الفصل الأول

لطريقة التفكير أهميتها

في الأول من مايو ٢٠١٥، مات فجأة من أزمةٍ قلبية ديف جولدبيرج، المدير التنفيذي البالغ النجاح في وادي السيليكون وزوج مديرة العمليات في «فيسبوك»، شيرل ساندبيرج. وفي لحظةٍ صارت ساندبيرج أرملةً وأمًّا وحيدة لطفلين صغيرين — صبي في العاشرة وفتاة في الثامنة.

وبعد ٣٠ يومًا، شاركت ساندبيرج عبارات تأبين لزوجها تبثُّ فيها ما تعلَّمتْه من هذه الخسارة، قائلة: «حين تقع المأساة تمنحك الاختيار. يمكنك الاستسلام للخواء، الفراغ الذي يملأ قلبك ورئتَيك ويُقيِّد قدرتك على التفكير أو حتى التنفُّس. أو تستطيع محاولة العثور على المغزى.»

يُعنى هذا الكتاب بما يلزم لتُقرِّر ذلك الاختيار: سواء عند مُجابهة المكدِّرات الصغيرة للحياة اليومية — من زحام مروري ومقابلات عمل وأعطال في السيارة، وما إلى ذلك — وكذلك عند مواجهة محنة خسارة كبرى — طلاق، أو مرض عُضال أو إصابة خطيرة، أو حتى وفاة شخص عزيز.

إنَّ الإزعاجات والصِّعاب، العقَبات الصُّغرى والعوائق الكبرى، جزءٌ من الحياة. فلا يمكننا تحاشي الضغط النفسي أو الحيلولة دون وقوع الأحداث السيئة لنا أو لمَن نُحب. لكننا نملك السيطرة على الطريقة التي نرى بها الأشياء السيئة وما إذا كان لدينا وسائل العثور على بعض الحسنات في أحلك الظروف. والأهم أنَّ تَعلُّم السبيل لتبنِّي طريقة إيجابية في التفكير، مهما كانت الأمور، من الممكن أن يكون لها آثار مُستديمة على سعادتنا وصحَّتنا، بل وحتى أعمارنا.

مميزات الطُّرق الذهنية المختصَرة

مع سعْينا في حياتنا اليومية، تنهال علينا المعلومات. فنحن نقرأ الصحف، ونُشاهد التلفزيون، ونتصفَّح الإنترنت. ونتفاعل مع الناس في مجتمعاتنا، ونمرُّ بلوحاتٍ إعلانية، ونستمع إلى المذياع. ونُحاول تنظيم المعلومات المختلفة التي نتلقَّاها من المصادر المتعدِّدة وفهمها.

وحيث إنه من المُستحيل تمامًا فرْز هذه المعلومات بتمعُّن ودقة، فإننا نسلك طرقًا مختصَرة عند التفكير، من دون أن نعيَ ذلك في أغلب الأحيان. فالناس، على سبيل المثال، يَعتبرُون عينةَ النبيذ التي يُقال لهم إنها تتكلَّف ٩٠ دولارًا للزجاجة أفضل بكثير من عينة النبيذ التي تتكلَّف زجاجتها ١٠ دولارات، حتى إن كان النبيذ مثله بالضبط في واقع الأمر.1

كما أننا نستخدم الطرقَ الذهنية المختصَرة لتكوين توقُّعات عن الناس الذين نلقاهم. فحين نقابل مختصَّ رعاية طبية في مُستشفًى، نميل إلى افتراض أنه طبيبٌ إذا كان ذكرًا، وممرضةٌ إذا كانت أنثى.

إنَّ عملية اتخاذ الطرق المختصَرة لفَهمِ العالم تقوم على الصور النمطية التي كوَّنَّاها من تجاربنا. فإننا نفترض أن النبيذ المكلِّف أفضل مذاقًا؛ لأننا نتوقَّع أن تَستحِق الجودة الأفضل سعرًا أعلى. ونفترِض أن الرجال من الأرجح أن يصيروا أطباء مقارنةً بالنساء، وأن النساء من الأرجح أن يَصِرن مُمرِّضات مقارنةً بالرجال؛ لأنَّ هكذا كانت تجاربنا دائمًا.

والصور التي نراها ونسمعها في الإعلام تُرسِّخ هذه الصور النمطية. فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما تصوِّر رسائل الإعلام التقدُّم في السن تصويرًا كئيبًا بعض الشيء. إذ يُقدَّم كبار السن في الأفلام والبرامج التلفزيونية والإعلانات والفقرات الإعلانية التوعوية على الأخص، وقد أصابتْهم مشكلاتٌ في الذاكرة، وصاروا يُعانون أوجهَ عجزٍ بدنية عدة وما إلى ذلك. ومن الممكن أن يخلق هذا التعرُّض المستمر لهذه الصور توقُّعات سلبية عن الشيخوخة.

