الفصل الثاني

أقرب إلى الواقع

يذهل العقل لضخامة المجرَّات؛ ومن ثَمَّ لضخامة النجوم وكذلك كوكبنا، كما يذهل من نفسه، فيما يتعلَّق بتعقيده الداخلي، ومدى الأفكار الإنسانية التي يُنتجها. ويمكن أن توجد آلاف المجرَّات في عنقود المجرَّات الواحد، الذي تبلغ مساحته ملايين السنوات الضوئية. ينطق اللسان بتعبير «آلاف المجرات» بسهولة، لكن العقل يأخذ وقتًا ليُفسح بداخله مكانًا لما يُمثِّله هذا التعبير في الواقع.

أذهلني ذلك لأول مرةٍ عندما كنت طالبًا بالدراسات العليا، حين أطلعني بعض زملائي على ما كانوا يعملون عليه من رصد عناقيد المجرَّات من خلال «مَجَاهِر». هذه هي الكيفية التي استخدم بها علماء الفلك مسْح مرصد بالومار الفلكي للسماء، وهو مجموعة مكونة من ١٨٧٤ صورةً سالبةً (نيجاتيف) للسماء على شرائحَ زجاجية، تُبيِّن النجومَ والمجرَّاتِ على هيئة أجسامٍ سوداء على خلفيةٍ بيضاء.

قمت بتركيز عدسة المجهر بعد أن أدخلوا واحدةً من تلك الشرائح لأَطَّلِع عليها، فكان ما رأيت شيئًا كالموضح في الشكل ٢-١.
fig3
شكل ٢-١: عنقود مجرَّات الهَلَبة.

إن الأشياء غير المحددة المعالم هي مجرَّات، أما النقاط الدقيقة، فهي نجوم في مجرتنا، موقعها أقرب بآلاف المرات. كان على الطالب فهرسة مواقع المجرات بضبطها على التقاطُع المرسوم على عدسة المجهر ثم الضغط على زرٍّ معين، حاولتُ تجربة الأمر على سبيل التسلية، طبعًا لأني لم أكن مؤهلًا لعمل قياساتٍ دقيقة، لكن سرعان ما وجدتُ أن الأمر ليس بالسهولة التي بَدَا عليها؛ أحد الأسباب هو أنه لم يكن من الواضح دائمًا أيُّ تلك الأجسام مجراتٌ وأيها مجرد نجومٍ أو أجرامٍ أخرى. كان التعرُّف على بعض المجرَّات سهلًا؛ على سبيل المثال: لا تكون النجوم حلزونيةً أو بيضاويةً على نحوٍ ملحوظ، لكن بعض الأجسام تبدو خافتةً جدًّا بحيث لا يمكن تحديد ما إذا كانت حادَّةً أم لا. تبدو بعض المجرَّات صغيرة وخافتة ومستديرة، في حين يختفي بعضها خلف أجرامٍ أخرى. تتم هذه القياسات اليومَ بواسطة أجهزة الكمبيوتر باستخدام خوارزمياتٍ معقدةٍ لمطابقة الأنماط، لكن في تلك الأيام كان يتم فحص كل جِرمٍ بالصورة بعنايةٍ واستخدام الدلائل مثل شكل حوافِّ الجسم حتى وإن بَدَتْ غير محدَّدة المعالم، مع أن بعض الأجسام الأخرى داخل مجرتنا قد تبدو غير محددة المعالم، مثل بقايا مستعرٍ أعظم. كان على الشخص أن يستخدم أحكام الخبرة.

كيف لنا أن نختبر حكم خبرةٍ كهذا؟ تقوم إحدى الطرق على اختيار منطقةٍ في السماء على نحوٍ عشوائيٍّ وتصويرها فوتوغرافيًّا بدقةِ وضوحٍ أعلى ليسهُلَ التعرُّف على المجرات بها، ثم مقارنة النتائج بما تمَّ التوصُّل إليه من حكم الخبرة؛ فإن اختلفَا، فسيكون حكم الخبرة غيرَ دقيق، وإن اتفقَا، فلن يمكن أن نكون متأكِّدين. فلا يمكن للمرء أن يكون متأكدًا على أي حال.

