الفصل السابع عشر

الخلود: في أي شيء آمل؟

الحق أن مشكلة الخلود تتغلغل في حياتنا الشخصية وفي معتقداتنا الباطنة إلى حد عميق. فمن الجائز أن هذه، من بين جميع المسائل التي تعالجها الفلسفة، هي المشكلة التي ننتظر الإجابة عنها باهتمام يفوق اهتمامنا بكل ما عداها. ذلك لأن أي مذهب فلسفي، في نظر الكثيرين، لا بد أن يتوقف نجاحه أو إخفاقه على الإجابة التي يقدمها بشأن هذا الموضوع الذي تنعقد عليه آمال البشر … على أن هذا الموقف ينطوي على خلط مضلل بين الفلسفة والدين. وعلى أية حال، فسواء أكان توقع تحقيق هذا المطلب من الفيلسوف أمرًا مشروعًا أم لم يكن، فإن هذا التوقع أمر لا مفر منه. ومن هنا فلا مفر أيضًا من أن تحاول مختلف المذاهب الفلسفية تقديم إجابات عنه.

وهنا أيضًا ينبغي أن نبدأ بتحليل المسائل المتضمنة في هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا: «هل تبقى الشخصية الإنسانية بعد الموت؟» ذلك لأن من الواجب أن ندرك أن لفظ «الخلود» وحده كانت له في تاريخ الفكر البشري عدة معانٍ متباينة، ومن الواضح أن أية إجابة عن السؤال: «أهناك خلود؟» ستكون متوقفة على المعنى الذي نستخدم به اللفظ. كذلك ينبغي أن ندرك أن التفكير في هذا الموضوع على أساس أمانينا ورغباتنا لا يمكن أن تسفر عنه أية إجابة فلسفية عن هذا السؤال. قد تكون الإجابة المتأثرة بمثل هذا التفكير مشروعة في أوساط معينة، ولكنها لا تكاد تجد لها مكانًا في أي بحث ميتافيزيقي جاد. فإذا انتهينا، بوصفنا فلاسفة، إلى أن الخلود البشري حقيقة، أو على الأقل أمر مرجح، فينبغي أن تكون النتيجة مبنية على أساس أمتن من مجرد كونها أمرًا مرغوبًا فيه.

لذلك سنبدأ تحليلنا ببحث مختلف معاني لفظ «الخلود»؛ إذ إن موضوع الخلود من أكثر الموضوعات التي تشيع مناقشتها تعرضًا للاختلاف في فهم مصطلحاته الرئيسية باختلاف الأطراف المشتركة في مناقشته. وقد يكون من الإسراف أن نأمل في الوصول إلى تعريف نهائي للفظ الخلود، يرضي جميع القراء، ولكن من الممكن، ومن الضروري، الالتجاء إلى تعريفات مؤقتة نستعين بها في المناقشة. وأقل ما يمكننا أن نفعله هو أن نختصر عدد المعاني الممكنة للفظ، بحيث لا نستبقي منها إلا ما يمكن تبريره على أسس عقلية. ومن شأن هذا الاختصار أن يلقي بعض الضوء على تلك المشكلة التي هي على أحسن الفروض، مشكلة يشيع فيها الخلط.

(١) أنواع الخلود المختلفة

  • (١)
    الخلود البيولوجي: توجد على الأقل ثلاثة أنواع مختلفة من التجربة تندرج تحت هذا اللفظ الواحد، لفظ «الخلود». فهناك أولًا الخلود البيولوجي الذي يبلغ من الوضوح حدًّا لا يكاد يكون معه موضوعًا للخلاف. وكل ما يعنيه هذا النوع هو أننا نبقى بعد موتنا في أشخاص أبنائنا وأبناء أحفادنا، خلال الأجيال المختلفة. ولا ينطوي هذا القول باستمرار النوع عادةً على أي نوع من البقاء الشخصي؛ ولذا فقد يكون الأجدر أن يطلق عليه اسم «الاستمرار» بدلًا من «البقاء». والواقع أن أولئك الذين يؤكدون هذا الاستمرار لا يدعون للبشرية أي شيء لا يسري على كل أشكال الحياة بدورها. فالإنسان ليس أكثر أو أقل خلودًا من سائر أفراد المملكة الحيوانية، إذ إن الجميع، إذ يُسلمون مشعل الحياة، إنما يُسلمون شيئًا من أنفسهم. ومع ذلك فإن أحدًا منهم لا يُسلم هذه الفردانية التي تجعل هذا الكلب هو «فيدو» بالذات، أو هذا الشخص بعينه هو «علي». ولما كان هذا الرأي في الخلود يقتصر على استخدام المفاهيم البيولوجية، فإنه يؤكد أن كل كائن عضو حي ليس إلا مستودعًا مؤقتًا لبذور الحياة، وما حياة الفرد إلا وديعة. تسلم عند وفاته لأبنائه وبناته.
  • (٢)
    الخلود الاجتماعي: وهناك نوع ثانٍ من الخلود، لا يكاد يختلف في وضوحه واستحالة الشك فيه عن بقاء النوع، وهو البقاء الاجتماعي. ففي هذه الحالة يكون البقاء هو استمرار وجودنا بعد الموت في ذكريات أسرتنا وأصدقائنا. هذا الرأي يؤكد أن الأفراد الذين يقدمون للمجتمع أكبر الخدمات، هم الذين يقدر لهم بقاء اجتماعي أطول. وهكذا ينطوي هذا الموقف على نوع من العدالة البسيطة: فبقاؤنا يتوقف على مقدار جدارتنا، أي على كوننا قد أسهمنا في المجتمع بنصيب يستحق أن تخلد ذكراه بعد موتنا. وفي كل حالة من الحالات يظل كل ما فعلناه من خير ورحمة باقيًا بعد حياتنا، وسوف يعمل من انتفعوا من إرادتنا الخيرة على حفظ ذكرانا عطرة، والإشادة ببركاتنا. فأولئك الذين عاشوا حياة عظيمة مفيدة يصبحون آليًّا أفرادًا فيما أسماه جورج إليوت «جماعة الإنشاء الخفية»:
    بنفسي أن ألحق بجماعة الإنشاء الخفية
    لأولئك الموتى الخالدين الذين يعيشون ثانية
    في نفوس أصبحت أفضل بفضل وجودهم …
    لكي أنشد أنغامًا لا يغيب صوتها عن العالم.
  • (٣)
    الخلود الأخلاقي: هناك نوع فرعي من هذا الخلود الاجتماعي، يجتذب بقوة الشخصيات المتدينة المتحررة في العصر الحديث، وهي الشخصيات التي تجد أن من المستحيل الإيمان بجنة فيها ما تشتهيه الأنفس، ولكنها تجد أن من الأصعب الاعتقاد بأن الحياة التي تنقضي في كفاح من أجل الأخلاق، وفي سعي إلى تحقيق الخير الاجتماعي، لا يمكن أن تكون نهايتها الوحيدة سوى القبر. هذا الرأي يمكن تسميته بالخلود الأخلاقي. وهو ينطوي عادةً على ثنائية أخلاقية، تعد فيها الحياة صراعًا لا ينقطع بين قوى الخير وقوى الشر. في هذه المعركة القديمة العهد يكون الفرد أشبه بجندي قد لا يستطيع كسب الحرب بجهوده الخاصة وحدها، ولكنه يستطيع أن يقاتل بشجاعة، وربما استولى على قطعة صغيرة من الأرض بعد أن يهزم بعض الأعداء، وهناك تشبيه آخر، أثير لدى المدافعين عن وجهة النظر هذه، هو تشبيه الوجود الإنساني بالبحر الذي ينحت الشاطئ بلا انقطاع. فكل موجة جديدة، تتكون في لحظة من المحيط الشاسع، تقوم بالهجوم، وتنحت قطعة صغيرة من الأرض، أو تزعزع حجرًا صغيرًا من موضعه، ثم يعود البحر الذي أتت منه إلى ابتلاعها. وبالمثل يظهر الكائن البشري بوصفه فردًا في بحر الإنسانية الواسع، ويقوم في شجاعة بهجومه القصير على كتلة الشر التي تتداعى ببطء، ثم يغوص ثانية في الجنس الذي أتى منه. وفي هذه العودة يتخلى عن فرديته وهويته الشخصية، ولكن قطعة الشر الصغيرة التي أزالها تظل نصبًا تذكاريًّا دائمًا يخلد ذكراه ويشيد — بجهوده. وهكذا فإنه، على الرغم من ضياع شخصيته، لم يعش حياته عبثًا، فحياته قد اكتسبت، بفضل هذا النصيب الذي أسهمت به، مكانة وغاية تنأى بها عن العقم وترتفع بها إلى مستوى إنساني بالمعنى الصحيح، له مغزاه ودلالته الباقية.