الأهم أنَّ الطرق الذهنية المختصرة التي تتكون لدينا تؤثر على الطريقة التي نُفكِّر بها في أنفسنا ومن الممكن أن تؤثر على سلوكنا تأثيرات جوهرية. فوفقًا لإحدى الدراسات، يفيد البالغون في منتصف العمر الذين تُراودهم أفكار سلبية حول التقدُّم في السن باهتمام أقل بالسلوك الجنسي والاستمتاع به.2 كبار السن الذين يَشعُرون بأنهم أكبر من سنِّهم — بصرف النظر عن عمرهم الزمني الفِعلي — هم على الأخص أكثر من يُفيدون بأن لديهم تلك الآراء السلبية عن الجنس.
رغم أن هذا المثال يُصور مثالب أن يكون لدى المرء توقُّعات سلبية، فمن الممكن أن تؤدِّي التوقُّعات الإيجابية لنتائج مفيدة. كمثالٍ على ذلك، سجَّل الناس الذين قيل لهم إنهم أُعطُوا كرةَ جولف «جالبة للحظ» أهدافًا بنسبة أكبر من ٣٥ في المائة من الذين حصلوا على كرة جولف «عادية».3 بالإضافة إلى ذلك فإنَّ الناس الذين يرَون «ميزة» في النشاط أو الإجراء المؤلم من الممكن أن يكون شعورهم بحدَّة الألم أقل، وهو ما يُفسر خضوع العديد من الناس طواعيةً لبعض أنواع الألم (مثل ثقب السرَّة والوشم وتسلُّق جبل إفرست). وأيضًا يتذكَّر الناس ذلك الألم لاحقًا بطريقة أخف حدةً عما كان ساعتها حقًّا. ومع المُمارسة، نستطيع أن نتعلَّم استخدام حيل ذهنية للتأثير في سلوكنا بطرق إيجابية.

كيف تشكِّل التوقُّعات الواقع

تخيل نفسك مُراهقًا معك رخصة قيادة سائق تحت التمرين تقود السيارة لأول مرَّة مع جدَّيك. إنك على دراية بالصورة النمطية للسائقين المراهقين السيئين، لذلك فإنك قلق من ارتكاب أي أخطاء أثناء القيادة. هذا القلق إزاء احتمال ارتكاب خطأ — وترسيخ تلك الصورة النمطية أمام جدَّيك — سيصرفُك عن التركيز على القيادة منتبهًا ويؤدي بك إلى ارتكاب أخطاء ربما ما كنت لتقع فيها لولا ذلك.

هذا مثال بسيط على الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها الصور النمطية على سلوكنا. يُسمي علماء النفس هذه العملية تهديد الصورة النمطية؛ إذ تصف الموقف الذي يؤدِّي فيه الخوف من ترسيخ صورة نمطية سلبية عن المجموعة التي ننتسب لها إلى الإخلال بقدرتنا على التركيز في مهمة معينة. المفارقة أن انعدام التركيز هذا يؤدي بدوره إلى أداء متدنٍّ في تلك المهمة، مؤديًا بالناس من دون قصد إلى إعطاء الصور النمطية السلبية التي كانوا يخشون تأكيدها عن مجموعتهم.

كانت الدراسات الأولية عن تهديد الصور النمطية قد بحثت تأثير الصور النمطية السَّلبية عن الأمريكيِّين من أصلٍ أفريقي على أدائهم الأكاديمي. في إحدى الدراسات، استدعى اختصاصي علم النفس الاجتماعي كلود ستيل وزملاؤه في جامعة ستانفورد طلابًا جامعيين من الأمريكيِّين من أصل أفريقي وبِيضًا وطلبوا منهم الخضوع لاختبار في المهارات اللفظية — أحد الاختبارات التي يُشاع أن الأمريكيِّين الأفارقة أقل توفيقًا فيها من البِيض.4 لمعرفة ما إن كان استحضار هذه الصورة النمطية سيؤثر على الأداء، أُخبِر نصف الطلاب أن الاختبار الذي سيخضعون له سيُقيِّم «القدرات الذهنية» لتحفيز تلك الصورة النمطية. وأُخبِر النصف الآخر من الطلاب بأنهم سيُعطون «مسائل لحل مشكلاتٍ لا علاقة لها بالقدرات» وهو ما لم يحفز الصورة النمطية. رغم أن كل الطلاب خضعوا لنفس الاختبار، فإن الطلاب الأمريكيين الأفارقة الذين أُخبروا تحديدًا بأن الاختبار سيقيم القدرات الذهنية كان أداؤهم أسوأ من البِيض بدرجة كبيرة. وعلى النقيض، لم يظهر تباينٌ في درجات الاختبار بين الأمريكيين الأفارقة والبِيض الذين لم يُذكروا عمدًا بالصورة النمطية السلبية حول القدرات اللفظية لمجموعتِهم العرقية.
أثبتت أبحاث لاحقة الآثار القوية للصور النمطية على أنواع عديدة مختلفة من السلوكيات في مجموعات عدة مُختلِفة من الناس. كما وصف في كتابه الصادر عام ٢٠١٠، «الترنم بألحان فيفالدي: كيف تؤثر الصور النمطية علينا وما يسعنا فعله»، اكتشف كلود ستيل أن النساء اللواتي يُذكَّرن بالصورة النمطية بأن «النساء لسنَ ماهرات في الرياضيات» يُحرزن نتائج أسوأ عن أولئك اللواتي لم يُذكَّرن بتلك الصورة النمطية في اختبارٍ حسابي تالٍ.5 بالمثل، الرياضيون البيض الذين يُخبرون بأنهم سيدخُلون اختبار لإحراز الأهداف في الجولف لتقييم «قدراتهم الرياضية الطبيعية» يؤدون أداءً أسوأ في هذه المهمة مقارنةً بأولئك الذين لم يُخبرُوا بذلك، وهو ما يعود على الأرجح لخوفهم من تأكيد الصورة النمطية الشائعة عن أن مجموعتهم العرقية ليست رياضية بالدرجة المطلوبة.

