الفصل الثامن

نافذة على اللانهاية

أدرك علماء الرياضيات منذ قرونٍ أنه من الممكن التعامُل مع اللانهاية تعامُلًا متَّسِقًا ونافعًا؛ فالمجموعات اللامتناهية والكميات اللامتناهية الكِبَر أو الصِّغَر كلها أمور معقولة. صحيحٌ أن الكثيرَ من خصائصها مخالف للبديهة، وأن الجدل دائمًا ما كان يحيط بالنظريات التي دارَتْ حول اللانهايات، إلا أن العديد من الحقائق الخاصة بالمتناهيات تُخالِفُ البديهةَ بالمثل. إنَّ ما يدعوه دوكينز «حجة التشكيك الشخصي» ليس بحجةٍ على الإطلاق؛ فهو ليس سوى تفضيلٍ لمفاهيمَ خاطئةٍ ضيقةِ الأفق على حقائقَ عمومية.

لقد تأمَّلَ العلماءُ اللانهايةَ في مجال الفيزياء أيضًا منذ القِدَم؛ فكان فضاءُ إقليدس لا متناهيًا، بل كان الفضاءُ في كل الأحوال عادةً ما يُرَى باعتباره سلسلةً متصلةً؛ فحتى الخطُّ المتناهي كان يُرَى على أنه يتألَّفُ ممَّا لا حصرَ له من النقاط. كما كان يُعتقَد أن هناك بين أي وقتَيْن عددًا لا متناهيًا من اللحظات، لكنَّ فهمَ الكميات المتصلة بقي ناقصًا ومتناقضًا إلى أن ابتكَرَ نيوتن ولايبنتس حسابَ التفاضل والتكامل، وهو طريقةٌ تُستخدَم لتحليل التغيُّر المتَّصِل بواسطة أعدادٍ لا متناهيةٍ من التغيُّرات اللامتناهية الصِّغَر.

إن «بداية اللانهاية» — أيْ إمكانية نموِّ المعرفة غير المحدود في المستقبل — تعتمد على عددٍ من اللانهايات الأخرى، ومن بينها عموميةُ قوانين الطبيعة، تلك التي تسمح لرموزٍ محليةٍ ومحدودةٍ بأن تنطبق على الزمان والمكان برُمَّتهما، وكذلك على كلِّ الظواهر الأخرى ما هو موجود منها وما هو محتمل، ومن بينها أيضًا وجودُ كياناتٍ ماديةٍ عبارة عن مفسِّرين عموميين، وأعني هنا الكيانات الذكية، التي هي — كما اتَّضح — من البنَّائين العموميين كذلك بالضرورة، وتندرج تحتَها بلا شكٍّ أجهزةُ الكمبيوتر التقليدية العمومية.

إن أغلب أشكال العمومية نفسها تُعبِّر عن صورٍ من اللانهاية، وإنْ كان من الممكن دائمًا تفسيرها باعتبارها شيئًا «لا محدودًا» وليس «لا متناهيًا»، وقد عبَّرَ عنه معارِضو اللانهاية بمصطلح «اللانهاية الممكنة» بدلًا من «الفعلية»؛ فعلى سبيل المثال: يمكن وصف بداية اللانهاية بأنها الوضْعُ الذي «سيكون فيه التقدُّمُ في المستقبل «لا محدودًا»»، أو الذي «سيتحقَّق فيه قدرٌ «لا متناهٍ» من التقدُّم»، لكني أستخدِمُ هذين المفهومين ها هنا على نحوٍ تبادُلي؛ فليس ثَمَّةَ فارِقٌ جوهريٌّ بينهما في هذا السياق.

توجد فلسفة رياضية تُدعَى «التناهي»، وهي المذهب الذي يرى أن الكيانات المحدودة المجردة هي فقط التي توجد؛ فمثلًا: هناك ما لا نهايةَ له من الأعداد الطبيعية، إلا أن مناصري التناهِي يُصِرُّون على أن ذلك ليس سوى قولٍ مجازي، ويقولون إن حقيقةَ الأمر هي وجودُ قاعدةٍ محدودةٍ لإنتاج كلِّ عددٍ طبيعي (أو بالأحرى كل رقم) من العدد الذي يسبقه، وإنَّه ليس ثَمَّةَ شيء لا متناهٍ في الموضوع. لكن يصطدم هذا المذهبُ بالمشكلة التالية: هل يوجد عدد طبيعي هو الأكبر على الإطلاق أم لا؟ لو وُجِد واحد، فإن ذلك سيتناقض مع الزعم بوجود قاعدةٍ تُنتج عددًا أكبر منه، أما إذا لم يوجد، فالأعداد الطبيعية إذنْ لا متناهية. يُضطَرُّ مناصِرو التناهي عندئذٍ إلى إنكار مبدأٍ منطقيٍّ هو «قانون الوسط المرفوع (أو الثالث الممتنع)»، والذي ينصُّ على أن أيَّ فرضيةٍ ذاتِ معنًى تكون صحيحةً، أو يكون نقيضُها هو الصحيح؛ وعليه فهم يناقضون ذلك القانونَ؛ إذ مع قولهم بأنه ليس هناك عددٌ أكبر، يرَوْن أن الأعداد الطبيعية ليست لا متناهية.

إن التناهيَ هو في حقيقة الأمرِ الذرائعيةُ عندما تُطَبَّق على الرياضيات؛ فهو رفْض مبدئي للتفسير، وهو يحاول أن ينظر إلى الكيانات الرياضية على أنها مجرد إجراءاتٍ يتبعها علماء الرياضيات، وقواعد لخط علاماتٍ على الأوراق ليس إلا، وهي مع نفعها في مواقف بعينها لا تُعبِّر عن أي شيءٍ حقيقيٍّ بخلاف الأشياء المتناهية والمحسوسة، كتفاحتين أو ثلاث برتقالات. نرى في هذا الضوء كيف تتأصَّل مركزيةُ البشر في مذهب التناهي، وهو ما لا يفاجئنا في ظلِّ نظرته إلى ضِيق الأفق باعتباره ميزةً وليس عيبًا لأي نظرية. ويشترك التناهي مع الذرائعية والتجريبية في عيبٍ خطيرٍ آخَر فيما يختصُّ بالعلم؛ إذ يفترض أن علماء الرياضيات لديهم قدرةٌ مميَّزة على تفسير الكيانات المتناهية التي لا يتمتَّعون بها فيما يتعلَّق بالكيانات اللامتناهية، وهو افتراض خاطئ. إن الملاحظة مثقلة بالنظرية، تمامًا كالتنظير التجريدي، بل إن التعامُلَ مع الكيانات المجردة، سواءٌ أكانت متناهيةً أم لا متناهية، يكون من خلال النظرية، مثلما هي الحال مع الكيانات المادية.

بعبارةٍ أخرى: فإن التناهيَ — تمامًا كالذرائعية — ليس سوى مشروعٍ لعرقلة التقدُّم في فهم الكيانات فيما وراء تجربتنا المباشِرة، إلا أن ذلك يعني عرقلةَ التقدُّم عمومًا؛ فكما أوضحنا، ليس ثَمَّةَ كياناتٌ في «تجربتنا المباشِرة».

يفترض النقاش السابق برمته عموميةَ العقل؛ فمدى العلم له حدودٌ كامنة فيه، وفي هذا لا تختلف عنه الرياضيات ولا أيٌّ من فروع الفلسفة، لكنك لو اعتقدتَ أن هناك حدودًا للعالم الذي لا سلطانَ على الأفكار فيه إلا للعقل، فستكون قد آمنتَ باللاعقلانية أو بالقوى الخارقة؛ وبالمثل، فإنك إذا رفضتَ وجودَ اللانهايات، فستقف حدودُك عند المتناهيات، التي تتسم بالضرورة بضيق الأفق. فما من سبيلٍ إذنْ للتوقُّف عند هذا الحد؛ إذ إن التفسيرَ الأفضل لأي شيءٍ سيتطرَّق في مرحلةٍ ما من تناوله للعمومية ومن ثَمَّ للَّانهاية. ولا يمكن أن نحدَّ مدى التفسيرات بالأمر.

من الأمور المعبِّرة عن هذه النقطة مبدأ رياضي كان عالم الرياضيات جورج كانتور هو أولَ مَن كشف عنه النقاب في القرن التاسع عشر، وهو المبدأ الذي ينصُّ على أن الكيانات المجرَّدة يمكن تعريفها على أيِّ نحوٍ منشودٍ من خلال كياناتٍ أخرى، ما دامت تلك التعريفات قد اتَّسَقَتْ وخَلَتْ من الغموض. أسَّسَ كانتور الدراسةَ الرياضيةَ الحديثةَ للَّانهاية، ثم تولَّى من بعده عالِمُ الرياضيات جون كونواي الدفاعَ عن مبدأ كانتور وتعميمَه أكثر في القرن العشرين، وهو الذي أطلق على ذلك المبدأ اسمًا غريبًا وإن كان مناسبًا، وهو «حركة تحرير علماء الرياضيات». تشي دفوعُ كونواي بأن أفكار كانتور قد لاقَتْ معارضةً لاذعةً بين معاصريه، ومنهم أغلب علماء الرياضيات في ذلك الوقت، وكذلك العديد من العلماء، والفلاسفة، وعلماء اللاهوت. والمفارقة أن الاعتراضات الدينية قامَتْ على أساس «مبدأ العادية»؛ إذ وُصِمتْ محاولاتُ فهم اللانهاية والتعامُل معها بالتجديف والتعدِّي على اختصاصات الرَّب. وحتى في منتصف القرن العشرين، وبعد أن أصبحَتْ دراسةُ اللانهاية جزءًا أصيلًا من الرياضيات وأصبحَتْ للَّانهاية تطبيقاتٌ رياضية عديدة، وصَفَها الفيلسوفُ لودفيج فيتجنشتاين بأنها «خاوية من أي معنًى» (وقد عمَّمَ تلك التهمةَ فيما بعدُ على الفلسفة بأسرها، بما فيها أعماله؛ انظر الفصل الثاني عشر).

ولقد ذكرتُ بالفعل أمثلةً أخرى من الرفض المبدئي للَّانهاية، مثل الرفض الغريب لأرشميدس وأبولونيوس وغيرهما لنُظُم الأرقام العمومية، بالإضافة إلى مذاهبَ كالذرائعية والتناهي. يسعى مبدأُ العادية إلى الهروب من ضيق الأفق والوصول إلى اللانهاية، لكنه لا ينتهي إلا إلى حبس العلم في فقاعة القابلية للفهم المتناهية الصِّغَر وغير النموذجية. ويوجد أيضًا التشاؤم، الذي يبتغي أن يبرِّرَ الفشلَ بوجودِ حدٍّ نهائيٍّ لأي تحسُّن (وهو ما سأتناوله بالنقاش في الفصل التالي)، والذي من صوره مثالُ الأرض سفينة الفضاء المتناقضُ الضيقُ الأفقِ، وهي مَركبةٌ كان من الأنسب كثيرًا أن تكون استعارةً للتعبير عن اللانهاية.

نستخدم حينما نتحدَّث عن اللانهاية المدى اللامتناهي لفكرةٍ ما؛ فمعقولية فكرةٍ ما عن اللانهاية تقوم على وجود تفسيرٍ يوضِّح لماذا تشير مجموعةٌ متناهية من القواعد للتعامُل مع رموزٍ متناهيةٍ إلى أمرٍ ما لا متناهٍ. (دعني أكرِّر أن هذا يكمن خلفَ كلِّ معرفتنا عن كل شيءٍ آخَر كذلك.)

تُدرَس اللانهاية في الرياضيات بواسطة مجموعاتٍ لا متناهيةٍ (أيْ مجموعات ذات عناصر عددُها لا متناهٍ). والخاصية المميزة لأية مجموعةٍ لا متناهيةٍ هي أن أي جزءٍ منها يشتمل على ما لا نهاية له من العناصر تمامًا كالمجموعة نفسها. خُذِ الأعدادَ الطبيعية كمثال (انظر شكل ٨-١).

في السطر العلوي بالشكل، يظهر كلُّ عددٍ طبيعيٍّ مرةً واحدةً فقط، أما السطر السفلي، فيُمثِّل جزءًا من مجموعة الأعداد الطبيعية بدايةً من العدد ٢. ويقابل الشكل بين المجموعتين من حيث تعداد عناصرهما — وهو ما يسميه علماء الرياضيات «التناظُر الأحادي» — لإثبات تساوي المجموعتين فيما تشتملَان عليه ممَّا لا نهايةَ له من الأعداد.

fig12
شكل ٨-١: إن مجموعةَ الأعداد الطبيعية لها ما لا نهايةَ له من العناصر تمامًا كالمجموعة نفسها.

ابتكر عالِمُ الرياضيات ديفيد هيلبرت تجربةً فكريةً ليُبيِّنَ ما يجب على المرء التخلِّي عنه من بعض البديهيات عند التفكير في اللانهاية؛ إذ تخيَّل فندقًا به عدد لا متناهي الكِبَر من الغرف يدعى «فندق اللانهاية»، وفيه رُقِّمَتِ الغرفُ بالأعداد الطبيعية مبدوءةً بالعدد ١ ومنتهيةً … بماذا؟

إن رقم الغرفة الأخيرة ليس اللانهاية؛ أولًا: ليس ثَمَّةَ غرفة أخيرة؛ وعليه فأول بديهيات الحياة اليومية التي يجب علينا التخلِّي عنها هي أن أي مجموعةٍ مرقمةٍ من الغرف لا بد أن تتضمَّن غرفةً هي الأعلى ترقيمًا. ثانيًا: يحتوي كلُّ فندقٍ متناهٍ، رُقِّمتْ غُرفُه بدءًا من العدد ١، على غرفةٍ يساوي رقمُها مجموعَ كلِّ غرفِ هذا الفندق، وأخرى يقارب رقمها ذلك العدد؛ فلو كان عددُ الغرف عشرةً لَوُجِدتْ غرفةٌ رقمُها عشرة، وأخرى رقمها تسعة. أما في فندق اللانهاية حيث عددُ الغرف لا متناهٍ، فإن أعداد كلِّ الغرف في غاية البُعْد عن اللانهاية.

fig13
شكل ٨-٢: بداية اللانهاية – الغُرَف في فندق اللانهاية.