(٢) الموقف التقليدي

لسنا بحاجة إلى القول بأن القلائل فقط هم الذين تكون في أذهانهم أمثال هذه المفاهيم السابقة عندما يستخدمون لفظ «الخلود». فالكلمة تعني عادة، في استعمالها العادي، بقاءً شخصيًّا بعد الموت على نحو ما، وحالة يستمر فيها وجودنا الفردي بوصفنا شخصية فريدة. فالإيمان بالخلود يعني في نظر معظم الناس إيمانًا بأنهم سوف يستمرون في الحياة بعد الموت بوصفهم أفرادًا متميزين، ستكون لهم آمال وأفعال كريمة مشابهة إلى حدٍّ بعيد لما كان لهم وهم أحياء في هذه الدنيا. وأولئك الذين يؤمنون على هذا النحو يرون أن ذلك الشكل الهزيل من أشكال الخلود، كالخلود البيولوجي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، لا يكاد يستحق التفكير فيه. وما لم يكن وجودنا بعد الموت وجودًا تظل فيه الفردية والشخصية باقية، وينطوي على استمرار في الغاية والمسعى، فإن هذا الوجود لن يكون بقاء بأي معنى معقول. أي إن الفكرتين الرئيسيتين في هذا الصدد هما الهوية والاستمرار. وما لم يتم الاحتفاظ بهما معًا، فإن معظم الأشخاص يشعرون بأنه لا يوجد خلود حقيقي. ومن المؤكد أن لفظ الخلود كما ظل الناس يستخدمونه عادة، كان ينطوي ضمنًا على الهوية والاستمرار، وعندما عبر الشعراء وأصحاب الرؤى الصوفية في كل العصور عن هذا الحلم الأزلي للبشرية، فقد كان حديثهم على الدوام منصبًّا على البقاء الشخصي.

ونظرًا إلى أن المعنى التاريخي والشعبي للفظ «الخلود» كان ينطوي على فكرة البقاء الشخصي، فإن الفيلسوف يقصر تحليله عادةً على هذا الرأي. فهو يتساءل مع سائر البشر: هل الناس يبقون بعد الموت؟ وفي أي الظروف يكون بقاؤهم لو كانوا يبقون بالفعل؟ فمثلًا، ما العلاقة بين البقاء وبين سلوك الفرد قبل الموت؟ وهل يتوقف البقاء دائمًا على كون الفرد قد عاش في هذه الدنيا حياة أخلاقية، أم أن أخلاقية حياتنا الدنيوية لا تتحكم إلا في نوع البقاء الذي سيكون لنا؟ أم أن من الممكن أن تكون الحياة بعد الموت مستقلة عن الاعتبارات الأخلاقية، بحيث يظل الخيِّر والشرير معًا باقيَين في حالة واحدة؟

العلاقة بين البقاء وبين الأخلاق: كانت هناك — كما هو متوقع — إجابات لا حصر لها عن هذه الأسئلة العويصة. والواقع أن المذاهب كانت من الكثرة ومن التنوع بحيث إن أي تصنيف يغدو مستحيلًا. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نصدر بعض الأحكام العامة الصحيحة فيما يتعلق بالفكر الغربي. فقد كان هناك أولًا، منذ الفترة اليونانية المتأخرة، اتجاه إلى النظر إلى أفعال معينة، أو معتقدات معينة، أو أنماط معينة للسلوك، على أنها شرط ضروري لبقاء الشخص بعد الموت. وبعبارة أخرى فقد كان يعتقد أن الحالة التي يظل فيها الفرد باقيًا، وربا مجرد البقاء على إطلاقه، تتوقف إما على ما يؤمن به الشخص، وإما على نوع الحياة التي يعيشها، أو كليهما معًا. ولا جدال في أن التأثير القوي للمسيحية واضح في هذه الحالة. ذلك لأن الكنيسة كانت ترى على الدوام أن قبول تعاليم لاهوتية معينة، بالإضافة إلى السلوك في الحياة وفقًا للوصايا العشر، هو شرط لا بد منه للخلاص. ولا شك أن مفكرين قلائل في العالم الغربي هم الذين تمكنوا من أن يضعوا مذهبًا إيجابيًّا في الخلود لا يظهر فيه تأثير هذا التراث، بل إنه ما زال في حكم المستحيل حتى اليوم، بعد أن فقد الإيمان اللاهوتي كثيرًا من سيطرته على أذهان الناس، أن نجد مذهبًا معاصرًا في الخلود يقول ببقاء الناس جميعًا في حالة واحدة، بغضِّ النظر عن مكانتهم الأخلاقية. وهكذا فإن الغرب قد تشكل بالتفكير المسيحي إلى حد أن الخلود الذي لا يرتبط بالأخلاق يكاد يكون أمرًا يستحيل تصوره. فإذا لم يكن العالم الآخر مكانًا يثاب فيه الأبرار ويعاقب الأشرار، أو تؤتي فيه الحياة الأخلاقية أُكُلها، فإنه يغدو بالنسبة إلى معظمنا في حكم العدم.
الاتجاه اليوناني: كثيرًا ما يشعر الدارس المبتدئ للفلسفة بأنه قد صُدم إذ يعلم أن اليونانيين القدماء لم تكن لديهم فكرة واضحة عن الحياة الأخرى بوصفها شيئًا نستحقه بعد كفاح أخلاقي. فمعظم الطلاب اليوم يستطيعون أن يفهموا أن مفهوم البقاء عند اليونانيين لم تكن له صلة بإيمان الفرد، ولكن من الصعب عليهم أن يفهموا أن الوجود بعد الموت لم تكن له بدوره علاقة وثيقة بسلوك المرء. وحتى لو لم تكن فكرة «الجنة» و«النار» قد أصبحت هي محور نظرتنا إلى هذه الأمور، فإنه تصور حياة أخرى تكون للناس فيها مكانة نسبية مماثلة للمكانة التي كانوا عليها قبل الموت تبدو لنا فكرة غير منطقية. ولكن الاعتراض الوحيد على ذلك هو اعتراض تاريخي: فقد كانت هذه الفكرة تبدو في نظر اليونانيين منطقية تمامًا. على أن هذا الموقف، سواء أكان منطقيًّا أم لم يكن، يبدو في نظر معظمنا غير أخلاقي. فمثل هذا الرأي يثير مشاعرنا الخلقية؛ إذ إننا نفضل أن نجرب حظنا في عالم يتوقف البقاء فيه — على نحو ما — على جدارتنا بالبقاء. ونحن نشعر بأننا إذا شئنا أن يكون للخلد أي معنى على الإطلاق، فلا بد أولًا أن يكون له معنى أخلاقي.

والأرجح أنه لو قدر لمفكر يوناني قديم أن يعرف اتجاهنا الحديث هذا، لوصفه بأنه اتجاه غير ناضج أخلاقيًّا — وهو ما ينتهي إليه الشكاك المحدثون بدورهم؛ ذلك لأن هذا الموقف ينطوي ضمنًا على السؤال الآتي: «لمَ نكون فضلاء إذا كان الخلود من نصيب الأخيار والأشرار معًا؟» وهو سؤال يوحي بدوره بأن كل سلوك فاضل ينبغي أن يكون الدافع إليه هو الأمل في ثواب أو مكافأة. على أن الشخص الناضج أخلاقيًّا — على ما يقولون — إنما يفعل ما يفعل لأنه حق، لا بوصفه قسطًا يدفعه مقدمًا لدخول الجنة، أو رشوة لتجنب الفناء. ومع ذلك فإن معظم الناس يرون أن الحياة الأخرى، أيًّا كانت صورتها، ينبغي أن تكون وجودًا يبرر الحياة الأرضية ويكملها. وينبغي أن تكون حالة تتحقق فيها الأماني الأخلاقية. فلا بد أن يكون ذلك عالمًا يتوج فيه السعي وراء الخير بالنجاح، ويكتمل فيه تحقيق حياة الإنسان الأخلاقية. فالخلود لا ينبغي أن يقتصر على كونه استمرارًا لحياتنا، وإنما ينبغي أيضًا أن يكون اكتمالًا لها وبلوغًا بها إلى غايتها.

(٣) التضاد بين الموقفين المثالي والطبيعي

من الواضح أن الشروط التي يفترض أنها تتوافر في الخلود، والتي تعبر عنها كلمة «ينبغي» أو «لا بد»، في العبارات السابقة، لا تكون واجبة إلا إذا كان الكون تجسدًا لقيم أخلاقية أو حريصًا عليها؛ أي بالاختصار، إذا كان يفي بشروط المفكر المثالي فيما ينبغي أن يكون عليه الكون لكي يكون «خيرًا». فمن الجلي أنه إذا كان نظام العالم أخلاقيًّا، فلا بد من نوع من الحياة الأخرى من أجل مواصلة تحقيق القيم الخلقية وحفظها بصورة دائمة؛ ذلك لأن من الأمور التي نلمسها جميعًا أن أمانينا الأخلاقية نادرًا ما تتحقق هنا، في هذه الحياة؛ ففي كثير من الأحيان «يموت الطيبون صغارًا»، وحتى عندما لا يموتون، نجد أن كثيرًا من الأخيار يحيون حياة شاقة عسيرة على حين أن الأشرار يفلحون في حياتهم غالبًا، وحتى عندما لا يفلحون، فيبدو في كثير من الأحيان أنهم يستمتعون بحياتهم أكثر مما يستمتع بها كثير من القديسين، وهناك لحظات لا حصر لها في حياة أي شخص، تبدو فيها الظروف مخيبة لأنبل مقاصدنا، ويتحول الفعل الذي بدأ بنية طيبة، أمام أعيننا ذاتها، إلى فعل من معدن أخس. فلا يمكن منطقيًّا أن نتصور الكون نظامًا أخلاقيًّا إلا إذا افترضنا عهدًا للعدالة النهائية، تجنى فيه آخر الثمار التي كان من المفروض أن تجنى من نوايانا الطيبة.

