنويعات جينية في النوع الواحد»، وهو ما لا يجسِّد ذلك «الصراعَ الطبقي» المزعوم بالمرة. «بإمكان» هذه أن تُثير العنفَ أو غيره من صور التنافس بين الأنواع، ولكن بإمكانها أيضًا أن تؤدِّيَ إلى التعاون (مثل التعايش بين الزهور والحشرات)، وكلِّ درجات الخليط المعقدة بين هذا وذاك.

مع أن ماركس والفاشيين افترضوا نظرياتٍ باطلةً عن التطوُّر البيولوجي، فإنه ليس من الصدفة أنه كثيرًا ما يقترن تشبيه المجتمع والمحيط الحيوي برؤًى قاتمةٍ عن المجتمع؛ فالمحيط الحيوي مكان قاتم جاهم؛ حافل بالنهب، والخداع، والغزو، والاستعباد، والمجاعات، والإبادة. ومن هذا المنطلق، ينتهي الأمر بمَن يعتقدون أن هذه هي حال التطوُّر الثقافي إما بأن يعارضوه (منادين بمجتمعٍ استاتيكي)، وإما بقبول ذلك النمط من السلوك اللاأخلاقي بحجة أنه ضروري أو محتوم.

إن الحجج القائمة على التشبيه باطلة. يحتوي أيُّ تشبيهٍ بين أي شيئين تقريبًا على جزءٍ من الحقيقة، لكن لا يسع المرءَ أن يضع يدَه على هذه الحقيقة قبل أن يمتلك التفسيرَ المستقلَّ حول طرفَي التشبيه وأسبابه. إن الخطورة الرئيسية التي يبعث عليها تشبيهُ الثقافة بالمحيط الحيوي هي أنها تُشجِّع على تصوُّرِ الحالة البشرية تصوُّرًا اختزاليًّا طامسًا لفروق المستوى الأعلى الضرورية لفهمها، كالفروق بين الغباء والإبداع، وبين التسيير والتخيير، وبين الصحيح والخطأ. لا معنى لهذه الفروق على المستوى البيولوجي، بل إن هذا التشبيه كثيرًا ما يُجرَى بغرض تفنيد الفكرة البديهية عن كون البشر عناصرَ فاعلةً مسبِّبة، لهم القدرة على انتقاء الاختيارات الأخلاقية وخلق معرفةٍ جديدةٍ لأنفسهم.

مع أن التطوُّرَيْن البيولوجي والثقافي تصفهما نفسُ النظرية الضمنية — كما سأشرح — فإن آليات الانتقال، والتنوع، والاختيار فيهما تختلف اختلافًا كبيرًا؛ ممَّا يجعل «التواريخ الطبيعية» الناتجة مختلفةً بدورها. لا يوجد شبيهٌ ثقافيٌّ لنوعٍ حيوي، أو كائنٍ حي، أو خلية، أو تكاثرٍ جنسيٍّ أو لا جنسي. شتان بين الجينات والميمات على مستوى الآليات والنتائج، بل إنهما لا يتشابهان إلا على أدنى مستوًى من مستويات التفسير، وهو أن كلًّا منهما «ناسخ» يجسِّد «المعرفة»؛ ومن ثَمَّ تحكمه نفسُ المبادئ الأساسية التي تُحدِّد الظروفَ التي يمكن أن تُحفَظ المعرفةُ فيها أو تُهدَر، والتي يمكن تحسينها في ظلها أو لا يمكن.

تطوُّر الميمات

في القصة القصيرة الكلاسيكية المنتمية إلى أدب الخيال العلمي «المازح»، التي ألَّفها إسحاق أزيموف عام ١٩٥٦، تعمل الشخصية الرئيسية كعالِمٍ يدرِّس المزح والنكات. يجد هذا العالِمُ أن الناس — مع أن أغلبهم يُقدِّم أحيانًا ملاحظاتٍ فطنةً وأصلية — لا يبتكرون مطلقًا النكتة الكاملة من وجهة نظره؛ أيْ أنْ تكون قصةً ذات حبكةٍ ونهايةٍ تبعث السامعين على الضحك. يجد أنهم متى قصُّوا نكتةً كتلك، تكون تكرارًا فحسب لواحدةٍ سمعوها من شخصٍ آخَر؛ إذنْ من أين تأتي النكاتُ أصلًا؟ مَن يؤلِّفها؟ الإجابةُ الخيالية التي تُقدِّمها القصة القصيرة «المازح» بعيدةُ الاحتمال ولا تعنينا هنا، لكن الفرضية التي تعالجها القصةُ القصيرة ليست عبثيةً على الإطلاق، وهي أنه من المعقول حقًّا ألَّا تكون بعضُ النكات من ابتكارِ أحدٍ؛ فلقد تطوَّرَتْ.

يقصُّ الناسُ القصصَ المسلية بعضُهم على بعض؛ منها الخيالي، ومنها الحقيقي. إنها ليست نكاتًا، ولكن بعضها يصير ميمات؛ أيْ قصصًا شائقةً بالقدر الكافي لجعْل سامعيها يردِّدونها على مسامعِ آخَرين، وبعض هؤلاء يردِّدونها بدورهم، لكنهم نادرًا ما يتناقلونها على نحوٍ حرفي؛ فلا يحتفظون بكل تفصيلةٍ في محتواها؛ ومن هنا تخرج للوجود نُسَخٌ مختلفة من القصة الدارجة. سيُردَّد بعضُ هذه النسخ أكثر من غيره؛ في بعض الحالات لأن الناس يجدونه مسليًّا. وعندما يصبح هذا هو السببَ الرئيسيَّ لترديد هذه النُّسَخ، تصبح النُّسَخُ اللاحقة المتداولة أكثرَ تسليةً. وهكذا نجد الظروف مواتيةً للتطوُّر؛ دورات متكررة من النَّسْخ غير المتقن للمعلومات يُبادَل بينها بالانتقاء، فتصبح القصة مع الوقت مسليةً بالقدر الكافي لإضحاك الناس؛ وبهذا تكون نكتةٌ كاملةُ المعالم قد تطوَّرَتْ.

من الوارد أن تتطوَّرَ نكتةٌ من خلال تنويعاتٍ لم يكن القصدُ منها تحسينَ قدرتها على الإضحاك؛ فعلى سبيل المثال: عندما يسمع الناس قصةً، قد يُخطِئون في سماع أو فهم جوانبَ منها، أو يغيِّرونها لأسبابٍ عملية، وفي حالاتٍ قليلةٍ بالصدفة البحتة، تنتج عن هذا نسخةٌ أكثر هزلًا، تنتشر عندئذٍ انتشارًا أفضل. إذا تطوَّرَتِ النكتةُ بهذه الطريقة من قصةٍ لم تكن في الأصل نكتةً، فإنها تكون حقًّا بلا مؤلِّفٍ. ثَمَّةَ إمكانية أخرى، وهي أن أكثر مَن عدَّلوا في القصة الشائقة وهي في طريقها لتصبح نكتةً، «صمَّموا» مساهماتهم، مستخدمين الإبداعَ لجعلها أكثر هزلًا عن عمدٍ؛ وفي مثل هذه الحالات، تكون النكتة قد تكوَّنَتْ حقًّا بفعل التبديل والانتقاء، ومع ذلك تكون هزليتُها قد تكوَّنتْ نتيجةً للإبداع البشري؛ وفي هذه الحالة يكون من المضلِّل أن نقول إن «أحدًا لم يؤلِّفها»، بل شارَكَ الكثيرون في تأليفها، وساهَمَ كلٌّ منهم بفكرٍ خلَّاقٍ في النتيجة. لكن ربما ظلَّتِ الحقيقةُ أن أحدًا لا يفهم بالمعنى الحرفي للكلمة سرَّ طرافةِ النكتة على ما هي عليه؛ ومن ثَمَّ لا يستطيع أحدٌ ابتكارَ نكتةٍ أخرى بنفس الجودة متى أراد.

مع أننا لا نعلم آليةَ عمل الإبداع بالضبط، فإننا نعلم أنه هو نفسه عملية تطورية تجري داخل عقول الأفراد؛ ذلك لأنه يعتمد على الحدْس (وهو التنويع) والنقد (بُغيةَ انتقاء الأفكار)؛ لذا — وفي نقطةٍ ما في عقولنا — تتراكم تنويعاتٌ وانتقاءاتٌ مستترةٌ لتُكوِّن فكرًا خلَّاقًا على مستوًى انبثاقيٍّ أعلى.

تعرَّضَتْ فكرةُ الميمات لقدرٍ هائل من النقد الراديكالي — والخاطئ في رأيي — الذي رماها بصفات الغموض والعقم، أو التحامل؛ على سبيل المثال: عندما حُظِرت الديانة الإغريقية القديمة، واستمرَّ مع ذلك قصُّ حكايات آلهتها — وإنْ كان الآن على سبيل الخيال الأدبي — هل ظلَّت تلك القصص نفس الميمات، مع أنها تتسبَّب الآن في سلوكياتٍ جديدة؟ عندما تُرجِمتْ قوانينُ نيوتن إلى الإنجليزية من أصلها اللاتيني، تسبَّبَتْ في أن تُنطَق وتُكتَب كلماتٌ على نحوٍ مختلف. تُرَى هل كانت نفس الميمات؟ لكن مثل هذه الأسئلة في الواقع لا تُلقي بظلال الشك على وجود الميمات، ولا على فائدة مفهومها. يُشبه ذلك الخلافَ حول أيُّ الأجرام في المجموعة الشمسية تستحق تسمية «كواكب»؛ هل بلوتو كوكبٌ «حقيقي» مع أنه أصغر من بعض الأقمار في مجموعتنا الشمسية؟ هل عطارد ليس بكوكبٍ حقًّا بل نجمٌ غير مشتعل؟ لا يهم، المهم هو الموجود حقًّا، والميمات موجودة حقًّا، بصرف النظر عمَّا نُسمِّيها به أو كيفية تصنيفنا لها. وكما تطوَّرَتِ النظريةُ الأساسية للجينات قبل اكتشاف الحمض النووي دي إن إيه بوقتٍ طويل، ندرك اليومَ — دون أن نعلم «كيف» تُخزَّن الأفكارُ في العقول — أن بعض الأفكار قادرةٌ على الانتقال من شخصٍ إلى آَخر، وعلى التأثير على سلوك الناس؛ الميمات هي تلك الأفكار.

من سُبُل النقد الأخرى أن الميمات — على عكس الجينات — لا تُخزَّن في صورٍ ماديةٍ متماثلةٍ في كل حامليها، لكن هذا — كما سأشرح — لا يعوق الميمات بالضرورة عن الانتقال ﺑ «دقة» بمعناها المهم للتطوُّر، بل إنه لتصوُّرٌ بَنَّاءٌ أن نعتقد أن الميمات تحافظ على هويتها إزاء انتقالها من شخصٍ حاملٍ لها إلى من يليه.

وكما تعمل الجينات في أغلب الأحيان في مجموعاتٍ لتحقيقِ ما يمكننا أن نعتقد أنه كعمليةِ تكيُّفٍ واحدة، توجد مجمعات ميمات متكونة من أفكارٍ متعددةٍ تستطيع — بالتبادُل — أن تأخذ هيئةَ فكرةٍ واحدةٍ معقَّدة، كنظرية الكَمِّ أو الداروينية الجديدة؛ لذا لا يهم إنْ كنَّا نشير إلى مجمع ميمات كأحد الميمات، تمامًا كما لا يهم إن أشرنا إلى نظرية الكَمِّ باعتبارها نظريةً واحدةً أو مجموعةً من النظريات. ومع ذلك، فالأفكار — بما فيها الميمات — لا يمكن أن تُحلَّل على نحوٍ غير محدَّدٍ إلى ميماتٍ فرعية؛ لأن التحليل سيصل إلى نقطةٍ حيث يؤدِّي استبدالُ جزءٍ من أحد الميمات بالميم نفسه إلى عدم نسخه؛ لذا فإن «٢ + ٣ = ٥» ليس ميمًا على سبيل المثال؛ لأنه يفتقر إلى ما يلزم لكي يُتيح لنفسه أن يُنسَخ على نحوٍ موثوق، إلا في ظروفٍ من شأنها أن تنسخ أيضًا نظريةً حسابيةً ما ذات مدًى عموميٍّ، لا يمكن نقلها دون نقل معلومة أن ٢ + ٣ = ٥.