تخيَّلِ الآنَ أن فندق اللانهاية مشغولٌ بالكامل؛ فكلُّ غرفةٍ بالفندق لا يسكنها سوى نزيلٍ واحدٍ ولا يمكن أن تسع غيره. في الفنادق المتناهية، للعبارتين: «كامل العدد» و«لا مكان لنزلاء جدد» نفس المعنى. لكن فندق اللانهاية يتسع دائمًا للمزيد من النزلاء، ومن شروط الإقامة به أنه يتوجَّب على النزلاء تغيير غُرَفهم إذا طلبَتِ الإدارةُ منهم ذلك؛ ومن ثَمَّ، عند وصول نزيلٍ جديدٍ إلى الفندق، تُخاطِبُ الإدارةُ النزلاءَ بواسطة الإذاعة الداخلية قائلةً: «هلَّا ينتقل كلُّ نزيلٍ على الفور إلى الغرفة المرقمة برقمٍ أعلى من رقم غرفته الحالية بواحدٍ.» ومن ثَمَّ وبحسب التصوُّر المبيَّن في الشكل السابق، ينتقل النزيلُ القاطن بالغرفة رقم ١ إلى الغرفة رقم ٢ التي ينتقل نزيلها إلى الغرفة رقم ٣ وهكذا. ماذا سيحدث في الغرفة الأخيرة؟ لا توجد غرفة أخيرة؛ لذا فلا مشكلة فيما سيحدث بها. يستطيع النزيلُ الجديد الآنَ أن يقطن الغرفة ١؛ فليس من الضروري أبدًا حجْزُ الغرفِ في فندق اللانهاية.

من الجليِّ أنه لا يمكن لمكانٍ كفندق اللانهاية أن يوجد في كوننا؛ لأن وجودَه يخرق قوانينَ فيزيائيةً عدة؛ فهو ليس إلا تجربة فكرية رياضية؛ لذا فالقيد الوحيد على القوانين الفيزيائية المتخيَّلة هو أن تكون قوانين متناسقة، وهو قيد يتسبَّب في كونها مخالِفةً للبديهة؛ فالبديهيات التي تحيط باللانهاية غالبًا ما تكون غير منطقية.

إن تغييرَ الغرف باستمرارٍ أمر غريب بعض الشيء، مع الوضع في الاعتبار أن كل الغرف متشابهةٌ، وكلها تُرتَّب بعنايةٍ عند وصول نزيلٍ جديدٍ إليها. غير أن النزلاء يحبون الإقامةَ في فندق اللانهاية؛ فتكلفةُ الإقامة به زهيدة — دولار واحد لليلة — ومع هذا فالفندق فاخر للغاية. كيف ذلك؟ عندما تتسلَّمُ الإدارةُ كلَّ يومٍ قيمةَ إيجار كل الغرف المقدَّر بدولارٍ واحدٍ لليلة، فإنها تنفق المبلغ كما يلي: الإيراد المتسلَّم من الغرف رقم ١ إلى رقم ١٠۰۰ يُصرَف على الشمبانيا والفراولة المجانية الترحيبية المقدَّمة للنزيل الذي سيسكن الغرفة رقم ١، وخدمات العناية بهذه الغرفة، وكل المصروفات الأخرى الخاصة بها، وتفعل الأمر نفسه للغرفة رقم ٢ بإيراد الغرف من ١۰۰١ إلى ٢۰۰۰، وهكذا دواليك؛ فتتلقَّى كلُّ غرفةٍ بهذه الطريقة ما قيمته مئات الدولارات من السلع والخدمات كلَّ يوم، وأيضًا تُحقِّقُ إدارةُ الفندقِ ربحًا، وكل هذا مِن إيرادها الذي لا يتعدَّى دولارًا واحدًا لليلة عن كل غرفة.

يَذيع صيتُ الفندق، وفي أحد الأيام يصل إلى المحطة المحلية قطارٌ يمتدُّ طولُه إلى ما لا نهاية، حاملًا عددًا لا متناهيًا من الركاب الذين يرغبون جميعًا في الإقامة بالفندق. سيستغرق أداء عددٍ لا متناهٍ من الإعلانات على الإذاعة الداخلية بالفندق وقتًا طويلًا جدًّا (فضلًا عن أن قواعد الفندق تحدُّ من عدد المرات التي يمكن أن يُطلَب فيها من النزيل تنفيذُ فعلٍ ما في اليوم الواحد)، لكن لا مشكلة؛ إذ تذيع الإدارةُ فقط أن: «على كل نزيلٍ أن يتفضَّل بالانتقال إلى الغرفة التي يساوي رقمها ضعف رقم غرفته الحالية على الفور.» بالتأكيد باستطاعة الكلِّ تنفيذُ ذلك، وبعده ستصبح الغرف المشغولة هي ذاتَ الأعداد الزوجية فقط، مخلِّفةً تلك التي تحمل الأعداد الفردية شاغرةً لاستقبال الوافدين الجدد، وهو ما يكفي بالضبط لاستقبال العدد اللامتناهي من النزلاء الجدد؛ إذ يوجد من الأعداد الفردية بقدر ما يوجد من كل الأعداد الطبيعية، كما هو موضَّح بالشكل ٨-٣.
fig14
شكل ٨-٣: يوجد من الأعداد الفردية بقدر ما يوجد من الأعداد الطبيعية.

ومن ثَمَّ يتَّجِه أولُ الوافدين الجدد إلى الغرفة رقم ١، والثاني إلى الغرفة رقم ٣، وهكذا.

وفي يومٍ من الأيام، يصل إلى المحطة «عددٌ لا متناهٍ» من القطارات اللامتناهية الطول، المليئة كلها بنزلاء يرغبون الإقامة في الفندق، ومع هذا لا يهلع مديروه؛ فما كان منهم سوى أن أذاعوا إعلانًا أعقدَ قليلًا يستطيع القراءُ العارفون بالمصطلحات الرياضية أن يفهموه جيدًا، وذلك على النحو التالي: في البداية تذيع الإدارة على النزلاء الموجودين بالفعل الإعلانَ التالي: «إلى كلِّ عدد طبيعي «ط»، ليتفضَّلِ النزيلُ بالغرفة رقم «ط» بالانتقال فورًا إلى الغرفة رقم ط(ط + ١)/٢.» ثم تعلن: «إلى كل الأعداد الطبيعية «ط» و«ص»، فَلْيتفضَّلِ المسافِرُ رقم «ط» من القطار رقم «ص» بالنزول في الغرفة رقم [(ط + ص)٢ + ط − ص]/٢.» وتكون النتيجة تسكينَ جميع الوافدين.

بَيْدَ أنه من الممكن رياضيًّا استنزافُ سعةِ فندق اللانهاية؛ فلقد كان من ضمن ما أثبَتَ كانتور في سبعينيات القرن التاسع عشر من أشياءَ مهمةٍ أنَّ اللانهايات ليسَتْ كلها متساويةً؛ فلانهاية السلسلة المتصلة — أيْ عدد النقاط في الخط المتناهي (الذي هو نفس عدد النقاط في كل المكان أو الزمكان) — أكبرُ من لانهاية الأعداد الطبيعية، وقد أثبت ذلك بإثباته وجودَ تناظُرٍ أُحاديٍّ بين الأعداد الطبيعية وكلِّ النقاط الواقعة على خط؛ إذ إن لتلك المجموعة من النقاط نظامًا لا متناهيًا أعلى ممَّا لمجموعة الأعداد الطبيعية.

وهاك شكلًا من ذلك الإثبات — الذي عُرِف تحت اسم «الحجة القُطرية». لتتخيَّلْ رزمةً من البطاقات سُمْكُها سنتيمتر واحد، وكلُّ بطاقةٍ في هذه الرزمة رقيقة جدًّا، حتى إن هناك واحدةً عن كل «عدد حقيقي» من السنتيمترات بين العددين ۰ و١. يمكن تعريفُ الأعداد الحقيقية على أنها الأعداد العشرية بين هذين الحدين، كالعدد …۰٫٧٠٧١؛ حيث ترمز علامةُ الحذف إلى أي استكمالٍ لذلك العدد قد يكون لا متناهيَ الطول. يستحيل تعيين بطاقةٍ من تلك الرزمة لكل غرفةٍ في فندق اللانهاية، لكن لنفترِضْ أن البطاقات وُزِّعتْ على هذا النحو «بالفعل»، حينها سنُثبت أن هذا التوزيع يستتبعه تناقضٌ بالضرورة؛ لأنه سيعني أن البطاقات قد تمَّ تعيينها للغرف على نحوٍ يماثل الجدولَ التالي. (لا أهمية للأعداد المذكورة فيه على وجه التحديد؛ لأننا سنُثبت أن الأعداد الحقيقية لا يمكن أن تُعيَّن بأي ترتيب.)

جدول ٨-١: الحجة القُطرية لكانتور.
رقم الغرفة رقم البطاقة
١ … ٠٫٦٧٧۹٧٦
٢ … ۰٫٦۹٤٦۹٨
٣ … ۰٫٣۹۹٢٢١
٤ … ۰٫٢٣٦٦٤٦
انظر إلى التتابع اللامتناهي للأعداد الموضَّحة بالخط العريض، وهو «…٦۹۹٦»، ثم لتتخيَّلْ عددًا عشريًّا مكونًا بحيث يبدأ بالصفر، تليه العلامة العشرية، وتليها الأعداد على أيِّ نحوٍ شريطةَ أن يختلف كلُّ رقمٍ منها عن التتابع اللامتناهي «…٦۹۹٦». يمكننا مثلًا أن نختار العدد «…۰٫٥٨٨٥»، ولا يمكن للبطاقة ذات العدد المكوَّن على النحو الموضَّح أن تُعيَّن لأي غرفة؛ لأن الرقم الأول في هذا العدد يختلف عن الرقم الأول في العدد الخاص بالبطاقة المعيَّنة للغرفة رقم ١، ويختلف الرقم الثاني به عن ذلك الرقم الثاني في العدد الخاص بالبطاقة المعيَّنة للغرفة رقم ٢، وهكذا؛ ومن ثَمَّ فهذه البطاقة تختلف عن كل البطاقات التي عُيِّنَتْ للغرف؛ ممَّا يشير إلى أن الافتراض بأن كل البطاقات عُيِّنت لكل غُرَف الفندق قد أدَّى إلى تناقُض.

تُوصَف اللانهاية بأنها «لانهاية معدودة» عندما تكون من الصِّغَر بحيث يمكن وضْعُها في تناظُرٍ أُحاديٍّ مع الأعداد الطبيعية، وهو وصف غير ملائمٍ لأن أحدًا لا يستطيع أن يعدَّ حتى اللانهاية، غير أنه يشير ضمنًا إلى إمكانية الوصول نظريًّا إلى كل «عنصر» في المجموعة اللامتناهية المعدودة عن طريق عدِّ تلك العناصر بترتيبٍ ما ملائم. أما اللانهايات الأكبر، فتكون «غير معدودة»؛ إذن توجد بين كلِّ حدين واضحين لانهاية غير معدودة من الأعداد الحقيقية. وبالإضافة إلى ما تقدَّمَ، يوجد من ترتيبات اللانهاية ما لا يمكن عدُّه، وجميعها من الضخامة بحيث لا يمكن وضْعُها في تناظُرٍ أُحاديٍّ مع الترتيبات الأدنى منها.

ومن المجموعات غير المعدودة المهمة الأخرى مجموعة كل العمليات الممكنة منطقيًّا لإعادة توزيع النزلاء في غرف فندق اللانهاية (أو كما يُسمِّيها علماءُ الرياضيات: كلُّ «التباديل» الممكنة للأعداد الطبيعية). يمكنك أن تُثبت ذلك بسهولةٍ إذا تخيَّلْتَ أيَّ عمليةٍ واحدةٍ لإعادة توزيع النزلاء محددة في جدول لا متناهي الطول كالجدول التالي:

جدول ٨-٢: تحديد عملية إعادة توزيع النزلاء.
النزيل في الغرفة رقم ينتقل إلى الغرفة رقم
١ ٣٨
٢ ١٧٣
٣ ٨۰
٤ ٣۰

ثم تخيَّلْ كلَّ عمليات إعادة التوزيع الممكنة مدرجةً الواحدة تلو الأخرى في قائمة؛ وبهذا فأنت «تعدُّها». يُثبت تطبيق الحجة القُطرية على هذه القائمة استحالةَ القائمة نفسها، وأن مجموعةَ كلِّ عمليات إعادة التوزيع الممكنة بِناءً على ذلك تكون غير معدودة.

حيث إن إدارة فندق اللانهاية يكون عليها تحديد عملية إعادة توزيع النزلاء من خلال إعلانٍ في إذاعتها الداخلية، فينبغي لذلك التحديد أن يتألَّف من تتابُعٍ متناهٍ من الكلمات، ومن ثَمَّ تتابع متناهٍ من حروفٍ أبجديةٍ ما. ولأن المجموعة التي تحوي تتابعاتٍ كتلك تكون معدودة، فهي تكون أقلَّ على نحوٍ متناهٍ من مجموعة عمليات إعادة التوزيع الممكنة، وهو ما يعني استحالةَ تحديد أكثر من جزءٍ متناهي الصغر من عمليات إعادة التوزيع الممكنة منطقيًّا. إن هذا لقيْدٌ بارزٌ على قدرة إدارة فندق اللانهاية التي تبدو بلا حدودٍ على تغيير غرف النزلاء هنا وهناك؛ إذ تتعذَّر تقريبًا من الناحية المنطقية كافةُ الطرق التي يمكن بواسطتها إعادةُ توزيع النزلاء على الغرف.