ومن الطريف أن نلاحظ، عند هذه النقطة، أن أشخاصًا كثيرين ممن لا يؤمنون ببقاء الشخصية بعد الموت، يرون مع ذلك أن الكون حريص على تحقيق القيم وحفظها؛ أي إنه يعمل في اتجاه الخير. هذا الرأي يمثل امتدادًا للرأي الاجتماعي في الخلود، الذي ناقشناه من قبل. وعلى الرغم من أن القائلين بهذا الرأي لا يحددون بدقة كيف يمكن متابعة النصيب الذي يسهم به كلٌّ منا في الخير، والاحتفاظ به على المستوى الكوني، فإنهم جميعًا متفقون على أن القيم هي أنفس ما في الكون، وعلى أن الكون منظم بحيث يضمن تحقيقها واستمرارها، بغضِّ النظر عما يحدث لنا بوصفنا أفرادًا.

وينبغي أن يلاحظ أن فكرة بقاء القيم هذه تنطوي على أكثر من مجرد احتفاظ المجتمع بالنصيب الذي يسهم به كل فرد. ففي استطاعتنا أن نتصور المجتمع وقد أدار ظهره للقيم التي أضنى الجنس البشري نفسه في تحقيقها، كما حدث في العهود المظلمة في أوائل العصر الأوروبي الوسيط، غير أن المذهب الذي نحدد بصدده يرى أن جوانب الخير هذه لا يقضى عليها في هذه الحالة، وإنما ترجأ فحسب، إما لكي تعود إلى الظهور في تاريخٍ تالٍ (كما حدث بعد العصور المظلمة)، وإما لكي يحتفظ بها بوصفها إسهامًا دائمًا في مجموع الخير الموجود في الكون.

هذا الرأي، وكذلك الرأي السابق القائل إن الخلود ازدهار للقيم الخلقية، يعدان تعبيرين مميزين عن الميتافيزيقا المثالية. فكلا الرأيين يفترض ضمنًا حقيقة نهائية، إما أن تكونه هي ذاتها الخير، وإما تفترض الخير بوصفه العنصر الرئيسي المكون لها، وكلاهما يفترض نظامًا للعالم هو قطعًا أخلاقي، لا آلي. وينطوي كلٌّ من المذهبين ضمنًا على القول بعالم ملائم للإنسان ولكل ما هو رفيع في طبيعته البشرية، وكلاهما يضمن تحقق هذا العنصر الرفيع وحفظه على الدوام.

ولا نكاد نجد أنفسنا بحاجة إلى القول بأن أية ميتافيزيقا تؤمن بالمذهب الطبيعي لا بد أن تقضي على مثل هذه الآراء من أساسها. فصاحب المذهب الطبيعي لا يحتاج إلى افتراض الخلود من أجل إكمال مذهبه منطقيًّا أو أخلاقيًّا. فلما كان يؤمن بأن الكون غير مكترث بالقيم البشرية، وبأنه لا توجد علاقة ضرورية بين الواقع والخير؛ أي بين ما يوجد وما نود أن يوجد — فإنه لا يستطيع الالتزام بتلك الشروط التي يقول المثالي إن الخلود يفي بها منطقيًّا. ولما كان الذهن البشري هو الشيء الوحيد الذي يعبأ بتحقيق القيم في العالم الذي يقول به المذهب الطبيعي، فكيف يمكن أن يقال إن النضال الأخلاقي لا تكون له قيمته إلا بالنسبة إلى البقاء بعد الموت؟ وبعبارة أخرى، فالمثالي يرى أنه إن لم يكن هناك وجود بعد الموت لإتمام المسعى الأخلاقي، فلن يمكن أن تكون للقيم الأخلاقية دلالة كونية. وهذا ما يرد عليه صاحب المذهب الطبيعي بقوله: «بالضبط! فكل هذا الحديث الطنان عن القيم الكونية إنما هو محاولة من الإنسان لإضفاء أهمية على رغباته وأمانيه الخاصة. إن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أن الاعتقاد بأن الكون يرى الأشياء كما نراها، ويحلم كما نحلم، ويستهدف غايات كغاياتنا، ومثلًا عليا هي مثلنا، وهو أمر يبعث الراحة في نفوسنا، بل يرضي غرورنا. ومن المؤكد أن الأمور لو كانت كذلك، لكان هذا شيئًا رائعًا بحق». غير أن صاحب المذهب الطبيعي يذكرنا، كما يفعل دائمًا بأن كون هذا الموقف أمرًا مرغوبًا فيه هو أمر لا صلة له على الإطلاق بحقيقته، وبأن منطقيته لا علاقة لها بواقعيته، وبالاختصار، فإن هذه المحاولة المثالية لإلحاق الأماني البشرية بقطار الكون ليست إلا تشبيهًا بالإنسان، ولكن بصورة مهذبة.

موقف المذهب الطبيعي: هل يعني ذلك كله أن المذهب الطبيعي لا يؤمن بالخلود؟ إننا إذا كنا نعني بهذا اللفظ أي شيء أكثر من استمرار النوع أو البقاء في المجتمع، فإنه يلزم منطقيًّا عن وقف المذهب الطبيعي استحالة أن يكون هناك خلود كهذا. أي إنه، مثلما أن منطق المذهب المثالي يرغم صاحبه على الاعتراف بأن هناك على الأرجح بقاء للشخص بعد الموت، فإن المنطق الذي ينطوي عليه موقف المذهب الطبيعي يدفعه إلى الشك في أي احتمال كهذا، وربما إلى إنكاره تمامًا. صحيح أن صاحب المذهب الطبيعي لا يملك ما يجزم به في هذه المسألة على نحوٍ قاطع، وهو عادةً يتخذ موقفًا لاأدريًّا أكثر منه قطعيًّا توكيديًّا. ولكن من الواضح مع ذلك أنه، وإن لم يكن يستطيع إنكار البقاء بعد الموت بأي قدر من اليقين، فإن منطق مذهبه بأسره من شأنه أن يجعل الإيمان بالخلود غير ضروري وغير منطقي. والأمر هنا مماثل لما كنا عليه عند بحثنا في مشكلة وجود الله. ففي كلتا المسألتين لا يوجد دليل تجريبي أو برهان عقلي، بل إن الأساس الوحيد للإيمان هو نوع من المنطق الأخلاقي، كما اعترف «كانت» وكثير غيره من الفلاسفة المحدثين صراحة. فقد بدا لهم أن إنكار وجود الله وخلود النفس يؤدي إلى إنكار وجود نظام أخلاقي موضوعي أو مطلق في الكون. هذه النتيجة، التي اعترفت بها المدرستان الكبريان المتنافستان من مدارس الفكر الفلسفي، تلقى قبولًا فوريًّا عند صاحب المذهب الطبيعي، وتدمج في نظرته إلى العالم. أما المثالي فلا يتصور هذه الفكرة. والواقع أن من العسير أن نرى كيف يستطيع المثالي أن يقبلها دون أن يعرض بناء الفكر المثالي بأسره للخطر.

(٤) الأمل الأكبر للمثالية

لما كان المثالي هو الذي يأخذ على عاتقه مهمة إثبات بقاء الشخصية بعد الموت، فإن من العدل أن نختم مناقشتنا للخلود بتلخيص لاستدلاله ينطوي على تعاطف معه. ولسنا بحاجة إلى ترديد الحجة الأخلاقية؛ إذ إننا انتهينا لتوِّنا من عرضنا لها. ولكن ما نود أن نوجه إليه اهتمامنا هنا هو الحجة الميتافيزيقية الأنطولوجية؛ إذ يبدو أن كثيرًا من المثاليين ينظرون إلى هذه الحجة، على أنها أقوى حتى من الدليل الأخلاقي. ولنذكر أن الفكرة الأساسية العامة للميتافيزيقا المثالية هي الاعتقاد بأن الواقع النهائي ذو طبيعة ذهنية أو روحية، وأن النظام الموضوعي للوجود المادي؛ أي العالم الطبيعي — له حقيقة ثانوية أو مشتقة. ولنعد مرة أخرى إلى اقتباس عبارة من هوكنج، هي التي يقول فيها إن المثالية ترى أن الاكتفاء الذاتي البادي للطبيعة إنما هو وهم، فالطبيعة تعتمد في وجودها على شيء أبعد منها، أو وراءها، أو فوقها. هذا الشيء هو «الذهن» بمعناه الشامل. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن المثالية الذاتية (عند باركلي) والمثالية الموضوعية (عند هيجل) لا تتفقان تمامًا في طريقتيهما في إرجاع الوجود إلى الذهن. غير أن جميع أنواع التفكير المثالي تتفق، على الأرجح، على أن المادة، وعالم الموضوعات الفيزيائية بأسره، يستمد معناه ووجوده آخر الأمر، من عالم فوق الحسي، هو عالم الذهن أو الأفكار (المثل) ومن ثم فإن جميع مدارس المثالية تنكر أولوية المادة، وإنما تعطي كل الأولوية؛ أعني الأولوية المنطقية والأنطولوجية والزمنية — لنظام مادي في الوجود.