هذه الدراسات كلها تدل على قدرة الصور النمطية على التأثير في سلوكنا، بطريقة كبيرة أحيانًا.

التأثير الكبير للمُثيرات الخفية

وصف القسم الأخير من هذا الكتاب تأثير التذكير الصريح بالصُّوَر النمطية في سلوك الناس. بيد أن الصور النمطية كثيرًا ما تؤثر علينا تأثيرًا بالغ العمق.

أعطى الباحثون في إحدى الدراسات لفتيات صغيرات، أعمارهنَّ بين الرابعة والسابعة، دُميةً للَّعب بها مدة خمس دقائق.6 حصلت بعض الفتيات على دُمية باربي طبيبة وحصلت أخريات على دمية السيدة بطاطا (دمية شهيرة على شكل ثمرة بطاطا). رغم أن هذَين النوعين من الدُّمى تُسوَّق للفتيات الصغيرات، فإنهما تختلفان كثيرًا في المظهر، حيث تُمثِّل دمى باربي شكلًا أكثر جاذبية جسديًّا وأبرز في سماته الجنسية من دمى البطاطا. بعد ذلك عُرِض على الفتيات ١٠ صور تمثل أنواعًا مختلفة من المِهَن وسُئلن أي هذه الوظائف يمكنهنَّ هنَّ والصبيان الاشتغال بها حين يكبرن. تبيَّن أن الفتيات اللواتي لعبن بدمية باربي — وإن كانت بملابس طبيب — رأين الاختيارات المهنية المتاحة لهنَّ قليلة مقارنةً بالصبية. وعلى النقيض بالنسبة للفتيات اللواتي لعبن بدمية السيدة بطاطا، لم يكن هناك اختلاف في الخيارات المهنية التي ارتأين أنها متاحة لهنَّ مقارنة بالصبية. تُفيد هذه الدراسة بأن اللعب بدمية ذات سمات جنسية مبالغ فيها تؤثر على اعتقادات الفتيات الصغيرة تجاه نوع العمل الذي يَستطِعن القيام به.
على نفس النحو، تُبدي النساء في الجامعة اهتمامًا أقل بمجال علوم الكمبيوتر بعد رؤية الصور ذات الطابع النمطي لفصول علوم الكمبيوتر (التي تظهر فيها بوسترات «ستار تريك»، ومجلات في مجال التكنولوجيا، وكتب خيال علمي … إلخ) من اهتمامهنَّ بعد رؤية صور لفصل مُحايد أكثر (تظهر فيه صور للطبيعة، ومجلات عامة ونباتات … إلخ).7 تُبيِّن هاتان الدراستان كيف تُؤثِّر المُثيرات الخفية في البيئة على الطريقة التي يرى بها الناس أنفسهم وكيف يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة.
الشيء الجدير بالملاحظة على وجه الخصوص أنه حتى أخف تذكير بالصور النمطية المنطبقة على الأشخاص الآخرين يؤثر في سلوكنا. ففي إحدى الدراسات الحاذقة، أتى باحثُون في جامعة نيويورك بطلاب جامعيين للمُشاركة في اختبارٍ كان يفترض أنه يَقيس الكفاءة اللغوية.8 إذ أُعطوا مجموعات متنوعة من الكلمات وطُلِب منهم استخدام تلك الكلمات — وحدها لا غير — في تكوين جملة صحيحة نحويًّا. حصل نصف الطلاب على مجموعة من الكلمات التي تُشير إلى التقدُّم في السن، مثل متقاعد وعجوز ومُتغضِّن. وحصل الطلاب الآخرون على مجموعة من الكلمات المحايدة، على غرارِ خاصٍّ ونظيف وعطشان.

بعد الانتهاء من هذه المهمَّة، قيل للطلاب إنَّ الدراسة انتهَت، وإن بوسعهم الانصراف. لكن ما لم يَعلموه أن هذا كان جزءًا من الدراسة كان الباحثون أشدَّ اهتمامًا بتقصِّيه. مع مغادرة الطلاب القاعة، شغَّل الباحثون ساعة التوقيت وحسبوا المدة التي استغرقها الطلبة للذهاب من القاعة إلى المصعد. وكما توقَّعُوا بالضبط، استغرق الطلاب وقتًا أطول بكثير في عبور القاعة بعد أن صادفوا مفردات «الشيخوخة» مقارنة بأولئك الذين رأوا الكلمات المحايدة. تُبرهن هذه الدراسة على أن الصور النمطية بإمكانها التأثير في سلوكنا بل وتؤثر فعلًا، حتى حين لا تكون تلك الصور النمطية منطبقة علينا شخصيًّا! فالطلاب المشاركون في هذه الدراسة لم يكونوا مسنِّين على كل حال، إلا أن التعرض لصور نمطية عن المسنِّين أدى بهم لأن يأتوا بتصرُّفات منسجمة مع تلك التعميمات.