يمتلك فندق اللانهاية نظامًا فريدًا للتخلُّص من القُمامة يتَّسِم بالاكتفاء الذاتي؛ ففي كل يوم، تعيد الإدارة أولًا توزيعَ النزلاء على الغرف على نحوٍ يضمن شَغْلها كلِّها، ثم تذيع الإعلان التالي: «على كل نزيلٍ أن يتفضَّل في خلال الدقيقة التالية بحزمِ أكياسِ قُمامته وتسليمها لنزيل الغرفة ذات الرقم الأعلى الذي يلي رقم غرفته، وفي حالة «تسلُّمكم» كيسَ قُمامةٍ في نفس تلك الدقيقة، فرجاءً مرِّروه في نصف الدقيقة التالي لذلك؛ وإذا تسلَّمتم كيسًا في نصف الدقيقة ذلك، فرجاءً مرِّروه في ربع الدقيقة الذي يليه، وهكذا.» يتحتم على النزلاء العمل بسرعةٍ لتنفيذ تعليمات الإعلان، لكن لا يُضطَر أيٌّ منهم للعمل بسرعةٍ «على نحوٍ لا متناهٍ»، أو أن يحمل عددًا لا متناهيًا من الأكياس؛ إذ يؤدِّي كلٌّ منهم عددًا متناهيًا من الأفعال، مثلما تنصُّ قواعد الفندق. وبعد دقيقتين، تتوقَّف كلُّ عمليات نقل القُمامة تلك؛ وبهذا يفرغ ما لدى كلِّ نزيلٍ من قُمامةٍ بعد دقيقتين من البَدء.

اختفَتْ كلُّ قُمامة الفندق من الكون؛ فهي في «اللامكان». لم يضعها أحدٌ في «اللامكان»؛ فلم يفعل كلُّ نزيلٍ سوى أن نقل بعضًا منها إلى غرفةٍ أخرى. يُدعَى «اللامكان» الذي انتهَتْ إليه كلُّ القُمامة — في علم الفيزياء — «التفرُّد»، والتفرُّدات قد تحدث بالفعل في الواقع داخل الثقوب السوداء وغيرها، لكني لن أستطرد؛ فنقاشنا في اللحظة الراهنة ما زال يدور حول الرياضيات لا الفيزياء.

يعمل بالطبع في فندق اللانهاية عددٌ لا متناهٍ من العاملين، وكلُّ نزيلٍ يختصُّ بخدمته مجموعةٌ منهم، إلا أن العاملين أنفسَهم يُعامَلون كالنزلاء في الفندق؛ فيسكنون في غرفٍ مرقَّمةٍ ويتمتعون بنفس المزايا التي يحصل عليها أيُّ نزيل، ويحظى كلٌّ منهم بمَن يهتمُّ برعايته من عاملين غيره، ومع ذلك لا يُسمَح لهم بتوكيل أولئك لأداء عملهم بدلًا منهم؛ لأن ذلك لو حدث، فسيتوقف العمل في الفندق تمامًا. إن اللانهاية ليست سحرًا، بل لها قواعد منطقية؛ وهذا هو بيت القصيد وراء تجربة فندق اللانهاية الفكرية برُمَّتها.

fig15
شكل ٨-٤: نظام التخلُّص من القُمامة في فندق اللانهاية.

إن تفويض العاملين لغيرهم من سكان الغرف الأعلى ترقيمًا لأداء عملهم بدلًا منهم ليس سوى فكرةٍ خاطئةٍ تُدعَى «الارتداد اللامتناهي»، وهي أحد الأمور التي لا يستطيع المرءُ تطبيقَها على اللانهاية على نحوٍ صحيح. ثَمَّةَ مزحة قديمة عن شخصٍ كان دائم المقاطعة، حين قاطَعَ إلقاءَ محاضرةٍ في علم الفيزياء الفلكية ليُصِرَّ على أن الأرض مسطحةٌ تستند إلى ظهرِ أفيالٍ تقف على سلحفاةٍ بالغة الضخامة، فسأله المحاضر: «وإلامَ تستند السلحفاة؟» فأجاب المقاطع: «سلحفاةٍ أخرى.» فسأله المحاضر: «وإلامَ تستند تلك السلحفاة الأخرى؟» فأجاب المقاطع بنبرة انتصارٍ قائلًا: «ليس بإمكانك خداعي، لا شيء سوى السلاحف من هناك نزولًا إلى أسفل.» إن هذه النظرية تفسير سيئ، ليس لفشلها في تفسير كل شيء (فما من نظريةٍ تقوم بذلك)، ولكن لأنَّ ما تركَتْه بلا تفسيرٍ هو في واقع الأمر ما تزعم أنها تُفسِّره في الأساس. (من الأمثلة الأخرى على الارتداد اللانهائي النظريةُ التي ترى أنه يوجد مَن صمَّم مصمِّمَ المحيط الحيوي، وهكذا إلى ما لا نهاية.)

حدث في أحد الأيام في فندق اللانهاية أن تسلَّلَ جرْوُ أحدِ النزلاءِ الأليفُ إلى داخل كيس قُمامة، ولم يلحظ صاحبُ الجرْوِ ما حدث، ومرَّرَ كيسَ القُمامة وبداخله الجرْوُ إلى الغرفة التي تليه.

fig16

صار الجرو في غضون دقيقتين في اللامكان، هاتَفَ صاحِبُه المذهول مكتبَ الاستقبال، فأعلن موظفُ الاستقبال في الإذاعة الداخلية: «نأسف للإزعاج، ولكن حدث أن أُلقِي متعلق قيِّم في القُمامة عن غير قصد؛ على جميع النزلاء التفضُّل بإلغاء كافة عمليات نقل القُمامة التي أتَمُّوها لتوِّهم، وأن يؤدُّوها على نحوٍ عكسيٍّ بمجرد تسلُّمهم كيسَ قُمامة من الغرفة المجاورة ذات الرقم الأعلى برقم واحد.»

لم يُجْدِ الإعلان؛ إذ إن أحدًا من النزلاء لم يُعِدْ أيَّ كيسٍ لأن جيرانه في الغرف الأعلى ترقيمًا لم يفعلوا كذلك. لم نبالغ حين قلنا إن الأكياس في اللامكان، هي لم تُكدَّس في غرفةٍ خياليةٍ اسمها «الغرفة رقم لانهاية»، لكنها لم تَعُدْ موجودةً، لا هي ولا الجرو؛ كان كل ما حدث للجرو أنه نُقِل إلى غرفةٍ ذات رقمٍ مختلفٍ داخل الفندق، إلا أنه ليس في أي غرفة، ولا في أي مكانٍ بالفندق، ولا في أي مكانٍ على الإطلاق. لو نقلتَ شيئًا من غرفةٍ إلى أخرى في فندقٍ متناهي الغُرَف باتِّبَاع أيِّ نمطٍ مهما بلغ من تعقيدٍ، لَانتهى به الأمرُ قابعًا في واحدةٍ من تلك الغرف، لكن الأمر يختلف حين يكون عددُ الغرف لا متناهيًا. لم ينطوِ أيُّ فعلٍ أدَّاه النزلاء على أي إيذاءٍ للجرو، كما كانت كلُّها أفعالًا قابلةً للعكس، ولكنها حينما اجتمعَتْ قضَتْ على الجرو وبات من غير الممكن عكسها.

لا يمكن أن ينجح عكس تلك الأفعال؛ لأنه لو نجح، لما كان هناك تفسيرٌ للسؤال: لماذا وصل إلى غرفة مالك الجرو جروٌ لا قِط؟ لو وصل الجرو إلى غرفة صاحبه بالفعل، لَكان تفسيرُ ذلك بالضرورة أنَّ جرْوًا قد مُرِّرَ من الغرفة التالية الأعلى رقمًا، وهكذا دواليك، غير أن هذا التتابُعَ اللامتناهي من التفسيرات لن يتطرَّق إلى تفسير: «لماذا جرو بالذات؟» إن ذلك ارتداد لا متناهٍ.

ماذا لو وصل في يومٍ ما جرْوٌ إلى الغرفة رقم ١، بعد أن مُرِّرَ من سائر الغرف الأخرى؟ ليس ذلك بمستحيلٍ منطقيًّا؛ إنما هو فقط أمر يفتقر إلى تفسير. يُعرَف «اللامكان» الذي قد يأتي منه جرْوٌ كذاك في الفيزياء باسم «التفرُّد المجرد». تظهر التفردات المجردة في بعض النظريات التدبُّرية في الفيزياء، ولكن تلك النظريات تُنتقَد على أساسٍ صحيحٍ هو عدم قدرتها على التنبُّؤ. وقد عبَّر هوكينج عن ذلك قائلًا ذات مرة: «قد تظهر (من تفرُّد مجرد) أجهزةُ تليفزيون.» لو كان ثَمَّةَ قانونٌ من قوانين الطبيعة يُحدِّد ما ينتج عن تلك التفردات لَاختلَفَ الأمرُ؛ إذ لن يوجد عندئذٍ ارتداد لا متناهٍ، ولن يكون التفرُّد «مجردًا». ربما كان الانفجار العظيم تفرُّدًا من ذلك النوع المحمود نسبيًّا.

لقد قلتُ إن الغرف في فندق اللانهاية متطابقة، إلا أنها تختلف في شأنٍ واحدٍ هو أعدادها؛ لذا عندما نأخذ طبيعة المهام التي تطلبها الإدارة من النزلاء من وقتٍ لآخَر في الاعتبار، نجد أن الغرف ذات الأعداد الأقل هي الأكثر جاذبيةً؛ فمثلًا: يحظى نزيلُ الغرفة رقم ١ بمزيَّةٍ فريدةٍ، هي أنه لا يُضطر أبدًا للتعامل مع قُمامة غيره من النزلاء؛ وعليه يشعر مَن ينتقل للإقامة بالغرفة رقم ١ وكأنه فاز باليانصيب، ويشعر المنتقل إلى الغرفة رقم ٢ بشعورٍ مماثلٍ بدرجةٍ أقل قليلًا، لكنَّ «كلَّ» نزيل يملك رقم غرفةٍ قريبًا من البداية على نحوٍ غير عادي؛ لذا فكلُّ نزيل يمتاز عن سائر النزلاء الآخَرين تقريبًا. إن وعْدَ الساسةِ التقليدي بالمساواة بين «الجميع» قابلٌ للتحقُّق في فندق اللانهاية.

إن كل غرفةٍ تقع في بداية اللانهاية، وهذا من سمات النمو اللامحدود للمعرفة أيضًا؛ فكلُّ ما نفعل هو البدء في استكشاف الأمور فقط، ولن نفعل ما عدا ذلك أبدًا.

لذا، فلا يوجد ما يُدعَى «رقم غرفة تقليدي» في فندق اللانهاية؛ لأن كلَّ رقمِ غرفةٍ قريبٌ من البداية قربًا غير عادي، والفكرةُ البديهية بضرورة وجود عناصر «تقليدية» أو «عادية» في أي مجموعةٍ من القِيَم لا تنطبق على المجموعات اللامتناهية، ويصحُّ الأمر نفسُه على الأفكار البديهية عن وجود ما هو «نادر» وما هو «شائع». قد نعتقد أن نصْفَ الأعدادِ الطبيعية فرديٌّ ونصفها الآخَر زوجيٌّ؛ مما يعني شيوع كلا النوعين شيوعًا متساويًا بين الأعداد الطبيعية، لكن تأمَّلْ إعادةَ الترتيب في الشكل ٨-٥.

إن هذا يجعل الأعدادَ الفردية تبدو أقلَّ شيوعًا من الزوجية بمقدار النصف. يمكننا بنفس الكيفية أن نجعل نسبةَ الأعداد الفردية تبدو كأنها لا تتجاوز واحدًا في المليون أو أيَّ نسبةٍ أخرى؛ ومن ثَمَّ لا ينطبق أيضًا بالضرورة المفهومُ البديهي عن وجود «نسبةٍ» من عناصر مجموعةٍ ما على المجموعات اللامتناهية.

أرادَتْ إدارةُ فندقِ اللانهاية أن ترفع معنوياتِ النزلاء بعد حادث خسارةِ الجرْو المروِّع، فأعَدَّتْ مفاجأةً؛ إذ أعلنَتِ الإدارةُ أن كلَّ نزيلٍ سيتسلَّم نسخةً مجانية من هذا الكتاب أو من كتابي السابق «نسيج الواقع»، وستوزِّعها على النحو التالي: سترسل نسخةً من الكتاب الأقدم إلى واحدةٍ من كل مليون غرفة، ونسخةً من الكتاب الأحدث إلى باقي الغرف.

لتفترض أنك نزيل بالفندق، وأن كتابًا — ملفوفًا في ورق هدية لا يشفُّ عمَّا بداخله — قد أُرسِل إلى مزلق التوصيل الخاص بغرفتك. إنك تأمل أن يكون نسخةً من الكتاب الأحدث؛ فلقد قرأتَ الكتابَ الأقدم بالفعل، بل إنك شبه واثقٍ بأنه سيكون الأحدث؛ إذ ما هي احتمالات أن تكون غرفتُك واحدةً من تلك التي سيصلها الكتاب القديم على أي حال؟ بالضبط، واحد في المليون، على ما يبدو.

fig17
شكل ٨-٥: إعادة ترتيب للأعداد الطبيعية تجعلها تبدو وكأنَّ ثلثها فقط فرديٌّ.