والنتائج التي تترتب على هذا الرأي بالنسبة إلى موضوع الخلود واضحة. فإذا كانت الأولوية «للذهن»، أو «الفكر»، أو «الروح»، أو «العقل»، وإذا كان العالم يستمد معناه (ووجوده آخر الأمر) من هذا المصدر غير الفيزيائي، فمن الواضح أننا، بوصفنا أذهانًا أو أرواحًا أو شخصيات، يمكن أن نوجد بمعزل عن أجسامنا العضوية. ذلك لأن الذهن (في الأنطولوجيا المثالية) يمكن منطقيًّا أن يوجد بمعزل عن الجسم، ما دام ينتمي إلى نظام للوجود أكثر أولية وأكثر «حقيقة». أما العكس فليس ممكنًا، فقد يستمر وجود الجسم مؤقتًا بمعزل عن الذهن أو النفس التي كان الجسم يئويها حتى عهد قريب، ولكنه لا يمكن أن يوجد، ولو بصفة مؤقتة، مستقلًّا عن كل ذهن؛ أي مستقلًّا عن «الذهن الإلهي» أو «المطلق». وهكذا يرى المثالي أن بقاء الشخصية بعد الموت أو بعد زوال الجسم المادي ليس ممكنًا فحسب، بل هو مرجح. والحق أن منطق المثالية يجعل هذا البقاء أمرًا يكاد يكون مؤكدًا. فإذا كان أساس وجود الأجسام، كما رأينا في الفصل الثالث، هو أن تكون جسرًا تتصل بواسطته الأذهان فيما بينها، فمن الممكن أن نتصور أن توجد هذه الأذهان ذاتها مستقلة عن أي كائن عضوي مادي. أي إننا ما إن نفترض أولوية الذهن أو الروح فلن يعود هناك شيء يحول دون الخلود. فلو سلمنا بهذه المصادرة الأساسية للمثالية، فإن بقاء الشخصية الإنسانية بعد الموت يكون أكثر من مجرد فكرة معقولة؛ إذ يغدو احتمالًا مرجحًا رائعًا.

(٥) مشكلة الإيمان النهائي

بأي شيء يمكننا أن نؤمن إذن؟ إن المسألة تبدو الآن واضحة: ففي إمكاننا أن نؤمن بأي شيء لا يوجد دليل تجريبي يؤدي إلى استبعاده، ويكون في الوقت ذاته متمشيًا مع موقفنا الفلسفي الأساسي. ومن هنا فإنه لا توجد مشكلة أخرى من المشكلات التي تتناولها الفلسفة، يظهر فيها الشقاق بين المذهبين الطبيعي والمثالي بنفس القدر من الوضوح الذي يظهر به في موضوعَي الله والخلود. ذلك لأننا لما كنا في حالة هذين الموضوعين نعالج مشكلات لا توجد بشأنها إلا أدلة تجريبية ضئيلة، أو لا توجد أدلة على الإطلاق، فليس هناك اعتقاد ينبغي استبعاده بصفة قاطعة لأسباب تجريبية. وبالطبع لا يوجد اعتقاد يقبل بوضوح بناء على هذه الأسباب؛ لذلك فإن نظرتنا الفلسفية العامة إلى العالم هي التي ستتحكم بالضرورة، آخر الأمر، فيما نؤمن به، ما لم نكن بالطبع غير متسقين في تفكيرنا بحيث نتمسك بمعتقدات متناقضة. أما إذا افترضنا أن معتقداتنا متسقة، فإن آرائنا في تلك المشكلات القصوى، كمشكلة وجود الله وبقاء الشخص بعد الموت، ستكون هي الآراء التي تنسجم مع مذهبنا الفلسفي في مجموعه. فنحن سنؤمن عندئذٍ بما يمكننا أن نؤمن به في إطار هذا المذهب. أو بعبارة أدق، فنحن سنأخذ بأية معتقدات تلزم لإتمام مذهبنا وجعله كله مذهبًا تسوده وحدة جامعة. وهنا نجد المثالي والطبيعي يفترقان أشد ما يكون الافتراق — أعني افتراقًا لا رجعة فيه. إذ يتعين على كلٍّ منهما، لكي يجعل نظرته إلى العالم متسقة وكاملة، أن يتابع نتائج مصادراته الأساسية حتى نهايتها المنطقية، بحيث إن كل خطوة يخطوها تزيده ابتعادًا عن خصمه الفلسفي.
  • (١)
    بالنسبة إلى المثالي: يرى المثالي، الذي يعطي الأولوية للجانب الفكري من الوجود، ويجعل عالم الروح هو الأساس النهائي، أنه «لا شيء مستحيل التحقيق من أماني الإنسان العليا».١ وعلى حين أنه قد لا يكون هناك، على الأرجح، أفراد كثيرون في هذه المدرسة يؤمنون «ببعث الجسم ودوام الحياة أبدًا» بالمعنى اللاهوتي التقليدي، فإن أغلبية منهم تقبل فكرة وجود نوع معين من البقاء بعد الموت، ولا سيما إذا كان ذلك بقاء للعناصر الأكثر معقولية وأخلاقية في طبيعة الإنسان. وهنا نجد، كما نجد في مسائل كثيرة أخرى، أن الموقف والاتجاه العام للمثالي متعاطف بقوة مع موقف الدين واتجاهه. وعلى الرغم من أن عقل المثالي قد يكون أقوى في نزعته النقدية من عقول معظم رجال الدين (وهو قطعًا أقوى في نزعته التحليلية) فإنه يقبل لنفسه راضيًا أن يقوم بدور التابع لهم. وكل ما في الأمر أن المثالي يتحدث عادةً عن «المطلق» بدلًا من «الله»، وعن «حفظ القيم» بدلًا من «الجنة أو النعيم»، فيكون الفارق الرئيسي بين الفيلسوف المثالي وبين رجل الدين هو في تأكيد الأول للأوجه النظرية لهذه المشكلات القصوى، في مقابل تأكيد الثاني لأوجهها العملية.
  • (٢)
    بالنسبة إلى فيلسوف المذهب الطبيعي: فما هو موقف فيلسوف المذهب الطبيعي إذن؟ لما كانت الإجابات التي يقدمها هذا الفيلسوف عن هذه المشكلات تتعارض بصورة مباشرة مع آمال الإنسان وأمانيه، فمن العسير عرض الردود التي يأتي بها بطريقة تروق لكثير من القراء. والحق أنه، أيًّا ما كان المصدر الذي تقع على عاتقه مهمة الإتيان ببراهين (أو بينات) منطقية أو تجريبي، فإن البينة الانفعالية تقع قطعًا على صاحب المذهب الطبيعي؛ إذ يبدو رده في نظر معظم الناس أقسى وأصلب وأكثر «واقعية» من اللازم. ذلك لأن الموقف السائد بين الناس هو تقريبًا الموقف الآتي: لما كنا لا نستطيع إثبات إجاباتنا على أي نحو، ولما كان لنا بالتالي الحق في الإيمان بأية وجهة نظر، فمن المؤكد أن الأفضل هو الأخذ بالرأي الذي يتيح لنا مزيدًا من الطمأنينة ويجعل الحياة أجدر أن تعاش — ومن الواضح أن هذا هو الرأي المثالي.

وسوف نقول المزيد عن هذا الموقف بعد قليل، ولكن يحسن بنا أولًا أن نقدم عرضًا موجزًا لموقف المذهب الطبيعي؛ إذ إننا لن نستطيع أن نحكم بمدى إمكان الأخذ بهذا الموقف إلا بعد أن نفهمه فهمًا دقيقًا.

