فراسة الرأس

الفرينولوجيا

هو فرع من فروع علم الفراسة وضعه رجل جرماني اسمه فرنس جوزف كول في أواخر القرن الثامن عشر، وقد استخرج قضاياه باختباره الشخصي في تلامذة المدارس وأهل المهن وغيرهم، وموضوعه استخراج مواهب الناس وأخلاقهم من النظر إلى أشكال رءوسهم وملاحظة ما فيها من البروز والتسطيح والسعة والضيق ونحو ذلك.

ولا بد لدارس الفرينولوجيا من الإلمام بتشريح الرأس ومعرفة ما يتألف منه من الأعضاء وأشكالها ووظائفها، وقد بيَّنَّا ذلك في (خلاصة تشريحية) من هذا الكتاب، فلتراجع هناك.

أما استطلاع الأخلاق والقوى بفراسة الرأس فقد ألَّف فيه الإفرنج كتبًا كثيرة، ولهم فيه أقوال متضاربة أكثرها لا يعتدُّ به؛ لإسناده إلى الحدس والتخمين، وقد نشرنا في السنة السادسة من الهلال خلاصة أبحاث الفرينولوجيين للدكتور إبراهيم عربيلي نزيل نيويورك، فآثرنا نقلها لأنها حوت زبدة أقوالهم، وهي:
  • حجم الرأس: يختلف حجم الرأس في الناس باختلاف أعمارهم، ولكن المعوَّل عليه في مقالتنا هذه الشاب البالغ أشدَّه، فإذا رسمنا حول جمجمته خطًّا يمر بالعظم المؤخري فالجدرايين فالصدغيين فوق الأذنين، حتى يلتقي طرفاه في مقدَّم العظم الجبهي فوق الحاجبين في الوسط، نجد المعدل غالبًا من ٢٠ إلى ٢٢ قيراطًا ونصف قيراط في الذكور، وأقل منه بنصف قيراط إلى ثلاثة أرباع القيراط في الإناث، ومن كان هذا قياس رأسه كان متوسط القوى، وأما ذوو العقول الثاقبة فمحيط رءوسهم من ١٢ إلى ٢٣ قيراطًا أو ٢٤.

    ولا يخفى أن هذه الطريقة من القياس تختلف باختلاف شكل الجمجمة الأصلي؛ لأن الرءوس قد تكون في البعض مستديرة وفي البعض الآخر مستطيلة أو واطية أو عالية القمة، والعظمان الجبهي والمؤخري قد يكونان مفلطحين أو بارزين كثيرًا أو قليلًا، فلا يُبنى على ذلك حكم قطعي، وعليه فلا يكون كبر حجم الرأس دلالة ثابتة على الحذق وجودة العقل، ولكنه يقال بوجه عام بناء على المراقبات العديدة: إن رءوس الممتازين بجودة عقولهم وحذاقتهم أكبر حجمًا من رءوس غيرهم؛ فإن محيط رأس وبستر الشهير مثلًا ٢٤ قيراطًا، والجنرال كلي ٢٣ قيراطًا، ونابليون ٢٤ قيراطًا، وهملتون ٢٣ قيراطًا، وبارك وجيفرسون كانا عظيمي الرأس، وهكذا فرنكلين فقد بلغ محيط رأسه ٢٤ قيراطًا، وكثيرون غيرهم ذوو رءوس كبيرة تفرد أكثرهم بالذكاء وقوة العقل والنبالة، وكثيرًا ما نعجب لما نراه في بعض الناس من الذكاء والفطنة وغزارة المعارف والعلوم وحفظ اللغات وهم مع ذلك صغار الرءوس، غير أن أكثر هؤلاء لا يبلغون مبلغ أولئك بقوة أدمغتهم وعلوِّ تصوراتهم وجودة عقولهم، ويظهر الفرق بينهما في احتمال الأعمال العقلية الشاقة، فترى أصحاب الأدمغة الكبيرة يقتحمون أعمالًا يعجز غيرهم عن القيام بها.