فهْم طريقتك في التفكير

علاوة على استكشاف الصور النمطية، يتأثَّر سلوكنا كذلك بمواقف ذهنية، أو أطُر مزاجية معيَّنة، نتبنَّاها إزاء أنفسنا والعالم. ومواقفنا الذهنية — التي تتضمَّن أفكارنا وقناعاتنا وتوقعاتنا —تُقرر كيف نتلقى الأحداث التي تمر بحياتنا ونستجيب لها. وهي تتضمن كذلك توقعاتنا إزاء قدراتنا وسجايانا وصفاتنا. هل نحن متفائلون أم متشائمون؟ ماهرون في الرياضيات أم لا نجيد حساب الأرقام؟ أشخاص اجتماعيون أم انطوائيون خجولون؟ إنَّ سماتنا البارزة هي ما تُميزنا كأفرادٍ على كل حال.

ومن السمات الجوهرية الأخرى لطريقة التفكير قناعتنا إزاء إمكانية أن تتغيَّر هذه الصفات مع الوقت. أجَّرت كارول دويك، أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد، بحثًا موسَّعًا يُبرهن على أن الناس يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا من ناحية تلك القناعات. فبعض الناس يعتقدُون أن الصفات الأساسية، مثل الذكاء والشخصية، ثابتة ومستقرة — هذه طريقة تفكير ثابتة. ويعتقد آخرون أن هذه الصفات طيِّعة ومن الممكن أن تتغيَّر مع الوقت والمجهود — هذه طريقة تفكيرٍ متطورة.9 وسواء كانت طريقة التفكير ثابتةً أو متطورة فهي تؤثِّر على الطريقة التي نعالج بها المواقف المختلفة، ونستجيب بها لأخطائنا وإخفاقاتنا، وكيف نرى التحديات ونستجيب لها.

إليكم مثالًا بسيطًا يُوضِّح كيف تؤثِّر مواقفنا الذهنية على سلوكنا تأثيرًا قويًّا ودائمًا: العديد من الآباء والمعلِّمين حسني النيَّة يُثنون على الأداء الأكاديمي القويِّ لدى الأطفال بنعتهم بالأذكياء. يبدو هذا النعت ظاهريًّا مجاملة لطيفة؛ فلا شك أن الذكاء من الصفات التي نودُّ جميعًا سماعها بشأن قدراتنا الذهنية.

لكن تُشير أدلة كثيرة الآن إلى خطورة هذا النعت على قدرة الأطفال على الاستمتاع والمثابرة والإنجاز في المواقع الأكاديمية. فما عساه يكون العيب في سماع أنك «ذكي»؟ يؤدي هذا الوسم بالأطفال إلى الاعتقاد بأن الذكاء يُمثِّل سمة ثابتة؛ أي إن بعض الناس أذكياء بالفطرة وعلى الدوام، بينما الآخرون ليسوا كذلك. غالبًا ما يتبنَّى الطفل الذي يُقال له إنه ذكي طريقةَ تفكير ثابتة إزاء طبيعة الذكاء ويصير قلِقًا للغاية بشأن احتمال تكذيب هذا الوسم. فإذا حصل هذا الطفل في المستقبل على درجات سيئة في اختبار، سيكون هذا الأداء السَّلبي الوحيد موحيًا بشدة — ومدمرًا: «لقد أخفقت في هذا الاختبار، من المحتمل إذن أنني لستُ ذكيًّا من الأساس.»

قد يستجيب الأطفال لمَخاوِفِهم بشأن العجز عن البقاء على مستوى هذا التوقُّع بالتقصير في الأداء؛ فإنهم لا يُقبِلُون إلا على المسائل التي يعلمون يقينًا أن باستطاعتهم حلَّها (وبذلك يَحرمون أنفسهم فُرَص تحدِّي أنفسهم والنمو). ومثلما ذكر روبرت ستيرنبيرج، عميد كلية الآداب والعلوم في جامعة تافتس: «إذا كنتَ تخشى ارتكاب الأخطاء، فإنك لن تتعلَّم أثناء العمل، وسيَصير أسلوبك برمَّته دفاعيًّا كأنك تقول: «لا بدَّ أن أحرص على ألا أُخفق.»»10
في المقابل، الناس الذين يتبنون مواقف ذهنية مُتطوِّرة، ويرَون أن بإمكان قُدراتهم وصفاتهم التغيُّر ببذل الجهد والممارَسة، يُحقِّقون فوائد كبرى. فتُرى الأخطاء فرصًا للتعلُّم والنمو؛ ومن ثَم يَشعُر الناس بالتحفيز للاضطلاع بالمهامِّ الصعبة حتى يكتسبوا تلك القوى. فمثلًا طلاب الصف السابع الذين كانوا يَعتقدُون أن الذكاء من المُمكِن أن يتنامى شهدتْ درجاتهم زيادة خلال العامَين الأوَّلين في المدرسة الإعدادية، حيث يصير العمل المدرسي أشدَّ صعوبة ومعايير الدرجات أشد صرامة، في حين لا ترى مثل هذا التحسُّن لدى الطلبة الذين ليس لديهم تلك القناعات.11 على نفس المنوال، يدرك الرياضيون الذين يتبنَّون طريقة التفكير المتطورة أن الموهبة وحدَها ليست كافية، وأن الجهد الدءوب والتدريب الصارم شرطا النجاح، ويحققون مستويات أعلى. بل وقد اكتشفت دراسة حديثة أنه عند إعطاء مراهقين (كانوا جميعًا يُعانون بالفعل من مُشكِلاتٍ صحِّية ذهنية) درسًا لمدة ٣٠ دقيقة حول طريقة التفكير المتطورة، وقدرتنا على التغيُّر والتحسُّن مع الوقت، أدَّى ذلك إلى انخفاض مستوى القلق والاكتئاب لمدة تسعة شهور فيما بعد.12 اختصارًا، تبنِّي طريقة تفكير تُركِّز على نقاط القوة والقدرة على التغيير يؤدي إلى فوائدَ كبرى.