كان من الخطأ أن يكون انبهاري فقط بحجمِ ما كنتُ أنظر إليه. يشعر البعض بالاكتئاب إزاء حجم الكون حيث يجعلهم يشعرون بالضآلة، في حين يشعر البعض الآخَر بالارتياح بسبب هذا الإحساس بالضآلة، وهذا أسوأ، والجانبان مخطئان؛ فإحساس المرء بالضآلة بسبب اتِّساع الكون يحمل نفس منطق الإحساس بعدم الكفاءة؛ لأنه — أي المرء — ليس بقرةً أو قطيعًا من الأبقار. فلا ينبغي لاتِّساعِ الكون أن يُشعرنا بضآلةٍ أو غلبتِه علينا؛ فهو المكان الذي نعيش فيه ومصدر حياتنا، وكلما كان أكبر، كان أفضل.

جاء بعد ذلك البُعْد «الفلسفي» لتفحُّص عنقود المجرات هذا؛ فعندما حرَّكْتُ مركزَ العدسة على المجرات غير المتعرَّف عليها الواحدة تلو الأخرى، بعد أن ضغطت على ما خمَّنْتُ أنه مركزُ كلٍّ منها، لاحَتْ لي بعض الخواطر الغريبة، وتساءلتُ إنْ كنتُ أولَ وآخِر إنسانٍ يُلقي بالًا لمجرةٍ بعينها. إني لم أنظر إلى ذلك الجرم المبهم إلا للحظاتٍ قليلة، إلا أنه قد يكون مثقلًا بالمعاني؛ فهو يحوي ملايين الكواكب، التي كلٌّ منها «عالَمٌ» كامل له تاريخه الفريد؛ مشارقه ومغاربه وعواصفه وفصوله، وله في بعض الأحوال قاراته ومحيطاته وزلازله وأنهاره. هل كان أيٌّ من تلك العوالم مأهولًا؟ أكان بالعالم المأهول علماء فلك؟ لا رَيْبَ أن سكان العالم المأهول لم يسافروا خارجَ مجرَّتهم إلا إذا كانوا أصحابَ حضاراتٍ فائقةِ القِدَم والتقدُّم؛ فهم إذنْ لم يَرَوْا كيف يبدو عالَمُهم ذلك من منظوري قطُّ، غير أنهم ربما تصوَّروه نظريًّا. تُرَى هل كان أحدهم يحدِّق بمجرة درب اللبانة في نفس تلك اللحظة متسائلًا بشأننا عن نفس ما كنتُ أتساءل عنه لديهم؟ إنْ صحَّ ذلك، فلقد كانوا ينظرون إلى مجرتنا عندما كانت الأسماك أكثر أشكال الحياة تقدُّمًا على كوكب الأرض.

