الفصل العاشر

أنفقِ النقود بحكمة: سافر في رحلة، شاهد مسرحية، اذهب إلى مباراة

هناك قصة قصيرة رائعة للكاتب الألماني هاينريش بول عن سائح ثري يصادف صيادًا أثناء غفوته على قاربه.1 يُحادث السائح الصياد ويحثه على مواصَلة الصيد، مشيرًا إلى أن العمل بمزيد من الاجتهاد من الممكن أن يُتيح له، مع الوقت، كسبَ المال الكافي لامتلاك عدة مراكب وجعل أناس آخرين يصطادون لحسابه. فسأله الصياد لماذا لا بد أن يكون هذا هدفه. فأجابه السائح قائلًا: «عندئذٍ ستستطيع أن تجلس هنا في المرسى دون أن تحمل للعالم همًّا، وتغفو في الشمس، وتُطالع البحر الخلاب.»

بالطبع كان هذا بالضبط ما يفعله الصياد بالفعل.

تمثِّل هذه القصة ما يشير إليه الكثير من الأبحاث التجريبية حاليًّا: حين نَقضي أيامنا على النحو الذي نستمتع به نجد سعادة أكبر عن قضائها في بحثٍ لا يكلُّ عن المال. فبينما يحث السائح الثري الصياد على قضاء وقته في السَّعي وراء المزيد والمزيد من المال، يدرك الصياد الحكيم سلفًا أن سعادته الحقيقية تكمُن في قضاء الوقت نائمًا في الشمس. سأشرح في هذا الفصل لماذا لا يجلب لنا المال السعادة، ولماذا قد تُشكِّل طريقة التفكير المادية خطرًا، ولماذا إنفاق ما لدينا من مال على التجارب هو أيسر سبيل للسعادة.

لماذا لا تجلب كثرة المال السعادة

من الصعب مُقاومة الميل للاعتقاد بأن حيازة المزيد من المال ستأتي بمزيد من السعادة. فأغلبنا على كل حال يشتهي الأشياء الغالية الثمن، من سيارات فارهة إلى منازلَ أكبر حجمًا إلى رحلاتٍ أكثر ترفًا. فلا شك أن الناس الذين يتمتَّعون بهذا النوع من العيش الرغيد أكثر سعادة، أليس كذلك؟