الضحكُ من النكتة وإعادةُ سردها سلوكان ناجمان عن النكتة ذاتها، لكننا لا نعلم في أكثر الأحيان لماذا نمارسهما، السبب موجود موضوعيًّا في الميم، ولكننا لا نعلمه. قد نحاول التخمين، لكن تخميننا لن يكون بالضرورة صحيحًا؛ فقد نخمن مثلًا أن الطرافة في نكتةٍ بعينها تكمن في فجائية خاتمتها، لكنْ قد يُبيِّن تكرارُ الخبرة بنفس النكتة أنها تبقى مُضحِكةً عندما نسمعها مجدَّدًا. في هذه الحالة نكون في موقفٍ مناقضٍ للبديهة (ولكنه شائع)؛ حيث «نخطئ بصدد مسبب سلوكنا الشخصي».

يحدث نفس الشيء تقريبًا مع قواعد النحو؛ نقول في الإنجليزية البريطانية مثلًا: I am learning to play the piano، ولا نقول مطلقًا: I am learning to play the basketball. نعلم كيف نصوغ مثل هذه الجمل صياغةً صحيحة، ولكنَّ أكثرنا لا يعلم — إلى أن نتفكَّرَ بالأمر — أن القاعدة النحوية غير الصريحة التي نتبعها موجودة من الأصل، دَعْ عنك معرفةَ كُنْهِها. تختلف القاعدة قليلًا في الإنجليزية الأمريكية؛ لذا تصير العبارة learning to play piano مقبولةً. قد نتساءل عن السبب، ونُخمِّن أن البريطانيين مغرمون بأداة التعريف أكثر من الأمريكيين، لكن هذا ليس هو التفسير: بالإنجليزية البريطانية يكون المريض in hospital، بينما بنظيرتها الأمريكية يكون in the hospital.
ينطبق الأمر نفسه على الميمات بصفةٍ عامة؛ إذ إنها تحتوي ضمنًا على معلوماتٍ غير معروفةٍ لحامليها، ولكنها تجعلهم مع ذلك يتصرَّفون بسلوكياتٍ متشابهة؛ ولهذا — وكما قد يكون متحدِّثو الإنجليزية الأصليون مخطئين في تبريرهم استخدامَ the في الجملة المذكورة — يقدِّم منشئو كافة أشكال الميمات الأخرى غالبًا تفسيراتٍ خاطئةً — حتى لأنفسهم — عن أسباب تصرُّفهم على هذا النحو.

تحتوي كلُّ الميمات — مثل الجينات — على معرفةٍ (غير صريحةٍ في أغلب الأحيان) حول كيفية التسبُّب في نَسْخ نفسها. تُشفَّر هذه المعرفة في سلاسل الحمض النووي، أو تتذكَّرها العقول تباعًا، وفي الحالتين «تتكيَّف» المعرفةُ للتسبُّب لنفسها في التناسخ؛ وهي في ذلك أقدر من كل صورها المنوَّعة تقريبًا. وفي الحالتين، يأتي هذا التكيُّفُ نتيجةً للجولات المتبادلة للتنويع والانتقاء.

ومع ذلك، يختلف منطق آلية النسخ في الجينات عنه في الميمات اختلافًا كبيرًا؛ ففي الكائنات التي تتكاثر بالانقسام، تُنسَخ سائرُ الجينات إلى الجيل التالي، أو لا يُنسخ أيٌّ منها (في حالة إخفاق الفرد في التكاثر). أما في التكاثر الجنسي، فتُنسَخ مجموعةٌ كاملةٌ من الجينات المختارة عشوائيًّا من كلا الأبوين إلى الذُّرِّية، أو لا ينتقل أيُّها على الإطلاق. تحدث عملية نسخ الحمض النووي في كل الحالات تلقائيًّا؛ تُنسَخ الجينات عشوائيًّا. من نتائج هذا أن بعض الجينات يمكن أن يُنسَخ عبر أجيالٍ عدةٍ دون أن «يُعبِّر عنها» (دون التسبُّب في أي سلوك) مطلقًا. على سبيل المثال: سينتقل الجين المسئول عن استشفاء العظام المكسورة إليك وإلى نسلك، مانعًا حدوثَ طفراتٍ غير محتملة، بصرف النظر عمَّا إذا كان قد وقع كسْرٌ بالعظام لأحد والدَيْكَ أم لا.

تواجه الميمات موقفًا مختلفًا تمامًا. يجب أن يعبَّر عن الميم في صورة سلوكٍ في كل مرةٍ يتم فيها نسخه؛ لأن هذا السلوك فقط (في ظل البيئة التي تخلقها باقي الميمات الأخرى كلها) هو ما يؤثِّر على النسخ؛ ذلك لأن المتلقِّيَ لا يستطيع رؤيةَ تجسيدِ الميم في عقل حامله. لا يمكن تحميل الميم كبرنامجٍ حاسوبي. لن يُنسَخ الميم ما لم يُمثَّل.

نتيجة لذلك تتبلور ضرورةُ تجسُّد الميمات في صورتين ماديتين مختلفتين بالتبادل، هما: ذكريات في العقل، أو سلوك، كما في الشكل ١٥-١.
fig37
شكل ١٥-١: يوجد الميم في صورةٍ ذهنيةٍ وصورةٍ سلوكية، وتُنسخ كلٌّ منهما إلى الأخرى.

يجب أن تُنسَخ «كلتا» الصورتين (وبالتحديد مترجمة إلى الصورة الأخرى) في كل جيلٍ ميميٍّ («الأجيال» الميمية هي ببساطةٍ حالاتُ نسخٍ إلى فردٍ آخر). تستطيع التكنولوجيا أن تضيف مزيدًا من المراحل لدورة حياة الميم؛ على سبيل المثال: قد يكون السلوك هو تسجيلَ شيءٍ بالكتابة؛ مما يترتب عليه هيئة مادية ثالثة للميم، التي قد تتسبَّب فيما بعدُ لقارئٍ لها في ممارسة سلوكٍ آخَر، وهو ما يتسبَّب حينئذٍ في ظهور الميم في ذهن هذا الشخص، لكن يجب أن توجد كل الميمات في صورتين ماديتين على الأقل.

وفي المقابل، لا يوجد الناسخ في الجينات إلا في صورةٍ ماديةٍ واحدة؛ سلسلة الحمض النووي (للخلية الجنسية). ومع أن هذه يمكن أن تُنسَخ في مواضعَ أخرى من الكائن الحي، وتُترجَم إلى حمضٍ نوويٍّ ريبي، ويُعبَّر عنها في صورة سلوك، فإن تلك الصور كلها ليست عبارة عن ناسخ. إن فكرة إمكانية أن يكون السلوك ناسخًا، لَهي صورة من صور اللاماركية؛ لأنها تعني ضمنيًّا إمكانيةَ توريثِ السلوكيات التي عدَّلَتْها الظروفُ.

وبسبب ما للميم من صورٍ ماديةٍ تبادلية، يتعيَّن عليه الصمودُ أمام آليتين مختلفتين للانتقاء — غير مرتبطين على الأغلب — في كل جيل. يجب على صورة ذكريات العقل أن تتسبَّبَ لحاملها في تجسيد السلوك، ويجب على الصورة السلوكية أن تتسبَّب للمتلقي الجديد في تذكُّرها وتجسيدها.

fig38
شكل ١٥-٢: يوجد الجين في صورةٍ ماديةٍ واحدةٍ فقط، وهي الصورة التي تُنسَخ.

إذنْ، على سبيل المثال، مع أن الأديان تفرض سلوكياتٍ مثل تعليم الشخصِ أطفالَه اعتناقَها، لا يكفي عقْدُ النية لنقل الميم إلى الأطفال أو أي شخصٍ آخَر لتحقيق ذلك؛ ولهذا السبب، تخفق الغالبية العظمى من محاولات نشر أديانٍ جديدة، حتى مع محاولة أعضائها المؤسسين للترويج الجاد لها. في هذه الحالات يكون ما حدث هو نجاحَ فكرةٍ اعتنَقَها البعضُ في إرغام مَن اعتنقوها على تجسيد سلوكياتٍ متنوعةٍ منها، بما فيها السلوكيات المقصود منها جعْل الأطفال وغيرهم يقومون بفعل نفس الشيء، لكن السلوك قد فشل في أن يتيح لنفس الفكرة أن تُحفَظ في أذهان أولئك المتلقِّين.

أحيانًا، يُفسَّر وجودُ الأديان الطويلة الأمد من منطلق الافتراض: «الأطفال سُذَّج»، أو أنهم «سهلو الإفزاع» من خلال قصص الغيبيات؛ على أن هذا ليس هو التفسير. تفتقر الغالبية العظمى من الأفكار ببساطة إلى ما يتطلَّبه إقناع الأطفال أو غيرهم — أو إخافتهم، أو خداعهم، أو أي طريقةٍ أخرى — أن يؤدوا الشيء نفسه لأناسٍ غيرهم. لو كان من السهل إرساءُ ميمٍ ناسخٍ على نحوٍ دقيق، لَبرع سائر الراشدين من أفراد مجتمعنا في علم الجبر بفضل الجهود المبذولة في تلقينهم إياه عندما كانوا أطفالًا، أو لأصبحوا جميعًا — لمزيدٍ من الدقة — «معلِّمِي» جبرٍ بارعين.

لكي تصبح الفكرة ميمًا، يلزمها أن تحتويَ على معرفةٍ رفيعةٍ ومعقدةٍ حول كيفية جعْل البشر ينفِّذون أمرين مستقلين على الأقل: استيعاب الميم بكفاءة، وتجسيده. إن قدرةَ بعض الميمات على نَسْخ نفسها بدقةٍ عاليةٍ إلى أجيالٍ عديدةٍ تشير إلى كمِّ ما تحويه من معرفة.

الميمات الأنانية

إذا وُجِد جين ما في جينوم، فلسوف يُعبَّر عنه قطعًا — عندما تحلُّ الظروفُ الملائمة — على هيئة إنزيم، كما وصفتُ في الفصل السادس، وستنتج عنه حينئذٍ آثارُه المميزة؛ كما لا يمكن إهمالُه إذا نُسِخ باقي جينومه بنجاح. أما في المقابل، لا يؤدِّي مجرد وجود الميم في العقل إلى التعبير عنه تلقائيًّا في صورة سلوك: على الميم أن ينافس أفكارًا أخرى — الميمات وغير الميمات، وتقريبًا كل الموضوعات — في نفس العقل من أجل الحصول على تلك المزية. كما أنَّ تجسُّدَ الميم سلوكيًّا فحسب لا ينسخه تلقائيًّا في المتلقِّي مع الميمات الأخرى: على الميم أن يتنافس للحصول على انتباه المتلقي وقَبوله، ضد كل ألوان السلوك الصادر عن الآخرين، ومع أفكار المتلقي نفسه، وذلك بالإضافة إلى مقابل نمط الانتقاء الذي تمر به الجيناتُ؛ حيث يتنافس الميم مع نُسَخٍ من نفسه في سائر أفراد المجتمع، ربما باحتواء معرفةٍ لغرضٍ مفيد.