ربما تستطيع أو لا تستطيع أجهزةُ الكمبيوتر اليومَ فهرسةَ مواقع المجرات على نحوٍ أفضل ممَّا اعتاد طلابُ الدراسات العليا آنذاك أن يفعلوا، لكنها حتمًا لن تُخامرها أفكار كتلك التي تخامرهم؛ أقول هذا لأني أجد البحثَ العلميَّ كثيرًا ما يُوصَف اليومَ بشكلٍ كئيبٍ وبارد، في إشارةٍ إلى أنه مجرد جهدٍ يفتقر إلى الإبداع. قال المخترع توماس إديسون ذات مرة: «لم يأتِ أيٌّ من اختراعاتي من قبيل الصدفة، وإنما كنتُ أصادِفُ احتياج ما يستحقُّ العمل على سدِّه، فأُجري المحاولات الواحدة تلو الأخرى حتى يظهر الاختراع للنور. إن الأمر في حقيقته واحدٌ بالمائة منه إلهام، وتسعةٌ وتسعون بالمائة منه جهد.» يقول البعضُ الشيءَ نفسَه عن البحث النظري؛ حيث يفترضون أن مرحلة «الجهد» ليست سوى عملٍ فكريٍّ خالٍ من أي إبداع، مثل حل معادلاتٍ جبريةٍ أو تحويل خوارزمياتٍ إلى برامجِ كمبيوتر. لكن حقيقة قيام كمبيوتر أو روبوت بمهمةٍ ما لا تحتاج إلى إبداع، لا تعني أن هذه المهمة كذلك عندما يقوم العلماء بها. تلعب أجهزة الكمبيوتر الشطرنجَ بلا تفكير — حيث تبحث بتوسُّعٍ كلَّ النتائج المحتملة لكل حركةٍ ممكنة — لكنَّ البشر يحققون أداءً مشابِهًا بطريقةٍ مختلفةٍ تمامًا، هي التفكير الإبداعي والممتع. ربما كتب نفس هؤلاء الطلاب برامجَ الكمبيوتر الخاصة بفهرسة مواقع المجرات، مُحوِّلين خلاصةَ ما تعلَّموه إلى خوارزمياتٍ مُحكَمة، وهو ما يعني حتمية أنهم تعلَّموا شيئًا من أدائهم لمهمةٍ ما يؤدِّيها الكمبيوتر دون أن يتعلَّم أيَّ شيء. بل أتعمق في الأمر وأقول إن إديسون لا بد أنه أخطأ في تأويل تجربته الخاصة؛ فالمحاولة تظلُّ ممتعةً حتى إذا فشلتْ، ولا تكون التجربةُ متكررةً إذا كان صاحبها يفكِّر في الأفكار التي تختبرها، وفي الواقع الذي تفحصه. كان هدف مشروع المجرات الذي ذكرتُه هو اكتشافَ ما إذا كانت «المادة المظلمة» (انظر الفصل التالي) موجودةً حقًّا، وقد تحقَّقَ بالفعل هذا الهدف؛ فلو كان إديسون (أو أولئك الطلاب) أو أيُّ باحثٍ علميٍّ انشغَلَ فقط بمرحلة «الجهد» من عملية اكتشافٍ يقوم بها فعلًا بلا أي إبداع، لَفاتَه أغلب المتعة، التي هي أيضًا القوة المحرِّكة ﻟ «الواحد بالمائة من الإلهام».

عندما وصلتُ إلى جِرمٍ مبهمٍ جدًّا، سألتُ مضيفي: «أهذا نجم أم مجرة؟»

فكانت الإجابة: «لا هذا ولا تلك، هذا مجرد عيبٍ في الطبقة الحساسة للفيلم الفوتوغرافي.»

ضحكتُ من الفرق الشاسع بين ما كنتُ أفكِّر فيه وبين الواقع؛ إذ اتَّضح أن تخميناتي الكبيرةَ عن المعاني العميقة لِما كنتُ أنظر إليه هي — فيما يخص هذا الجِرمَ نفسَه — عن لا شيء في الواقع؛ ففجأةً لم يَعُدْ في الصورة علماء فلك، ولا أنهار ولا زلازل، اختفَوْا في لحظة خيال. كان تقييمي لحجم ما أراه مبالَغًا فيه بمليارات مليارات المرات؛ فكان ما اعتقدتُ أنه أكبر ما رأت عيناي والأبعدُ مسافةً وزمنًا، هو في الحقيقة بقعة متناهية الصغر لا تكاد تُرَى بالعين المجرَّدة وفي متناول يدي. يوضِّح هذا أننا من الممكن أن ننخدع بسهولةٍ وعلى نحوٍ تامٍّ.

لكنِ انتظِرْ! تُرَى هل وقعَتْ عيناي على أي مجرَّات؟ لم تكن النقاط الأخرى في الحقيقة سوى بُقَعٍ فضيةٍ ميكروسكوبيةٍ مماثلة؛ فإذا كنتُ قد أخطأتُ في تفسير إحداها لأنها تشابهت مع ما حولها، فلماذا كان ذلك خطأً جسيمًا؟

لأن الخطأ المرتكَب في العلم التجريبي هو خطأ في تفسير سببِ شيءٍ ما، وهو أمر خاضع للنظرية، شأنه في ذلك شأن أي ملاحظةٍ دقيقة؛ فلا يمكن لحواسِّ الإنسان وحدها أن ترصد الكثيرَ ممَّا يحدث في الطبيعة دون مساعدة؛ لأن معظم ما يحدث هو سريع جدًّا، أو بطيء جدًّا، أو كبير جدًّا، أو صغير جدًّا، أو بعيد جدًّا، أو مختبئ وراء حواجزَ معتمة، أو يحدث طبقًا لمبادئَ تختلف كثيرًا عن أي شيءٍ أثَّرَ في تطوُّرنا. لكن يمكننا في بعض الحالات أن نُرتب تلك الظواهرَ بحيث تصبح ممكنةَ الإدراك بالنسبة إلينا بواسطة الأدوات العلمية.