لكن الإدارة أذاعَتْ إعلانًا آخَر قبل أن تواتيَك الفرصةُ لإماطة الغلاف عن الهدية، فطلبَتْ من كل نزيلٍ الانتقالَ إلى الغرفة المدوَّن رقمُها على بطاقةٍ ستصله عبر مزلق التوصيل، وذكَرَ الإعلانُ كذلك أن هذا التوزيع الجديد سينقل كلَّ مُتسلِّمي أحد الكتابين إلى غرفٍ ذات أعدادٍ فردية، وكلَّ مُتسلِّمي الكتاب الآخَر إلى غرفٍ ذات أعدادٍ زوجية، لكنه لم يذكر أيَّ مجموعةٍ ستسكن هذه أو تلك، إذنْ أنت لا تستطيع أن تحدِّد — بواسطة رقم غرفتك الجديد — أي الكتابين بحوزتك. وبالطبع، لا توجد أي مشكلةٍ في إشغال الغرف على هذ النحو: فلكلا الكتابين عددٌ لا متناهي الكِبَر من المستلمين.

تصلك بطاقتُك فتنتقل إلى غرفتك الجديدة. هل تزحزحَتْ ثقتُكَ الآن بشأن أي الكتابين استلمتَ؟ من المفترض ألَّا يحدث ذلك، فعلى حسب منطقك السابق لا تزيد فرصةُ حصولِك على هذا الكتاب الآن عن واحدٍ من كل اثنين؛ لأنه الآن في نصف الغرف. إن في هذا لتناقضًا يشير إلى أن أسلوبك لتقييم تلك الاحتمالات لا بد أنه خاطئ، بل إن كل أساليب تقييمها خاطئة بالضرورة؛ فحسبما يبيِّنُ المثالُ لا يوجد في فندق اللانهاية احتمالُ أن يصلك هذا الكتابُ أو ذاك.

ليس هذا بالأمر المهم من المنظور الرياضي؛ لأن المثال يبيِّن مجددًا فحسب أن وصْفَ العناصر بالمحتمَلة أو غير المحتمَلة، أو النادرة أو الشائعة، أو التقليدية أو غير التقليدية؛ هو وصف يخلو من أي معنًى عند المقارنة بين المجموعات اللامتناهية من الأعداد الطبيعية.

بَيْدَ أن تناوُلَ تلك النتيجة من منظورٍ فيزيائيٍّ يزفُّ أخبارًا سيئةً للحجج المؤيدة للمبدأ الإنساني. فَلْتتخيَّلْ مجموعةً لا متناهيةً من الأكوان تحكمها جميعًا نفسُ قوانين الفيزياء باستثناء ثابتٍ فيزيائيٍّ معيَّنٍ، سنُسمِّيه «د»، تختلف قيمتُه في كل كون. (تقتضي الدقة أن نتخيَّلَ مجموعةً لا متناهيةً غير معدودةٍ من الأكوان كرزمة البطاقات السابقة الإشارةُ إليها، لكنَّ هذا سيزيد من تعقيد المشكلة التي أُوشِكُ أن أصفها؛ لذا فَلْنُبقِ الأمورَ بسيطةً إذن.) ثم لتفترِضْ وجودَ مجموعةٍ لا متناهية الكبر من تلك الأكوان لها قِيَم «د» تُنتج علماء فيزياء فلكية، وكذلك وجود مجموعةٍ أخرى مثلها لا تُنتج هؤلاء العلماء، ثم لنُرقِّمِ الأكوانَ بحيث يكون للتي فيها علماءُ فيزياء فلكية أعداد زوجية، ولغيرها ممَّا تخْلُو منهم أعداد فردية.

لا يعني هذا أنَّ نِصف الأكوان يحتوي على علماء الفيزياء الفلكية؛ لأننا نستطيع وصْفَ الأكوان على نحوٍ يجعل واحدًا من كل ثلاثة — أو واحدًا من كل تريليون — منها يحتوي أو لا يحتوي عليهم، تمامًا كما فعلنا في فندق اللانهاية؛ من هنا يتضح أن ثَمَّةَ خطأً ما في التفسير الإنساني لمشكلة الضبط الدقيق؛ إذ يمكن أن نستبعده تمامًا بإعادة وصف الأكوان فحسب، كما نستطيع أن نُرقِّمَها ترقيمًا يجعل وجودَ علماء الفيزياء يبدو هو القاعدة، أو الاستثناء، أو أي درجة بينهما.

والآن، افترِضْ أننا حسبنا احتمالاتِ انبثاقِ علماء الفيزياء الفلكية بواسطة قوانين الفيزياء ذات الصلة وباستخدام قِيَم «د» مختلفة، فوجدنا أن فرصَ انبثاقهم في الأكوان التي قيمةُ «د» فيها خارجَ النطاق، الذي هو مثلًا من ١٣٧ إلى ١٣٨، ضئيلةٌ جدًّا: واحد لكل تريليون كون. أما داخل هذا النطاق، فواحد فقط من كل تريليون كونٍ لا يحتوي على علماء فيزياء فلكية، وأن كل الأكوان تحتوي عليهم عند القِيَم من ١٣٧٫٤ حتى ١٣٧٫٦. دَعْني أؤكِّد أننا لا نفهم عمليةَ تكوُّن علماء الفيزياء الفلكية على أرض الواقع فهمًا كافيًا لحساب مثل تلك الأعداد، وربما لن نصل إلى ذلك الفهم أبدًا كما سأشرح في الفصل التالي. لكن سواءٌ أستطعنا أن نحسبها أم لم نستطع، سيتمنَّى المنظِّرون الإنسانيون أن يترجموا تلك الأعدادَ بما يعني أننا لو قِسْنا «د»، لما وجدنا «على الأرجح» أيَّ قِيَمٍ خارجَ النطاق الذي يتراوح من ١٣٧ إلى ١٣٨. لكن تلك الأعداد لا تعني ذلك بالمرة؛ لأننا نستطيع وصف الأكوان من جديد (كما لو خلطنا رزمةَ «البطاقات» اللامتناهية) بما يقلب المسافاتِ بين تلك القِيَم رأسًا على عقب، أو على أي نحوٍ آخَر نرغب فيه.

لا يمكن أن تقوم التفسيراتُ العلمية على كيفية اختيارنا لتصنيف الكيانات المشار إليها في النظرية؛ لذا لا يستطيع المنطق الإنساني وحده أن يُنتج أي تنبؤات؛ ولذلك ذكرتُ في الفصل الرابع كيف يفشل هذا المنطق في تفسير الضبط الدقيق للثوابت الفيزيائية.

اقترح عالِمُ الفيزياء لي سمولين صورةً مختلفةً وعبقريةً للتفسير الإنساني تعتمد على حقيقة أن الثقوب السوداء تستطيع — طبقًا لبعض نظريات الجاذبية الكمية — أن تُنتج كونًا جديدًا بالكامل بداخلها. يفترض سمولين أن تكون لتلك الأكوان الجديدة قوانينُ فيزيائيةٌ مختلفة، وربما متأثِّرة كذلك بالظروف في الكون الأصلي. بعبارةٍ أكثر تحديدًا: ربما استطاعَتْ كائناتُ الكونِ الأصلي الذكية أن تؤثِّرَ على الثقب الأسود ليُنتج أكوانًا جديدة ذات قوانين فيزيائية أنسب لها. غير أن ثَمَّةَ مشكلةً تعتري هذا النوع من التفسيرات (التي تندرج تحت علم الكون التطوُّري) وهي: كَمْ كونًا وُجِد منذ البداية؟ لو كان عددُها لا متناهيَ الكبر، لَبقيَتْ لنا مشكلةٌ أخرى هي كيفية عدِّها، كما أن حقيقة أن كل كونٍ يحتوي على علماء فيزياء فلكية قد تنتج عنه أكوانٌ أخرى تُماثله، لا تزيد وحدها بالضرورة من إجمالي «نسبة» مثل هذه الأكوان زيادةً بارزةً. أما لو لم يوجد كونٌ أول أو أكوان أُولى، وكانت المجموعةُ بالكامل موجودةً بالفعل منذ زمن لا متناهٍ، لَاعترَتْ نظريةَ سمولين مشكلةُ الارتدادِ اللامتناهي؛ لأن المجموعة برُمَّتها — حسبما أوضح عالِمُ الكون فرانك تيبلر — لا بد أنها قد استقَرَّتْ في حالتها المتوازنة «منذ زمنٍ لا متناهٍ مضى»؛ مما يعني أن التطوُّر الذي أدَّى إلى ذلك التوازن — وهو نفس العملية التي يُفترَض أن تُفسِّر الضبط الدقيق — «لم يحدث قطُّ» (تمامًا مثلما أن الجرْو موجود في اللامكان). لو وُجِد في البداية كونٌ واحد أو عددٌ متناهٍ من الأكوان، لَبقيَتْ لنا إشكاليةُ الضبط الدقيق في الكون الأول/الأكوان الأولى: هل كان بها علماءُ فيزياء فلكية؟ على الأرجح لا، لكن لو كانت الأكوان الأصلية أنتجَتْ سلسلةً هائلةً من أسلافها إلى أنِ احتوى أحدُها — بالصدفة — على علماء فيزياء فلكية، لَمَا فسَّرَ ذلك السببَ خلفَ سماحِ النظام بأكمله — الذي يعمل الآن بقانونٍ فيزيائيٍّ واحدٍ تتغيَّر فيه «الثوابتُ» طبقًا لقوانين الطبيعة — لتلك الآلية المناسِبة لانبثاق هؤلاء العلماء بالحدوث، ولَمَا وُجِد تفسيرٌ إنساني لتلك المصادفة.

فعلَتْ نظريةُ سمولين الشيءَ الصحيح؛ إذ تقترح إطارًا جامعًا لمجمل الأكوان، بالإضافة إلى صلاتٍ فيزيائيةٍ فيما بينها، غير أن هذا التفسير يربط فقط بين الأكوان الناشئة و«الأصلية»، وهذا غير كافٍ؛ لذا فهو تفسير سيئ.

لكن لنفترِضِ الآنَ أننا سنروي أيضًا قصةً عن الحقيقة تصل بين تلك الأكوان بأسرها، وتعطي معنًى فيزيائيًّا مفضلًا لإحدى طرق وصفها. هاك القصة: توجد فتاةٌ تُدعَى لايرا وُلِدت في الكون ١، وقد اكتشفَتْ جهازًا يستطيع نقْلَها إلى أكوانٍ أخرى، كما أنه يُبقيها على قيد الحياة في كرةٍ صغيرةٍ داعمةٍ للحياة، حتى في الأكوان التي لا تدعم قوانينُ الفيزياء بها الحياةَ. تتحرك لايرا من كونٍ إلى آخَر «بترتيبٍ ثابتٍ ومحدَّد»، وعلى فتراتٍ تستغرق دقيقةً واحدةً بالضبط ما دامَتْ ضاغطةً على زرٍّ بعينه في الجهاز، وبمجرد أن تتوقَّف عن الضغط تعود إلى مسقط رأسها الكوني. دَعْنا نَصِفِ الأكوانَ على النحو ١، و٢، و٣ وهكذا، وعلى النسق الذي يزورها به جهازُ لايرا.

تتزوَّد لايرا في رحلتها أحيانًا بأداتَيْ قياس؛ إحداهما تقيس الثابتَ الفيزيائي «د»، والأخرى تستكشف وجودَ علماء فيزياء فلكية في الكون محل الزيارة، وكأنَّ تلك الأخيرة مشروعُ بحثٍ عن ذكاءٍ خارج كوكب الأرض، وإنما أسرع وأدق. تأْملُ الفتاةُ أن تختبرَ تنبؤاتِ المبدأ الإنساني.

لكن لايرا لا تستطيع سوى أن تزور عددًا متناهيًا من الأكوان، ولا تملك وسيلةً تُحدِّد بها ما إذا كانت تلك الأكوانُ ممثِّلة للمجموعة اللامتناهية بأكملها أم لا، إلا أن جهازها به إعدادٌ آخَر تستطيع عند تشغيله أن تزور الكونَ ٢ لدقيقةٍ واحدة، ثم الكون ٣ لنصف دقيقة، ثم الكون ٤ لربع دقيقة، وهكذا. فإذا لم تتوقَّف عن الضغط عن الزر بعد مرور دقيقتين، فستكون قد زارت كل الأكوان في المجموعة اللامتناهية؛ وهو ما يعني في هذه القصة سائر أكوان الوجود. يعيدها الجهازُ بعد ذلك تلقائيًّا إلى الكون ١، وإذا ضغطَتِ الزرَّ مرةً أخرى، فستبدأ رحلتها مجدَّدًا إلى الكون ٢.

تمرق أغلبُ الأكوان بسرعةٍ عاتيةٍ لا تسمح للايرا بأن تراها، لكنَّ أداتَي القياس اللتين تستخدمهما لا تحدُّ قدرتَهما قيودُ الحواس الإنسانية ولا قوانينُ فيزياء عالمنا؛ فبمجرد تشغيلهما، تبدأ شاشاتهما في عرضٍ مستمرٍّ لمتوسط قِيَم «د» في كل الأكوان التي تزورانها بصرف النظر عن الفترة الزمنية التي تستغرقها الزيارةُ؛ فعلى سبيل المثال: إذا احتوَتِ الأكوانُ الزوجية الرقم على علماء فيزياء فلكية ولم تحتوِ عليهم الأكوان الفردية الرقم، فإنَّ جهازَها الشبيه بأداة البحث عن ذكاءٍ خارجَ كوكب الأرض في نهاية الرحلة التي مدتُها دقيقتان والتي مرَّ فيها بكل الأكوان؛ سيعرض على شاشته ٠٫٥؛ إذن، يصحُّ في هذه الحالة القولُ بأن نصف الأكوان بالوجود المتعدِّد الأكوان ذاك تحتوي على علماء فيزياء فلكية.