وينبغي أن نذكر أنه، على الرغم من استعداد فيلسوف المذهب الطبيعي للانتظار حتى يبت العلم في مشكلة «المادة Stuff» النهائية التي يصنع منها الكون، فإنه واثق أن الطبيعة العامة لنظام العالم هي طبيعة فيزيائية. وهو لا يعني بذلك ضرورة أن الكون «ليس إلا آلة هائلة»، وإنما يعني أن عملياته هي عمليات فيزيائية، وقواه قوى فيزيائية، وقوانينه قوانين فيزيائية. والنتيجة التي تترتب على ذلك هي أنه لا يمكن أن يوجد إلا نظام أو نمط واحد للوجود — أو بعبارة أخرى أن كل ما يوجد أو يؤدي وظيفته إنما هو جزء من نظام الطبيعة. وهذا يؤدي صراحة إلى استبعاد أي شيء فوق الطبيعة، أو أي شيء عال، من فئة الوجود الموضوعي، فالنظام الفيزيائي أو الطبيعي يضم في داخله كل ما هو موجود.
إنجازات العلم: يرى فيلسوف المذهب الطبيعي، شأنه شأن العالم الذي يستمد منه الجزء الأكبر من معلوماته والاتجاه العام لتفكيره، أن العمليات الفيزيائية والقوانين التي تسري عليها كافية لتعليل جميع الظواهر. أما الحالات التي تكون المبادئ المتضمنة فيها غير معروفة بعد، فإن فيلسوف المذهب الطبيعي يفترض أنها عندما تكتشف سيتضح أنها فيزيائية و«طبيعية»، مثلها مثل تلك المبادئ التي أثبتها العلم من قبل. ونظرًا إلى التوسع المطرد للتفسيرات الطبيعية في ميدان تلو الآخر من ميادين التجربة البشرية، فلا بد أن يكون المرء على قدر كبير من العناد لكي يستطيع تحدي هذا الافتراض، وهكذا فإن كثيرًا من الظواهر التي كانت تعد من قبل غامضة، بل خارقة للطبيعة، أصبحت تخضع للتحليل العلمي، بحيث إن الشخص الذي ينادي بأن بعض الظواهر الخاصة لا يمكن أن تخضع للتفسير العلمي على أسس فيزيائية لا بد أن يقع على عاتقه عبء ثقيل من الإتيان بالبينة على ما يقول. فلما كان فيلسوف المذهب الطبيعي يسلم بأن لكل الظواهر مكانًا في الطبيعة، فإنه لا يستطيع — منطقيًّا — أن يعترف باستثناءات من هذا النظام الشامل للأشياء وللعمليات جميعًا.

ومن بين هذه العمليات الطبيعية، نجد للعمليات التي تدرسها مختلف العلوم البيولوجية (وضمنها علم النفس) مكانة هامة في أي بحث عقلي في موضوع الخلود. ذلك لأن عالم البيولوجيا بدوره قد فرض سيطرة القوانين الفيزيائية الكيموية والتفسيرات الطبيعية على ميدان البيولوجيا بأسره تقريبًا. وفي عهد أقرب قام علم النفس بتوسيع هذه السيطرة بحيث تمتد إلى ذلك الميدان الذي ظل طويلًا يعد قلعة يتحصن فيها كل ما هو عالٍ وخارق للطبيعة، وأعني به ميدان الشخصية الإنسانية أو «النفس». ولم يكتشف علم البيولوجيا أو علم النفس، كما تنبأ العالم وفيلسوف المذهب الطبيعي بجرأة منذ عهد بعيد، أية ظواهر تتناقض مع مصادرات المذهب الطبيعي، وإنما أيدت الكشوف، واحدًا تلو الآخر، النظرية العلمية الأساسية القائلة بوجود علاقات عِلِّية يمكن التعبير عنها كميًّا، حتى أصبح من الممكن أن نأمل أن يجيء اليوم الذي يتمكن فيه علم النفس من تقديم تفسيرات لكل سلوك بشري تكون مبنية على أساس المذهب الطبيعي.

ومن أهم التعميمات التي صاغها عالم البيولوجيا، التعميم الآتي: لا توجد حياة بمعزل عن كائن عضوي، ولا يوجد ذهن، أو فكر، أو وعي بمعزل عن بناء فيزيائي عصبي من نوع ما. وبعبارة أبسط، فإن علم البيولوجيا يقول إنه لا يستطيع الاهتداء إلى مثال لحياة غير عضوية، أو لذهن بلا جسم. ويعبِّر علم النفس عن هذه الفكرة ذاتها بقوله إن كل تغير نفسي، وكل حادث ذهني هو، بقدر ما يستطيع هذا العلم أن يكتشف، إما مسبوق وإما مصحوب بتغيرات عصبية (أي فيزيائية)، وهذه الأخيرة تفترض بالطبع وجود بناء أو تركيب عصبي. ولما كان عالم النفس عاجزًا عن الاهتداء إلى أي استثناء لهذا الأساس العصبي للنشاط الذهني، فقد كان من المنطقي أن يتوسع في هذا الحكم بحيث يجعل منه إحدى مصادرات علمه. هذه المصادرة يمكن التعبير عنها كما يلي: كل حادث نفساني يفترض مقدمًا حادثًا عصبيًّا في صورة تغيرات في الطاقة داخل مجموعات الخلايا العصبية، ويعتمد على هذا الحادث العصبي على الأرجح. وعلى الرغم من أن عالم النفس يشعر بالحرج عندما يحاول الخارجون عن ميدانه أن يطلقوا عليه اسم «المادي»، فليس من الصعب أن نفهم أن مصادرته الأساسية هذه يمكن أن تفسر تفسيرًا ماديًّا، كما يمكننا أن نفهم السبب الذي يجعل المدارس الفلسفية ذات الاتجاه الواقعي الصلب تهيب في كثير من الأحيان بعالم النفس بوصفه شاهدًا خبيرًا، لكي يؤيد على كره منه موقفها المعادي للمثالية والروحية.

النظرة الوظيفية: ينبغي أن نلاحظ أن تعميمات العلوم البيولوجية هذه تتمشى مع الأسلوب المتبع لدى معظم العلماء، الذين يأخذون بالنظرة الوظيفية إلى الظواهر كلما كان ذلك ممكنًا. ومعنى ذلك، فيما يتعلق بالحياة والذهن، النظر إلى الظواهر البيولوجية بطريقة غير جوهرية. وبعبارة أبسط، فهو يعني أن الحياة والذهن معًا يعدان «وظائف للكائنات العضوية»، لا كيانات في ذاتها. فليست «الحياة»، بالنسبة إلى عالم البيولوجيا، إلا لفظًا مريحًا للتعبير عن جموع عمليات معينة في التمثيل الغذائي والتكيف والتكاثر، لا جوهرًا أو مادة تدخل الكائن العضوي عند مولده وتخرج منه عند مماته. وقد يفيد في تقريب هذه الفكرة إلى الأذهان أن نضرب لها مثلًا من ميدان الميكانيكا. فالفيزيائي يعرف الحركة بأنها وظيفة للأجسام، تمثل بذلًا للطاقة، وهي ليست كيانًا أو جوهرًا في ذاته. ولو كانت الحركة مجرد بذل للطاقة فإن هذه الطاقة عندما تتبدد كلها بالاحتكاك، لا يعود الشيء يؤدي وظيفته بوصفه شيئًا متحركًا؛ أي إنه يتوقف. فأين ذهبت الحركة؟ إذا كنا نعني «بالحركة» بذلًا للطاقة، فإنها قد تبددت في صورة طاقة. أما إذا كنا نعني بالحركة مادة أو جوهرًا كان حاضرًا في الشيء، «فإنها» لم تذهب إلى أي مكان، «لأنها» لم تكن موجودة أبدًا. ولنضرب لذلك مثلًا أبسط، هو ذلك اللغز القديم الذي يتسلى به الأطفال: أين يذهب «حجرك» عندما تقف؟ والجواب بالطبع هو أنه لا يذهب إلى أي مكان؛ لأن «الحجر» ليس كيانًا أو جزءًا من جسمك له وجود مستقل، كأنفك مثلًا، وإنما هو علاقة بين أجزاء معينة من جسمك عندما تكون في مواقع محددة، بالنسبة إلى بعضها وإلى المستويين الرأسي والأفقي.
النظرة الوظيفية في مقابل النظرة الجوهرية: عندما يحدث، أثناء قيادة المرء سيارته بسرعة، أن تصطدم إحدى الحشرات فجأة بزجاج السيارة الأمامي وتتحطم الحشرة على الزجاج، فمن الطبيعي أن نتساءل: أين ذهبت هذه الحياة الضئيلة؟ ذلك لأن التحول من كائن عضوي كامل يقوم بوظائفه كلها، إلى مجرد بقعة من المادة، يبلغ من الضخامة حدًّا يصعب معه على المرء ألا يقول بأن «شيئًا» معينًا، أو «مادة»، أو (جوهرًا) قد اختفى. وعندما يقتل أمامنا إنسان بطريقة عنيفة وفورية مشابهة، يكون هذا الاعتقاد أقوى حتى مما سبق. ومع ذلك فإننا حين نعود بأذهاننا إلى النظرة الوظيفية التي يقول بها عالم البيولوجيا، نتذكر أن «الحياة» ليست إلا القدرة على القيام بعمليات معينة، أو مجموعة هذه العمليات — وأعني بها عمليات التكاثر والتعويض الذاتي والتكيف مع البيئة. فعندما يدمر البناء العضوي لأسباب طبيعية (كتقدم السن مثلًا) أو نتيجة للإصابة في حادث، فمن الواضح أنه لا يعود يؤدي وظيفته عندئذٍ؛ أي إنه لا يعود «حيًّا». فأين ذهبت «الحياة»؟ إننا إذا استخدمنا اللفظ بالمعنى الوظيفي الذي يستخدمه به العلم، لقلنا إن «الحياة» لم «تذهب» إلى أين مكان. فالقدرة الوظيفية لم تعد موجودة، ولكن ذلك لا يعني أنها «ذهبت» إلى أي مكان، مثلما أن اختفاء «حجرك» عندما تقف لا يعني أنه ذهب إلى أي مكان. وبعبارة أخرى، فإننا بمجرد أن نحرر تفكيرنا من النظرة الجوهرية إلى الحياة، فإن قدرًا كبيرًا من السر والعلو الذي ينسب عادةً إلى ظاهرة الموت يختفي فورًا.