إننا نستخدم تلك الأدواتِ شاعرين أنها تُقرِّبنا أكثر من الواقع، وهو ما أحسسْتُ به حين نظرتُ إلى عنقود المجرات آنذاك، في حين أنَّ وصْف ما يحدث من منظورٍ ماديٍّ بحتٍ هو أن الأدوات تقف حائلةً أكثر بيننا وبين الواقع. كان بإمكاني أن أنظر إلى سماء الليل في اتجاه عنقود المجرات هذا، فلا يفصل بيني وبينه إلا بضعة جراماتٍ من الهواء، لكني لم أكن لأرى شيئًا على الإطلاق، ولو أَدخلتُ فيما بيني وبينه تلسكوبًا، لرأيته. في الحدث الذي وصفتُه، كان بيني وبين عنقود المجرات تلسكوب وكاميرا ومعمل تحميض صورٍ وكاميرا أخرى (لنسخ الشرائح) وشاحنة أتَتْ بالشرائح لحرم الجامعة وميكروسكوب، ومع هذا كنتُ أستطيع رؤيتَه على نحوٍ أفضل بكثيرٍ مع وجود كل تلك المعدات بيننا.

لا ينظر علماء الفلك اليوم إلى السماء إطلاقًا (ربما في أوقات فراغهم فقط)، ونادرًا ما ينظرون مباشَرةً إليها عبر التلسكوبات. لا توجد بأغلب التلسكوبات اليومَ عدساتٌ عينيةٌ مناسِبةٌ للعين البشرية، بل إن أغلبها لا يستشعر الضوء المرئي. ترصد الأدواتُ بدلًا من ذلك الإشاراتِ غيرَ المرئية التي تُرقَّم وتُسجَّل وتُدمَج مع غيرها، ثم تتم معالجتها وتحليلها من قِبَل أجهزة الكمبيوتر، وتكون النتيجة صورًا قد تكون بألوانٍ «غير حقيقية» لتُبين الموجات اللاسلكية أو الإشعاعات الأخرى، أو لتعرض السماتِ المستنبَطَةَ على نحوٍ غير مباشِرٍ أكبر مثل الحرارة أو التركيب. في كثيرٍ من الأحيان لا تُنتج أي صورةٍ للجِرم البعيد على الإطلاق، وإنما فقط قوائم من الأعداد، أو الرسوم البيانية والمخططات، ولا تلتقط حواسُّ عالِمِ الفلك غيرَ نتائجِ تلك العمليات.

تحتاج كل طبقةٍ من الحواجز المادية بين العالِم والظاهرة إلى المزيد من النظريات التي تربط المدركات الناتجة بالواقع. عندما اكتشفَتْ عالمةُ الفلك جوسلين بيل النجومَ النابضة (وهي نجوم عالية الكثافة جدًّا تُصدِر تدفُّقاتٍ منتظمةً من الموجات اللاسلكية)، كان الشكل ٢-٢ هو ما نظرَتْ إليه.

استطاعت جوسلين بيل «رؤية» ذلك الجرم القوي النابض في قلب الفضاء، فقط من خلال سلسلةٍ معقَّدةٍ من التأويلات النظرية، بأن تطلَّعَتْ إلى هذا الخط المتذبذب من حبرٍ على ورق، متبيِّنةً أنه من نوعٍ لم يُكتشَف بعدُ.

fig4
شكل ٢-٢: ناتج التلسكوب اللاسلكي لأول نجمٍ نابضٍ معروف.

كلما تحسَّن فهمُنا للظواهر البعيدة عن خبرتنا اليومية، طالتْ سلاسِلُ التأويل، التي تتطلَّب كلُّ حلقةٍ جديدةٍ فيها المزيدَ من النظريات. قد تتسبَّب ظاهرة واحدة غير متوقَّعةٍ، أو أُسِيءَ فهمُها في السلسلة، في جعْل التجربة الحسية الناتجة عنها مضللةً بالضرورة، وكثيرًا ما يحدث ذلك. لكن بمرور الوقت أصبحت النتائج التي يتوصَّل إليها العلمُ أكثر اقترابًا من الواقع؛ فسعيُه للوصول إلى تفسيراتٍ جيدةٍ يُصحِّح الأخطاء ويستوعب التحيُّزات ووجهات النظر المضللة، ويسد ما يظهر من فجوات. وهذا ما يمكننا تحقيقه عندما نستمر في تعلُّم المزيد بشأن كيفية الامتناع عن خداع أنفسنا، مثلما قال فاينمان.