    وبناء على ما تقدم لا بد قبل الحكم في جودة العقل من ملاحظة نوع فعله كقوة التصور وسرعة الخاطر أو المقدرة على الأعمال الطويلة؛ فإن لذلك أهمية عظيمة، ويجب الانتباه إلى حجم الرأس وعلاقته بدرجات القوى المتفاوتة ما بين أفراد الناس من حيث زيادة حساسته أو نقصانها، وقوة الإرادة وضعفها، والإقدام والثبات، والكثرة والقلة، أو الهدوء والطيش، والتأني والعجلة، وسداد الرأي وضعفه، فإن أصحاب الرءوس الكبيرة إذا كانت أدمغتهم في حالة الصحة ظهرت فيهم عند العمل قوى عقلية عظيمة جدًّا، إلا أنها قلَّما تظهر أفعالًا أو إحساسات فائقة الحد تميزهم عن سواهم، ولكن أصحابها يقضون أكثر سِنِي حياتهم في التأمل العميق بالمواضيع العقلية، أما الذين هم مع كبر رءوسهم ذوو حركة وجدٍّ وسعي وإقدام وعزيمة، فهؤلاء لا يقف في سبيل تقدمهم ونجاحهم ولا يحول دون مشروعاتهم أمر من الأمور، وإذا ساعدتهم الأحوال لاقتباس العلوم والمعارف كانوا نوابغ بين أبناء جيلهم، فإذا زادت فيهم قوة الحركة وسرعة العمل عن المعدل الطبيعي بلغوا بأعمالهم واكتشافاتهم واختراعاتهم المستغربة أعلى درجة يستطيع الإنسان الوصول إليها، وأصحاب هذه المواهب لا يعجزون ولا يكلُّون ولا يفتُرون مدة حياتهم عن الجدِّ والتبحر والتصور والتفكير في اختراع ولا اكتشاف أمور غامضة صعبة، فيتأملون ويفتكرون فيما يسهل عليهم إصدارها من حيز تصوراتهم إلى عالم الفعل، ولا يتأخرون عن شيء إلا ويتمعَّنون به بتأنٍّ، وأدمغتهم تعمل على الدوام لا ترتاح ليلًا ولا نهارًا، وهم في الغالب قليلو الكلام، لا يغرهم المديح والافتخار، وقلَّما يرتاحون إلى المجتمعات العمومية.

    وبالاختصار إننا إذا تأملنا هيئات جماجم الناس وأقدارها بوجه عام رأينا الاختلاف واضحًا بينها؛ لأنك قلَّما ترى جمجمتين تتشابهان في كل شيء، وليس أسهل من التمييز بين عظام الجمجمة ذات الأسطحة الخشنة والجدران الصلبة والجمجمة اللطيفة الملساء الناعمة قليلة النتوات والبروزات، فإن الأولى جمجمة رجل والثانية جمجمة امرأة.