تخضع الميمات لجميع أنواع التنويع، العشوائي منه والمتعمَّد، إلى جانب ما تمرُّ به من عمليات انتقاء؛ وبهذا تتطوَّر. لذا، ينطبق عليها إلى هذا الحد نفسُ منطق الجينات: الميمات «أنانية». إنها لا تتطوَّر بالضرورة لتُفيد حامليها، أو مجتمعها أو حتى نفسها، مجددًا، إلا من ناحية تناسُخها على نحوٍ أفضل من الميمات الأخرى (مع أن «أغلب» الميمات الأخرى باتَتِ الآن منافِسةً لها، لا مجرد تنويعاتٍ منها). تنويع الميم الناجح هو ذلك الذي يغيِّر سلوكَ حامليه تغييرًا يعظِّم من قدرة الميم على صرف الميمات الأخرى من أذهان أفراد المجتمع. قد يفيد الميم في تنويعه الناجح ذلك حامليه، أو ثقافتهم، أو نوعهم بأكمله، لكنه لو آذاهم أو دمَّرَهم، لما حدَّ ذلك من انتشاره. إن الميمات الضارة بالمجتمع ظاهرة مألوفة، ليس عليك سوى أن تنظر إلى الضرر الذي أتى به مناصرو الرؤى السياسية — أو الأديان — التي تمقتها مقتًا خاصًّا. دُمِّرت المجتمعات لأن بعض الميمات الأقدر على الانتشار بين أفرادها ألحقت الضرر بالمجتمع، وسأناقش مثالًا على ذلك في الفصل السابع عشر. وما أكثرَ مَن تأذَّوْا أو قُتِلوا بسبب تبنِّي ميماتٍ أضرَّتْ بهم كالأيديولوجيات السياسية الطائشة، أو التقليعات الخطرة. من حُسن الطالع أن قصة الميمات لا تنتهي عند هذا الحد، ولكي نفهم بقية القصة، علينا أن ننظر بعين الاعتبار إلى الاستراتيجيات الأساسية التي تتيح بها الميماتُ لنفسها النَّسْخَ الدقيقَ.

المجتمعات الاستاتيكية

إن العقل البشري كما أوضحتُ — على عكس الجينوم — ميدانٌ يعجُّ بالتنوع، والانتقاء، والمنافسة الشديدة؛ يخلق العقلُ معظمَ الأفكار التي تسكنه بهدف تجربتها في الخيال، ونقدها، والتعديل فيها حتى تتواءم وتفضيلاتِ الشخص. بعبارةٍ أخرى: يتخلَّل نَسْخَ الميمات نفسَه تطوُّرٌ، وهو يحدث في داخل كلِّ عقلٍ بشريٍّ على حدة؛ فقد تتكرَّر دورةُ التنويع والانتقاء في بعض الحالات لآلاف المرات قبل أن تتجسَّدَ أيُّ تنويعاتٍ من الميمات؛ وحينئذٍ، وحتى بعد أن يُنسَخ الميم إلى حاملٍ جديد، لا تكون دورةُ حياته قد اكتملَتْ بعدُ، فما زال عليه أن ينجح في عملية انتقاءٍ أخيرة، أَلَا وهي اختيارُ الحاملِ تجسيدَه من عدمه. بعض المعايير التي يستخدمها العقل إزاء اختيارٍ كهذا هي ميمات في حد ذاتها؛ بعضها أفكار كوَّنها العقلُ لنفسه (بتعديل الميمات، أو بأي طريقةٍ أخرى)، ولن توجد في أي عقلٍ آخَر أبدًا. قد تكون مثل هذه الأفكار بالغةَ التبايُن بين شخصٍ وآخَر، لكنها قادرةٌ على التأثير الحاسم على استمرار أي ميمٍ أو اندثاره في شخصٍ معين.

لما كان في وسع المرء أن يُجسِّدَ الميم وينقله إلى غيره بعد تلقِّيه له بمدةٍ وجيزة، فإنه يتسنَّى للجيل الميمي أن يكون أقصرَ كثيرًا من الجيل البشري، ومن الممكن أن تحدث دوراتُ تنويعٍ وانتقاءٍ عديدةٌ في العقول المعنِيَّة حتى على مدار جيلٍ ميميٍّ واحد، هذا إلى جانب أن الميمات يمكن توريثُها إلى أشخاصٍ غير نسل حاملها البيولوجي. تتفوَّق سرعةُ التطوُّرِ الميمي على سرعة نظيره الجيني بفضل كل تلك العوامل، وهو ما يُعزَى إليه جزءٌ من تفسير احتواء الميمات لهذا الكَمِّ الكبير من المعرفة؛ من هنا نجد أن الاستعارة الشهيرة لتاريخ الحياة على الأرض، التي تُصوِّر الحضارةَ الإنسانية وكأنها بدأَتْ فقط في «الثانية» الأخيرة من «اليوم» الذي وُجِدتْ فيه الحياة؛ استعارةٌ مضلِّلة؛ إذ إن جانبًا كبيرًا من إجمالي التطوُّر الذي شهده كوكبنا حتى الآن قد حدث — في واقع الأمر — في العقول البشرية، وهو بالكاد بدأ. لم يكن التطوُّرُ البيولوجي كله إلا تمهيدًا لقصة التطوُّر الرئيسية؛ تطوُّر الميمات.

ولكن لنفس السبب يبدو نَسْخ الميمات أقلَّ موثوقيةً بطبيعته من نَسْخ الجينات. إن نجاحَ أيِّ ميمٍ في الانتقال الدقيق ولو لمرةٍ واحدةٍ لَأمرٌ أَشبهُ بالمعجزة؛ إذ يتعذَّر نَسْخُ محتوى الميمات غير الصريح بحذافيره، بل لا مناصَ من تخمينه من سلوكيات حامليه؛ وأيضًا قد يتعرَّض الميم إلى تنويعاتٍ عمديةٍ كبيرةٍ في كلِّ حاملٍ له. وبالفعل، تُهيمن هذه المشكلةُ على استراتيجيات بقاء كل الميمات الطويلة الأمد.

يمكن صياغة هذه المشكلة على نحوٍ آخَر: يُفكِّر الناسُ، ويحاولون تحسينَ أفكارهم؛ ممَّا يترتب عليه تغييرُهم لها. الميمُ الطويلُ الأمدِ فكرةٌ تمرُّ بتلك المشكلة مرارًا وتكرارًا، ومع ذلك تصمد وتبقى؛ كيف يمكن ذلك؟

إن مجتمع الغرب في حقبة ما بعد التنوير هو المجتمع الوحيد في التاريخ الذي شهد لأكثر من عمرين تغيُّرًا من السرعة بحيث يتسنَّى للناس ملاحظته. دائمًا ما وقعَتِ التغيُّرات السريعة القصيرة الأمد: بدأت المجاعات، والأوبئة، والحروب، وانتهت؛ وحاوَلَ الملوك غيرُ التقليديين إحداثَ تغييرٍ ثوري؛ كُوِّنت الإمبراطورياتُ على عجلٍ من آنٍ لآخَر، ودُمِّرتْ حضاراتٌ بنفس السرعة، لكن إذا ما استمرَّ مجتمعٌ ما، كانت ستبدو كلُّ مناحي الحياة المهمة وكأنها لا تتغيَّر في عيون أفراده؛ كان لهم أن يتوقَّعوا أن تحلَّ ساعتُهم في ظل نفس القِيَم الأخلاقية، وأساليب المعيشة الشخصية، والإطار المفاهيمي، والتقنية، ونمط الإنتاج الاقتصادي السائد فيه منذ وُلِدوا، وحتى التغييراتُ التي تمَّتْ لم يكن سوى أقلِّها للأفضل؛ سوف أطلق على مثل هذه المجتمعات اسم «المجتمعات الاستاتيكية»: المجتمعات التي تتغيَّر على نطاقٍ زمنيٍّ لا يلاحظه أفرادُها. علينا قبل أن نتمكَّنَ من فهم مجتمعنا الديناميكي غير المعتاد أن نفهم النوعَ المعتاد والاستاتيكي من المجتمعات.

لكي يكون المجتمع استاتيكيًّا، لا بد ألَّا تتغيَّر ميماته، أو أن تتغيَّر ببطءٍ شديدٍ لا يُلاحَظ، يصعب علينا مجرد تخيُّل أوضاعٍ كتلك من منظورِ مجتمعنا السريع التغيُّر. افترِضْ على سبيل المثال مجتمعًا بدائيًّا معزولًا بقي — لأي سببٍ — بلا تغييرٍ لأجيالٍ عديدة؛ لماذا؟ من المحتمل جدًّا أن أحدًا في المجتمع لم يرغب له حتى في أن يتغيَّر؛ لأنهم لا يتصوَّرون أسلوبًا آخَر للحياة، ومع هذا فأفرادُه ليسوا محصَّنين ضدَّ الألم، أو الجوع، أو الحزن، أو الخوف، أو أي شكلٍ آخَر من أشكال المعاناة الجسدية أو العقلية. يحاول أفرادُ هذا المجتمع أن يجدوا أفكارًا تُخفِّف وطأةَ بعض تلك المعاناة. تتسم بعض فِكَرِهم بالأصالة، وبين وقتٍ وآخَر تنجح إحداها في مساعدتهم على تحقيق ذلك الهدف. لا يلزمها سوى أن تُحدِثَ تحسُّنًا صغيرًا وأوَّليًّا؛ كطريقةٍ للصيد أو زيادةِ غذاءٍ توافر بعض الجهد، أو صُنْع أدواتٍ أفضل قليلًا؛ ربما كنهجٍ أفضل لتسجيل المديونيات أو القوانين، أو ربما كتغييرٍ دقيقٍ في العلاقة بين الزوج والزوجة، أو بين الآباء والأبناء، أو ربما كانت موقفًا طفيفَ الاختلاف تجاهَ حكَّام المجتمع أو آلهته. ماذا سيحدث بعد ذلك؟

قد يرغب صاحبُ تلك الفكرة في إطلاع آخَرين عليها؛ سيجد مَن يصدِّقون الفكرةَ ويرَوْن أنها قادرةٌ على أن تجعل الحياةَ أقلَّ بغضًا، ووحشيةً، وقِصَرًا، وسيخبرون عائلاتهم وأصدقاءهم، وأولئك سيخبرون ذويهم بدورهم؛ ستتنافس الفكرة في عقول الناس مع أفكارٍ أخرى لتحسين الحياة، معظمها خاطئ على الأغلب. لكن افترض — على سبيل النقاش — أن هذه الفكرة الصحيحة خصوصًا صُدِّقتْ وانتشرَتْ في المجتمع.

سيكون المجتمع بهذا قد تغيَّر؛ ربما لم يتغيَّر كثيرًا، إلا أن ذلك كان تغيُّرًا سببُه شخصٌ واحد، بأن فكَّرَ في فكرةٍ واحدةٍ فحسب؛ ضاعِفْ كلَّ ذلك إذنْ بعدد العقول المفكِّرة في المجتمع، وبمقدار عمرٍ من الفكر لكلٍّ منهم، ودَعْ هذا يستمر لبضعة أجيال، لتُمسيَ النتيجةُ قوةً ثوريةً متناميةً لأضعافِ الأضعاف، تُغيِّر كل جانبٍ من جوانب المجتمع.

لكن بداية اللانهاية تلك لا تحدث مطلقًا في مجتمعٍ استاتيكي. وبالرغم من حقيقةِ أنَّ كلَّ ما افترضتُه ليس سوى أناسٍ يحاولون تحسينَ حياتهم، وأنهم لا يستطيعون نقْلَ أفكارهم نقلًا مثاليًّا تامًّا، وأن المعلومات المعرَّضة للتنويع والانتقاء ستتطوَّر؛ فإني أخفقتُ تمامًا في تخيُّل مجتمعٍ استاتيكيٍّ في هذه القصة.