لكن يتبيَّن أن المال لا يستطيع شراء السعادة حقًّا. كما هو مبيَّن في شكل ١٠-١، زاد دخل الفرد زيادة كبيرة خلال الستين عامًا الأخيرة، لكن لا تزال نسبة الأشخاص الذين يُعربون عن شعورهم «بسعادة بالغة» خلال هذه الفترة ثابتة تمامًا.
إحدى أوائل الدراسات التي أثبتَت هذه المعلومة التي ربما تبدو غير منطقية قارنت بين سعادة أشخاصٍ ربحوا جوائزَ مسابقات يانصيب كبرى وآخرين لم يعهدوا هذا النوع من الثروة المفاجئة.2 رغم عدم وجود تفاوت بين المجموعتين في تقديرهم لدرجة سعادتهم؛ فقد كان تقدير الفائزين باليانصيب لفرحهم بأنشطة عادية متنوعة — مشاهدة التلفزيون، وسماع نكتة طريفة، والتحدُّث مع صديق — أدنى من سعادة الآخرين الذين لم يفوزوا.
fig18
شكل ١٠-١: دخْل الفرد — الظاهر في الخط ذي النقاط الصغيرة — زاد زيادة ضخمة خلال الستين عامًا الماضية. لكن نسبة الأشخاص الذين أفادوا بأنهم «سعداء جدًّا» — الظاهرة في الخط ذي النقاط الكبيرة — لم تتغير. (Myers, D. G., & Diener, E. (2018). The scientific pursuit of happiness. Perspectives on Psychological Science, 13(2), 218–225. Copyright © 2018 by SAGE Publications. Reprinted by Permission of SAGE Publications, Inc..)
هذه الاكتشافات عن انعدام الرابط نسبيًّا بين المال والسعادة تُساعدنا أيضًا على فهم السبب وراء عدم شعور الأشخاص الذين يعيشون في بلدانٍ أغنى بسعادةٍ أكبر. كما تُشير كارول جراهام، أستاذة السياسة العامة في جامعة ماريلاند، في كتابها «السعادة في أنحاء العالم: مفارقة الفلاحين السعداء والمليونيرات التعساء»؛ فإن «ارتفاع معدلات دخل الفرد لا يؤدي إلى ارتفاع متوسط مستويات السعادة مباشرةً.»3 فعلى سبيل المثال، تبلغ نسبة الأشخاص الذين يفيدون بشعورهم بالسعادة في بنجلاديش ضِعف نسبة الروس، رغم أن الروس يفوقونهم ثراءً بأربع مرات. على نحوٍ مشابه، تصل معدلات السعادة في نيجيريا ضِعف معدلاتها في اليابان، وإن كان دخل اليابانيِّين أكثر من دخل النيجيريين بخمسٍ وعشرين مرة.4
وتُعطي أبحاثٌ لاحقة على عينات كبيرة أدلةً أقوى على أن الدخل المرتفع لا يزيدنا سعادة. فقد قاسَ مسحٌ واسع النطاق لنحو نصف مليون أمريكي دخل الأسرة، والرضا عن الحياة، والرفاه العاطفي.5 كان الرضا عن الحياة تقييمًا لقناعة الناس عامةً بالحالة الراهنة لحياتهم، بينما تحقَّق الرفاه العاطفي مما إذا كان الناس تُؤاتيهم مشاعر إيجابية بصفة منتظمة، مثل السعادة والاستمتاع.
كشفت هذه النتائج عن ارتباط زيادة الدخل بزيادة الرضا عن الحياة؛ فأصحاب المستويات الأعلى من الدخل أكثر رضًا عمومًا عن حياتهم بطبيعة الحال. بيْد أن زيادة الدخل ترتبط بارتفاع الرفاه العاطفي إلى حدٍّ معيَّن فقط. فلا يجني أصحاب الدخول البالغة ٧٥٠٠٠ دولار وأكثر، سعادةً إضافية من الدخل المرتفع. رغم أن عدد الأشخاص الذين يكسبون أكثر من ٩٠٠٠٠ دولار سنويًّا الذين يُفيدون بأنهم «سعداء جدًّا» يكاد يبلغ ضِعف عدد أولئك الذين يكسبون أقل من ٢٠٠٠٠ دولار، فلا يُوجد من الأساس اختلاف في السعادة بين مَن يكسبون ٥٠٠٠٠ ومَن يكسبون ٨٩٫٩٩٩.6
لكن يوجد استثناء للقاعدة العامة التي تُفيد بأن المزيد من المال لا يجلب المزيد من السعادة. فمن الممكن أن تؤديَ قلة المال إلى تفاقم صعوبة منغِّصات الحياة اليومية بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، مثل المشكلات الصحية ومتاعب الرعاية. قد يشغل هؤلاء الناس أن يكون لديهم المال الكافي للوفاء بالاحتياجات الأساسية — الطعام والسكن والتدفئة وما إلى ذلك. فبالنسبة إليهم المزيد من المال يأتي بمزيد من السعادة. فمن المستحيل على كل حال أن تحسَّ بالسعادة وأنت مشغول بما إذا كان أطفالك سيحصلون على الطعام الكافي ليأكلوه أو إذا كانت التدفئة ستتوفَّر لأسرتك هذا الشتاء. وبناءً على ذلك، فإن البرامج التي تُوفِّر المال للتخفيف من وطأة الفقر تؤدي مباشرةً إلى ارتفاع مستويات السعادة؛ من ناحية لأن الدخل الإضافي يحدُّ من الضغط النفسي لدى الأشخاص الذين يعيشون في مثل تلك الظروف.7