  • علاقة الدماغ بظاهر الرأس: وعندهم أن لكل قوة من قوى الدماغ تأثيرًا خاصًّا على جزء أو أكثر من أجزاء الوجه أو على اليدين أو غيرهما من الأعضاء، فكلما عظمت قوى الدماغ عظم تأثيرها على الأجزاء المستولية عليها، فكلما كانت العلامات الدالة على سموِّ إحدى تلك القوى الدماغية ظاهرة ممتازة كلما كانت تلك القوى أعظم بالنسبة إلى سواها، فبواسطة هذا العلم يتمكن الدارس بفحصه مواقع هذه القوى الفحص المدقق من معرفة نسبتها بعضها إلى بعض، ولكل إنسان قوى دماغية خاصَّة به يعمل بموجبها أعماله اليومية في هذه الحياة، فعلم الفرينولوجيا موضوعه درس دماغ الإنسان ومعرفة درجة كل قوة من قواه العاقلة الطبيعية التي يرتئي الفرينولوجيون استقرارها في مراكز خاصَّة بها في الكتلة الدماغية بين تلافيفه.
    وعندهم أن لكل قوة من هذه القوى مركزًا خاصًّا، ولكل عقدة من العقد العصبية عملًا خاصًّا، وجميع هذه القوى محكمة الوضع متناسبة التركيب بأليافها وكرياتها، وتصدر أفعالها الخاصَّة بترتيب ونظام، ويعلِّلون أعمالها باختلاف أحجامها وأوضاعها من القرب والبعد وأشكال تركيبها، فتصدر الأفعال عنها، فتتأثر منها عظام الجمجمة الخاضعة لناموس التغذية والنمو، فيحدث عن ذلك تغيير في العظم يوافق التفاعل الذي يتم بين أجزائها وجواهرها الفردة المتوقف عليه الناموس الحيوي الطبيعي، فينتج ارتفاعًا أو بروزًا أو انخفاضًا يظهر تحت الجس يعيِّنون به درجات القوى العقلية، ويقولون أن مصدر هذه الأفعال كتلة الدماغ والعقد العصبية المؤلف أكثرها من المادة البيضاء والمادة السنجابية، ومع كل هذه التعليلات لم تثبت أقوالهم بالبراهين العلمية الدامغة، ولا نعلم كيف يثبتون أن الذاكرة في التلفيف الفلاني والتصور في العقدة الفلانية والتجارب التشريحية التي أجروها في الدماغ حتى الآن لم تُثبت مدَّعاهم، وهب أنهم عرفوا مواقع بعضها فكيف اتصلت هذه القوى المختلفة إلى ظاهر العظام؟ فهم لا يزالون قاصرين عن إيراد البراهين المثبتة لما يزعمونه في فحص قوى الدماغ المختلفة وما يختص بالقوى العقلية، ومع ذلك فقد بنوا علمهم على الاختبار والاستقراء مع الإسناد إلى تشريح المقابلة، فانتشر حتى أصبح بعضهم يعتمده كل الاعتماد، وأخذ كثيرون منهم يلقون الخطب الرنانة على المنابر ينادون برسوخ قواعده، ولكن براهينهم لم تقنع أبناء العلم الصحيح المتضلعين في العلوم الطبية والتشريحية. ولهؤلاء اعتراضات وردود لا يسمح المقام بذكرها، وأما طريقة الفرينولوجيين في استطلاع الأخلاق والقوى بقياس الرأس فهي أنهم يقيسون الرءوس والجماجم، كما يأتي انظر شكل ١.
    fig116
    شكل ١: أقيسة محيط الرأس.
  • قياس الرأس: أولًا: يقيسون محيط الرأس بخط يبتدئ من نقطة متوسطة بين بروزي العظم الجبهي ويمتد حول العظمين الجداريين إلى نقطة متوسطة على العظم المؤخري، فإذا بلغ طول ذلك الخط تسعة عشر قيراطًا ونصف قيراط كان الرأس صغير الحجم، وإذا كان ٢١ قيراطًا فهو متوسط، وإذا بلغ ٢٢ وربعًا كان عريضًا، وإذا كان ٢٤ قيراطًا فهو كبير جدًّا. ويقاس محيط الرأس أيضًا من جانب واحد بخط يمتد من منتصف الجبهة على خط أفقي مستقيم إلى مؤخر الرأس، فإذا بلغ طول هذا الخط على جانب واحد ٧ وربع قيراط سموه صغيرًا، وخصوصًا إذا كان الرأس ضيقًا في الجانبين، وإذا كان ٧٫٧٥ قيراط سموه متوسطًا، وإذا كان ٨٫١٢٥ قيراط فعريضًا أو كبيرًا، وإذا كان ٨٫٣٧٥ القيراط فعريضًا أو كبيرًا جدًّا.
    ثانيًا: تقاس الجمجمة أو الرأس من نقطة ترسم مقابل فتحة صماخ الأذن الواحدة بخط يقاطع جسر الجمجمة مارًّا إلى الأعلى أمام اليافوخ الخلفي؛ أي عند ملتقى العظمين الجداريين المكونين الدرز السهمي إلى الوراء قليلًا، ويمتد إلى نقطة أمام فتحة صماخ الأذن الأخرى على الجانب المقابل، فإذا وجد القياس ١٤ ونصف قيراط سموه كبيرًا، أو ١٤ قيراطًا سموه متوسطًا، أو ١٣ ونصف قيراط عدُّوه صغيرًا، وقِس على ذلك سائر الخطوط والدوائر التي تراها في الشكل ١.