طريقة التفكير بالغة الأهمية

أفكارنا حول ما إذا كانت صفاتُنا الشخصية الجوهرية بوسعها التغيير تؤثِّر على جميع جوانب حياتنا تقريبًا. فمثلًا الناس الذين يظنُّون أن مستويات القلق والاكتئاب لديهم لا يمكن أن تتغير، مهما حاولوا، تتجلَّى عليهم أعراض القلق والاكتئاب أكثر من أولئك الذين لا يَملكُون تلك الأفكار.13 فأصحاب تلك الأفكار يبلغون عن مستويات أعلى من القلق والحزن، بل والأعراض الجسدية للقلق مثل تعرُّق الأيدي ونوبات الهلع.
بالمثل، تؤثِّر طريقة التفكير التي نتَّخذها من الشيخوخة في كلٍّ من أدائنا المعرفي وصحَّتنا البدنية. ففي إحدى الدراسات، كان كبار السن الذين كانت أعمارهم بين ٦١ و٨٧ والذين يعتقدون أن عملية الشيخوخة ثابتة ولا فِرار منها يُسجِّلون درجات أدنى في اختبار الذاكرة وضغط دم أكثر ارتفاعًا بعد تذكيرهم بالصور النمطية السَّلبية عن الشيخوخة.14 على النقيض، لم تُر تلك الاستجابات لدى الذين يعتقدون أن عملية الشيخوخة يمكن تغييرها؛ فهم غير مقتنعين بحتمية تلك الصور النمطية؛ ومِن ثمَّ لا يُعانون من هذه العواقب السلبية.
كذلك تؤثِّر مواقفنا الذهنية تأثيرًا جذريًّا على الطريقة التي نتعاطف بها مع الآخرين ونتفاعَل معهم. فقد تحرَّى الباحثون في إحدى الدراسات أفكار الناس بشأن ما إن كان التعاطف طيعًا؛ أي ما إن كانت قدرة المرء على وضع نفسه مكان شخص آخر يمكن أن تتغير مع الجهد.15 حدَّد المشاركون في الدراسة ما إذا كانوا يعتقدون أن مستوى التعاطف لدى كل شخص من الأشياء الأصيلة جدًّا فيه، حتى إنه لا يمكن تغييره، أو ما إذا كانوا يَرَون أن كل شخص بإمكانه تغيير مقدار ما يشعر به من تعاطُف. ثم قاس الباحثون درجة استعداد الناس لأن يُحاولوا التعاطف مع شخص اختلف معهم في مسألة اجتماعية أو سياسية مهمَّة.

وكما توقَّع الباحثون، أبدى الأشخاص الذين يحملون أفكارًا أكثر مرونة بشأن التعاطف استعدادًا أكبر للإصغاء باحترام ومحاولة فهم آراء الآخرين. ومن الممكن أن يؤدي ذلك الجهد إلى علاقات أفضل بين الناس ومستويات أقل من الخلاف.