لكي يكون المجتمع استاتيكيًّا، يجب أن يُجرَى فيه أيضًا أمرٌ آخَر. إن ما لم تضعه قصتي في الحسبان هو أن المجتمعات الاستاتيكية لديها أعراف وقوانين — محرَّمات — تمنع ميماتها من التغيُّر. تفرض هذه المحرماتُ تجسيدَ الميمات الموجودة، وتحظر تجسيدَ التنويعات، وتقمع نقْدَ الوضعِ الراهن؛ لكن لا يقدر ذلك وحده على قمع التغيير. أولًا: «لا» يطابق أيُّ تجسيدٍ لأحد الميمات نظيرَه في الجيل السابق له مطابَقةً تامةً مطلقًا، ولا يمكن تحديدُ كلِّ جانبٍ من جوانب السلوك المقبول بدقةٍ تامة. ثانيًا: يستحيل العلم سابقًا بالانحراف البسيط عن السلوك التقليدي الذي من شأنه أن يمهد لمزيدٍ من التغيرات. ثالثًا: بمجرد أن تأخذ فكرةٌ معدَّلةٌ في الانتشار، ولو لشخصٍ واحدٍ جديد — وهو ما يعني أن الناس يفضلونها — يصبح من بالغ العُسْر منعها من الانتقال لمزيدٍ من الأشخاص. وهكذا، لا يمكن أن يبقى أيُّ مجتمعٍ استاتيكيًّا فقط بكبح الأفكار الجديدة بمجرد ظهورها.

لهذا لا يُعتمَد على فرض الأمر الواقع بغرض منْعِ التغيير إلا كأسلوبٍ ثانوي، كعملية تمشيطٍ وتتمة؛ الأسلوب الأساسي دائمًا — ولا يمكن أن يكون غير ذلك — هو تعطيل مصدر الأفكار الجديدة، أي الإبداع البشري؛ لذا تمتلك المجتمعات الاستاتيكية على الدوام تقاليدَ لتربية الأطفال تُعطِّلُ إبداعَهم وقدراتِهم النقدية؛ يضمن ذلك أن أغلب الأفكار الجديدة التي كان من شأنها أن تُغيِّر المجتمعَ لن تطرأ على بالِ أحدٍ أبدًا.

كيف يتمُّ هذا؟ تتعدَّد التفاصيل ولا تعنينا ها هنا، لكن ما يحدث بصفةٍ عامةٍ هو أن الأفراد الناشئين في مثل ذلك المجتمع يكتسبون مجموعةً من القِيَم يحكمون بواسطتها على أنفسهم وعلى الجميع؛ مما ينجم عنه تجريدُ أنفسهم من كل سمةٍ مميزة، والسعي فقط نحو المواءمة مع الميمات الأساسية للمجتمع. إنهم لا يُجسِّدون تلك الميمات فحسب، بل لا يرَوْن لوجودهم غايةً إلا تنفيذها؛ وبهذا لا تكتفي مثل تلك المجتمعات بفرض خصالٍ مثل الطاعة والإذعان والإخلاص للواجب، بل تغلِّفُ إحساسَ أفرادها بذاتهم بنفس هذه المقاييس؛ فهم لا يعرفون غيرها؛ وعلى هذا يشعرون بالزهو والخزي، ويشكِّلون كلَّ تطلُّعاتهم وآرائهم بمعيار إخلاص ذواتهم لميمات المجتمع.

كيف «تعرف» الميمات كيف تحقِّق كلَّ هذه التأثيرات المعقَّدة والمتناسخة على أفكار البشر وسلوكهم؟ إنها لا «تعرف» بالطبع؛ فهي ليست كائناتٍ واعية، إنها تحتوي فحسب على المعرفة ضمنيًّا. كيف تحصَّلَتْ على تلك المعرفة؟ لقد تطوَّرَتْ؛ إذ توجد الميمات — في أي لحظة — في هيئاتٍ متنوعةٍ عديدة، عُرضةً للانتقاء بما يصبُّ في مصلحة «التناسُخ الدقيق». تسقط أمام كل ميمٍ معمِّرٍ في مجتمعٍ استاتيكيٍّ ملايينُ التنويعات منه وتذهب أدراجَ الرياح؛ لأنها افتقرَتْ إلى تلك المعلومة الزائدة الصغيرة، أو لتلك الدرجة من الكفاءة القاسية الزائدة لمنع منافسيها من سكن الخواطر أو شحذ الهمم، أو للأفضلية الطفيفة على مستوى السطوة النفسية، أو لأي شيءٍ قد يعوزها لتنتشر بين الناس انتشارًا أفضل ممَّا لمنافسيها، ولنسخها وتجسيدها — بمجرد أن تسود — بتلك الدرجة الزائدة من الدقة. لو حدث أن تصادف أنَّ تنويعًا ما من الميم كان أفضل في الحضِّ على سلوكٍ له خواص النَّسْخ الذاتي تلك، لساد من توِّه، وبمجرد أن يسود تتكوَّن من جديدٍ تنويعاتٌ منه، ستكون عرضةً من جديدٍ لنفس الضغط التطوُّري؛ وبهذا تكون النُّسَخ المتتالية من الميم قد راكمت معرفةً مكَّنَتْها بمزيدٍ من الثقة من تكبيد ضحاياها البشرية ضررَها ذا الأسلوب المميز. وكما هي الحال مع الجينات، قد تتأتى من تلك النُّسَخ فوائد، مع أن مِن المستبعَد — حتى حينئذٍ — أن تفعل ذلك على النحو الأمثل. ومثلما تبدو الجينات للعيان وكأنها «تعرف» ضمنيًّا قوانينَ البصريات، تمتلك الميماتُ الطويلة الأمد في المجتمع الاستاتيكي معرفةً ضمنيةً بالحالة البشرية، وتَستخدم هذه المعرفة بلا رحمةٍ في مراوغة دفاعات العقول البشرية التي تستعبدها، وفي استغلال نقاط ضعفها.

هناك ملحوظة حول المقاييس الزمنية: المجتمعات الاستاتيكية — في ظل هذا التعريف — لا تخلو تمامًا من التغيير؛ إنها استاتيكية بالمقياس الزمني الذي يستطيع البشرُ ملاحظته، لكن الميمات غير قادرةٍ على منع التغييرات الأبطأ من هذا؛ لذا فالتطوُّر الميمي يحدث على أي حالٍ في المجتمعات الاستاتيكية، لكن على وتيرةٍ أبطأ كثيرًا في أغلب الوقت ممَّا يستطيع معظمُ أفرادها أن يلاحظوه؛ على سبيل المثال: حين يُعاين علماءُ الحفريات أدواتٍ تعود إلى العصر الحجري القديم، لا يستطيعون تحديدَ العصر الذي تعود إليه — بالاستناد إلى أشكالها — بدقةٍ أكثر من نَسَبِها إلى حقبةٍ ترجع لعدة آلافٍ من الأعوام؛ ببساطةٍ لأن الأدوات في ذلك الزمان لم تتحسَّن أسرعَ من ذلك (لاحظ أن ذلك يبقى أسرع كثيرًا من التطوُّر البيولوجي). قد يستطيع المرءُ حين يعاين أداةً ترجع إلى مجتمعٍ استاتيكيٍّ في روما أو مصر القديمة أن يؤرِّخَ لها — استنادًا إلى تقنيتها فحسب — إلى أقرب قرنٍ مثلًا، لكن مؤرخي المستقبل حين يعاينون السيارات والأدوات التقنية الأخرى المنسوبة إلى يومنا هذا، سيتمكَّنون بسهولةٍ من تأريخها لأقرب عقد، ولأقرب عامٍ أو أقلَّ في حالة التقنيات الحاسوبية.

يميل التطوُّرُ الميمي إلى جعْل «الميمات» استاتيكيةً، لا المجتمعات بأكملها بالضرورة. لا تتطور الجيناتُ لمصلحة المجموعة، شأنها في ذلك شأن الجينات؛ ومع هذا، وتمامًا كما يستطيع التطوُّرُ الجيني خلْقَ كائناتٍ طويلةِ العمر ويُنعِم عليها ببعض الفوائد، فإنه ليس من المستغرَب أن التطوُّرَ الميمي يستطيع في بعض الأحيان أن يخلق مجتمعاتٍ استاتيكية، ويتعاون لإبقائها هكذا، ويساعدها على العمل بواسطة تجسيد الحقائق. وليس من المستغرَب كذلك أن الميمات غالبًا ما تكون مفيدةً لحامليها (وإنْ ندر أن يكون ذلك على النحو الأمثل). وكما أن الكائنات الحية أدواتُ الجينات، فإن الميمات تَستخدم الأفرادَ لتحقيق «هدفها»؛ وهو نشر نفسها بين أفراد المجتمع، ولتحقيق ذلك تمنح الميماتُ فوائدَ أحيانًا، غير أن ثَمَّةَ اختلافًا واحدًا يُميِّز هذا عن الحالة البيولوجية؛ فبينما ليسَتِ الكائناتُ الحية «سوى» عبيدٍ لجيناتها، لا تسيطر الميماتُ إلا على جزءٍ من فكر الشخص، حتى في أعتى المجتمعات الاستاتيكية خنوعًا؛ لهذا يُشَبِّه بعضُ الناس الميماتِ ﺑ «الفيروسات» التي تسيطر على جزءٍ من قدرة الخلايا على أداء وظائفها بُغيةَ نشْرِ نفسها. تُثبت بعض الفيروسات نفسَها فحسب في الحمض النووي الخاص بالمضيف، ولا تفعل شيئًا سوى العمل على تناسُخها منذ تلك اللحظة فصاعدًا، وهو ما يختلف عن الميمات، التي «يتعيَّن» عليها أن تتسبَّبَ في سلوكياتٍ مميزة، وأن تستخدم المعرفةَ لتتيح نسخها. تُدمِّر فيروساتٌ أخرى خليةَ مضيفها، تمامًا كما تُدمِّر بعضُ الميمات حامليها؛ فعندما ينتحر شخصٌ بأسلوبٍ مدوٍّ جاذبٍ للانتباه الإعلامي، تنتشر بعده في الغالب موجةُ «حوادث انتحار» بنفس الطريقة.

إنَّ ألدَّ ضغطٍ انتقائيٍّ يُثقِل كاهِلَ الميمات هو التناسُخ الدقيق، ولكن هذا يتضمَّن أيضًا ضغطًا لتقليل قدرِ الضرر الذي قد تُلحقه بعقل حاملها بقدر الإمكان؛ لأن ذلك العقل هو ما يستخدمه الإنسانُ ليحيا بما يكفي ليتسنَّى له تجسيد سلوكيات الميم بقدر الإمكان. يدفع هذا بالميمات في اتجاهِ تكوينِ قسرٍ «محكم بدقة» في عقل حاملها؛ إن الصورة المثالية لهذا القسر هي عدم القدرة على الامتناع عن تجسيد ذلك الميم بالذات (أو مجمع الميمات)؛ ولهذا فمن عادة الأديان الطويلة الأمد زرْعُ الخوف في نفوس معتنقيها من كياناتٍ خارقةٍ بعينها، لكنها لا تُسبِّب خوفًا أو فزعًا عموميًّا؛ لأن ذلك من شأنه أن يؤذيَ معتنقيها على وجه العموم، وأن يجعلهم أكثرَ انفتاحًا نحو الميمات المنافسة؛ وبهذا يكون الضغط التطوُّري هو قصرَ الضرر النفسي على مساحةٍ ضيقةٍ من فِكْر المتلقين، مع ترسيخه في الوقت نفسه على نحوٍ عميق، بحيث يجد المتلقُّون أنفسَهم في مواجهة تكلفةٍ نفسيةٍ وعاطفيةٍ كبيرةٍ إذا ما فكَّروا في التحوُّل عن السلوكيات التي يحضُّ عليها الميمُ.