    ويعتبرون القياسات المارِّ ذكرها مهمَّة جدًّا كسائر أقيسة الرأس؛ لأنهم يحكمون بواسطتها على القوى العقلية من حيث جودتها وعدمها، ويلاحظون دائمًا عرض الجبهة وجانبي الوجه ومؤخر الرأس والفسحات بين هذه الأقسام التي يتمكنون بها من معرفة قوى الدماغ والمادة العصبية، فلو وجدنا مثلًا أن قياس محيط الرأس ٢٢ ونصف قيراط، وكان قياس الجبهة ١٣ وربع قيراط، أو ١٣ وثلاثة أرباع قيراط، فلا يكون ذلك دليلًا على حدَّة العقل، أما إذا وجدنا قياس الجبهة ١٤ وربع قيراط أو أكثر فنستدل على قوة العقل، وهكذا إذا كان حجم الرأس أصغر من ذلك بالنسبة إلى حجم الجبهة.

    أما الجبهة الضيقة المستطيلة فتدل على اعتدال في حدَّة التصور وشدة الانتباه والإلهام والتودد والعشق وتمييز الألوان والتعقُّل والترتيب والتهذيب.

    والجبهة العريضة المرتفعة تدل غالبًا على الاقتدار العقلي والذكاء وسهولة اكتساب اللغات والخوض بمواضيع عالية وذكر الحوادث وحفظ الأرقام والأعداد والمحالِّ وقوة التبليغ والتعبير عن الأفكار، فإذا قست من جانب الرأس إلى جانبه المقابل مارًّا على القحف فبلغ ٢٢٫١٢٥ قيراط تستدل به على قوة العواطف النفسية وكثرة الحب أو قلته أو سرعة الميل، أما إذا وجدنا القياس من الأذن إلى الأذن المقابلة يبلغ ١٣ ونصفًا، أو ١٣ وربعًا، بحيث يمر على اليافوخ عند ملتقى العظم المؤخري بالجداريين نستدل على ضعف القوى الحيوية والخلق، فصاحبه قليل الصبر ضيق الأخلاق. خلافًا لمن يبلغ القياس فيه ١٤ وربعًا، أو ١٥ ونصف قيراط، فإن الجهاز الهضمي فيه قوي والأخلاق رضية، وهو صبور كثير التأنِّي، فإذا كان جانب الرأس عريضًا واطيًا بحيث يبلغ معظم قياسه ٥٫٨٧٥ القيراط، أو كان أقل من ذلك علوًّا تكون القوى الدماغية في جانب الرأس متسعة وفي قمته أقل اتساعًا، وبالعكس؛ أي إذا كان جانب الرأس ضيق المساحة عاليًا.