بعبارة أخرى، بعد تلبية احتياجاتنا الأساسية، تتحقَّق السعادة حسب الطريقة التي نختار أن نقضي بها وقتنا. وقضاء المزيد من الوقت في أشياء تجعلنا سعداء — في قراءة كتاب، أو مشاهدة التلفزيون، أو مخالطة أصدقائنا — لهي طريقة أفضل كثيرًا لمضاعفة شعورنا بالسعادة عن قضاء المزيد من الوقت في العمل حتى إن كان لكسب المزيد من المال.

مخاطر النزعة المادية

تطالعنا في كل مكان الإغراءات للاعتقاد بأن السعادة تكمن في الحصول على المزيد والأفضل من الأغراض. فمن الواضح أن صور الإعلانات تُوحي برسالةٍ مؤداها أن امتلاك سيارة أفضل، أو مجوهرات أجمل أو منزل أكبر هو السبيل لرضًا أكبر عن الحياة.

لكن الأبحاث التجريبية لا تدحض هذه الفكرة فحسب، وإنما تشير أيضًا إلى أن مجرَّد السعي وراء الممتلكات المادية من الممكن أن يقلل من السعادة. فالأشخاص ذوو النزعة المادية القوية غالبًا ما يكون لديهم مستويات شديدة التدني من الرضا عن الحياة في واقع الأمر. فإنهم يَشعُرون بقدرٍ أقل من المشاعر الإيجابية يوميًّا، وهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، ويُفيدون بشكاوى صحية أكثر؛ منها الصداع وألم الظهر واحتقان الحلق.8
بل وترتبط النزعة المادية حتى بانخفاض الرضا عن العلاقة الزوجية. فالزيجات التي يكون فيها الزوجان محدودَي النزعة المادية تمرُّ بخلافاتٍ أقل، وتتمتَّع بتواصلٍ أفضل، ورضًا أكثر عن تلك التي يكون فيها أحد الزوجين أو كلاهما شديد المادية.9 كما أنها من المرجَّح أن تستمر مدة طويلة.

غالبًا ما ترجع الحاجة الدائمة إلى شراء الأشياء إلى انخفاض الاعتزاز بالذات. فالأشخاص الذين يشعرون برضًا كبير عن أنفسهم يساورهم شعور — زائف — بأن شراء الأغراض المادية سيجعلهم أكثر اغتباطًا. ورغم أنهم قد يحسُّون بتحسنٍ مؤقت من تلك الاقتناءات، فإن هذا الشعور الإيجابي لا يلبث أن يزول. بالإضافة إلى ذلك، وكما أوضحت في الفصل السادس، فإن شراء الأشياء لاستعراض الثروة معركة خاسرة؛ لأنه دائمًا سيظل هناك شخصٌ آخر لديه أشياء أكثر وأفضل. لهذا السبب يكون المقِيمون في أحياء ثرية أشدَّ اهتمامًا بشراء الأشياء، لكنَّهم ليسوا أسعد حالًا.