يتكوَّن المجتمعُ الاستاتيكي حينما لا يوجد مناص من ذلك التأثير؛ كل السلوكيات الجوهرية، وكل العلاقات بين الناس، وكل الأفكار؛ مسخَّرةٌ لإتاحة التناسُخ الدقيق للميمات. لا تُمارَس القدراتُ النقدية في كل المجالات التي «تسيطر» عليها الميماتُ، ولا يُسمَح بإبداعٍ، ولا يحاول أحدٌ القيام به. يستحيل تخيُّل المجتمعات الاستاتيكية من منظورنا بسبب هذا التدمير للعقول البشرية؛ فكم من البشر أمَلُوا على مدار أعمارهم، ولأجيالٍ بعد أجيال، أن تنزاح معاناتُهم، ولكنهم لم يفشلوا فحسب في إحراز أيِّ تقدُّمٍ لتحقيق مثل ذلك الأمل، وإنما فشلوا بشدةٍ حتى في محاولة إحرازه، بل في مجرد التفكير في المحاولة أيضًا! وكانوا إذا واتَتْهم الفرصةُ يرفضونها؛ أُطفِئت فيهم جذوةُ الإبداع التي فُطِرنا عليها جميعًا على نحوٍ منهجيٍّ قبل أن تُبدع أيَّ شيءٍ جديد.

ينطوي المجتمع الاستاتيكي على كفاحٍ بلا هوادة — أو «يتكوَّن» منه إلى حدٍّ ما — لمنع المعرفة من النمو، لكنَّ هذا ليس كلَّ شيء؛ إذ لا داعيَ لتوقُّعِ صحةِ أو فائدةِ فكرةٍ سريعةِ الانتشار إن حدث أنْ ظهرَتْ في مجتمعٍ استاتيكي. وهذا جانب آخَر غاب عن قصتي السابقة حول المجتمع الاستاتيكي؛ إذ «افترضتُ» أن التغييرَ سيكون نحوَ الأفضل. ربما لم يكن، لا سيما في ظل غياب الحنكة النقدية في المجتمع الاستاتيكي، وهو ما يضعف مناعةَ أفراده ضد الأفكار الخاطئة والضارة التي لم تحْمِهم منها محرماتُهم؛ فعندما ضرب وباءُ الطاعون الأسود استقرارَ مجتمعات أوروبا الاستاتيكية في القرن الرابع عشر، كانت أكثرُ الأفكار الجديدة انتشارًا لمكافحة الوباء سيئةً للغاية؛ فرأى العديد من الناس أن تلك هي نهاية العالم، وأن محاولة إجراء أي تحسيناتٍ معيشيةٍ كانَتْ من ثَمَّ عقيمةً، وانبرى العديد منهم لقتل اليهود، أو «الساحرات»، وتزاحم الكثيرون في الكنائس والأديرة للصلاة (وبهذا سهَّلوا انتشارَ المرض عن غير درايةٍ منهم؛ إذ انتقل بواسطة البراغيث). ظهرَتْ طائفةٌ تُدعَى «الضاربون بالسياط»، كرَّسَ أتباعُها أنفسَهم للجَلْد الذاتي، وللدعوة إلى كل الإجراءات السابق ذِكْرها، لكي يُثبِتوا للرب أن عبادَه نادمون. كانت كل تلك الأفكار مُضِرَّةً عمليًّا وخاطئةً كليًّا، وقمعَتْها السلطاتُ بمرور الوقت في مساعيها لإرساء الاستقرار من جديد.

ولهذا، من المفارقة أن قدرًا من الصحة يكمن في خشية المجتمع الاستاتيكي التقليديةَ من أن أيَّ تغييرٍ سيعود عليه على الأرجح بالضرر لا النفع. تُهدِّدُ المجتمعَ الاستاتيكي دومًا خطورةُ التعرُّضِ للضرر أو التدمير من قِبَل أي ميمٍ عقيمٍ جديد؛ وعلى الرغم من ذلك ظهرَتْ في أعقاب انتشار وباء الطاعون الأسود بعضُ الأفكار الصحيحة والنافعة، وربما ساهمَتْ في إنهاء ذلك المجتمع الاستاتيكي على نحوٍ جيدٍ وغيرِ معتاد (ببدء عصر النهضة).

تستمر المجتمعاتُ الاستاتيكية بواسطة القضاء التام على نوع التطوُّر الذي تتفرَّدُ به الميمات، أَلَا وهو التنويع الخلَّاق الهادف إلى تلبية تفضيلات حامِلِيه الشخصية. في غياب هذا النوع، يزيد بشدةٍ التشابُهُ بين التطوُّر الميمي ونظيره الجيني، وتصحُّ بعضُ النتائج القاتمة لأوجه الشبه الساذجة بينهما بالرغم من كل شيء. تميل المجتمعات الاستاتيكية إلى تسوية أمورها بالعنف، وتميل إلى التضحية برفاهية الأفراد من أجل «مصلحة» المجتمع (أو بعبارةٍ أخرى: لمنع التغيير فيه). لقد ذكرتُ أن الحال تنتهي بمَن يعتمدون على أوجه الشبه تلك إما إلى مناصرة المجتمع الاستاتيكي وإما إلى التغاضي عن العنف والاستبداد، ونرى اليومَ كيف أن هاتين الاستجابتين هما استجابةٌ واحدةٌ في الأساس؛ الاستبدادُ هو ما يلزم لإبقاء المجتمع استاتيكيًّا، ولن يستمرَّ أيُّ نوعٍ من الاستبداد طويلًا ما لم يكن المجتمعُ استاتيكيًّا.

ولما كان لنموِّ المعرفة المتضاعف والمستمر آثارٌ لا يُخطِئُها الإدراكُ، نستطيع أن نخلص دون بحثٍ تاريخيٍّ إلى أن كل مجتمعٍ على كوكب الأرض قبل الحضارة الغربية الحالية إما كان استاتيكيًّا وإما اندثر في غضون بضعة أجيال، وخير مثالٍ على الحالةِ الأخيرةِ العصران الذهبيان في كلٍّ من أثينا وفلورنسا، لكن ربما يوجد الكثير من الأمثلة الأخرى. يتضارب ذلك تضاربًا مباشِرًا مع الاعتقاد السائد بأن الناس في المجتمعات البدائية كانوا أسعدَ بحالٍ لم تَعُدْ ممكنةً منذ ذلك الحين؛ إنهم كانوا أحرارًا من قيود الأعراف الاجتماعية وغيرها من إملاءات الحضارة؛ ومن ثَمَّ كانوا قادرين على تحقيق التعبير عن أنفسهم، وتلبية احتياجاتهم ورغباتهم. لكن المجتمعات البدائية (بما فيها القبائل المعتمدة على الصيد وجمع الثمار) لا بد أنها كانت مجتمعاتٍ استاتيكيةً جميعها؛ إذ لو توقَّفَ أحدها عن أن يصبح ذلك، لَكفَّ من فوره عن بدائيته كذلك، إما يحدث ذلك وإما يُدمِّر نفسَه بنفسِه عن طريق فقْدِ معرفته المميزة. في الحالة الأخيرة سيظل نموُّ المعرفة ملجمًا بيدِ العنف الفجِّ الذي لن يلبث أن يُستبدَل بمؤسسات المجتمع الساكن؛ إذ بمجرد أن يكون العنف هو سبيلَ إحداث التغييرات، تكون تلك تغييراتٍ للأسوأ بطبيعة الحال. ولما كانت المجتمعات الاستاتيكية غيرَ قادرةٍ على الوجود دون كبْتِ نموِّ المعرفة، لم يكن ممكنًا أن تسمح لأفرادها بفرصةٍ كافيةٍ للسعي إلى السعادة. (من المفارقة أن خلْقَ المعرفة في حد ذاته حاجةٌ ورغبةٌ إنسانيةٌ طبيعية، والمجتمعات الاستاتيكية — مهما بلغت درجةُ بدائيتها — تقمعها قمعًا غيرَ طبيعي.) يرى كلُّ فردٍ من أفراد مثل ذلك المجتمع آلياتِ قمْعِ الإبداع فيه ضارةً ضررًا كارثيًّا من وجهة نظره. يتعيَّن على كل مجتمعٍ استاتيكيٍّ عرقلةُ محاولات أفراده لتحقيق أي شيءٍ إيجابيٍّ لأنفسهم كبشر، أو لتحقيق أي شيءٍ بالمرة في الواقع، باستثناء تنفيذهم سلوكياتِهم التي تفرضها الميماتُ. لا يستطيع ذلك المجتمعُ أن يُدِيمَ بقاءَه إلا بقمع تعبير أفراده عن أنفسهم، وكسْرِ معنوياتهم، وتكييف ميماته بدقةٍ لتنفيذ ذلك.

المجتمعات الديناميكية

لكنَّ مجتمعنا (الغربي) ليس مجتمعًا استاتيكيًّا؛ إنه الحالة الوحيدة المعروفة لمجتمعٍ ديناميكيٍّ (سريع التغيُّر) طويلِ الأمد، وهو متفرد في التاريخ لقدرته على التوسُّط لإحداث التغيير والتحسُّن السريعَيْن والسلميَّيْن والطويلَيِ الأجل، بما في ذلك من تحسيناتٍ في الإجماع العام فيما يتعلَّق بالقِيَم والمطامح، كما وصفتُ في الفصل الثالث عشر. تأتَّى ذلك من خلال انبثاق فئةٍ شديدةِ الاختلاف من الميمات لا تضرُّ بالأفراد بالضرورة، مع أنها ما زالت «أنانيةً».

دَعْني أطرح سؤالًا لأفسِّرَ طبيعةَ هذه الميمات الجديدة: أيُّ نوعٍ من الميمات يستطيع إتاحةَ نَسْخ نفسه على مدار مُددٍ طويلةٍ «في بيئةٍ سريعةِ التغيُّر»؟ في بيئةٍ كهذه، لا ينفكُّ الناس يواجهون مشكلاتٍ وفرصًا غيرَ قابلةٍ للتنبؤ بها؛ وعليه تتغيَّر احتياجاتُهم وأمانيهم تغيُّرًا لا يمكن التنبُّؤُ به أيضًا. كيف يبقى أحدُ الميمات بلا تغييرٍ في ظلِّ نظامٍ كهذا؟ تبقى ميماتُ المجتمع الاستاتيكي بلا تغييرٍ بواسطة القضاء التام على اختيارات الأفراد؛ لا يختار الناسُ أي الأفكار سيحوزون، ولا أيها سيجسدون. تتضافر تلك الميمات أيضًا لتجعل المجتمع استاتيكيًّا؛ فلا تتبدَّل ظروفُ الناس فيه إلا بأقلِّ قدرٍ ممكن، لكنْ بمجرد أن يُكسَر هذا، ويبدأ الناس في الاختيار، فإنهم سيختارون — جزئيًّا — طبقًا لظروفهم وأفكارهم الفردية، وفي تلك الحالة ستواجه الميماتُ معاييرَ انتقاءٍ تتبدَّل بلا تنبُّؤٍ بين متلقٍّ وآخَر، وعلى مدار الزمن كذلك.