    أما إذا كان محيط الرأس أقل من ٢٢ وربع قيراط وكانت سائر قياساته التي تمر فوق قمَّته أقصر مما هي فيستدل على اشتداد وحدَّة في الخلق، فإذا اعتبرنا محيط الرأس ٢٢ وربع قيراط قاعدة لقياساته من الخلف البالغة من ١٣ وربع قيراط إلى ١٤ قيراطًا فقط وكان محيطه ٥٫٥ إلى ٥٫٨٧٥ القيراط نستدل بذلك على العظمة والإعجاب بالذات والكبرياء، أما إذا كان القياس ١٥ قيراطًا أو أكثر وكان نصف المحيط ٦ وربع قيراط أو أطول من ذلك فيستدل به على قوة الجهاز العضلي وتسلط الإرادة وثباتها، وذلك جميعه بالنسبة إلى بقية الأعضاء الطبيعية وحيويتها، وهم يعتمدون هذه الأنساب في تجاربهم، ويقتضي في كل الأحوال ملاحظتها لمعرفة قوى العقل وجواهر موادِّه من جهة الحدَّة وعدمها، فلا بد من مقابلتها بالأقيسة الأخرى للحكم على القوى العاقلة في شخص دون آخر، فإذا درسنا هذه الأقيسة درسًا جيدًا استغنينا عن إجرائها فيما بعد في الفحص الجمجمي إلا قليلًا، فنكتفي بالنظر فنعرف قوى الدماغ بسهولة.

    وبناء على ما تقدم فللدماغ ثلاث خاصيات أصلية أو أمزجة، كل واحدة منها ناتجة عن قوة مستقرة فيه تؤثر على الجسم، ومعظمها ناتج من الوراثة التي لها دخل عظيم في الأخلاق والخاصيات والأمزجة المتقدم ذكرها، فتكتسب منها عدة تنوعات، وبواسطة التربية والتعليم والاكتساب تزداد قوة وترقية، وهكذا لكل قوة من قوى الدماغ علاقة أصلية طبيعية وتأثيرات خاصَّة لا تنفك عن توافق الجسم وأعضائه المختلفة في أعمالها.

  • القوى العاقلة وتلافيف الدماغ: حسبوا للدماغ الإنساني اثنتي عشرة قوة رئيسية وأربعة وعشرين قوة تابعة، فجملة القوى ٣٦، لكل منها مركز خاص في بعض تلافيف الدماغ، وإليك رسم التلافيف حسب أوضاعها الطبيعية، مع الإشارة إلى اختصاص كل منها بقوة من القوى انظر الشكل ٢.
    fig117
    شكل ٢: تلافيف الدماغ وقواه.

    فإذا تأملت الرسم المشار إليه اتضح لك رأي الفرينولوجيين في مراكز القوى العاقلة من الدماغ، ولكنك تراهم يخلطون القوى بالأميال أو العواطف، فهي عندهم بمنزلة واحدة؛ لأنها كلها من أعمال الدماغ، كالإصلاح والإبلاغ والأمانة والمحبة والرجاء والأمل والثبات ومحبة الأوطان والعبادة ونحو ذلك، ولا بد من درسها وتفهُّمها لتغرس في الذهن أوضاعها بعضها بالنسبة إلى بعض، وقد شبهوها بالخارطة الجغرافية، فمن يدرسها كأنه يدرس تقويم مملكة من الممالك، فهي تحتاج إلى حفظٍ أكثر مما إلى فهم، ويزعم أصحاب هذا الفن أن من يدرس خارطة الدماغ يسهل عليه معرفة أخلاق أصدقائه ومعارفه بالنظر إلى أدمغتهم، ويميزون جغرافية الدماغ عن جغرافية الأرض بأن مواضع القوى الدماغية غير مستقلٍّ بعضها عن بعض استقلالًا تامًّا، ولكنها تشترك في كثير من أعمالها.