يمكن التوصُّلُ إلى قيمةٍ مختلفةٍ لتلك النسبة باستخدام جهازٍ للتنقُّل بين نفس الأكوان، لكنه يزورها بترتيبٍ مغاير. لكن لنفترِضْ أنَّ قوانين الفيزياء لا تسمح بزيارة الأكوان إلا بترتيبٍ واحدٍ فقط (مثلما لا تسمح لنا قوانينُ فيزياءِ كونِنا بأن نكون في أزمانٍ مختلفةٍ إلا بترتيبٍ واحدٍ ومحدَّد)؛ حيث إنَّ أداتَيِ القياس عندئذٍ لا تملكان إلا طريقةً واحدةً للاستجابة للمتوسطات والقِيَم التقليدية وغير ذلك، فيستطيع أيُّ عاملٍ رشيدٍ في تلك الأكوان أن يصل دائمًا إلى نتائجَ متَّسِقةٍ عند دراسته للاحتمالات، ولمدَى ندرةِ أو شيوع أي شيء، أو كثافته أو تناثُره، أو إذا ما كان تقليديًّا أو غير تقليدي، أو كان يعكس ضبطًا دقيقًا أو لا؛ وعليه، يستطيع المبدأُ الإنساني الآنَ أنْ يُقدِّم تنبؤاتٍ تتَّسِم بالاحتمالية وبالقابلية للاختبار.

أصبَحَ كلُّ ذلك ممكنًا لأن تلك المجموعة اللامتناهية من الأكوان ذات القِيَم المختلفة للثابت «د» لم تَعُدْ مجموعةً، وإنما باتَتْ كيانًا فيزيائيًّا واحدًا هو وجودٌ متعدِّدُ الأكوان ذو تفاعلاتٍ داخليةٍ (استفاد منها جهاز لايرا) تصل بعضَ أجزائه ببعضٍ لتقدِّمَ بذلك معنًى فريدًا — يُعرَف ﺑ «القياس» — للنِّسَب والمتوسطات في الأكوان المختلفة.

لم تقدِّم أيٌّ من نظريات المنطق الإنساني التي طُرِحت لتفسير إشكاليةِ الضبط الدقيق أيَّ قياسٍ كذاك؛ إذ لا يزيد معظمُها عن كونه تخميناتٍ على شاكلة: «ماذا لو كانت توجد أكوانٌ ذاتُ ثوابتَ فيزيائيةٍ مختلفة؟» لكن هناك نظرية فيزيائية واحدة تصفُ بالفعل وجودًا متعدِّدَ الأكوان ولكن لأسبابٍ مستقلة؛ فكلُّ أكوانه لها نفسُ قِيَمِ الثوابت الفيزيائية، ولا تشمل التفاعُلاتُ فيما بين تلك الأكوانِ الترحالَ ولا القياسَ فيما بينها، ولكنها قدَّمَتْ قياسًا للأكوان. تلك النظرية هي نظرية الكم، التي سأتناولها بالنقاش في الفصل الحادي عشر.

كان كانتور أولَ مَن عرف اللانهاية من خلال تناظُرٍ أُحادي فيما بين مجموعةٍ ما وجزءٍ منها، وهو التعريف الذي يتصل اتصالًا غير مباشِرٍ فحسب بالأسلوب البديهي الدارج الذي فَهِمَ به غيرُ الرياضيين اللانهايةَ في ذلك الحين وإلى الآن؛ وهو أن لفظ «لا متناهٍ» يعني «أكبر من أي تركيبةٍ متناهيةٍ من الأشياء المتناهية». إن هذه الفكرة الدارجة تكاد تدحض نفسها إذا لم تتوافر لدينا فكرةٌ مستقلةٌ عمَّا يجعل الشيءَ «متناهيًا»، وما يجعل «تركيبةً» ما متناهية. ستكون الإجابة البديهية عن هذا التساؤل بشريةَ التمركُز كالآتي: يكون الشيء متناهيًا بالضرورة إذا استطاعَتْ تجربةٌ بشرية — من حيث المبدأ — الإلمامَ به أو إدراكَه. لكن ما معنى أن نختبر أمرًا ما؟ هل اختبر كانتور اللانهايةَ عندما أثبَتَ نظرياتٍ عنها؟ أم هل كان ما اختبره هو رموزًا فحسب؟ إننا لا نختبر إلا الرموزَ فحسب.

بوسعنا أن نتجنَّب مركزيةَ البشر هذه إذا اعتمدنا على أدوات القياس؛ فأيُّ كميةٍ لا تُعد لا متناهيةً ولا لا متناهيةَ الصِّغَر إذا استطاعَتْ أداةُ قياسٍ ما من حيث المبدأ أن تدوِّنَ قراءةً لها، إلا أن هذا التعريف قد يصنِّفُ كميةً ما باعتبارها كميةً متناهيةً، حتى إذا كان التفسيرُ الضمني لها يستند إلى مجموعةٍ لا متناهيةٍ بالمعنى الرياضي. عندما يتحرَّك مؤشِّرُ أداةَ القياس لعرضِ قراءةِ نتيجةِ قياسٍ ما لمسافة سنتيمتر واحد، يكون قد تحرَّكَ لمسافةٍ متناهية، ولكن هذه المسافة المتناهية تتألَّف من مجموعةٍ لا متناهيةٍ غير معدودةٍ من النقاط. إن هذا أمر وارد لأن «النقاط» وإن كانت جزءًا من التفسيرات ذات المستوى الأدنى لِما يحدث، فإن «عددها» لا يظهر أبدًا في التنبؤات، والفيزياء لا تتعامل مع عدد النقاط وإنما مع المسافات. بهذه الكيفية، استطاع نيوتن ولايبنتس أن يستخدِمَا مسافاتٍ لا متناهيةَ الصِّغَر لتفسير كمياتٍ فيزيائيةٍ مثل السرعة اللحظية، بينما ليس ثَمَّةَ ما هو لا متناهٍ أو لا متناهي الصِّغَر بالمعنى الفيزيائي في الحركة المستمرة لقذيفةٍ ما مثلًا.

إن إذاعة إدارة فندق اللانهاية لإعلانٍ متناهٍ عبر إذاعتها الداخلية هي عملية متناهية، مع أنها تُسبِّب تحوُّلًا يستتبعه عددٌ لا متناهٍ من الأحداث في الفندق. ومن ناحيةٍ أخرى، لا يمكن إجراءُ معظم التحولات الممكنة منطقيًّا إلا بإذاعة عددٍ لا متناهٍ من تلك الإعلانات، لكن قوانين الفيزياء في عالمها لا تسمح بذلك. تذكَّر أن أحدًا بالفندق لا يمكن أن يقوم بعددٍ لا متناهٍ من الأفعال، سواءٌ أكان من النزلاء أم من العاملين. بالمثل، تستطيع أيُّ أداةِ قياسٍ في الوجود المتعدِّد الأكوان للايرا أن تُسجِّل متوسطَ عددٍ لا متناهٍ من القِيَم في رحلةٍ متناهيةٍ تستغرق دقيقتين؛ هذه إذنْ عملية متناهية فيزيائيًّا في ذلك العالم، ولكنَّ تسجيلَ «متوسطِ قِيَم» نفس المجموعة اللامتناهية بزيارتها بترتيبٍ مختلفٍ سيتطلَّب عددًا لا متناهيًا من الرحلات، وهو من المستحيلات في ظل قوانين الفيزياء تلك هو أيضًا.

تُقرِّر قوانينُ الفيزياء وحدها ما هو المتناهي في الطبيعة، ولطالما أدَّى الفشلُ في إدراك هذه الحقيقة إلى الالتباس. من أقدم الأمثلة على ذلك مفارقاتُ زينون الإيلي؛ ومنها مفارقة أخيل والسلحفاة، التي استطاع فيها زينون أن ينتهيَ إلى أنه يستحيل على أخيل اللحاق بالسلحفاة — في سباقٍ بينهما — لأنه حينما يصل إلى النقطة التي بدأَتْ منها السلحفاةُ، ستكون الأخيرة قد مضت قدمًا لمسافة صغيرة، وحينما يصل إلى النقطة الجديدة التي وصلَتْ لها تكون قد تحرَّكَتْ لنقطةٍ أبعد، وهكذا إلى ما لا نهاية؛ ومن ثَمَّ تتطلَّب عمليةُ «اللحاق» من أخيل تأديةَ عددٍ لا متناهٍ من خطوات اللحاق بالسلحفاة في حيِّزٍ زمنيٍّ متناهٍ، وهو الأمر «المفترض» فيه أنه لا يستطيع تنفيذه؛ لكونه كائنًا بشريًّا متناهيًا.

هل ترى ما فعله زينون في تلك المفارَقة؟ لقد «افترَضَ» أن الفكرة الرياضية التي يتصادف أن تحمل اسمَ «اللانهاية» تحدِّد بوضوحٍ الفارقَ بين المتناهي واللامتناهي فيما يرتبط بهذا الموقف الفيزيائي، وهو ببساطةٍ افتراض خاطئ؛ فلو كانت شكوى زينون هي لامعقوليةَ فكرة «اللانهاية» بمعناها الرياضي، لَكان علينا أن نُحيله إلى كانتور الذي بيَّنَ معقوليتَها، وإن كانت شكواه هي لامعقوليةَ لحاقِ أخيل بالسلحفاة باعتباره حدثًا فيزيائيًّا، فهو إذنْ يزعم أن قوانين الفيزياء تتضارب فيما بينها، وهو أمر بالطبع غير صحيح. ولكن إذا كانت شكواه تدور حول تضارُبِ أمرٍ ما فيما يتعلَّق بالحركة، لأن المرء لا يستطيع أن «يَختبر» كلَّ نقطةٍ في طريقٍ متصل، فهو ببساطةٍ يخلط بين أمرين مختلفين يتصادف أن يحمل كلٌّ منهما اسمَ «اللانهاية». إن أسوأ ما في مفارقات زينون هو هذا الخطأ.

لا يمكن استنتاج ما يستطيع أو لا يستطيع أخيل أن يفعله من خلال الرياضيات؛ فذاك أمر يعتمد فقط على ما تُقرِّره قوانينُ الفيزياء ذات الصلة؛ فلو قرَّرَتْ تلك القوانينُ أنه سيتغلَّب على السلحفاة في لحظةٍ بعينها لَفعَلَ. ولو تطلَّبَ ذلك تأديةَ عددٍ لا متناهٍ من خطوات «الانتقال إلى موقعٍ معين»، لَكان لزامًا أن تحدث تلك الخطوات. ولو تطلَّبَ الأمرُ مرورَه بمجموعةٍ لا متناهيةٍ غير معدودةٍ من النقاط، لَتعيَّنَ عليه ذلك؛ ولكن لم يحدث أيُّ شيءٍ لا متناهٍ من الناحية الفيزيائية.

في ضوء هذا، نرى كيف أن قوانين الفيزياء لا تُحدِّد فحسب الفارقَ بين النادر والشائع، أو المحتمَل وغير المحتمَل، أو بين ما يعكس ضبطًا دقيقًا وما لا يعكس ذلك، وإنما أيضًا بين المتناهي واللامتناهي؛ فكما قد نرى مجموعةَ الأكوان تعجُّ بعلماء الفيزياء الفلكية عند قياسها بمجموعةٍ ما من قوانين الفيزياء، وقد نراها شبهَ خاويةٍ منهم بقياسها بمجموعةٍ أخرى، يمكن لتتابُعٍ ما من الأحداث أن يكون متناهيًا أو لا متناهيًا تبعًا لما تكون عليه قوانين الفيزياء.

تكرَّرَ الخطأ الذي ارتكبه زينون عند تناوُلِ تجريداتٍ رياضيةٍ عديدةٍ أخرى. يكمن ذلك الخطأ — بصفةٍ عامة — في الخلط بين صفةٍ مجردةٍ وأخرى فيزيائيةٍ تحملان الاسم نفسه. ولما كان من الممكن إثباتُ النظريات فيما يتعلَّق بالصفة الرياضية — بما لها من وضْعٍ باعتبارها حقائقَ حتميةً — فسيخطئ مَن يفترض أنه يمتلك المعرفةَ السابقة عمَّا ستقرِّره قوانينُ الفيزياء عن الصفة الفيزيائية.

نجد أحد الأمثلة الأخرى على ذلك الخطأ في علم الهندسة الرياضية؛ فلِقرونٍ طويلةٍ لم يكن هناك فارقٌ واضح يُميِّز بين وضع هذا العلم باعتباره نظامًا رياضيًّا ووضعه باعتباره نظريةً فيزيائية. في البداية، لم يؤدِّ عدمُ وجود ذلك الفارق إلى أيِّ ضررٍ كبير؛ إذ لم يكن لباقي فروع العلم ما تحلَّتْ به الهندسةُ الرياضيةُ من تعقيدٍ شديد، بالإضافة إلى أن نظرية إقليدس قدَّمَتْ تقريبًا ممتازًا صالحًا لكافة الأغراض في ذلك الزمن. ثم جاء الفيلسوف إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤)، الذي كان يدرك تمامًا الفارقَ ما بين حقائق الرياضيات الحتمية وحقائق العلم المشروطة، وانتهى مع ذلك إلى أن نظرية إقليدس في الهندسة الرياضية تُثبِت نفسَها ذاتيًّا في الطبيعة؛ وعليه، رأى أنه من المستحيل عقلانيًّا التشكيكُ في أن مجموعَ درجات زوايا المثلث الحقيقي ١٨٠ درجة، وبهذا جعَلَ من ذلك المفهوم المغلوط غير الضار سابقًا عيبًا رئيسيًّا في فلسفته، وهو المذهب القائل بأن بعض حقائقَ بعينها عن العالم الفيزيائي يمكن أن تكون «معلومة سلفًا»، أيْ دونَ حاجةٍ للتوصُّل إليها بالعلم. ومما زاد الأمر سوءًا بالطبع أنه قصد بلفظ «معلومة» — للأسف — أنها «مبرَّرة».