مثل هذا يصدق على «الذهن» أو «الوعي» أو «الشخصية». فإذا كانت لدينا نظرة جوهرية إلى الشخصية، كان من الطبيعي أن نشعر بأن من الضروري تعليل اختفائها عند الموت، وكان من المنطقي تمامًا أن نتساءل عما حدث لها، ونضطر إلى افتراض سماء، أو عالم آخر من نوع ما بوصفه مقرًّا لحياتها الأخرى المفترضة. أما إذا أخذنا بالرأي الوظيفي في الذهن، كما يقول به علم النفس المعاصر، فإن مثل هذا الافتراض لا يغدو غير ضروري فحسب، بل يصبح غير منطقي. ذلك لأننا إذا نظرنا إلى «الذهن» على أنه مجرد اسم مريح لمجموع قدرات الفرد وخبراته — أو بعبارة أدق، لردود أفعاله العصبية الحالية الممكنة — فلن يكون في اختفاء هذا «الذهن» عند الموت أية مشكلة بالنسبة إلينا؛ إذ إن القدرة على رد الفعل، التي تتألف من طاقة عصبية كامنة، قد طرأ عليها تغير لا يزيد في غموضه على أي تغير للطاقة في الطبيعة. وماذا نقول عن ردود الأفعال العصبية المتراكمة، التي نسميها «أنماطًا للعادات» و«ذكريات»؟ إنها لما كانت تمثل تغيرًا دائمًا أو شبه دائم في التركيب العصبي، فلا بد أن تختفي هذه التغيرات بدورها بتحلل هذا الجهاز العصبي المعين، أو حدوث تغير في تركيبه الجزئي. وبعبارة أخرى فإن السؤال: «أين ذهب الذهن أو الشخصية؟» يغدو مشابهًا للسؤال: «أين يذهب شكل النبات أو تركيبه عندما يذوي ويتحلل؟» ذلك لأن «شكل» النبات و«تركيب» الذهن إنما هما تنظيم، وتنظيم فحسب. وهكذا يعود علم النفس الحديث إلى رأي أرسطو في هذا الصدد: فالذهن هو صورة الكائن العضوي (أو وظيفته، كما نفضل نحن أن نسميه)، وهو بوجه خاص وظيفة المخ والجهاز العصبي المركزي. فإذا تعرضت هذه الوظيفة، نتيجة للتحلل أو لحادث أو صدمة، إلى خلل مدمر، أو توقفت تمامًا، كانت هذه نهاية «الذهن» أو «الشخصية».

التعارض الأساسي بين الرأيين: من الواضح أن رأي المذهب الطبيعي، بما ينطوي عليه من تأكيد لفناء الجسم والذهن في وقت واحد، يبنى على مصادرة مضادة للمثالية، هي أن النظام الفيزيائي له الأولوية. والأهم من ذلك بالنسبة إلى المشكلة التي نحن بصددها، هو أن فيلسوف المذهب الطبيعي يرى الذهن معتمدًا تمامًا على التركيب الفيزيائي (والتركيب العصيب على الأخص) للجسم. وبعبارة أخرى، فليس الجسم مجرد مقر «لنفس» مستقلة، أو أداة لها، وإنما الأمر على عكس ذلك: فالذهن لا يعتمد على الكائن العضوي الفيزيائي في وجوده فحسب، بل إنه هو ذاته لا يعدو أن يكون أداء هذا الكائن العضوي لوظائفه، ولا سيما حين يكون هذا الأداء مصحوبًا بالوعي. أما المثالية فقد رأينا أنها تؤمن بأن للذهن مكانة وقيمة وأهمية أعظم بكثير مما يمكن أن يكون للجسم. كما رأينا أن المثالي يرى في الجسم خادمًا أو أداة للذهن الذي يسكنه مؤقتًا. وهكذا يتضح التعارض الأساسي بين وجهتَي النظر؛ ذلك لأن كلًّا منهما؛ إذ تبدأ بمصادراتها الخاصة، لا يمكنها إلا أن تصل إلى نتائج يقينية. فإذا كانت للذهن الأولوية في نظام العالم، وكان الوعي والطابع الفردي والشخصية هي أهم عناصر هذا النظام، فمن المنطقي أن نقول إن الذهن يمكن، بل يجب أن يبقى بعد الموت. أما إذا كانت الأولوية للعالم الفيزيائي أو المادي، وكان الذهن تطورًا للمادة معتمدًا عليها في وجوده كل الاعتماد، فمن المنطقي، بنفس المقدار، أن نقول عندئذٍ أن وعينا الفردي لا يمكن أن يظل باقيًا بعد موت الكائن العضوي الفيزيائي.

(٦) أسس الإيمان

بماذا نستطيع أن نؤمن؟ من الواضح، فيما يتعلق بالله، والخلود، وغير ذلك من الأسئلة القصوى التي تحير الإنسان، أن موقفنا في هذه الحالة هو نفس الموقف الذي يتكرر دائمًا كلما كنا بصدد الإيمان؛ إذ إن ما يمكننا أن نؤمن به، سواء أكان متعلقًا بالله أم بالطبيعة النهائية لأي شيء في التجربة البشرية، لا بد أن يتوقف على نوع الكون الذي نؤمن به. فإذا قبلنا الكون كما تصوره الميتافيزيقا المثالية، فعندئذٍ نستطيع أن نؤمن بأمور عديدة يستحيل علينا بالضرورة أن نؤمن بها لو كنا نرفض هذه النظرة إلى العالم. فقبول المذهب المثالي يؤثر حتمًا في منظورنا؛ إذ إننا حين ننظر إلى الكون بأعين المثالي، نرى لكل شيء دلالة وقيمة أخلاقية، ونرى «الغاية» كامنة في كل شيء، و«العقل» مسيطرًا على كل شيء وكأنه يشرف على إخراج هذا المنظر الهائل. أما بالنسبة إلى فيلسوف المذهب الطبيعي، فإن الأمور تبدو مختلفة كل الاختلاف: فليس ثمة «معنى» أو «غاية» كامنة، وكل ما تكتسبه الأشياء والحوادث من معنًى تضيفه عليها ردود أفعالنا تجاهها، ومواقفنا منها.
لمَ لا نؤمن؟ عند هذه النقطة من أية مناقشة بشأن الإيمان يثار عادةً سؤال آخر. لما كانت النظرة المثالية تجعل العالم يبدو مكانًا للعيش أحب إلى نفوسنا، وتضفي على المصير الإنساني مغزى كونيًّا، فلمَ لا يأخذ كل إنسان (حتى صاحب المذهب الطبيعي ذاته) بهذا الرأي؟ لسنا بحاجة إلى القول بأن المثالي أو رجل الدين هو الذي يثير هذا السؤال عادة، ولكن هذا لا يستطيع بالضرورة بطلان التساؤل ذاته. فإذا سلمنا بأن موجه السؤال لا يقتصر على أن يسألنا بسذاجة «لم لا يؤمن كل شخص كما أفعل» فإن التساؤل يكون أمرًا طبيعيًّا؛ ففيه يعترف بأن المثالية أقدر من المذهب الطبيعي على مواجهة مطالب الرأس والقلب معًا. ذلك لأن المثالي لديه من الطمأنينة والراحة ما لا يمكن أن يعرفه من يؤمن بالمذهب الطبيعي. وهكذا يكاد يبدو أن من العناد والمكابرة أن يرفض أحد هذه الطمأنينة التي تبعث السكينة في النفس.