لكي ينتقل أحدُ الميمات إلى شخصٍ ما، عليه أن يبدوَ مفيدًا لذلك الشخص، ولكي ينتقل إلى مجموعةٍ من الأشخاص المتشابهين في ظل ظروفٍ لا تتغيَّر، لا يعوزه سوى أن يكون حقيقةً محدودةَ الأفق. لكن ما هي أفضل الأفكار الملائمة لإتاحة تبنِّي كثيرٍ من الناس لها، على تفاوُت وتقلُّب أهدافهم، ولمراتٍ عديدةٍ متتالية؟ الفكرة «الحقيقية» مرشَّح جيد، ولكن لن تُجدِيَ نفعًا أيُّ حقيقةٍ كانَتْ. لا بد أن تبدوَ نافعةً «لكلِّ» أولئك الناس؛ لأنهم هم مَن سيختارون تجسيدَها من عدمه. لا تعني «نافعة» في هذا السياق النفْعَ الوظيفيَّ بالضرورة؛ إنها تشير إلى أي خاصيةٍ قد تحثُّ الناسَ على تبنِّي فكرةٍ وتجسيدها، كأنْ تكون شائقة، أو طريفة، أو أنيقة، أو سهلة الحفظ، أو صائبة أخلاقيًّا، وهكذا، وأفضلُ طريقةٍ «تبدو» بها الفكرةُ نافعةً لأناس شتَّى، تحت ظروف متقلِّبة شتَّى، هي أن «تكون» نافعة. هذه الفكرة تكون بمنزلةِ حقيقةٍ بمعناها الأشمل، أو تجسِّدها؛ فتكون حقيقيةً فعليًّا إذا كانت تأكيدًا لحقيقةٍ ما، أو جميلةً إذا كانت سلوكًا أو قيمةً فنية، أو صائبةً موضوعيًّا إذا كانَتْ قيمةً أخلاقية، أو طريفةً إذا كانت نكتةً، وهكذا.

أوفر الأفكار حظًّا في الصمود والاستمرار عبر الأجيال العديدة هي الحقائق ذات المدى؛ الحقائق العميقة. الناس عرضة للخطأ، وغالبًا ما يُفضِّلون الأفكارَ الباطلة، أو الضحلة، أو غيرَ ذات النفع، أو المعيبةَ أخلاقيًّا، على أن «ما يُفضِّلونه» من أفكارٍ باطلةٍ هو ما يختلف من شخصٍ لآخَر، ويتغيَّر بمرور الزمن. قد تستمر حقيقةٌ ضيقةُ الأفق أو أغلوطةٌ خبيثةٌ في البقاء بالصدفة فقط، في ظل ظروفٍ متغيِّرة، لكنْ يُعضِّد الفكرة الحقيقية والعميقة سببٌ موضوعيٌّ كي يضعها الناسُ ذوو التفضيلات المتباينة في مصافِّ الأفكار المفيدة على مدار حِقَبٍ طويلة. على سبيل المثال: تفيد قوانينُ نيوتن في بناء كاتدرائياتٍ أفضل، ولكنها تفيد أيضًا في بناء جسورٍ أفضل، وتصميمِ سلاحِ مدفعيةٍ أفضل؛ وبفضل هذا المدى تُرغِم هذه القوانينُ شتَّى أنواع الناس على تذكُّرها وتجسيدها، بالرغم من معارضةِ أكثرهم أهدافَ بعضٍ جملةً وتفصيلًا، على مدار أجيال. تسنح الفرصةُ لهذا النوع من الأفكار ليصير ميمًا طويلَ الأمد في مجتمعٍ سريعِ التغيُّر.

إن مثل هذه الميمات في الواقع ليست «قادرةً» فحسب على البقاء والاستمرار في ظل التغير السريع لمعايير النقد، بل إنها تعتمد حتمًا على ذلك النقد من أجل استمرار تناسُخها الدقيق. تخضع تلك الميمات للنقد، دون أن يحميَها فرض الأوضاع الراهنة حولها، ولا قَمْع القدرات النقدية للأفراد؛ «ولكن الأمر نفسه ينطبق على منافساتها»، التي تُبلي بلاءً أسوأ؛ ومن ثَمَّ لا تُنفَّذ. تفقد الأفكار الحقيقية هذه المزية في غياب ذلك النقد، وقد تتردَّى أو يحلُّ غيرُها محلها.

الميمات العقلانية والميمات المعادية للعقلانية

وهكذا، يستتبع ذلك أن يعتمد هذا النوع الجديد من الميمات — التي أنتجها الفكر العقلاني والنقدي — على مثل هذا الفكر ليُوفِّر لنفسه التناسُخَ الدقيق؛ وسأسمِّيه إذن «الميمات العقلانية». أما الميمات من النوع الأقدم الخاص بالمجتمع الاستاتيكي، التي تعتمد في بقائها على تعطيل القدرات النقدية لدى حامليها، فسأسمِّيها «الميمات المعادية للعقلانية». لكلٍّ من النوعين خصائصُه واستراتيجيات التناسخ المختلفة الخاصة به تمامًا، ويبلغ اختلافُ كلٍّ منهما عن الآخَر قدرَ اختلافهما معًا عن الجينات.

لو اتصف نوعٌ معيَّن من العفاريت بقدرةٍ على إخافة الأطفال، بحيث إذا كبر هؤلاء الأطفال زرعوا في «أطفالهم» الخوف منه، لَكان سلوكُ قصِّ الحكايات عن تلك العفاريت ميمًا. افترِضْ أنه ميم عقلاني، سيُلقِي النقدُ إذنْ بظلال الشك على صحة القصة بمرور الأجيال، ولمَّا كانت العفاريتُ غيرَ موجودةٍ على أرض الواقع، فقد ينقرض الميم. لاحِظْ أن الميم لا يهمه أن ينقرض؛ فالميمات تفعل ما يتعيَّن عليها فعله: فلا مقاصد لديها، ولا حتى لأنفسها، ولكن توجد أيضًا سبل أخرى قد تتطوَّر الميماتُ من خلالها. قد تصبح خياليةً على نحوٍ واضح. ولأن الميمات العقلانية يجب أن يراها حاملوها نافعة، تواجه الميمات المثيرة للمشاعر غير السارة مشكلةً في تطوُّرها؛ وعليه قد تتطوَّر مبتعدةً عن إثارة الرعب، مثلًا في اتجاه الشعور الخفيف بالإثارة، أو استكشاف الحلول العملية له في الحاضر والتفاؤل بالمستقبل (إذا اعتمدت على خطرٍ حقيقي).

والآن افترِضْ أنه ميم معادٍ للعقلانية؛ ستفيده عندئذٍ إثارةُ المشاعر غير السارة في تحقيق الضرر المنوط به إلحاقه، وهو تعطيل قدرة المستمع على التحرُّر من العفريت، وترسيخ الإكراه على التفكير فيه؛ ومن ثَمَّ التحدُّث عنه. كلما زادَتْ دقةُ استغلالِ صفات العفريت لمَواطِن ضعف العقل البشري الشائعة، انتشر الميمُ المعادي للعقلانية بدقةٍ أكبر. لو كان للميم أن يبقى لأجيالٍ عدة، لَكان من الضروري أن تكون معرفتُه الضمنية لمَواطِن الضعف تلك حقيقيةً وعميقة، بينما لا يحتاج محتواه الظاهري — أيْ فكرة وجود العفريت — أن ينطويَ على أيِّ حقيقة. على العكس، يساعد عدم وجود العفريت في جعل الميم ناسخًا أفضل؛ إذ لا تقيِّد القصةُ حينئذٍ الخصائصَ العادية لأي تهديدٍ حقيقي، التي دائمًا ما تكون متناهيةً ويمكن التصدِّي لها، ولَكَمْ سيكون من الأفضل لكل ذلك لو استطاعَتِ القصة أيضًا أن تُقوِّض مبدأ التفاؤل! بهذا نرى كيف تتطوَّر الميمات العقلانية نحو حقائقَ عميقة، على حين تتطوَّر تلك المعادية للعقلانية بعيدًا عنها.

كالمعتاد، لا يُجدي مَزْجُ استراتيجيتَيِ التناسُخ السابقتين. إذا احتوى الميمُ على المعرفة الحقَّة والنافعة للمتلقِّي وعطَّلَ مع ذلك مَلَكاتِه النقديةَ إزاءَه، فسيصبح المتلقِّي أقلَّ قدرةً على تصحيح الأخطاء في تلك المعرفة، وبهذا يُقلِّل من دقة النقل؛ ولو اعتمَدَ الميم على إيمان المتلقي بنفعه، ولم يكن نافعًا بحقٍّ، لَزاد ذلك من فرصة نبْذِ المتلقي له، أو رفضه لتجسيده.

وبالمثل، يجد الميم العقلاني بيئتَه الطبيعية الملائمة في المجتمع الديناميكي — أي مجتمع ديناميكي بوجهٍ أو آخر — لِمَا في الأخير من تقليد نقد (موجَّه بتفاؤلٍ نحوَ حلِّ المشكلات) سيكبح تنويعات الميم التي تقلُّ فيها الحقيقةُ ولو بقدرٍ يسيرٍ، هذا بالإضافة إلى أن التقدم السريع سيُخضِع تلك التنويعاتِ لمعاييرَ نقديةٍ متواصلةِ التنوُّع، وهو ما لا تقدر سوى الميمات العميقة الحقيقية دون غيرها على الصمود أمامه والبقاء بعده. يجد الميم المعادي للعقلانية بيئتَه الطبيعية الملائمة في المجتمع الاستاتيكي؛ ليس أي مجتمعٍ استاتيكي، وإنما يفضل أن يكون نفس المجتمع الذي تطوَّر فيه، لكل الأسباب المناقضة لما سبق؛ ولهذا تقل قدرةُ الميم بنوعَيْه على إتاحة التناسُخ لنفسه عندما يوجد في مجتمعٍ من النوع «المضاد» له بصفةٍ عامة.

التنوير

أصبح مجتمعنا في الغرب ديناميكيًّا ليس بفعل الفشل المفاجئ لمجتمعٍ استاتيكي، بل من خلال أجيالٍ من التطور؛ ذلك التطور الذي يحدث في المجتمع الاستاتيكي. لم يتحدد على وجه الدقة متى بدأ ذلك وأين، ولكني أظنه قد بدأ مع فلسفة جاليليو، وربما بات حتميًّا مع اكتشافات نيوتن. بلغة الميمات، نسخَتْ قوانينُ نيوتن نفسَها باعتبارها ميماتٍ عقلانيةً، وكانت دقتُها في ذلك عاليةً جدًّا؛ لأنها كانت نافعةً لأغراضٍ شتَّى. زاد هذا النجاحُ من صعوبة تجاهُلِ المضامين الفلسفية الكامنة في حقيقة أن الطبيعة صارَتْ مفهومةً فهمًا عميقًا غير مسبوق، أو تجاهل نهج العلم والعقل التي تحقق بها هذا.

على أي حال، صار من غير الممكن — بعد نيوتن — إغفالُ حقيقةِ التقدُّم الحثيث المطَّرد آنذاك. (حاوَلَ بعضُ الفلاسفة إغفالَ ذلك بالفعل، لا سيما جان جاك روسو، ولكنْ فقط بواسطة الجدل حول أنَّ التعقُّلَ ضارٌّ، وأن الحضارة طالحة، وأن الحياة البدائية كانت سعيدة.) جرى كذلك كمٌّ هائلٌ من التحسينات — العلمية، والفلسفية، والسياسية — التي أطاحتْ بإمكانية استعادة الحالة الاستاتيكية التي كان عليها المجتمع. كان على المجتمع الغربي أن يكون في مرحلةِ بدايةِ اللانهاية، أو أن يندثر. تتغيَّر الأممُ في غير الغرب اليومَ تغيُّرًا حثيثًا هي الأخرى؛ إيماءً لمقتضيات الحرب ضد جيرانها أحيانًا، ولكن في الأغلب، وبقوةٍ أكبر، بتناقُل ميمات الغرب سلميًّا. لم يَعُدْ بيدِ ثقافاتها أيضًا أن تتقهقر إلى مرحلة الركود التي كانت عليها في ظل المجتمع الاستاتيكي؛ فإما أن يُصبحوا «غربيين» في تصريفهم شئونَ حياتهم، وإما أن يفقدوا كلَّ معرفتهم، ويزولوا بهذا عن الوجود، وإنها لَمعضلة تزداد تبلورًا في عالم السياسة العالمية.