إلا أن الشك ساوَرَ علماءَ الرياضيات بصددِ صلاحيةِ تطبيق الهندسة الرياضية الإقليدية على الفضاء الحقيقي، حتى قبل أن يُعلِن كانط استحالةَ ذلك الشك. وقد وصل الأمر بعالم الرياضيات والفيزياء كارل فريدريش جاوس بعد إعلان كانط هذا بفترةٍ قصيرة، إلى قياس زوايا مثلثٍ عملاق، وإنْ لم يجد انحرافًا عن تنبؤات إقليدس. وأخيرًا، أثبتَتْ تجاربُ أكثر دقةً من تجربة جاوس نظريةَ أينشتاين عن انحناءِ المكان والزمان، تلك التي ناقضَتْ نظريةَ إقليدس؛ فقد يصل مجموع زوايا مثلثٍ عملاقٍ في الفضاء القريب من الأرض إلى ١٨٠٫٠٠٠٠٠٠٢ درجة، وهو انحراف عن الهندسة الرياضية الإقليدية تُضطر نُظُم تحديد المواقع بالأقمار الصناعية مثلًا إلى أخْذِه في الاعتبار في يومنا هذا. لكن الاختلافات بين هندستَيْ إقليدس وأينشتاين عميقة جدًّا في مواقفَ أخرى — بالقرب من الثقوب السوداء مثلًا — إلى حدٍّ لا يمكن وصفها عنده «بانحراف» إحداهما عن الأخرى.

ومن أمثلة تكرار نفس الخطأ ما نجد في علوم الكمبيوتر؛ فعندما صاغ تورنج نظريتَه عن الحوسبة، لم يكن هدفه في البداية هو صنعَ جهاز كمبيوتر، ولكنه أراد التحرِّيَ عن طبيعة البرهان الرياضي. كان هيلبرت قد تحدَّى علماءَ الرياضيات في عام ١۹٠٠ أن يصوغوا نظريةً دقيقةً عمَّا يتكوَّن منه البرهان، وكان من شروط التحدِّي أن تكون البراهين متناهيةً؛ فلا تستخدم إلا مجموعةً متناهيةً وثابتةً من قواعد الاستدلال، وأن تبدأ بعددٍ متناهٍ من المسلَّمات المعبَّر عنها بصِيَغٍ متناهية، وألَّا تحتويَ إلا على عددٍ متناهٍ من الخطوات الأولية التي تكون بدورها متناهيةً. وبحسب ما يُفهَم من نظرية تورنج، فإن عمليات الحوسبة لا تختلف في جوهرها عن عمليات البرهنة؛ ذلك لأن كل عملية برهنةٍ صحيحةٍ يمكن تحويلها إلى عملية حوسبةٍ تصل من المقدمات إلى النتائج، كما أن كلَّ عملية حوسبةٍ تتمُّ بدقةٍ هي بمنزلة عملية برهنةٍ على أن المخرجات نتائج للعمليات المُجْرَاة على المدخلات.

لكن بإمكاننا أيضًا أن ننظر إلى الحوسبة كوسيلةٍ لحساب «دالة» تأخذ عددًا طبيعيًّا ما باعتباره مدخلًا، وتنتج مخرجًا يعتمد بطريقةٍ ما على هذا المدخل. إن مضاعفة العدد، مثلًا، تعد دالة. من دأب فندق اللانهاية أن يطلب من نزلائه تغييرَ غرفهم، محدِّدًا لهم دالةً يحسبونها كلٌّ بمُدخلٍ مختلفٍ (هو رقم الغرفة). إن من ضمن استنتاجات تورنج أن كل الدوال الرياضية الممكنة منطقيًّا تقريبًا لا يمكن حسابها بواسطة أي برنامج؛ أي إنها «غير قابلةٍ للحساب» لنفس السبب الذي يَحُول دون تنفيذ أغلب عمليات إعادة توزيع النزلاء الممكنة منطقيًّا في فندق اللانهاية بأي أوامرَ تعلنها إدارته؛ فمجموعة كل الدوال لا متناهية غير معدودة، بينما مجموعة كل البرامج متناهية معدودة (ولهذا يصحُّ القول إن سائر عناصر مجموعة كل الدوال اللامتناهية تقريبًا تتَّسِم بخاصيةٍ معينة). ومن هنا، يتضح كذلك أن كل الحقائق الرياضية تقريبًا لا برهانَ لها، وهو ما اكتشفه عالِمُ الرياضيات كورت جودل بتعامُله مع تحدِّي هيلبرت بنهجٍ مختلف. إنها حقائق غير قابلةٍ للإثبات.

ومن توابع ما سبق أيضًا أن أغلب الفرضيات الرياضية «غير مقرَّرة»؛ إذ لا يوجد برهان على صحتها أو بطلانها. تكون كل فرضيةٍ صحيحةً أو باطلةً، بَيْدَ أنه لا توجد طريقةٌ لاستخدام الأشياء المادية — كالعقول أو أجهزة الكمبيوتر — لتَبيُّن مدى صحة كلٍّ منها. إن الفيزياء لا تتيح لنا سوى نافذةٍ ضيقةٍ لنطلَّ منها على عالم المجردات.

ترتبط كل تلك الفرضيات غير المقررة بالمجموعات اللامتناهية ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشر، وهو ما يرجع — في نظر معارضي اللانهاية في الرياضيات — إلى خواء تلك الفرضيات من أي معنًى، ولكني أراه حجةً قوية — كحجة هوفستاتر عن العدد ٦٤١ — على وجود المجردات على نحوٍ موضوعي؛ لأنه يعني أن القيمة الحقيقية لفرضيةٍ غير مقرَّرةٍ قطعًا ليست مجردَ وسيلةٍ سهلةٍ لوصف سلوك بعض الأشياء المادية كالكمبيوتر أو قطع الدومينو.

ومن المشوِّق أن عددًا ضئيلًا فقط من المسائل يُعرَف عنها أنها غير مقرَّرة، مع أن معظم المسائل كذلك في حقيقة الأمر، ولسوف أعود إلى هذه النقطة مرةً أخرى، لكن هناك العديد من الحدْسيات الرياضية غير المحلولة، التي بعضها غير مقرَّر. لننظُرْ إلى «حدْسية أزواج الأعداد الأوَّلية»؛ تتكوَّن تلك الأزواجُ من عددين أوَّليين الفرقُ بينهما ٢، كالعددين ٥ و٧. تنصُّ الحدْسية على أنه ليس ثَمَّةَ زوجٌ أكبر على الإطلاق من تلك الأزواج، وعليه فهناك عددٌ لا متناهٍ من تلك الأزواج. افترِضِ الآنَ من أجل نقاشنا أن هذه الحدْسية غيرُ مقرَّرة؛ استنادًا إلى «فيزيائنا نحن»؛ فهي مقرَّرة في ظلِّ العديد من قوانين الفيزياء الأخرى، وَلْنأخذْ قوانينَ فندق اللانهاية باعتبارها مثالًا. دَعْني أكرِّر أن تفاصيل الكيفية التي تحلُّ بها الإدارةُ مشكلةَ تلك الأزواج ليست مهمةً لنقاشي ها هنا، وإنما أقدِّمها من أجل المهتمين بالرياضيات من القرَّاء. إن الإدارة ستعلن ما يلي:

أولًا: يُرجى التأكُّد في الدقيقة القادمة مما إذا كان رقما غرفتكم والغرفة بعد التالية لها من الأعداد الأولية.

بعد ذلك: لو كان الرقمان كذلك، فردُّوا برسالةٍ عبر الغرف ذات الأرقام الأقل تذكرون فيها أنكم وجدتم زوجَ أعدادٍ أولية. اتبعوا الأسلوبَ المعتاد لإرسال الرسائل السريعة (اتركوا دقيقةً واحدةً لإتمام الخطوة الأولى، على أن تتم كلُّ خطوةٍ بعد ذلك في نصف المدة التي استغرقتْها الخطوة التي سبقتْها). احفظوا تسجيلًا لهذه الرسالة في أقل الغرف رقمًا على ألَّا يكون بها تسجيلٌ لرسالةٍ مشابهةٍ سابقة.

بعد ذلك: تأكَّدوا من أن الغرفة التي تلي غرفتكم لا تحوي تسجيلًا كالذي وصفناه، وأن غرفتكم تحوي واحدًا؛ وعندئذٍ ابعثوا برسالةٍ إلى الغرفة رقم ١ قولوا فيها إنكم وجدتم زوج الأعداد الأولية الأكبر على الإطلاق.

تستطيع إدارة فندق اللانهاية بعدَ نهايةِ الدقائق الخمس أن تصل لحقيقةِ حدسيةِ أزواجِ الأعداد الأولية.

ترى الآن كيف أنه لا يوجد ما يُميِّز «من الناحية الرياضية» المسائلَ غير المقرَّرة، ولا الدوالَّ غير القابلة للحساب، ولا الفرضياتِ غيرَ الممكنة الإثبات؛ وحدها الفيزياء تُميِّزها لأن قوانينها المختلفة قد تجعل بعضَها لا متناهيًا، والبعضَ الآخر قابلًا للحساب، وبعضَ الحقائق — الرياضية منها والعلمية — قابلةً للمعرفة. وحدها قوانين الفيزياء هي التي تُحدِّد أيَّ علاقاتٍ وكياناتٍ مجردةٍ يمكن أن تُمثِّلها أشياءُ ماديةٌ كعقول الرياضيين، وأجهزة الكمبيوتر، والأوراق.

تساءَلَ بعضُ الرياضيين في عصرِ تحدِّي هيلبرت إذا ما كان التناهي سمةً ضروريةً في البراهين (قاصدين بذلك الضرورة الرياضية)؛ إذ ما دامت اللانهاية أمرًا معقولًا رياضيًّا، فلِمَ لا تكون البراهين اللامتناهية كذلك؟ سخِرَ هيلبرت من الفكرة، مع أنه كان من أكبر مؤيِّدي نظرية كانتور، فكرَّرَ هو ومنتقدوه بذلك خطأَ زينون؛ فلقد افترضوا جميعًا قدرةَ فئةٍ معينةٍ من الكيانات المجرَّدة على «برهنة» الأمور، وقدرةَ المنطقِ الرياضي على تحديد تلك الفئة.

لكنْ لو كانت قوانينُ الفيزياء بالفعل مختلفةً عمَّا نظنُّ أنها عليه الآن، لَاختلفَتْ أيضًا مجموعةُ الحقائق الرياضية التي كان باستطاعتنا أن نُثْبتها حينذاك، ولَاختلفت معها العملياتُ السانحُ استخدامُها لإثبات تلك الحقائق. تمنح قوانين الفيزياء كما نعرفها مكانةً مميزةً لعملياتٍ مثل: NOT وAND وOR، التي تتعامل مع وحدات المعلومات الفردية الممثَّلة في وحدات البت (الأعداد الثنائية أو القِيَم المنطقية True وFalse)؛ لهذا تبدو لنا تلك العمليات طبيعيةً وابتدائيةً ومتناهية، تمامًا كما تبدو وحداتُ المعلومات. إذا كانت قوانينُ الفيزياء تُشبه مثلًا تلك الخاصةَ بفندق اللانهاية، فستكون هناك عملياتٌ مميزةٌ أخرى تتعامَلُ مع مجموعاتٍ لا متناهيةٍ من وحدات المعلومات، وقد تصير العمليات NOT وAND وOR في ظل قوانين فيزياء أخرى غير قابلةٍ للحساب، في حين تبدو عندئذٍ بعضُ دوالِّنا غيرِ القابلة للحساب طبيعيةً وابتدائيةً ومتناهية.
ينقلنا هذا إلى فارقٍ آخَر يعتمد على قوانين الفيزياء، وهو الفارق بين «البسيط» و«المعقد». إن العقول أشياء مادية، أما الأفكار فعملياتُ حوسبةٍ من الأنواع التي تسمح بها قوانينُ الفيزياء. يحدث استيعاب بعض التفسيرات في سرعةٍ وسلاسةٍ مثل: «إذا كان سقراط رجلًا، وأفلاطون رجلًا، فكلاهما رجل.» هذه قضية سهلة؛ إذ يمكن صياغتها في جملةٍ قصيرة، بالإضافة إلى اعتمادها على خصائص عملية ابتدائية (هي AND). غير أن بعض التفسيرات الأخرى صعبة الاستيعاب بطبيعتها؛ لأنَّ أقصرَ صيغةٍ لها تظلُّ طويلةً، وتعتمد على الكثير من مثل تلك العمليات. لكنَّ طولَ أو قِصَرَ صيغةِ التفسير وقدْرَ احتياجه إلى قليلٍ أو كثيرٍ من تلك العمليات الابتدائية، يعتمدان اعتمادًا كليًّا على قوانين الفيزياء التي تُصاغ تحت مظلتها تلك الصيغةُ وتُفهَم.

إن الحوسبة «الكمية» — التي يُعتقَد حاليًّا أنها الصورة العمومية الكاملة للحوسبة — تَستخدِم نفسَ مجموعة الدوال القابلة للحساب التي استخدمَتْها حوسبةُ تورنج القديمة، غير أنها تَقلب كيانَ المفهوم القديم عن العمليات «البسيطة» أو «الابتدائية» رأسًا على عقب، وفي الوقت نفسه تجعل من أمورٍ شديدةِ التعقيد من الناحية البديهية أمورًا بسيطة. أضِفْ إلى ذلك صعوبةَ تفسيرِ وحدة تخزين المعلومات الأولية في الحوسبة الكمية — الكيوبت (أو البت الكمي) — بواسطة مصطلحاتٍ غير كمية، وفي الوقت نفسه يبدو البت شيئًا معقَّدًا بعض الشيء من منظور فيزياء الكمية.