    والاستاذ سيفارتا صاحب هذا الرأي، وإليه يُنسب هذا الرسم، قد قسم مادة الدماغ إلى ثلاث مراتب، وقسم القوى العاقلة إلى ثلاث أخرى، يحسن تتبعها ودرسها بمراجعة تفاصيل هذا الفن في كتبه مما يضيق عنه هذا المقام؛ لأن الغرض من هذه العجالة ذكر خلاصة آراء الفرينولوجيين وقواعد علم الفرينولوجيا، فعندهم كما تقدم أن للدماغ ٣٦ قوة، لكل منها مركز في تلافيف الدماغ خاص به. ولكنك إذا تأملتها جيدًا وتدبرت نسب تلك القوى بعضها ببعض رأيت بينها علائق تتقارب بنسبة تقارب مواضعها، حتى قد يتألف منها مجاميع تشترك بالجوهر، فالتي في جانب الرأس مثلًا يختص أكثرها بالهيئة الاجتماعية والمعاشرة، والتي في أعلى الرأس ومقدَّمه يجمعها التعقُّل والتدبير والحكمة، وهي القوى العاقلة الحقيقية، وأما القوى المختصة بالأميال والإرادة والحركة فمقرها في قفا الرأس أو مؤخره، وترى بين التلافيف فواصل هي حدود أماكن تلك القوى، وبعبارة أخرى هي الفواصل بين التلافيف ولكن بينها اتصالات بمجارٍ دقيقة أو خيوط عصبية تنتقل بها التأثرات بين التلافيف ثم إلى الأعصاب والحواس فتظهر للعالم الخارجي.

    فكل فكرٍ يُحدثه الدماغ يتألف من سلسلة حركات عصبية، أولها حدوث الشعور بواسطة إحدى الحواس الخمس التي تنشأ أعصابها في قاعدة الدماغ، فيحدث الشعور بالصور الذهنية، ثم ينتقل التأثير إلى مقدَّم الدماغ في النصفين الكرويين، وهناك يحدث الحكم على تلك الصورة وتصدر الإرادة بشأنها، فينتقل ذلك إلى مراكز الحركة في أسفل المخ فتحدث الحركة، هذا هو نظام العمل الدماغي العمومي، ولكن كثيرًا من أعمالنا العقلية تنتقل من مراكز الحس في قاعدة الدماغ إلى أسفل المخ رأسًا؛ أي من الشعور إلى الحركة بدون عرضها على القوى الحاكمة والإرادة في مقدمة الدماغ، فتحدث أعمالًا اضطرارية لا يستطيع الإنسان كبح جماحها، كالضحك والبكاء والدهشة ونحو ذلك، فقد يضحك الإنسان وهو يريد ألا يضحك، ولو خضعت عضلاته المضحكة لإرادته لما ضحك، ولكن التأثير الذي أحدث الضحك لم يعرض على القوة الحاكمة في مقدَّم الدماغ، بل انتقل رأسًا إلى مراكز الحركة فحركت العضلات المحدثة للضحك، ولم يعلم العقل به إلا بعد حدوثه، والسبب في ذلك الانتقال السريع رأسًا أن في قاعدة الدماغ عقدًا عصبية شديدة الحساسة غير خاضعة للإرادة، وهي كبيرة في الحيوانات وخصوصًا الأسماك، وبواسطة هذه العقد تحدث الأفعال السليقية في الحيوان مما لا محل لتفصيله هنا.

  • علاقة قوى الدماغ بعضلات الوجه: ومن أسس علم الفرينولوجيا ما يزعمه أصحابه من علاقة القوى العاقلة بعضلات الوجه، فعندهم أن لكل مجموع من مجاميع القوى علاقة خصوصية بعضلة من عضلات الوجه تتأثر لتأثرها، فتنقبض العضلة أو تنبسط بحسب أحوال تلك القوى من الشدة أو الانفعال أو نحو ذلك، وكأن تلك العضلة مرآة تنعكس عنها صور القوى، فيستعينون بذلك على استطلاع أخلاق الناس وأطوارهم بقراءة تلك التغييرات التي يعبرون عنها بالملامح، (انظر الشكل ٣.
    fig118
    شكل ٣: القوى وعضلات الوجه.

    فإذا تأملت هذا الرسم رأيت فيه القوى العقلية والأميال على هيئة مجاميع يتصل كل مجموع منها بخط إلى الجهة المرتبط هو بها من الوجه.