وكما قال الكثيرون، فإن الإيمان لا يكلف شيئًا، فلمَ لا نؤمن؟

وهنا أيضًا نجد أن وليم جيمس قد يكون هو الذي عبر عن هذا الاتجاه أوضح وأشهر تعبير. ذلك لأن مقاله المشهور «إرادة الاعتقاد» إنما هو عرض برجماتي طويل موسع لهذا السؤال ذاته: إذا كان الأكثر إرضاء أن نؤمن بالله والخلود، فلمَ لا نؤمن؟ وقد وضع الفيلسوف الفرنسي «بليز باسكال Blaise Pascal» الذي عاش في القرن السابع عشر، ما أصبح يعرف باسم «رهان باسكال»، ويعترف جيمس بأنه إنما يقتصر على التوسع فيه. فلنبدأ بكلمات باسكال ذاتها:

نستطيع أن نقول: «إما أن يكون الله موجودًا وإما ألا يكون». ولكن إلى أي جانب ننحاز؟ إن العقل لا يستطيع أن يعيننا. فهناك هوة لا قرار لها بين المخلوق والخالق. فعلى أيهما تراهن؟ إن الأمر أشبه بقطعة نقود قد تظهر فيها صورة أو كتابة. فليس ثمة سبب لتأكيد أحد الاحتمالين على حساب الآخر. ولن تستطيع أن تقدم حججًا تؤيد هذا دون ذاك.

وقد يقال إننا إذا لم نكن نعرف هذا ولا ذاك، فإن المسلك الصحيح هو ألا نراهن على الإطلاق. غير أن المراهنة أمر لا مفر منه، فهي شيء لا يتوقف على إرادتك. إنها عملية أصبحت مندمجًا فيها بالفعل. فماذا ستختار؟

فلننظر في الأمر: إنك لما كنت مضطرًّا إلى الاختيار، فإن عقلك لن يشعر بإهانة إذا اختار أحد الأمرين أو الآخر. فتلك نقطة واضحة. ولكن ماذا نقول عن سعادتك؟ لنقارن الكسب والخسارة في حالة المراهنة على أن الله موجود بالفعل. إنك إذا راهنت على أنه موجود، وكان موجودًا فأنت الرابح. ولو راهنت على أنه موجود ولم يكن موجودًا فلن تخسر شيئًا. فإذا كسبت، ربحت كل شيء، وإذا خسرت لم تخسر شيئًا. فلتراهن إذن بلا تردد على أنه موجود بالفعل.٢

ويتفق جيمس مع باسكال على أن العقل لا يستطيع الوصول إلى رأي قاطع في مسألة الله والخلود. ولكنه لا يكتفي بأن يستدل على وجود الله من حاجتنا إليه، كما فعل باسكال قبل أن يقترح «رهانه» بوصفه حجة إضافية لأولئك الذين كانت حاجتهم إلى الله أقل إلحاحًا من حاجته هو. وبدلًا من ذلك يقول جيمس بفكرة أخرى اشتهرت بفضل بسكال: «إن للقلب أسبابه التي لا يعرفها العقل».

ويدافع جيمس عن حق ما يسميه «بطبيعتنا الوجدانية» وعن مطالبها، التي تعادل تقريبًا ما يسميه علم النفس المعاصر بحاجتنا العاطفية. غير أن جيمس لا يكتفي بالقول بأن للناس جميعًا مطالب عاطفية فضلًا عن العقلية. فهو يقول إن كل القرارات والأحكام الحيوية، حتى عندما تبدو عقلية إلى أبعد حد، وقائمة على أساس منطقي، هي في الواقع ضروب من الاختيار العاطفي الذي تقوم به «طبيعتنا الوجدانية». فلنضرب لذلك مثلًا بذلك الاعتقاد المشهور لدى العالم أو الفيلسوف، وأعني به الاعتقاد بأن الحقيقة هي القيمة العليا، وبأن النتائج التي يصل إليها العقل أو الذكاء مفضلة دائمًا على ما تتجه إليه رغباتنا. ولكن جيمس يتساءل: «ماذا نقول عن تلك المواقف التي يكون لبعضها أهمية كبرى بالنسبة إلى السعادة البشرية، والتي لا يستطيع العقل فيها أن يكتشف أية حقيقة»؟ لنتأمل مشكلتنا الراهنة، وهي وجود الله والخلود. فلا العلم ولا المنطق بقادرَين على أن يقدما إلينا إجابات قاطعة، وإذا لم يكن لدينا مفر من الاعتماد عليها فسوف نكون — وسنظل دائمًا — في ظلام.

فماذا نفعل إذن؟ إن الشكاك، أو اللاأدري، يقول: «توقف عن الحكم ولا تختر شيئًا، ولا تثبت أو تنفِ»، بل إن ذوي الأذهان الأكثر صلابة قد يذهبون إلى حد تأكيد أن من الواجب ألا نؤمن بأي شيء يمكن أن نشك فيه. فهم قد يطلبون إلينا ألا نؤمن أبدًا على أساس أدلة غير كافية، بل ويذهبون إلى أن من اللاأخلاقية أن نفعل ذلك. وقد اقتبس جيمس نصًّا من كليفورد Clifford، الذي كان في أيامه شكاكًا معروفًا، يقول فيه حول هذا الموضوع:
إن الإيمان يفقد قداسته إذا ما تعلق بعبارات لا دليل عليها ولم توضع موضع التساؤل، لمجرد رائحة المؤمن ولذته الشخصية … فلو قبل الإيمان على أساس أدلة غير كافية، فإن اللذة تكون لذة مختلسة، حتى لو كان الإيمان صحيحًا. وهي خاطئة لأنها مختلسة تتحدى واجبنا تجاه البشر. فهذا الواجب يقضي علينا بأن نحذر هذه الاعتقادات كما نحذر الوباء الذي قد يسيطر في وقت قريب على جسمنا ثم ينتشر منه إلى بقية المدينة. وإنه لمن الخطأ دائمًا، وفي كل مكان، ولكل شخص، أن يؤمن بأي شيء على أساس أدلة غير كافية.٣

غير أن جيمس يتساءل بذكاء: أليست وجهة النظر هذه عند شكاك كبير مثل كليفورد، موقفًا وجدانيًّا إلى أبعد حد، مبنيًّا على اختيار عاطفي؟ إن ما يقوله الشخص الذي يتخذ هذا الموقف حقيقة هو أنه يفضل أن يخاطر بفقدان شيء طيب؛ إذ يرفض الإيمان بما قد يكون صحيحًا، على أن يخاطر بالإيمان بشيء قد لا يكون صحيحًا.

ويعتقد جيمس أن الشكاك اللاأدري يخاف من أن يخدعه الأمل إلى حد أنه يسرع إلى الطرف المقابل فيخدعه الخوف. وهذا في رأي جيمس أمر ممتنع: فإذا كان علينا أن نختار بين المخاطرتين، فإنه يتساءل: على أي أساس يختار المرء المخاطرة التي لا نكسب فيها شيئًا، ونخسر كل شيء، بدلًا من تلك التي لا نخسر منها شيئًا وقد نجني كسبًا كبيرًا؟ وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى رهان بسكال، أو بلغة جيمس المميزة:
إن كان ها هنا خداع وهناك خداع، فما الذي يثبت أن الخداع عن طريق الأمل أسوأ إلى هذا الحد من الخداع عن طريق الخوف؟ إنني واحد من الناس الذين لا يجدون دليلًا على ذلك، وأنا أرفض ببساطة أن أساير الشكاك في اختياره في الحالة التي يكون فيها الأمر الذي أراهن من أجله هامًّا في نظري إلى الحد الذي يجعل لي الحق في اختيار نوع المخاطرة الذي أفضله.٤
وهكذا فإن الدائرة التي سرنا فيها تكتمل: فهناك مخاطرة كلما قمنا باختيار على أساس أدلة غير كافية. ولكنا قد نضطر في كثير من الأحيان، أثناء حياتنا، إلى خوض هذه المخاطر، ومن المؤكد أن اتخاذ قرار بشأن الله والخلود، هو أكبر أمثلة هذا الاختيار الذي لا مفر منه. وليس هناك آخر الأمر سوى مزاجنا أو حاجتنا الشخصية لكي نقرر أي نوع من الخداع — خداع الأمل أم خداع الخوف — نفضل أن نخاطر به. وهكذا ينتهى المثالي أو المؤمن بالألوهية إلى التساؤل: لم لا نؤمن، ما دام الإيمان لن يكلف شيئًا، وقد يجلب لنا منافع جمة من حيث طمأنينة النفس في هذه الحياة والسعادة بعد موتنا؟
دفاع المذهب الطبيعي: يبدو رد فيلسوف المذهب الطبيعي عادة، في نظر المثالي، مماثلًا لموقفه الأصلي في بعده عن الفهم. فهو يجيب بقوله: «إنني لا أقبل الإيمان لأني لا أستطيع. فأنت على خطأ تمامًا عندما تقول إن مثل هذه الطمأنينة لا تكلف شيئًا فهي قد تكلفني أعز ما أملك، وهو نزاهتي العقلية». وينبغي أن يلاحظ على الفور أن هذا الرد لا يقصد به أبدًا أن يكون تلميحًا متعلقًا بأمانة المثالي العقلية، وإنما هو مجرد تعبير عن أن صاحب المذهب الطبيعي ذاته لا يستطيع أن يأخذ بهذا الاعتقاد إلا بثمن باهظ كهذا.