يرى البعضُ أن الحوسبةَ الكمية من ثَمَّ ليسَتْ حوسبةً حقيقية، بل هي مجرد فيزياء وهندسة؛ فهم يرون أنَّ تلك الاحتمالات المنطقية بوجود قوانين فيزيائية غير معهودة تُمكِّننا من إجراء صورٍ غير معهودةٍ من الحوسبة؛ أمرٌ لا يعالج مشكلةَ الماهية «الحقيقية» للبرهان؛ فهم يرون أنه سيُمكِننا بالتأكيد أن نحسب دوالَّ غيرَ قابلةٍ للحساب بنهج تورنج في ظلِّ قوانين الفيزياء المناسبة، لكنَّ تلك لن تكون «حوسبةً». وقد نتمكَّن من تحديد مدى صحة أو خطأ فرضيات تورنج غير المقررة، لكن ذلك التحديد لا يُعتبَر «برهنةً»؛ ففي ذلك الحين سيعتمد تقديرُنا لصحة أو خطأ الفرضية على ما نعرف عن كُنْه قوانين الفيزياء؛ فإذا اكتشفنا يومًا ما أن الحقيقي من تلك القوانين يختلف عن معرفتنا، فربما نُضطَر إلى تغيير آرائنا حول البرهان ونتيجته كذلك؛ فهو بهذا لن يكون برهانًا حقيقيًّا لأن البراهين الحقيقية مستقلة عن الفيزياء.

ها هو المفهوم الخاطئ نفسه يُطلُّ علينا من جديد (مصطحبًا نزعة تبريرية باحثة عن السلطة). إن «معرفتنا» بمدى صحة أو خطأ فرضيةٍ تعتمد «دائمًا» على معرفتنا بسلوك الأشياء المادية؛ فلو غيَّرْنا فكْرَنا عن طريقة عمل الكمبيوتر أو العقل — أيْ لو قرَّرْنا مثلًا أنَّ ذاكرتنا كانت مخطئةً بصدد تحديد خطوات الوصول إلى البرهان — لَاضطُررنا إلى مراجعة رأينا حول ما إذا كنَّا قد برهنَّا على أمرٍ ما أم لم نفعل، ولَمَا اختلف الأمرُ عمَّا إذا كنَّا راجعنا رأينا حول ما يفعل الكمبيوتر مؤتمرًا بقوانين الفيزياء.

إن صحةَ أو خطأَ فرضيةٍ رياضيةٍ أمرٌ يستقلُّ حقًّا عن الفيزياء، لكنَّ البرهنةَ على الفرضية أمرٌ تضطلع به الفيزياءُ وحدها. لا يمكن أن يكون هناك برهانٌ مجردٌ ولا معرفةٌ مجردة. صحيح أن الحقيقة الرياضية ضروريةٌ ومتجاوزةٌ على نحوٍ مطلق، لكنَّ كلَّ أشكال المعرفة تتولَّد من عملياتٍ فيزيائية، وتُقرِّر مداها وحدودَها قوانينُ الطبيعة. قد يعرف المرءُ فئةً من الكيانات المجردة ويُسمِّيها «براهينَ» (أو عملياتِ حوسبةٍ)، تمامًا كما قد يعرف كياناتٍ مجردةً ويُسمِّيها مثلثاتٍ، ويجعلها تخضع للهندسة الرياضية الإقليدية، لكنه حينئذٍ يخفق في أن يستنتج من نظرية «المثلثات» أيَّ شيءٍ عن الزاوية التي يتعيَّن عليه أن ينعطف بها إذا سار حول طريقٍ مغلقٍ يتكوَّن من ثلاثة خطوطٍ مستقيمة، ولا يمكن أن تقوم تلك «البراهين» بمهمة التحقُّق من المسائل الرياضية. وأي «نظرية براهين» رياضية لا تُحدد الحقائق التي يمكن أو لا يمكن البرهنة عليها أو معرفتها على أرض الواقع، بالضبط كما أن نظريةَ «حوسبةِ» المجرداتِ لا دورَ لها في تحديدِ ما يمكن أو لا يمكن حوسبتُه على أرض الواقع.

وعليه، فإن الحوسبة أو البرهنة ليستا سوى عملياتٍ ماديةٍ تقوم فيها أشياء — كالعقول أو أجهزة الكمبيوتر — بتمثيل كياناتٍ مجردةٍ — كالأعداد أو المعادلات — تمثيلًا ماديًّا، أو تُجسِّدها وتُحاكي خصائصها؛ فتكون بذلك نافذتَنا على عالم المجردات. وينجح هذا بالفعل لأننا لا نستخدم تلك الكياناتِ إلا في المواقف التي يتوافر لدينا فيها تفسيراتٌ جيدةٌ تؤكِّد أن المتغيرات الفيزيائية ذات الصلة في هذه الأشياء المادية تُجسِّد حقًّا خصائصَ تلك المجردات.

وتبعًا لذلك، تخضع دقةُ معرفتنا بالرياضيات دائمًا وأبدًا لدقة معرفتنا بالواقع المادي. تعتمد صحةُ أيِّ برهانٍ رياضيٍّ اعتمادًا مطلقًا على صواب معرفتنا بالقواعد الحاكمة لسلوك بعض الأشياء المادية كأجهزة الكمبيوتر، أو الحبر والورق أو العقول؛ لذا يستحيل أن نُصنِّف نظريةَ البرهان كأحد فروع الرياضيات، وذلك على عكس اعتقاد هيلبرت وأغلب الرياضيين منذ القِدَم وحتى اليوم، فتلك النظرية علم؛ علم الكمبيوتر على وجه التحديد.

لقد كان الدافعُ نحو الوصول إلى أساسٍ متينٍ لعلم الرياضيات مخطئًا كليًّا؛ فقد كان نموذجًا للتبريرية. إن استخدام الرياضيات للبراهين يشبه استخدامَ العلمِ للاختبار التجريبي؛ فلا هذا ولا ذاك بيتُ قصيدِ الممارسة؛ فهدف الرياضيات هو فهم — وتفسير — الكيانات المجردة؛ أما البرهنة فأداةٌ لاستبعادِ التفسيرات الخاطئة في المقام الأول، وهي تُقدِّم في بعض الأحيان حقائقَ رياضيةً تحتاج التفسير. لكن الرياضيات — كسائر المجالات الممكن تحقيق التقدُّم فيها — لا تبحث عن حقائق عشوائية، وإنما عن تفسيراتٍ جيدة.

تلوح صفةُ الضبط الدقيق على قوانين الفيزياء في ثلاثة أوجهٍ يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، وهي: أنها يمكن التعبير عنها جميعًا بواسطة مجموعةٍ واحدةٍ ومتناهيةٍ من العمليات الابتدائية، وأنها تشترك فيما بينها في فارقٍ واحدٍ بيِّنٍ يُميِّز العملياتِ المتناهيةَ عن اللامتناهية، وأنه يمكن حوسبةُ تنبؤاتِها كلِّها بواسطة شيءٍ ماديٍّ واحدٍ هو الكمبيوتر العمومي التقليدي (مع أن محاكاة الفيزياء على نحوٍ فعَّالٍ تحتاج بوجهٍ عامٍّ إلى كمبيوتر كَمِّي). إن السبب وراء قدرة العقول البشرية على التنبؤ بسلوك أشياءَ غيرِ بشريةٍ بالمرة كالكويزرات وتفسيره يكمن في دعم قوانين الفيزياء للعمومية الحوسبية. ونظرًا لتلك العمومية نفسها، استطاع علماء رياضياتٍ مثل هيلبرت بناءَ بديهية حول البرهان، معتقدين خطأً أنها شيء مستقل عن الفيزياء، لكنها ليست كذلك؛ فهي ليست عموميةً إلا في الفيزياء التي تحكم عالمنا؛ فلو تشابهَتْ فيزياءُ الكويزرات مع فيزياء فندق اللانهاية واعتمدَتْ على دوالَّ ممَّا نصفها بأنها «غير قابلةٍ للحساب»، لَمَا استطعنا التوصُّلَ إلى أي تنبؤاتٍ بشأنها (إلا إذا استطعنا تصنيعَ أجهزة كمبيوتر من الكويزرات أو أشياء أخرى تقوم على القوانين ذات الصلة)، ولو اختلفَتْ قوانينُ الفيزياء عمَّا هي عليه ولو بقدرٍ بسيط، لَمَا استطعنا تفسيرَ أيِّ شيء، ولَمَا وُجِدْنا من الأساس.

إذنْ، هناك شيء مميَّز في تلك القوانين — مميَّز على نحوٍ لا متناهٍ على ما يبدو — في الصورة الموجودة عليها؛ فهي تسمح على نحوٍ فعَّالٍ بالحوسبة، والتنبؤ، والتفسير. وصف الفيزيائي يوجين ويجنر ذلك بأنه «الكفاءة غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية.» لا تقدر الحججُ الإنسانية على تفسير تلك المشكلة لما أسلفتُ من أسباب، وإنما سيُفسره شيءٌ آخَر.

يبدو أن هذه المشكلة تجتذب تفسيراتٍ خاطئةً؛ فكما يرى فيها رجالُ الدين العنايةَ الإلهية، ويفسِّرها بعضُ التطوُّريين على أنها إشارةٌ للتطوُّر، ويرى فيها بعضُ علماء الكون تأثيراتِ الانتقاء الإنساني، يرى علماءُ الكمبيوتر والمبرمجون بدورهم في السماء كمبيوتر ضخمًا. إحدى صور هذه الفكرة على سبيل المثال هي أن كلَّ ما نحسبه عادةً واقعًا ليس إلا واقعًا افتراضيًّا؛ أيْ برنامجًا يعمل في كمبيوتر عملاق. أو بتعبيرٍ آخَر: هو مُحاكٍ عظيم. قد يبدو هذا للوهلة الأولى نهجًا واعدًا لتفسير العلاقات بين الفيزياء والحوسبة؛ إذ ربما كان السببُ وراء إمكانية التعبير عن قوانين الفيزياء من خلال برامج الكمبيوتر؛ يرجع إلى أنها برامجُ كمبيوتر في حقيقة الأمر. ربما كان وجودُ العمومية الحوسبية في عالمنا حالةً خاصةً من قدرة أجهزة الكمبيوتر (المحاكي العظيم، في هذه الحالة) على محاكاة أجهزة الكمبيوتر الأخرى، وهكذا.

ليس هذا التفسير إلا وهمًا وارتدادًا لا متناهيًا؛ لأنه يؤدِّي إلى الاعتقاد بعدم وجود تفسيراتٍ في العلم بصفةٍ عامة؛ فطبيعة العمومية الحوسبية نفسها تشير إلى أننا لو كنَّا نتكوَّن نحن وعالمنا من برامج، فسنفتقر إلى وسيلةٍ لفهم الفيزياء الحقيقية؛ أيْ تلك التي يقوم عليها صُنْعُ المكونات المادية للمحاكي العظيم.

ثَمَّةَ طريقة أخرى نضع بها الحوسبةَ في قلب الفيزياء، من شأنها أن تمحوَ الْتباسات المنطق الإنساني، وهي أن نتخيَّل أنَّ «جميعَ برامج الكمبيوتر الممكنة» تعمل. إنَّ ما نظن أنه الواقع ليس سوى واقعٍ افتراضيٍّ يُنتجه واحد أو أكثر من تلك البرامج. ثم سنُعرِّف «الشائعَ» و«النادرَ» بواسطة حساب متوسط كل تلك البرامج، بِعَدِّها بترتيبٍ على حسب طول كلٍّ منها (أيْ عدد العمليات الابتدائية التي يحتوي عليها كلُّ برنامج)، لكن ذلك يفترض أيضًا وجودَ مفهومٍ مفضَّلٍ لماهية «العملية الابتدائية». وما دام طولُ وتعقيدُ أيِّ برنامج يعتمدان اعتمادًا كاملًا على قوانين الفيزياء، فتلك النظرية تتطلَّب أيضًا وجودَ عالَمٍ خارجيٍّ تعمل فيه أجهزةُ الكمبيوتر المشغلة للبرامج، سيكون في تلك الحالة عالَمًا غير قابلٍ لمعرفتنا به.

يفشل النهجان السابقان لأنهما يحاولان عكس اتجاه الصلة التفسيرية الحقيقية التي تربط بين الفيزياء والحوسبة. إنهما يبدوان معقولَيْن ظاهريًّا فقط لأنهما يعتمدان على خطأ زينون القياسي مطبقًا على الحوسبة، الذي هو — بعبارةٍ أخرى — المفهوم الخاطئ عن تمتُّع مجموعة الدوالِّ التقليدية القابلة للحساب بمكانةٍ خاصةٍ في الرياضيات، وهي أنها معلومة سلفًا، وهذا غير صحيح. لا يُميِّز مجموعةَ العمليات تلك سوى أنها مجسدة في قوانين الفيزياء. إن العمومية بالكامل تفقد معناها لو اعتقد المرءُ أن الحوسبة قد سبقَتِ العالَمَ الماديَّ إلى الوجود وأصدرَتْ قوانينه؛ فالعمومية الحوسبية تدور حول وجود أجهزة كمبيوتر داخل عالَمنا المادي يتصل بعضها ببعضٍ في ظل قوانين الفيزياء العمومية التي نعرفها ونفهمها.