لا عجب إذن أن مواقفنا الذهنية تؤثر على استعدادنا للتغلب على المشكلات في العلاقات الوثيقة. فالأشخاص المؤمنون بوجود توءم للرُّوح يَعتقدون أن العلاقة الجيدة مرهونة في المقام الأول باختيار الشخص المُناسِب. فهم يرون أن العلاقات يجب أن تكون مثالية وإلا فلا.16 وللأسف يؤدي هذا الاعتقاد إلى نوعَين من السلوكيات المختلة: تجاهل المشكلات — بما أن أي مشكلة ستعني أن العلاقة سيئة — أو الاستِسلام. تُثبت الدراسات التي أُجريت على المرتبطين عاطفيًّا من طلبة الجامعات أن أولئك المؤمنين بمبدأ توءم الروح يَقضون وقتًا أقل في محاولة حل الأمور عند مواجهة موقف متأزم في العلاقة — فهم غالبًا ما يُوفِّرون جهدهم ويَستسلمُون. أما أولئك الذين يتمتعون بعقليات تخطِّي العقبات، فإنهم يرُون أن الاعتراف بالمُشكِلات وحلها بأسلوب صريح وبناء هو جزء أساسي من بناء علاقات قوية. فهم، عند مُواجَهة المواقف المتوتِّرة، يَبذُلون قصارى جهدهم لتذليل العقَبات ومُحاوَلة إعادة صياغة تلك المشكلات بطريقة إيجابية.
تقصَّى الباحثون في إحدى الدراسات أفكار الناس بشأن الاكتفاء الجنسي، وما إن كان بلوغ الاكتفاء الجِنسي يكون بالعثور على الشريك «المناسِب» (طريقة التفكير الثابتة) أم يتطوَّر بالجهود والمثابرة (طريقة التفكير المتطورة).17 تتجلَّى لدى أولئك الذين لديهم قناعات متطوِّرة بشأن الاكتفاء الجنسي مستويات أعلى من الاكتفاء الجنسي والرضا عن علاقاتهم. كذلك يُفصِح رفقاؤهم عن مستويات أعلى من الاكتفاء الجنسي، مما يدلُّ على أن الاعتقاد بأن العلاقة الجنسية المُمتعة تستغرق وقتًا ومجهودًا يُفيد كلا الطرفَين في العلاقة.

هذه الأمثلة دليل على أن اعتقادنا بشأن ما إذا كانت صفاتنا الشخصية ثابتة أم متغيرة له أكبر التبعات على مستوى علاقاتنا بالآخرين وطول أمَدِها وكذلك رفاهنا النفسي والجسدي.

فهم طريقة تفكيرك إزاء الفشل

لعلَّ أهم خطوة نحو فهم طريقة التفكير هي معرفة أن الناس يَختلفون في الطريقة التي يُفكِّرون بها في مسببات الإحباط والفشَل في حياتهم.18 فبعض الناس يلومون أنفسهم وعيوبهم ونقائصَهم على الأحداث السَّلبية. فهم يَستغرقون في هذه العواقب السيئة ويجترونها ويَمعنون في تأنيب أنفسهم. وهناك ناس آخرون يتبنَّون طريقة تفكير أكثرَ إيجابية في مواجهة الفشل والإحباط. فهم يُدركون أن الصعوبات تحدث لجميع الناس ويحاولون أن ينظروا للأمور بموضوعية.
ولعلَّك تستطيع أن تتخيَّل أن الناس الذين يُظهرون رفقًا بأنفسهم في مواجهة الأحداث السلبية يَجنُون نتائج أفضل. فهم يُعانون من مستويات أقل من القلق والاكتئاب ويشعرون بسعادة أكبر ويُخالجهم تفاؤل أكبر بوجه عام إزاء المستقبل. فمثلًا طلبة السنة الأولى في الجامعة الأكثر رفقًا بأنفسهم خلال هذا التحوُّل الحياتي الصعب نَراهم أكثر اندماجًا وحماسًا في الحياة الجامعية.19
وها هو اختبار بسيط يمكنك حلُّه لتتبيَّن بأي طريقة ترى نفسك: مقياس الرِّفق بالذات20٠ الذي ابتكرته الدكتورة كريستين نيف، يُتيح لك أن تُحدِّد مثلًا ما إذا كنت تُمعن في تأنيب نفسك حين تطرأ مشكلة أم تمنَح نفسك مُهلة. لحساب درجاتك، ضع علامة على الرقم الذي يَعكِس مقدار اتفاقك أو اختلافك مع كل مجموعة (ذات البنود الخمس) من المجموعتَين التاليتَين.

تَقيس العبارات الخمس الأولى مقدار قسوتك على نفسك؛ وتقيس الخمس التالية مقدار رفقك بذاتك. أولئك الذين يُسجِّلون درجات مُنخفِضة نسبيًّا في الأجزاء الأولى ودرجات مُرتفِعة في المجموعة الثانية من الاختيارات، هنيئًا لكم! فأصحاب هذه النتيجة يُحسنون تبنِّي طريقة تفكير إيجابية في مواجهة الإحباط. أما من يُسجِّلون درجات مُرتفعة في الخمسة البنود الأولى، مع درجات مُنخفِضة في المجموعة التالية من البنود؛ فعليهم بناء مهارات واستراتيجيات ليُعاملوا أنفسهم معاملة أفضل. ولا تَقلقوا — فسوف تتعلَّمون تلك الأساليب في الفصول التالية من هذا الكتاب.

خلاصة القول

الدليل واضح: طريقة التفكير التي نتبنَّاها لرؤية أنفسنا والعالم لها أبلغ الأثر في كل جوانب حياتنا تقريبًا، بما في ذلك السرعة التي نَسير بها، وقوة ذاكرتنا، وتفاعلنا مع أحبائنا.