تحتوي التلسكوبات على آليات تتبُّعٍ تلقائيٍّ تُعدِّل من وضعها باستمرارٍ لتُعادِلَ تأثيرَ حركة الأرض، وفي بعضها تُغيِّر أجهزةُ الكمبيوتر من شكل المرآة لتكافِئَ بريقَ الغلاف الجوي للأرض؛ لذا لا تتلألأ النجومُ ولا تتحرَّك في السماء عند رصدها بمثل هذه التلسكوبات، كما بدتْ لأجيالٍ من الملاحظين في الماضي؛ فهذه الأشياء هي مجرد مظاهر، أو خطأ ضيق الأفق، ولا علاقة لها بحقيقة النجوم؛ فالدور الرئيسي لبصريات التلسكوبات هو تقليل ما يحيط بالنجوم من وهْم، ككونها قليلةً أو خافتةً أو متلألئةً أو متحرِّكة. ينطبق الأمر نفسه على كل جزءٍ في التلسكوب، بل كل أداةٍ علميةٍ أخرى؛ فكل طبقةٍ منها مباعدةٍ بين العالِم وما يلاحظه تستطيع من خلال النظريات المرتبطة بها أن تُصحِّح كلَّ خطأٍ ووهمٍ وفجوةٍ ووجهةِ نظرٍ مضللة. ربما كانت الفكرة المثالية غيرُ الصحيحة التي ألصقتها التجريبية بالملاحظة على أنها «خالصة»، لا تعتمد على نظريات، هي سببَ غرابة فكرة أن الملاحظة الأدق حقًّا دائمًا ما تكون غيرَ مباشِرةٍ على الإطلاق. لكن الحقيقة هي أن التقدُّمَ يتطلَّبُ تطبيقَ المزيد من المعرفة «قبل» الملاحظة.

إذن كنتُ أنظر بالفعل إلى تلك المجرات؛ إذ لا تختلف كثيرًا ملاحظةُ المجرات بواسطة نقاطٍ من الفضة، عن ملاحظة حديقةٍ بواسطة صورٍ على شبكية العين؛ ففي كل الحالات لا يعني قولنا إننا لاحظنا شيئًا على نحوٍ حقيقي، إلا أننا ربطنا بدقةٍ بينه وبين شواهدنا (التي تكون دائمًا شواهدَ داخل عقولنا). تتكوَّن الحقيقة العلمية من مثل هذا التجاوب بين النظريات والواقع المادي.

على نحوٍ مماثل، ينظر العلماء الذين يعتمدون في عملهم على مسرعات الجسيمات العملاقة إلى نقاطٍ وحبرٍ وأعدادٍ ورسومٍ بيانية، وهكذا يلاحظون الواقعَ المجهري لكياناتٍ دون ذرية كالكواركات والنوى؛ في حين يعتمد آخَرون على مجاهرَ إلكترونيةٍ ويُسلِّطون حزمةَ الإلكترونات على خلايا ميتةٍ لُطِّختْ وجُمِّدتْ سريعًا بالنيتروجين السائل ووُضِعتْ في فراغ، لكنهم بهذا يتوصَّلون إلى معرفة ما تبدو عليه الخلايا «الحية». إنه لَأمر مدهش أن هناك بعضَ الأشياء التي عندما نلاحظها تتخذ على نحوٍ دقيقٍ مظهرًا وسماتٍ أخرى لأشياءَ أخرى مختلفةٍ جدًّا في التكوين والمكان. وأجهزتنا الحسية من تلك الأشياء أيضًا؛ لأنها تؤثِّر دون غيرها مباشَرةً على عقولنا فقط عند إدراكنا لأي شيء.