•••

كيف تتفق إذنْ كلُّ تلك القيود العاتية بشأن ما تستطيع الرياضيات والحوسبة معرفته وتحقيقه — بما فيها وجود قضايا غير مقررة في الرياضيات — مع شعار «المشكلات القابلة للحل»؟

إن المشكلات تَضارُبات بين الأفكار، وأغلب المسائل الرياضية ذات الوجود المجرد لا تكون أبدًا محطَّ مثلِ هذه التَّضارُبات؛ فهي لا تكون محلَّ فضولٍ أبدًا، ولا في بؤرةِ تركيزِ مفاهيمَ خاطئةٍ متضاربةٍ حول بعض خصائص عالم المجردات. باختصارٍ معظمُها غير مشوِّق.

علاوةً على ذلك، تذكَّرْ دائمًا أن الوصول إلى البراهين ليس هدفَ الرياضيات، بل أحد أساليبها فحسب. فالفهم هو الهدف، والأسلوب العام — كما في كل المجالات — هو وضع افتراضات، ثم نقْدها على أساس مدى جودتها باعتبارها تفسيرات. لا يتأتَّى فهْمُ الفرضية الرياضية عن طريق إثبات صحتها؛ لهذا ظهرَتْ أشياءُ مثل المحاضرات الرياضية ولم يُكتفَ بقوائم البراهين. كما أن نقص البرهان على الفرضية لا يمنع فهمها بالضرورة، بل إن الأصل في الأمور هو أن يَفهم الرياضيُّ شيئًا ما عن الأمر المجرَّد محل الدراسة، ثم يستخدم هذا الفهمَ في افتراض كيفية البرهنة على فرضياته الصحيحة عن الأمر المجرَّد، ثم يُبرهن على صحتها.

رُبَّ نظريةٍ رياضيةٍ تمَّتِ البرهنةُ عليها، لكن تبقى أبدَ الدهر غيرَ مهمةٍ لا يكترث لها أحدٌ، في حين تُثمر حدْسيةٌ رياضيةٌ غير مثبتةٍ تفسيراتٍ نافعةً حتى لو بقيَتْ بلا برهنةٍ لفتراتٍ طويلة، أو حتى لو كانت غيرَ قابلةٍ للإثبات بالمرة. ومن الأمثلة على النوع الثاني حدْسيةٌ تُعرَف بلغة علوم الكمبيوتر بالتعبير P ≠ NP، ومعناه بعبارةٍ عامةٍ أن هناك فئاتٍ من المسائل الرياضية يمكن التحقُّق من حلولها بفاعليةٍ بمجرد التوصُّل إليها، ولكن لا يمكن حسابها بفاعليةٍ بواسطة كمبيوتر عمومي (تقليدي) في المقام الأول. (الحوسبة «الفعَّالة» لها تعريف فني يقرب من المعنى الذي نرمي إليه في الواقع.) إن كل الباحثين في نظرية الحوسبة تقريبًا على يقينٍ من صحة الحدْسية (وهو تفنيدٌ آخَر لفكرة اشتمال المعرفة الرياضية على البراهين فحسب)، والسبب هو وجود تفسيراتٍ على قدْرٍ من الجودة تُعضد من ذلك اليقين، مع أنه لا برهانَ معروفًا عليه، بالإضافة إلى عدم وجود تفسيراتٍ تدعو إلى العكس. (ويُعتقَد أن الفكر نفسه يصلح لأجهزة الكمبيوتر الكمية.)

أضِفْ إلى ما سبق أن قدرًا هائلًا من المعرفة الرياضية النافعة والشائقة قد بُنِي على تلك الحدْسية، بما فيها من نظرياتٍ من نوع: «لو صحَّتِ الحدْسيةُ، لَكانت النتائجُ الشائقة كذا وكذا»، وأخرى — أقل عددًا وإنْ ظلَّتْ شائقة — عمَّا سيعقبها في حالة خطئها.

قد يُبرهن عالِمُ رياضياتٍ عند دراسته مسألةً غيرَ مقرَّرةٍ على أنها كذلك بالفعل (ويشرح السببَ)، وهذا — من وجهة نظره — نجاح؛ لأن ما حدث وإن كان لم يحلَّ المسألةَ الرياضية فقد حلَّ مشكلةَ الرياضي. وحتى إنْ لم يحالفْ دراسةَ المشكلة الرياضية نجاحٌ من أيٍّ من تلك الأنواع، فإن ذلك ليس إخفاقًا في خلق المعرفة؛ فمتى حاوَلَ المرءُ حلَّ مشكلةٍ رياضيةٍ وفشل، اكتشف نظريةً — وعادةً ما يكتشف أيضًا تفسيرًا — عن سبب فشل النهج الذي اتبعه في حلِّها.

وهكذا، نجد أن عدم القابلية للإقرار لا يتعارض مع شعار «المشكلات قابلة للحل» أكثر ممَّا تتعارض معه حقيقةُ أنَّ هناك من الحقائق ما لن نعرفه أبدًا عن العالم المادي. أتوقَّع أن نتوصَّلَ يومًا ما إلى تقنيةٍ نقيس بها عددَ حبات الرمل على كوكب الأرض بدقةٍ، لكني أشكُّ في أننا سنعرف كَمْ كان عددُها بالضبط في زمن أرشميدس. في الواقع، لقد ذكرتُ بالفعل قيودًا أكثر قسوةً تحدُّ مما يمكن معرفته وتحقيقه، منها تلك القيود المباشرة التي تفرضها قوانين الفيزياء العمومية، مثل أننا لا نستطيع تخطِّيَ سرعةِ الضوء. توجد كذلك قيودٌ تفرضها نظريةُ المعرفة، هي أننا لا نقدر على خلْقِ المعرفة إلا باستخدام المنهج غير المعصوم من الوقوع في الخطأ الذي يعتمد على الافتراض والنقد؛ لذا فالأخطاء حتمية الحدوث، ووحدها عملياتُ تصحيح الخطأ قادرةٌ على النجاح أو الاستمرار لفترةٍ طويلة. ليس في كل ذلك ما يُعارِضُ الشعارَ المذكور؛ لأن أيًّا من تلك القيود لن يتسبَّب يومًا في تَضارُبٍ عَصيِّ الحل بين التفسيرات.

ومن ثَمَّ أفترضُ أنه إذا كانت مسألةٌ ما شائقةً — سواءٌ أكانت في الرياضيات أم العلوم أم الفلسفة — فالمشكلة قابلة للحل. تخبرنا اللامعصومية أننا قد نخطئ بصدد ما هو شائق؛ ومن ثَمَّ تَستتبِع ثلاث نتائج مباشِرة لهذا الافتراض؛ الأولى أن المشكلات غير القابلة للحل بطبيعتها تكون بالمثل غيرَ شائقةٍ بطبيعتها، والثانية أن الفارق بين ما هو شائق وما هو مُمل — على المدى البعيد — لن يتوقَّف على تذوُّقٍ شخصيٍّ، بل حقيقة موضوعية. أما النتيجة الثالثة، فهي أن المشكلة الشائقة حول السبب الذي يجعل كلَّ مشكلةٍ شائقةٍ قابلةً للحل هي نفسها قابلة للحل. إننا لا نعلم في الحاضر لماذا تبدو على قوانين الفيزياء علاماتُ الضبط الدقيق، ولا نعلم السرَّ وراء وجود العديد من صور العمومية (مع أننا على علمٍ بالصلات العديدة فيما بينها)، ولا نعلم سببَ قابليةِ العالم بأسره للتفسير، لكننا سنعلم ذلك كله يومًا ما، وعندئذٍ سيبقى لنا ما لا نهايةَ له ممَّا يحتاج إلى التفسير.

أهم القيود التي تعوق خلْقَ المعرفة أننا لا نستطيع التكهُّنَ؛ أيْ لا يمكن أن نتنبَّأَ بمحتوى الأفكار التي لم تُوجَد بعدُ، ولا بتأثيراتها. هذا القيد لا يتَّسِق فقط مع النمو اللامحدود للمعرفة، بل يستتبعه كذلك، كما سأتناول بالشرح في الفصل التالي.

إن قابلية المشكلات للحل لا تعني أننا نعلم حلولَها بالفعل، ولا أننا نستطيع إنتاجَها بالطلب؛ فتلك فكرةٌ أشبه بنظرية الخلق. وصف البيولوجي بيتر مدور العلم بأنه «فن القابل للحل»، لكن هذا ينطبق على كل صور المعرفة. تتطرَّق كلُّ أشكال التفكير الإبداعي إلى الحكم على المناهج المختلفة من حيث مدى فاعليتها. إن الاهتمام أو فقدان الاهتمام بشأن مشكلاتٍ أو مشكلاتٍ فرعيةٍ معيَّنةٍ جزءٌ من العملية الإبداعية، وهو أساس حلِّ المشكلات؛ ومن ثَمَّ فإن شعار «المشكلات قابلة للحل» لا يعتمد على ما إذا كان لكل مسألةٍ حل، أو على ضرورة أن يجيب عنه مفكِّر بعينه في لحظةٍ بعينها. لكنْ لو اعتمد «التقدُّمُ» في زمنٍ ما على خرْقِ أحد قوانين الفيزياء، لَباتَ شعارُ «المشكلات قابلة للحل» شعارًا باطلًا.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • تناظُر أُحادي: عَدُّ كلِّ عنصرٍ من مجموعةٍ مع كلِّ عنصرٍ من مجموعةٍ أخرى.
  • لا متناهٍ (بالمعنى الرياضي): تكون المجموعةُ لا متناهيةً إذا أمكن وضْعُها في تناظُرٍ أُحادي مع جزءٍ من نفسها.
  • لا متناهٍ (بالمعنى الفيزيائي): مفهوم يغلب عليه الغموضُ قد نعرفه ﺑ «أكبر من أي شيءٍ يمكن للخبرة أن تلمَّ به ولو مبدئيًّا».
  • لا متناهٍ معدود: متناهٍ ولكنه من الصِّغَر بحيث يمكن وضْعُه في تناظُرٍ أُحاديٍّ مع الأعداد الطبيعية.
  • قياس: أسلوب تُمنَح بواسطته النظريةُ معنًى لنِسَب ومتوسطات مجموعاتٍ لا متناهيةٍ من الأشياء كالأكوان.
  • تفرُّد: موقف يصبح فيه شيء مادي ضخم بلا حدود، بينما يبقى متناهيًا في المواقف الأخرى.
  • وجود متعدِّد الأكوان: كيان مادي موحد يحتوي على أكثر من كون.
  • ارتداد لا متناهٍ: مغالطة تعتمد فيها الحجةُ أو التفسيرُ على حجةٍ فرعيةٍ من نفس الصورة التي تضطلع بتناول نفس مشكلة الحجة الأصلية.
  • حوسبة: عملية مادية تُجسِّد خصائصَ كيانٍ مجردٍ ما.
  • برهنة: عملية حوسبةٍ تثبت حقيقةَ فرضيةٍ مجردةٍ في ظلِّ وجود نظريةٍ عن كيفية عمل الكمبيوتر الذي يتمُّ تنفيذُها عليه.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • نهاية النفور القديم من كل لا متناهٍ (وعمومي).

  • علم حساب التفاضل والتكامل، ونظرية كانتور، ونظريات أخرى حول اللامتناهي واللامتناهي الصِّغَر في الرياضيات.

  • إطلالة على فندق اللانهاية.

  • خاصية التتابعات اللامتناهية التي ترى أن كلَّ عنصرٍ فيها قريبٌ قربًا استثنائيًّا من البداية.

  • عمومية المنطق.

  • المدى اللامتناهي لبعض الأفكار.

  • البناء الداخلي لوجودٍ متعدد الأكوان يُعطي معنًى ﻟ «لانهاية من الأكوان».

  • استحالةُ التنبؤ بمحتوى المعرفة المستقبلية شرطٌ ضروري للنمو اللامحدود للمعرفة.

ملخص هذا الفصل

نستطيع أن نفهم اللانهاية بواسطة المدى اللامتناهي لبعض التفسيرات. واللانهاية أمر معقول في كلٍّ من الرياضيات والفيزياء، إلا أن لها خصائصَ تتعارَضُ مع البديهة أوضحتْ بعضَها تجربةُ هيلبرت الفكرية الخاصة بفندق اللانهاية. من تلك الخصائص أنه إذا كان التقدُّم اللامحدود سيحدث حقًّا، فإننا لا نزال على أعتاب بدايته، وسنظل كذلك دائمًا. أثبت كانتور بواسطة حجته القطرية وجودَ ما لا نهايةَ له من مستويات اللانهاية التي لا تَستخدم منها الفيزياء إلا أول واحدٍ أو اثنين على الأكثر؛ وهما لانهاية الأعداد الطبيعية، ولانهاية السلسلة المتصلة. ليس للاحتمالات ولا النِّسَب معنًى في ظلِّ وجودِ نُسَخٍ لا متناهيةٍ متطابقةٍ من الملاحظين (في وجودٍ متعدِّد الأكوان مثلًا)، إلا إذا كانت المجموعةُ بأسرها ذات تركيبٍ خاضعٍ لقوانين الفيزياء يعطيها معنًى. على أن هذا البناء لا يتوافر في تتابعٍ غير متناهٍ من الأكوان — مثل غرف فندق اللانهاية — ممَّا يعني أن المنطق الإنساني وحده لا يكفي لتفسير الضبط الدقيق الظاهر في ثوابت الفيزياء. البرهنة عملية مادية فيزيائية، تعتمد قابلية الفرضية الرياضية للبرهنة والإقرار على قواعد الفيزياء التي تُحدِّد أيُّ العلاقات والكيانات المجردة ستمثِّلها الأشياءُ المادية، وبالمثل يعتمد تعقيدُ أو بساطةُ أيِّ مهمةٍ أو نمطٍ على ماهية قوانين الفيزياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