لكن حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يُركِّزون بوجهٍ عام على شراء الأغراض المادية، من الممكن أن توهِن طريقةُ تفكيرهم المؤقتة المُتمركِزة على الاستهلاكية من سعادتهم.10 ففي إحدى الدراسات، عرض الباحثون على بعض الناس صورًا لسِلَع كمالية، مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية والمجوهرات، بينما رأى آخرون صورًا مُحايدة. أولئك الذين رأوا الصور المادية أفادوا فيما بعدُ عن مستويات أعلى من الاكتئاب والقلق، مما يشير إلى أنه حتى طريقة التفكير المادية العابرة من الممكن أن تؤذي رفاهنا النفسي. كما أنهم كانوا أقل اهتمامًا بالمشاركة في أنشطة اجتماعية.
ما الذي يسعنا عمله إذن للحدِّ من اهتمامنا بالماديات، لما لها من آثارٍ سلبية على الشعور بالسعادة؟ فلتظلَّ مُتذكِّرًا أن محاولة العثور على السعادة بشراء أغراضٍ مادية قضية خاسرة. في الواقع، يشعر البوذيون بأن الأغراض المادية هي بالأحرى عقبات تحول دون السعادة الحقيقية. روجر كورليس، أستاذ الأديان في جامعة ديوك ومؤلِّف كتاب «رؤى البوذية» كان قد قال ذات مرة: «محاولة أن تكون سعيدًا بتكديس الممتلكات أشبهُ بمحاولة إشباع جوعك بإحاطة جسدِك من كل ناحية بالشَّطائر.»11

لماذا المال ليس الطريق إلى السعادة؟

من الأسباب التي تجعل المال لا يجلب لنا السعادة الطويلة الأجل أننا نعتاد على ثرائنا المستجد. في البداية، يكون من الرائع الحصول على بعض المال الإضافي، لكننا مع الوقت نعتاد فحسب على هذا المستوى الأعلى من الدخل أو الثروة المفاجئة؛ ومن ثَم فهي لا تؤدي إلى قدرٍ أكبر من الفرح. يُسمِّي الباحثون في مجال علم النفس هذا التأقلم الدائرةَ المُفرغة للمتعة.

إليك مثالًا على تأثير التأقلُم. فلتتذكر حصولك على أول هاتف محمول على الإطلاق: كم كنت سعيدًا؟ لعلك شعرتَ بإثارة بالغة؛ لأنه صار باستطاعتك على نحوٍ غير متوقَّع أن تتصل بالناس من سيارتك! كان هذا الجهاز الجديد مُثيرًا في بادئ الأمر.

لكن تخيَّل الآن كيف قد تشعر إن استعضتَ عن هاتفك المحمول الحالي بالهاتف المحمول الذي كنتَ في غاية الفرح به منذ ١٥ أو ٢٠ عامًا. من المؤكد أنك لن تشعر بفرحة بالغة؛ لأنك صرت الآن معتادًا على التكنولوجيا الدائمة التطور المتوافرة على الهاتف المحمول. ومن ثَم فإننا نتوقَّع ألا تقتصر هواتفنا المحمولة على السماح لنا بالاتصال بالناس من السيارة فقط، وإنما كذلك بالتقاط الصور، أو قراءة الجرائد، أو شراء الكتب. هذا مثال واضح على أننا نتأقلم مع مرور الزمن ونجد أن الأشياء التي كانت سببًا في زيادة بهجتنا في البداية — مثل العلاوة أو الهاتف المحمول — لم تَعُد كذلك مع مرور الوقت.