لكن مثل هذه الأدوات ليس سوى تكويناتٍ نادرةٍ وحساسةٍ جدًّا من المادة؛ فإنْ ضغطتَ على زرٍّ واحدٍ خاطئٍ في لوحة تحكُّم تلسكوب، أو شفَّرْتَ أمرًا واحدًا خاطئًا في الكمبيوتر الخاص به، فلن ترى في هذا الجهاز الشديد التعقيد سوى الجهاز نفسه فقط. وسيحدث الأمر نفسه لو أنك جمعتَ المواد الخام التي صُنِع منها هذا الجهازُ وصنعتَ أيَّ تكوينٍ آخَر بخلاف هذه الأداة العلمية؛ فحين تنظر إليها، لن ترى سوى تلك المواد الخام.

تُخبرنا النظريات التفسيرية بكيفية بناء وتشغيل الأدوات بالطريقة السليمة التي تُحقِّق تلك المعجزة. تَخدع تلك الأدوات حواسَّنا مثل الخدع السحرية ولكن بالعكس؛ حيث تجعلنا نرى ما هو موجود حقًّا. لا تستخلص عقولُنا حقيقةَ وجودِ شيءٍ محدَّدٍ إلا بأن يتوافق ذلك الوجود مع أفضل تفسيراتنا لأمرٍ ما، وذلك بواسطة المعيار المنهجي الذي ذكرتُه في الفصل الأول. كل ما حدث ماديًّا هو أن البشر — على الأرض — قد استخرجوا موادَّ أوليةً مثل الحديد والرمال، وأعادوا تنسيقَها وتركيبَها — أيضًا على الأرض — لتصير أشياءَ معقَّدةً مثل التلسكوبات اللاسلكية وأجهزة الكمبيوتر وشاشات العرض، ثم أخذوا ينظرون إليها بدلًا من النظر إلى السماء، وأصبحوا يُركِّزون «أعينهم» على أدواتٍ بشريةٍ في متناول أيديهم، في حين تُركِّز «عقولُهم» على الكيانات والعمليات الغريبة الواقعة على بُعْد سنواتٍ ضوئيةٍ منهم.

أحيانًا ما ينظرون إلى نقاطٍ متلألئةٍ كما فعل أسلافُهم، لكن هذه المرة على شاشات الكمبيوتر بدلًا من السماء. وفي أحيانٍ أخرى ينظرون إلى أعدادٍ أو رسومٍ بيانية، لكنهم في كل الأحوال لا يتعاملون إلا مع ظاهرةٍ قريبةٍ ومحلية؛ نقاط على شاشة، أو حبر على ورق، وهكذا. هذه الأشياء تختلف ماديًّا تمامًا عن النجوم؛ فهي أصغر كثيرًا، ولا تُسيطر عليها قوًى نوويةٌ ولا جاذبيةٌ، وهي غير قادرةٍ على تحويل العناصر ولا خلق الحياة، كما لم توجد منذ مليارات السنين؛ إلا أن علماء الفلك عندما ينظرون إليها، يرون النجوم.

ملخص هذا الفصل

قد يبدو غريبًا أن تُقرِّبنا الأدواتُ العلمية من الواقع بأن تفصلنا عنه أكثر بالمفهوم المادي البحت. لكن الملاحظة لا تكون أبدًا بطريقٍ مباشِر؛ فكل الملاحظات تكون مثقلةً بالنظرية. وبالمثل، فإننا عندما نُخطئ، يكون الخطأ في تفسيرنا لشيءٍ ما؛ لهذا يمكن للمظاهر أن تكون خادعةً، ولهذا أيضًا يمكن لنا ولأدواتنا أن نمنع ذلك الخداع. يتمثَّل نمو المعرفة في تصحيح المفاهيم الخاطئة في نظرياتنا؛ قال إديسون إن البحث يتكوَّن من واحدٍ بالمائة من الإلهام، وتسعةٍ وتسعين بالمائة من الجهد، لكن هذا وصف مضلل؛ إذ بإمكان الإنسان أن يُضفيَ الإبداعَ حتى على المهام التي تؤدِّيها أجهزةُ الكمبيوتر وغيرها من الآلات بلا إبداع؛ فالعلم ليس جهدًا يفتقر إلى الإبداع، يتمثل مكسبه الوحيد في لحظاتٍ نادرةٍ من الاكتشاف؛ لأنه يمكن لهذا الجهد أن يكون ممتعًا وإبداعيًّا، تمامًا مثل اكتشاف تفسيراتٍ جديدة.

والآن، أيمكن لهذا الإبداع، وتلك المتعة، أن يستمرَّا بلا نهاية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