لكن ها هو الخبر الأهم: إنَّ مواقفنا الذهنية قابلة للتغيير. من ثم، فحتى إن كنا بفطرتنا ننزع إلى المثالي من الأمور ولا شيء دون ذلك، فمع الوقت والجهد، يمكننا التحوُّل إلى طريقة التفكير المتطورة لنتبنَّى رؤيةً أكثر إيجابية لكل جوانب الحياة تقريبًا، بدءًا من الكيفية التي نعمل بها على تحسين علاقاتنا وصولًا إلى الطريقة التي نتقدَّم بها في العمر. نستطيع جميعًا أن نتعلم التفكير في الأشياء بأسلوب جديد، لنعيش حياة أكثر سعادة وأوفر صحة كثمرةٍ لذلك.

أدناه بعض الأمثلة على ما للتغيُّرات الدقيقة في طريقة التفكير من تأثير عظيم.

اتخذ وسمًا جديدًا

حتى التغيُّرات البسيطة في البيئة من الممكن أن تُحدِث تحولًا في مواقفنا الذهنية وتُؤثِّر تأثيرًا حقيقيًّا على المُحصلات. من الأمثلة على ذلك، عزم كيفن دورتي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بايلور، على تغيير مواقف الطلبة الذهنية من الاختبارات، المُثيرة للجزع دائمًا.21 فاستخدم استراتيجيات متنوعة لتغيير هذه التوقُّعات السَّلبية. مبدئيًّا، سمَّى أيام الاختبارات «احتفالات تعليمية» ليخلق توقُّعات إيجابية إزاء مستوى أداء الطلاب. وثانيًا، جاء في هذه الأيام ببالونات وزينة وحلوى ليخلق بيئة تعليمية احتفالية. كان هدفه هو «أن يُشيع جوًّا للتقييم يدعم التعليم والمرح.» بعبارة أخرى، أراد أن يتحوَّل بالمواقف الذهنية للطلبة تجاه الاختبارات من الرهبة والخوف إلى المرح والاحتفال. وقد أتَت مجهوداته ثمارها. فقد أدَّت هذه الاستراتيجيات لدرجات أفضل في الاختبارات.

يمكننا جميعًا استخدام هذه الاستراتيجية البسيطة لتغيير الطريقة التي نُفكِّر بها في مشاعرنا من أجل تحقيق نتائج أفضل. هل يتملَّكك الجزع من إقامة الحفلات، أو التحدُّث في اجتماع، أو عرض نخب في حفل زفاف؟ عليك أن تُعيد صياغة قلقك باعتباره يقظة نشاط تجعلك مُنتبهًا ويقظًا. هذا بالضبط ما يفعله الرياضيون المحترفون والممثلون والموسيقيون ليفعلوا أفضل ما في وسعهم في المواقف البالغة الخطورة. يستغرق تبنِّي طريقة تفكيرٍ جديدة بعض الوقت، لكن مع الممارسة يمكننا جميعًا أن نتعلَّم تغيير أنماط التفكير التي لا تعيننا على التكيُّف مع المواقف وتحقيق نتائج أفضل.

كن مغامرًا

العديد من الناس — بل ربما أغلبهم — يخوضون الحياة خائفين من المجازفة؛ لأن مع المجازفة يرتفع احتمال الفشل. لذلك نبقى في وظائف لا نجدها مجزية وفي علاقات لا تمنحنا السعادة. لدى أغلبنا طريقة تفكيرٍ تنفِّر من المجازفة وتشجِّعنا على الرضا بالاستقرار بدلًا من الإقدام بجسارة على المجهول.

أثناء عملي في هذا الكتاب، ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي قصة رائعة عن امرأة شابة تُدعى نويل هانكوك، وقد فقدت عملها كصحفية في مدينة نيويورك حين أُغلِقَت الشركة التي كانت تَعمل فيها. رغم أنه كان بإمكانها أن تبحث عن فرص للعمل قرب موطنها، فقد اتخذت قرار الانتقال إلى سانت جون، إحدى جزر العذراء في البحر الكاريبي. ووجدت وظيفة بائعة مثلجات في الجزيرة وهي تعيش الآن حياة مختلفة كليًّا.

يقرأ الكثير من الناس عن مثل هذا القرار المصيري الجِذري ويتخيَّلون الإقدام على مجازَفة مشابهة في حياتهم … لكن عندئذٍ يستبدُّ بهم توتُّر بالغ. بيد أن الأبحاث تشير إلى أننا نندم على الأشياء التي اخترنا ألا نفعلها أكثر مما نَندم على الأشياء التي اخترنا فعلها. ففي إحدى الدراسات سُئل الناس ما الشيء الذي سيفعلونه بطريقة مختلفة لو أمكن أن يعودوا بالزمن إلى الوراء.22 ما يزيد عن نصف مشاعر الندم كانت على التقاعُس — على غرار كان يجدر بي دخول الجامعة أو إتمام الدراسة بها، كان لا بدَّ أن أدخل مجالًا مهنيًّا مُعيَّنًا، كان لا بد أن أبذل اهتمامًا أكبر بعلاقات اجتماعية أو زواج. على النقيض، ١٢ في المائة فقط كانت ندمًا على أفعال — ما كان يجب أن أدخن، ما كان يجب أن أتزوَّج مبكرًا، ما كان يجب أن أبالغ في الكد. (٣٤ في المائة أخرى كانت غير محددة.) تثبت هذه الدراسة أننا نَنزع للندم على التقاعُس أكثر من الأفعال.
لذا فلنُفكِّر في التخلُّص من طريقة تفكيرنا الكارهة للمُجازفة ولنقدِمْ على أحد الأفعال التي قد نخشاها. فلتترك الوظيفة التي لا تشعر فيها بالسعادة. ابحث عن علاقة جديدة — أو أقدم على تصرف يجعل علاقتك الحالية أكثر إشباعًا. اذهب في رحلة حول العالم بدلًا من البقاء في بيئتك المريحة والمألوفة. وكما قال الكاتب إتش جاكسون براون الابن: «بعد ٢٠ عامًا من الآن سيكون شعورك بالإحباط من الأشياء التي لم تفعلها أكبر من شعورك بالإحباط من تلك التي فعلتها. فلتتخلَّص من قيودك. أبحر مُبتعدًا عن الميناء الآمن. ودَعْ قاربك للرياح تحملك إلى حيث شاءت. استكشف. احلم. اكتشف.»23