وحتى في الغرب، ما زال التنوير حتى يومنا هذا بعيدًا كل البُعد عن الاكتمال؛ إنه متقدِّم نسبيًّا في بعض المجالات الحيوية القليلة، ومن أبرز أمثلتها العلومُ المادية، والمؤسساتُ السياسية والاقتصادية الغربية؛ أصبحت الأفكار في تلك المجالات منفتحةً إلى حدٍّ ما للنقد والتجريب، وللاختيار والتغيير، لكن الميمات لا تزال تتناسخ في مجالاتٍ أخرى عديدةٍ بنفس النهج القديم، بواسطة كبْتِ القدرات النقدية لدى المتلقِّين وتجاهُل تفضيلاتهم. عندما تستميت الفتياتُ ليَبدُونَ بمظهر الأنوثة وليُلَبِّينَ معاييرَ فرضَتْها الثقافةُ عن القوام والمظهر، وعندما يبذل الفتيانُ أقصى طاقاتهم ليظهروا بمظهر القوة، ولكي يكتموا دموعهم إذا ما أحسُّوا بكدرٍ أو غمٍّ، فهم يجاهدون جميعًا لنَسْخ ميمات «التنميط النوعي» العتيقة التي لم تزل جزءًا من ثقافتنا، بالرغم من أن تأييدها جهرًا صار سلوكًا موصومًا. تتسبَّب تلك الميمات في حجب نطاقاتٍ شاسعةٍ من الأفكار حول نوعية المعيشة التي ينبغي للمرء أن يعيشها عن أن تجول بخاطر حامليها. إذا زاغَتْ أفكارُهم صوبَ اتجاهاتٍ محرَّمةٍ يشعرون باضطرابٍ وخزي، ويُحسون بنفس لون الخوف والضياع الذي شعره المتدينون منذ زمنٍ سحيقٍ إزاء التفكير في خذلان آلهتهم، وتنتهي آراؤهم عن العالم وقدراتهم النقدية إلى حالة عطلٍ تُودِي بهم بدقةٍ إلى جرجرة الجيل التالي إلى نفس نمط الفكر والسلوك.

إن بقاء الميمات المعادية للعقلانية — حتى اليوم — كجزءٍ جوهريٍّ من ثقافتنا، ومن عقل كل فرد، حقيقةٌ يصعب علينا تقبُّلُها. من المفارقة أن تقبُّلَها أصعبُ علينا ممَّا كان سيجده أفرادُ المجتمعات الغابرة المنغلقو العقول؛ فلم يكن ليزعجهم الزعمُ بأنهم قضَوْا أغلب حيواتهم يجسِّدون طقوسًا معقَّدة بدلًا من أن ينتقوا لأنفسهم اختياراتهم الخاصة ويسعَوْن من أجل تحقيق أهدافهم. على العكس، لقد كانت درجة انصياع حياة الشخص للواجب، والانصياع للسلطة، والقنوت، والإيمان، وما إلى ذلك، هي بالضبط مقياس تقييم الفرد لنفسه أو لغيره. عندما كان يسأل الأطفال عن سبب إجبارهم على القيام بسلوكياتٍ شاقَّةٍ تبدو غيرَ ذات نفعٍ عملي، يُقال لهم: «لأنني قلتُ هذا.» وحينما يحين الوقت سيردِّدون نفسَ الإجابة حينما يسألهم أطفالُهم نفسَ السؤال، دون أن يدركوا مطلقًا أنهم يقدِّمون التفسيرَ الكامل. (إن هذا نوع غريب من الميمات؛ إذ إن محتواه حقيقي، ولكن لا يصدِّقه حاملوه.) ولكن اليوم، في ظل تعطُّشنا للتغيير، ومع انفتاحنا غير المسبوق لجديد الأفكار وللنقد الذاتي، يتعارض هذا مع الصورة الذاتية عند معظم الناس بأننا ما زلنا إلى حدٍّ كبيرٍ خاضعين للميمات المعادية للعقلانية. قد يُقِرُّ معظمنا بوقوعه في عثرةٍ أو عثرتين في هذا الشأن، لكننا نرى أن سلوكنا إجمالًا تُحدِّده قراراتنا الخاصة، والتي يحددها تقديرنا العقلاني للحجج والأدلة على ما يمثِّل مصلحتنا الشخصية العقلانية. هذه الصورة الذاتية العقلانية في حد ذاتها تطويرٌ حديثٌ لمجتمعنا، يعزِّز كثيرٌ من ميماته على نحوٍ صريح — وتنجز ضمنيًّا — قِيَمًا كالتعقُّل، وحرية الفكر، وقيمة كلِّ فردٍ من بني البشر. إننا نحاول أن نفسِّر على نحوٍ طبيعيٍّ أنفسَنا فيما يتعلَّق بتحقيق هذه القِيَم.

من الواضح أن في هذا بعضًا من الحقيقة؛ ولكن هذه ليست القصة برُمَّتها؛ فلكي نجد الدليلَ على هذا، لا يلزمنا النظر إلى أبعد من أنماط أزيائنا، وأسلوب تنسيق وتزيين منازلنا. فكِّرْ كيف سيُقيِّمك الآخرون إذا ذهبتَ للتسوُّق مرتديًا بيجامتك، أو طليتَ جدران منزلك بخطوطٍ زرقاءَ وبُنِّية؛ يُقدِّم ذلك لمحةً عن القيودِ التي تفرضها الأعراف التي تحكم حتى على اختيارات ذوقٍ شخصيةٍ بسيطةٍ وغير مهمة، وفداحةِ التكلفة الاجتماعية لانتهاكها. هل ينطبق نفس الأمر على الأنماط الأكثر مصيريةً في حيواتنا، كالمهن، والعلاقات، والتعليم، والأخلاق، والاتجاه السياسي، والهوية الوطنية؟ فكِّرْ فيما ينبغي لنا أن «نتوقَّع» حدوثَه إبَّان تحوُّلِ مجتمعٍ استاتيكيٍّ من ميماتٍ معاديةٍ للعقلانية إلى نظيرتها العقلانية تدريجيًّا.

لا بد لنقلةٍ كهذه من أن تكون تدريجية؛ لأن الحفاظ على الاستقرار في المجتمع الديناميكي يتطلَّب قدرًا كبيرًا من المعرفة. سيستغرق خلْقُ هذه المعرفة وقتًا بالضرورة، لا سيما وهو يبدأ معتمدًا فقط على الوسائل المتاحة في المجتمع الاستاتيكي، وهي مقادير ضئيلة من الإبداع والمعرفة، والكثير من المفاهيم المغلوطة، وتطوُّر ميمي أعمى، وأسلوب المحاولة والخطأ.

بالإضافة إلى ذلك، يجب على المجتمع أن يظل مؤدِّيًا لوظائفه طوال ذلك التحول، لكن التعايش ما بين الميمات العقلانية والمعادية للعقلانية يجعله غيرَ مستقر. تتسبَّب الميماتُ من كلا النوعين في سلوكياتٍ تُعيق النَّسْخَ الدقيق للنوع الآخَر؛ إذ يتطلَّب النَّسْخُ الدقيق للميمات المعادية للعقلانية تجنُّبَ الناس للتفكير النقدي في اختياراتهم، بينما تتطلَّبُ نظيراتُها العقلانيةُ من الناسِ التفكيرَ على نحوٍ نقديٍّ قدرَ استطاعتهم، وهذا يعني ألَّا تتناسخ كلُّ الميمات في مجتمعنا بدقةٍ تُضاهي ما لأنجح الميمات في مجتمعٍ شديدِ الاستاتيكية أو مجتمعٍ ديناميكيٍّ بالكامل (والأخير لا يزال افتراضيًّا). تترتب على هذا عدة ظواهر خاصة مميزة لحقبتنا التحولية.

من هذه الظواهر تطوُّرُ بعض الميمات المعادية للعقلانية على غير العادة في اتجاه العقلانية، من أمثلة ذلك التحوُّلُ عن الملكية الاستبدادية إلى «الملكية الدستورية»، الذي لعب دورًا إيجابيًّا في بعض الأنظمة الديمقراطية. ليس من المستغرب أن مثل هذه التحوُّلات تفشل في الغالب، في ظلِّ ما وصفتُه من انعدام الاستقرار.

ثَمَّةَ مثال آخَر، وهو تكوُّن ثقافاتٍ فرعيةٍ معاديةٍ للعقلانية داخل المجتمع الديناميكي. تذكَّرْ أن الميمات المعادية للعقلانية تكبِتُ النقدَ على نحوٍ انتقائي، وينجم عنها فقط ضررٌ دقيقُ الإحكام؛ يمكِّن ذلك أفرادَ الثقافات الفرعية المعادية للعقلانية من الأداء الطبيعي على الأصعدة الأخرى؛ وبهذا يتسنَّى لتلك الثقافات الفرعية أن تدوم طويلًا، إلى أن يهتزَّ استقرارُها بفعل التأثيرات الخَطِرة للمدى الذي يصل إليها من مجالاتٍ أخرى. على سبيل المثال: توجد العنصرية وغيرها من أشكال التعصُّب اليومَ بالكامل تقريبًا في ثقافاتٍ فرعيةٍ تقمع النقد. لا يستمر التعصُّبُ بسبب منافع يدرُّها على المتعصبين، بل إنه يوجد بالرغم من الضرر الذي يُلحقونه بأنفسهم من جرَّاء استخدامِ معاييرَ جامدةٍ وغيرِ نافعةٍ لتحديد اختياراتهم في الحياة.

ما برحت نُظُم تعليم اليوم تتقاسَمُ الكثيرَ مع أسلافها في المجتمع الاستاتيكي، وبالرغم من النغمة الحديثة حول تشجيع الفكر النقدي، تظل الحقيقةُ هي أن التعليمَ بطريقة الاستظهار، وغرْسَ أنماط السلوك القياسية بواسطة الضغط النفسي جزآن لا يتجزَّآن من التعليم، مع أنهما الآن أساليبُ مُهمَلة كليًّا أو جزئيًّا في النظرية الصريحة. وبالإضافة إلى ذلك، وفيما يختصُّ بالمعرفة الأكاديمية، ما زال من المسلَّم به — عمليًّا — أن الغرض الرئيسي من التعليم هو نقْلُ منهجٍ دراسيٍّ ما على نحوٍ دقيق، ومن تبعات ذلك أن الناس يكتسبون المعرفةَ العلمية بطريقةٍ ذرائعيةٍ باهتة. إن أكثرهم لا ينسخون ميماتِ العلم والعقل بكفاءةٍ إلى أذهانهم نظرًا لغياب الحيثية النقدية التمييزية عن تناولهم لما يتعلمون؛ وهكذا نحيا في مجتمعٍ يمكن أن يقضيَ فيه الناسُ نهارَهم يستخدمون تقنيةَ الليزر في عدِّ الخلايا في عينات الدم، ويقضون أمسياتهم جالسين متربِّعين، ومنشدين ومتأمِّلين من أجل طرْدِ الطاقة الخارقة للطبيعة بعيدًا عن كوكب الأرض.

العيش مع الميمات

أهملَتْ أوصافُ الميمات الحالية الفارقَ الأكثر أهميةً بين نمطَيِ النَّسْخ العقلاني والمعادي للعقلانية؛ وعليه انتهى بها الأمرُ إلى إغفال أكثر ما يجري، وأسبابه. وبالإضافة إلى ذلك — ولأن أغلبَ الأمثلة الواضحة على الميمات هي تلك الطويلة الأمد المعادية للعقلانية، هي والتقليعات التعسُّفية السريعة الزوال — كان محتوى تلك الأوصاف في المعتاد معاديًا للميمات، حتى حين تكون تلك الأوصافُ قد قبلت من قبلُ أن أفضل المعرفة وأقيمها يتكوَّن أيضًا من ميمات.