    فقد ثبت بالتجربة المتواصلة والمراقبة الدقيقة أن أسرع الانفعالات وأكثرها وضوحًا ما يظهر منها في جلد الجبهة؛ لأننا كثيرًا ما نقرأ عواطف أصدقائنا وتأثيراتهم الأدبية كالخوف والغضب والرضا والقلق من النظر إلى جباههم، ويختص أصل الأنف وما يجاوره من الحاجبين والعينين بالدلالة على قوة التجريد والذاكرة وتمييز الألوان والحرص والاهتمام والتأمل والتدبير ونحوها، والأميال القلبية كالحب والرجاء والأمل يظهر انعكاسها حول الشفتين، وتظهر أخلاق التمليق والتعبد تحت الشفة السفلى، أما محبة الوطن فلا تظهر في الوجه بل في فسحة توازي خطًّا عموديًّا يبدأ وراء العين وينتهي في قمة الرأس عند اليافوخ الأمامي، وأما قوة الإرادة المستقرة في أعلى الدماغ ومقدَّمه فتظهر على الوجنة والفك السفلي وما بينهما، وتظهر قوة التدبير والحرص والمدافعة عند أصل الأنف وجسره، ويستدلُّون على قوى الإكراه والحرية والصناعة والائتلاف في الخدين وتحت الفم.

  • استطلاع الأخلاق والقوى بزوايا الوجه: المفهوم بزاوية الوجه عادةً خطَّان يلتقيان عند طرف الأنف يمتد أحدهما أفقيًّا إلى أسفل الأذن والآخر عموديًّا فوق الأنف فالجبهة، فيتكون من التقائهما عند أسفل الأنف زاوية هي الزاوية الوجهية المشهورة عند علماء الإنسان، وبها يميزون أصناف الناس بعضهم عن بعض، والقاعدة العمومية عندهم أن انفراج هذه الزاوية يدل على ارتقاء أصحابها، فهي في الزنوج حادة، وفي الجنس القوقاسي منفرجة، وبين ذلك مراتب (راجع زاوية الوجه).
    وأما الزاوية المرادة عند الفرينولوجيين فهي غير تلك، وإليك بيانها: ارسم الوجه الذي تريد قياس زواياه رسمًا جانبيًّا (بروفيل) ثم حدَّه من قمَّته وأسفل ذقنه بخطين أفقيين، واقسم الفسحة بين هذين الخطين إلى ثلاثة أقسام، كما ترى في الشكل ٤.
    fig119
    شكل ٤: زوايا الوجه.
    فإن الوجه فيه مقسوم إلى ثلاثة أثلاث بخطين عرضيين، ما عدا الخطين اللذين يحدَّان الوجه فوق القمة وأسفل الذقن، ويُسمون كل قسم من هذه الأقسام ثلث طول الوجه، يمر أعلى الخطين المتوسطين بمقترن الحاجبين وأسفلهما بأسفل الأنف، فإذا انقسم الوجه على هذه الصورة رسموا أربعة خطوط أخرى تتشعع من نقطة عند مقدَّم الأذن، يمر أعلاها بنقطة اتصال الحد العلوي للوجه بالجبهة، ويمر تاليه بمقترن الحاجبين، والثالث بأسفل الأنف، والرابع بملتقى الذقن بالحد السفلي، فيتكون من ذلك ثلاث زوايا قياس كل واحدة منها ثلاثون درجة، وتسمى الأولى الزاوية الجبهية، والثانية الأنفية، والثالثة الذقنية، ويستدلُّون على ارتقاء العقل بمقدار سعة تلك الزوايا في مقدَّم الوجه، ولا تكون تلك السعة إلا ببروز الوجه نحو الأمام، ومن الأمور الطبيعية المؤيدة لهذا الزعم عندهم أن وجه الطفل يكون منضغطًا ثم يأخذ بالبروز كلما نما، فإذا بلغ أشده تم بروزه، ويتضح لك ذلك من النظر إلى الشكل ٥ فإنه يمثل وجه إنسان في طفوليته وفي بلوغه، ويتساعدون في أحكامهم على عقول الناس بأقيسة الرأس المتقدم ذكرها، فإذا قاسوا رأس رجل فبلغ محيطه ١٢ قيراطًا وقاسوا زاوية وجهه فاستدلُّوا منها على بروزه حكموا بارتقاء قواه العاقلة، وقِس على ذلك.
    fig120
    شكل ٥: وجه غلام دون سن الرشد.
  • رأس نابوليون بونابرت: تفرَّد هذه الرجل حتى أصبح مثلًا في كل شيء، فهو مثال التعقُّل والشجاعة والسياسة والتدبير وغير ذلك من مواهب عظماء الرجال، وقد اتخذوا صورة رأسه مثالًا جامعًا لتلك المواهب.
    fig121
    شكل ٦: رأس بونابرت.