كن مؤمنًا بالتغيير

في جزء سابق من هذا الفصل شرحت كيف يَتباين الناس في اعتقاداتهم بصدد ثبات صفات بعينِها أو قابليَّتها للتغيُّر. لكن مهما كان موقعنا بين الطرفَين، فمن الممكن أن يؤدي تبنِّينا لطريقة التفكير المتطورة إلى فوائدَ كبرى. مثال على ذلك، يُؤدي تعليم طلاب المدارس الثانوية أن يتبنَّوا طريقةَ تفكير متطورة بشأن الذكاء والشخصية إلى حصولهم على درجاتٍ أعلى وبلوغهم مستوياتٍ أدنى من الضغط النفسي والأمراض العُضوية.24
كذلك من الممكن أن يُحدِث التحوُّل في طريقة تفكيرنا تغيُّرًا في الطريقة التي نتفهَّم بها الآخرين من نواحٍ شتَّى مهمة للغاية. ففي إحدى أعمق التجارب التي دلَّت على فوائد خلْق طريقة تفكير متطورة، أعطى الباحثون الناسَ إحدى مقالتَين عن التعاطف ليَقرءوها.25

قرأ نصف المشاركين المقالةَ التي تقول إنَّ القدرة على التعاطف سِمة قابلة للنموِّ مع الوقت. إذ تقول هذه المقالة: «الناس يتعلَّمون ويَتطوَّرون على مر الحياة. والقدرة على التعاطف لا تَختلِف عنهم. فمن الممكن أن تتغيَّر هي الأخرى. ليس الأمر سهلًا دائمًا، لكن إن أراد الناس فبوسعِهم تطويعُ مقدارِ ما يشعرون به من تعاطُف مع الآخرين. فليس بين الناس مَن قدرتُه على التعاطُف صلبة مثل الصخر.»

وقرأ النصف الآخر مقالةً تشير إلى أن القدرة على التعاطُف ثابتة إلى حدٍّ كبير؛ ومن ثَم فهي لا تتغير. إذ تقول هذه المقالة: «تتشكَّل القُدرة على التعاطف لدى أغلبنا في سنٍّ صغيرة جدًّا مثل الجص، فلا يمكن تشكيلها مرة أخرى. حتى إن أردنا تغيير قدرتنا على التعاطف وتطويع مقدار تعاطفنا مع الآخرين، فلن نوفَّق غالبًا. إذ تصير قدرتنا على التعاطف جامدةً بعض الشيء، مثل الصخر.»

بعد ذلك أُتيحت لكل المشاركين في الدراسة فرصةُ الإسهام بطريقة أو أخرى في حملةٍ تنظمها الجامعة للمساعدة في مكافحة السرطان. كانت بعض سبل التطوع يسيرة نسبيًّا، على غِرار التبرع بالمال أو توزيع كتب تثقيفية من كشك في الحرم الجامعي. فيما تطلَّبت سبلٌ أخرى مستوياتٍ أعلى من التعاطف، من قبيل التطوُّع للإصغاء لمرضى بالسرطان وهم يقصُّون حكاياتهم.

هل تستطيعون توقُّع النتائج التي توصَّل إليها الباحثون؟ لم يكن ثمَّة اختلافاتٌ مُترتبة على أي المقالتين قرأ المشاركون فيما يتعلَّق باختيارهم الطرقَ «السهلة» للمساعَدة، التي شملَت التبرُّع بالمال، أو المشاركة في سباقٍ للمَشي، أو توزيع كتيبات تعليمية. غير أنَّ أولئك الذين قرءوا المقالة التي تقول إن القدرة على التعاطُف من الممكن أن تتغيَّر أشاروا إلى أنهم سوف يشاركون ضِعف الساعات في مجموعةٍ اجتماعية لدعم مرضى السرطان — إحدى أصعب وسائل التعاطُف بتقديم المساعدة.

تعطي هذه النتائج دليلًا قويًّا على أنَّ تبنِّي طريقةِ تفكير متطورة له فوائدُ حقيقية وكبرى في مجالات متعدِّدة، منها الأداء الأكاديمي، والصحة البدنية، ومساعدة الآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