على سبيل المثال: تحاول عالمةُ النفس سوزان بلاكمور في كتابها «آلة الميمات» أن تُقدِّمَ تفسيرًا أساسيًّا للحالة البشرية من حيث التطوُّر الميمي. إن الميمات حقًّا جزءٌ لا يتجزَّأ من تفسير وجود نوعنا — مع أني أعتقد أن الآلية التي تقترحها خصوصًا لم تكن ممكنةً، وذلك كما سأشرح في الفصل التالي. لكن بلاكمور تُقلِّل بشدةٍ من أهمية عنصر الإبداع في كلٍّ من تناسُخ الميمات ومنشَئِها، ويقودها ذلك — مثلًا — إلى الارتياب في أن أفضل تفسيرٍ للتقدُّم التكنولوجي يُعزَى حقًّا إلى الأفراد كما قد يُخبرنا التناوُلُ التقليدي للموضوع، بل ترى عوضًا عن ذلك أنه تطوُّرٌ ميمي، وهي تستشهد بقول المؤرخ جورج باسالا، الذي ينكر في كتابه «تطوُّر التكنولوجيا» «خرافةَ المخترع البطولي».

لكن التفرقة بين «التطوُّر» و«المخترعين البطوليين» في كونهم عناصرَ اكتشافٍ فاعلةً، لا تبدو معقولةً إلا في مجتمعٍ استاتيكي؛ حيث يحدث أكثرُ التغيير حقًّا بالطريقة التي خمَّنْتُ أن النكات قد تتطوَّر بها، دون أن يمارس أيُّ فردٍ مساهِمٍ في الأمر قدرًا كبيرًا من الإبداع. لكن في المجتمع الديناميكي، يتمُّ التوصُّلُ إلى الابتكارات العلمية والتكنولوجية بصفةٍ عامةٍ بواسطة الإبداع. بعبارةٍ أخرى: إنها تنبثق من عقولِ أفرادٍ على هيئة أفكارٍ مستحدثة، بعد أن طالَتْها التكيُّفاتُ الجوهريةُ داخل تلك العقول. بالطبع تُبنَى الأفكار في الحالتين على أكتاف سابقاتها من خلال عملية تبايُنٍ وانتقاء؛ ممَّا يؤدِّي إلى التطوُّر، لكن عندما يحدث التطوُّر على نحوٍ كبيرٍ داخل عقل الفرد، لا يكون ذلك تطوُّرًا ميميًّا؛ بل هو إبداع من صنْعِ مخترعٍ بطولي.

الأسوأ ممَّا سبق أن بلاكمور تُنكر — فيما يتعلَّق بالتقدُّم — حدوثَ «أيِّ تقدُّمٍ تجاه شيءٍ بعينه»؛ أو بعبارة أخرى: عدم تحقُّقِ التقدُّم تجاه أي شيءٍ أفضل موضوعيًّا. إنها لا تقرُّ إلا بوجود تعقيدٍ متزايد، لماذا؟ لأن التطوُّر «البيولوجي» ليس فيه «أفضل» أو «أسوأ»؛ تقول ذلك بالرغم من تحذيرها هي نفسها من أن الميمات والجينات تتطوَّران بنهجٍ مختلف. أقول مرةً أخرى إن زعمها صحيحٌ إلى حدٍّ كبيرٍ فيما يتصل بالمجتمعات الاستاتيكية، لا مجتمعنا.

كيف «ينبغي» لنا أن نفهم وجودَ الظواهر المنبثقة المميزة للبشرية كالإبداع والاختيار، في ظلِّ حقيقة أن جزءًا من سلوكنا تُسبِّبه كياناتٌ مستقلة لا نعلم محتواها؟ بل، والأسوأ، في ظل حقيقة أننا معرَّضون للتضليل المُمَنْهَج من قِبَل تلك الكيانات إزاء أسباب أفكارنا، وآرائنا، وسلوكنا؟

إن الإجابة الرئيسية عن هذا التساؤل هو أنه ينبغي ألَّا يفاجئنا احتمالُ خطئنا الشديد حيالَ أيٍّ من أفكارنا، وحتى حيال أنفسنا، وحتى حينما نشعر شعورًا قويًّا بأننا على صواب؛ لذا ينبغي ألَّا تختلف استجابتُنا — من حيث المبدأ — عنها إزاء إمكانية الوقوع في الخطأ لأي سبب. لسنا معصومين، ولكن بالافتراض والنقد والسعي وراء تفسيراتٍ جيدةٍ قد نُصوِّبُ بعضَ أخطائنا. تختبئ الميمات، ولكن — كما هي الحال مع البقعة العمياء البصرية — لا يوجد ما يَحُول بيننا وبين استخدامِ مزيجٍ من التفسير والملاحظة لاستكشاف أحد الميمات، واكتشاف محتواه الضمني بوجهٍ غير مباشِر.

على سبيل المثال: متى نجد أنفسنا نُجسِّد سلوكًا معقَّدًا أو ذا تعريفٍ محدودٍ ظلَّ يتكرَّر تكرارًا دقيقًا من شخصٍ حامِلٍ له إلى مَن يليه، يجب أن نرتاب؛ وإذا وجدنا أن تجسيدَ ذلك السلوك يُحبط جهودَنا الرامية إلى تحقيق أهدافنا الشخصية، أو أنه يستمر بدقةٍ مع أن مبرراته المزعومة قد اختفَتْ، ينبغي لنا أن نرتاب أكثر؛ وإذا وجدنا أنفسنا نفسِّر سلوكَنا الخاص بتفسيراتٍ سيئة، ينبغي لنا أن نرتاب أكثر وأكثر. قد نخفق بالطبع في لحظةٍ معينةٍ في ملاحظة هذه الأمور، أو في اكتشاف تفسيرها الحقيقي، لكن لا داعيَ لدوامِ الفشل في عالمٍ ترجع كلُّ الشرور فيه إلى نقص المعرفة. لقد أخفقنا في البداية في أن نلاحِظَ عدمَ وجود قوة الجاذبية، ولكننا الآن نفهمها. وهكذا، يصبح تحديدُ مواضِع المشكلات أسهلَ في ظل التحليل الأخير.

ثَمَّةَ أمرٌ آخَر ينبغي أن يُثير ريبتَنا، وهو توافُر «الظروف» الملائمة للتطوُّر الميمي المعادي للعقلانية، كالإذعان للسلطة، والثقافات الفرعية الاستاتيكية، وما إلى ذلك. إن عباراتٍ مثل: «لأنني قلتُ هذا»، أو «لم يضرني ذلك من قبلُ قط»، أو «لنقمَعِ النقدَ الموجَّه إلى فكرتنا لأنه حقيقي»، تشي بهيمنة فِكْرِ المجتمع الاستاتيكي. ينبغي أن نأخذ بعين الفحص والنقدِ القوانينَ والأعرافَ وغيرَها من المؤسسات، باحثين عمَّا إذا كانوا يُهيِّئون الظروفَ لتطوُّرِ الميمات المعادية للعقلانية؛ إن تجنُّبَ مثل هذه الظروف هو جوهرُ معيارِ بوبر.

التنوير هو اللحظة التي تبدأ فيها المعرفةُ التفسيرية تبوء بدورها الذي لن يلبث أن يصبح دورًا طبيعيًّا كأهم محددٍ للأحداث المادية. هذا ممكن على الأقل: يجدر بنا أن نتذكَّرَ أن ما نحاول القيام به — أيِ الخلق المستمر للمعرفة — لم ينجح من قبلُ قطُّ، بل إن كلَّ شيءٍ سنحاول تحقيقَه من الآن وإلى الأبد ستكون له نفس الصفة: لم ينجح من قبلُ قطُّ. إن ما حدث حتى الآن هو أننا انتقلنا من مصافِّ ضحايا (ومنفِّذِي) الحالة «الراهنة» الأبدية إلى مصافِّ المتلقِّين — السلبيين في أكثر الأحيان — منافِعَ الابتكار السريع نسبيًّا في حقبةٍ تحوُّليةٍ صعبة. علينا الآن أن نقبل تحوُّلنا التاليَ ونحتفيَ بالوصول إليه، وهو التحوُّل إلى عناصرَ فاعلةٍ نَشِطةٍ في تقدُّمِ المجتمع العقلاني المنبثِق والكون.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • ثقافة: حزمةُ أفكارٍ مشتركةٍ تبعث حامِلِيها على التصرُّف بوجهٍ متشابِهٍ على بعض الأصعدة.
  • ميم عقلاني: فكرة تعتمد على المَلَكات النقدية لدى متلقِّيها في إتاحة التناسُخ لنفسها.
  • ميم معادٍ للعقلانية: فكرةٌ تعتمد على تعطيل المَلَكات النقدية لدى متلقِّيها بغرضِ إتاحة التناسُخ لنفسها.
  • ثقافة استاتيكية/مجتمع استاتيكي: ثقافة/مجتمع تحدث التغيُّرات فيه بمقياسٍ زمنيٍّ أبطأ من قدرة أفراده على ملاحظتها، وتسود فيه الميمات المعادية للعقلانية.
  • ثقافة ديناميكية/مجتمع ديناميكي: ثقافة/مجتمع تسود فيه الميمات العقلانية.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • كان التطوُّر البيولوجي مجردَ تمهيدٍ متناهٍ لقصة التطوُّر الرئيسية: تطوُّر الميمات غير المحدود.

  • وهكذا كان تطوُّرُ الميمات المعادية للعقلانية في المجتمعات الاستاتيكية.

ملخص هذا الفصل

تتكوَّن الثقافاتُ من ميمات، وهي تتطوَّر. تشبه الميماتُ الجيناتِ على أصعدةٍ عديدة، لكن توجد أيضًا اختلافات عميقة بين النهج الذي تتطوَّر به كلٌّ منهما؛ أهم الاختلافات هي أن كل ميمٍ يجب أن ينطويَ على آلية تناسُخه الخاصة، وأن الميم يوجد في هيئتين ماديتين مختلفتين بالتبادل: تمثيل عقلي، وسلوك. ومن هنا، فالميم — على عكس الجين — يُنتقَى على نحوٍ منفصل — في كل عملية نَسْخ — لقدرته على التسبُّب في سلوكٍ ما، ولقدرة هذا السلوك على حثِّ المتلقِّين الجُدُدِ على تبنِّي الميم. عادةً، لا يعلم حامِلُو الميمات سببَ تجسيدهم لها؛ إننا نُجسِّد قواعِدَ النحو — مثلًا — بدقةٍ أكبر ممَّا نستطيع أن نذكرها. توجد استراتيجيتان أساسيتان فحسب للتناسخ الميمي: دعم القدرات النقدية لحاملي الميم المرتقَبين، أو تعطيلها لدى حامليها. يمنع كلُّ نوعٍ من نوعَيِ الميمات — العقلاني والمعادي للعقلانية — تناسُخَ النوع الآخَر، وقدرةَ الثقافة في مجملها على نَشْر نفسها. تمرُّ الحضارة الغربية بحقبةٍ تحوُّليةٍ غير مستقرةٍ بين مجتمعاتٍ استاتيكيةٍ مستقرة، متكوِّنةٍ من ميماتٍ معاديةٍ للعقلانية، وبين مجتمعٍ ديناميكيٍّ مستقرٍّ يتكوَّن من ميماتٍ عقلانية. على عكس ما هو شائع، العيشُ في المجتمعات البدائية بغيضٌ بما لا يمكن تصوُّره؛ فهي إما استاتيكية تحافظ على بقائها بخنق إبداع أفرادها وتحطيم معنوياتهم، وإما أنها تفقد معرفتها سريعًا وتضمحل؛ فيُهيمن العنفُ عليها. تخفق الأوصاف الموجودة للميمات في التعرُّف على أهميةِ الفارق بين العقلاني والمعادي للعقلانية؛ ومن ثَمَّ تميل إلى أن تكون معاديةً للميمات ضمنيًّا. إن هذا بمنزلة الظن خطأً في الحضارة الغربية على أنها مجتمع استاتيكي، والظن في مواطنيها وكأنهم ضحايا ميماتٍ متشائمون ومقهورون، كما هي حالُ أفرادِ المجتمعات الاستاتيكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