وقد يقال إن النظرتين إلى العالم قد تكونان معًا — كما اتفقنا من قبل — متساويتين فيما يتعلق بمنطقهما. فإن كان هذا صحيحًا، فكيف يكون الأخذ بالمذهب المثالي محتاجًا إلى صرامة ذهنية أقل بأي مقدار؟ ويفسر صاحب المذهب الطبيعي موقفه بقوله: «إنني لا أشير إلى منطق خصمي عندما أتحدث عن النزاهة العقلية، وإنما أشير فقط إلى المصادرات التي يشيد عليها بناؤها المنطقي. فهذه المسلَّمات الأساسية هي التي لا يمكنني أن أقبلها؛ إذ لا يوجد لها مبرر في تجربتي ولا فيما أعتقد أنه إجماع الشواهد التجريبية في عمومها. أما إذا كان المثالي يرغب في قبول هذه المسلَّمات، أو يتعين عليه قبولها لكي يجد في العالم بيئة مريحة للحياة البشرية، فهذا شأنه. ولعله قد مر بتجارب شخصية أدت به إلى الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية روحية، أو تبرر اتخاذه من هذا الاعتقاد مصادرة كبرى في مذهبه. فإن استطاع أن يفعل ذلك، فهنيئًا له ما يفعل، أما أنا شخصيًّا فلا أستطيع.»

من أين تأتي هذه الفوارق؟ من الواضح أننا إذا سرنا في هذه المناقشة أية خطوة أبعد من ذلك، فسيؤدي بنا ذلك حتمًا إلى خوض غمار دراسة مفصلة في سيكولوجية الإيمان أو الاعتقاد. ومع ذلك فليس في وسعنا أن نختم هذه المناقشة دون أن نقول كلمة أخيرة. فهذه النقطة بالذات ترتبط بمشكلة من أكثر المشكلات المحيرة في التجربة البشرية، وأعني بها: كيف يمر شخصان بنفس التجربة وتكون لهما استجابتان متعارضتان عليها؟ لقد سبق أن أثرنا هذا السؤال عند نهاية الفصل الرابع، وها نحن أولاء نعود إليه. والرد المعتاد لهذا السؤال هو: «إن ذلك يرجع إلى الاختلاف في التكوين الذي ترتكز عليه التجربة المشتركة عند كلٍّ منهما». ولكننا لاحظنا وجود اختلافات شديدة التباين في استجابات أشخاص من نفس العمر، ولهم نفس التكوين العام، كما هي الحال مثلًا في أفراد أسرة واحدة متماسكة أو بين «أصدقاء العمر». وهذا يؤدي بنا إلى الشعور بأن تلك الإجابة كانت مبسطة أكثر مما ينبغي. فعندما يلاحظ المرء مسلك شقيقين تكون له صلة وثيقة بهما، مثلًا، ويرى إلى أي حد يجد أحدهما مضامين مثالية في كل ما يحدث، على حين أن استجابة الآخر تسير بنفس الضرورة المحتومة في اتجاه المذهب الطبيعي — فعندئذٍ يجد المرء نفسه مضطرًّا إلى البحث عن أغوار أعمق للمشكلة.

والرد الوحيد الذي يمكن أن يواجه أي اختبار علمي هو القائل إن هذا التباين يرجع جزئيًّا إلى فارق فردي في الوراثة والاستعداد؛ أعني فوارق في تركيب الأعصاب وحساسية الحواس ووظائف الغدد، بل والهضم ذاته. وتسمى الحصيلة النفسية لوظائفنا العصبية والغددية الأساسية عادةً باسم «المزاج»، وهو لفظ يشيع استخدامه في وصف الاستعداد أو الميل الأصلي للفرد من الناحية النفسية والجسمية. ومن ثم ففي إمكاننا أن نعيد صياغة سؤالنا السابق من جديد، بحيث يصبح: إلى أي مدى تؤدي الفوارق المزاجية إلى اختلافات في وجهة النظر الفلسفية؟ وهل المعركة بين أنصار المذهبين المثالي والطبيعي «مسألة غدد فقط» كما يقول التعبير الشائع؟

مشكلة المزاج: ربما كان ويليم جيمس هو المسئول عن المحاولة الحديثة للربط بين المزاج والميتافيزيقا. ولقد سبق لنا أن أشرنا إلى التقابل المشهور الذي وضعه بين المثالي «الرقيق الذهن» وبين الطبيعي الصارم الذهن.٥ وقد أعرب الشاعر الإنجليزي «كولردج» منذ حوالي قرن ونصف، عن فكرة مشابهة لهذه إلى حدٍّ بعيد حين وصف الناس جميعًا بأنهم إما أفلاطونيون وإما أرسططاليون. وفي أيامنا هذه أدى ظهور النظرية الغددية في الشخصية، إلى اتساع نطاق الرأي القائل إن نظرة المرء إلى العالم ترتبط بوظائفه العضوية ارتباطًا وثيقًا. ولما كان المذهب الطبيعي يؤكد أولوية العالم الفيزيائي، فإنه لا يجد في هذه النظرية — كما هو متوقع؛ أي شيء غير منطقي (وهو قطعًا لا يجد فيها أي شيء يصدمه). فهو لا يشعر بأي حرج عندما يقول شخص عنه أنه يؤمن بمذهبه، وبالمصادرات الأصلية التي بنى عليها المذهب بوجه خاص، نتيجة لاتزان معين في الغدد — أو على الأرجح، لعدم اتزان فيها، بل إن القائل بالمذهب الطبيعي يرى أن أفضل تفسير لتحيزنا الأصلي لمصادرات معينة هو وجود تفضيل مزاجي متأصل فينا. وقد يذهب به الأمر إلى حد القول بأن هذا هو التفسير الوحيد الممكن.

أما المثالي فأمر مختلف؛ ذلك لأن أية نظرية فيزيائية في الشخصية تثيره بما فيه الكفاية، أما تطبيق هذا الرأي على الفلسفة فهو في نظره أمر لا يحتمل. والواقع أن قليلًا من النظريات هو الذي يستثير المثالي إلى النضال بقدر ما تستثيره هذه النظرية. ومن المعروف أن صاحب المذهب الطبيعي يتهم المثالي أحيانًا بأنه ينظر إلى كل الآراء باستثناء آرائه هو، على أنها ليست باطلة فحسب، بل شريرة. وهذه مبالغة دون شك. ولكنها تقترب من الحقيقة في حالة النظرية الراهنة المتعلقة بالمصادر التي يستمد منها المزاج الفلسفي. ذلك لأنه لو أمكن إثبات هذه النظرية تجريبيًّا، لتعرض معها بناء الميتافيزيقا المثالية بأسره لخطر ماحق. فلو ثبت أن أشخاصًا لديهم اتزان غددي معين يميلون إلى الانجذاب نحو قطب رئيسي معين من قطبَي التفكير دون الآخر. فماذا يصبح مصير المصادرة الأساسية القائلة بأولوية «الذهن» أو «الفكر» في الكون؟ وإذا كان ما نفكر فيه يتحدد على أساس ما نأكله أو على أساس طريقة عمل الغدة النخامية، فمن الواضح عندئذٍ أن الأولوية «للمادة» أو العالم الفيزيائي. ومهما تكن المثالية منطقية أو عميقة المغزى أو ملهمة، فإن تحقيق نظرية المزاج هذه يترك الفلسفة المثالية معلقة في الهواء بلا دعامة دون أن يبرر وجودَها شيء إلا نوع من الجاذبية الجمالية.

وهكذا نكون قد أتممنا دورة كاملة: فما نؤمن به عن الله والخلود يبدو متوقفًا على ما يمكننا أن نؤمن به عن طبيعة العالم بوجه عام — وهذا بدوره يبدو متوقفًا على ما يمكننا أن نؤمن به بشأن مصادر الإيمان ذاته أو العوامل المتحكمة فيه.

ولا بد أن يؤدي الدور الواضح في هذه النتيجة إلى القول بأنها ليست مرضية على الوجه الأكمل. ولكن من الصعب أن نصل إلى أي استنتاج آخر يمكن أن يكون ممكنًا في إطار معرفتنا الراهنة. فنحن آخر الأمر، نؤمن بما نستطيع أن نؤمن به، غير أن هذا بدوره يتوقف على عوامل تبلغ من الكثرة ومن التباين من فرد إلى فرد حدًّا يجعل لكل ذهن إمكانات الإيمان خاصة به وحده.

١  هوكنج: أنواع الفلسفة Types of Philosophy، ص٣٣٤.
٢  «خواطر باسكال Pensées».
٣  «إرادة الاعتقاد ومقالات أخرى في الفلسفة الشعبية The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy».
٤  المرجع السابق.
٥  لم يستخدم جيمس نفسه تعبيرَي «المثالي» و«الطبيعي» في هذا التقابل، غير أن من المعترف به عامة أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين تصنيفه وبين التضاد الفكري الذي أكدناه طوال هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