    فيستدلُّون بسعة جبهته الممتدة من فتحة الأذن الواحدة إلى الفتحة الأخرى مع عظم ارتفاعها على ما أودعه فيها الخالق من القوى العاقلة التي بلغت أرقى المراتب، ويستدلُّون من ملامح وجهه على درجات قواه وأمياله، فارتفاع جسر أنفه وطوله غريبان، وعظماه الوجنيان شديدا النمو يدلان على سموِّ قوة التسلط والتدبير، وبُعد المرتفق الذقني من فتحة الأذن، وطول الفك السفلي وعرضه من الجانب الواحد إلى الآخر، وانعطافه نحو الأسفل مع تقويسه العظيم، كل ذلك أدلة كافية عندهم على ارتقاء القوى الدماغية الظاهرة في الوجه، وكذلك عرض مساحة الذقن وهيئة الفم؛ فإنهما دليلان على العزم والإرادة والنظام، وهي الصفات التي اشتهر بها هذا الرجل العظيم، ومما يحسن التنبيه إليه أن وضوح هذه الملامح يعين على تعيين مراكز هذه الصفات في تفحص أدمغة الناس ودرس أخلاقهم.

    وجملة القول إن لعلم الفرينولوجيا قواعد وقوانين كتبوا فيها المطولات، فليلجأ إليها من أراد التطويل، وقد قدمنا أن أصحاب هذا العلم يغالون في معجزاته حتى قد يعيِّنون لكل قوة من القوى تلفيفًا من تلافيف الدماغ أو عقدة من عقده، ويُسمون عمل كل منها باسمه مما لا يستطيعون إثباته بالبرهان، على أننا نسلِّم معهم بأن المراكز العصبية تتعاظم قوتها بتعاظم حجمها، وأن لبعضها أجزاء خاصَّة من الدماغ مستقلة عن الأجزاء الأخرى؛ بدليل استقلال بعضها بالعمل بحيث تنام الواحدة وتشتغل الأخرى كما يحصل في بعض أحوال النوم، فإن بعضهم ينهض من فراشه وهو نائم فيمشي ويذهب ويجيء كأنه عديم التسلط على أعماله، وبعضهم إذا سألته وهو نائم أسئلة أجابك عليها بدقَّة، فإذا أفاق لم يدرِ ما فعل، على أنه قد يتذكر ذلك في نوم ثانٍ، ونرى أيضًا أن لكل قسم من الأعصاب عملًا من الأعمال الحيوية، فبعضها يشتغل بالهضم والبعض الآخر في التنفس أو غير ذلك وتنفق في عملها قوة ومادة فتدثر دقائق الأعصاب، فإذا لم تعوض بالغذاء والرقاد أدت إلى الجنون.

    والدماغ يمثِّل ملكًا في بلاد يديرها كيف شاء، وله سليقة تحرك الأعضاء لدفع الأذى عن الإنسان، وهو قائم في أعلى الجسم بعيدًا عن الخطر في قلعة متينة البنيان صلبة الجدران، تغشاها الأغطية والستور، حولها الوزراء والأعوان من الحواس والأعضاء، مما يدعو إلى الإعجاب بالحكمة الفائقة التي تظهر في كل عمل من أعمال الإنسان، وتعليلها لا يزال مجهولًا، فعسى أن يكشفه لنا العلم في مستقبل الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