بالإضافة إلى ذلك، فإن النمو في الثروة من الممكن أيضًا أن يغيِّر المقارنات التي نعقدها، كما بينت في الفصل السادس. فقد تَحدو بنا زيادةُ الدخل على الانتقال إلى حيٍّ أرقى أو إرسال أبنائنا إلى مدرسة خاصة، وهو ما نتوقَّع أن يجعلنا أشد سعادة. لكن هذه البيئات الجديدة في الواقع إنما تغيِّر طبيعة المقارنات التي نجريها، وهذه المقارنات تجعلنا أشد سخطًا. فربما كلُّ مَن في الحي الجديد، على سبيل المثال، يقود سيارات فارهة أو يَحصل على عناية باهظة التكاليف بحديقته، وربما يذهب أصدقاء أبنائنا في مدرستهم الجديدة في رحلاتٍ أشد ترفًا ويمتلكون منازلَ أخرى. فإذا بثروتنا الجديدة لا تُعطينا السعادة المتوقعة. وكما قال بنجامين فرانكلين: «لم يجعل المال إنسانًا سعيدًا قط، ولن يفعل، فليس في طبيعته ما يبعث على السعادة. فكلما زاد ما لديك منه، زادت رغبتك في المزيد منه.»12
التفسير الثالث لعدم وجود علاقة عمومًا بين المال والسعادة، أن المال قد يغيِّر الطريقة التي نُمضي بها وقتنا. فعلى عكس المتوقَّع قد يقضي الأشخاص الذين يملكون مالًا طائلًا وقتَهم دون قصد على نحوٍ لا يفضي إلى السعادة. فأصحاب الدخل فوق المتوسط يقضون وقتًا أقلَّ في مزاولة أنشطةٍ تُعزِّز بهجتهم، مثل التمارين والاسترخاء، ويَقضُون وقتًا أكثرَ في أنشطةٍ لا تُعزِّزها بالضرورة، مثل العمل والانتقال من مكانٍ إلى آخر. فعلى سبيل المثال، يقضي الذين يكسبون ١٠٠ ألف دولار سنويًّا ٢٠ في المائة من وقتهم في أنشطةٍ ترفيهية، في حين يقضي مَن يكسبون أقل من ٢٠ ألف نحو ٣٤ في المائة من وقتهم في تلك الأنشطة.13 كما أنَّ أصحاب الدخول المُرتفعة يقضون أمسياتٍ أقل في مخالطة الناس، ووقتًا أقصر من النهار في التفاعل مع الآخرين.14
هذه النزعة العامة لدى الناس الذين يربحون مالًا أكثر لقضاء المزيد من الوقت بمُفردهم من الممكن أن تؤثِّر حتى على شعورهم بالفرح. فقد اكتشفت دراسة حديثة أن أصحاب الدخل المرتفع يفيدون بإحساسهم بعواطفَ أشد تركيزًا على الذات، مثل الكبرياء والاغتباط.15 على النقيض، يفيد الذين يحققون مالًا أقل بإحساسهم بعواطفَ أشد تركيزًا على الآخرين، مثل الشفقة والحب. كما عبَّر عن الأمر بول بيف، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، إرفين، حين قال: «الثروة لا تضمن السعادة، لكنها قد تجعلك ميالًا للشعور بأنواعٍ مختلفة منها — مثل أن تكون متعتُك ذاتية بدلًا من أن تستمدها من صحبة أصدقائك وأقاربك.»16

كما سأوضح في الفصل الثاني عشر، العلاقات الاجتماعية هي أفضل مُسبِّبات السعادة؛ لذلك قد يخسر أصحاب الدخل المرتفع بقضائهم وقتًا أقل مع الآخرين. وفي هذه الحالة من الممكن فعلًا أن يؤدي المزيد من الثراء إلى سعادة أقل.

لماذا إنفاقك على التجارب هو أفضل استثمار لنقودك؟

كان تركيز هذا الفصل حتى الآن على شرحِ لماذا لا يُؤدِّي المزيد من المال إلى مزيدٍ من السعادة. لكن الخبر السعيد هو أن بإمكاننا إنفاق المال بطُرق تعود علينا بالسعادة. من طُرق إنفاق المال التي تزيدنا سعادة إنفاقُ المال على ناس آخرين، منهم الأصدقاء وأفراد الأسرة وحتى الغرباء، كما سأوضح في الفصل الحادي عشر.

ما أنواع الإنفاق الأخرى المُفيدة لرفاهنا النفسي؟

الأشخاص الذين يُنفقون المال على تجارب الحياة — فعلُ أشياء — تبدو عليهم سعادة مستديمة أكثر ممن يُنفقون المال على شراء أغراض مادية — امتلاك أشياء.17 بناءً على ذلك فإن إنفاق المال لشراء تذاكر مباراة هامة، أو عرض في مسرح برودواي، أو رحلة ممتعة لهو طريقة ممتازة لمضاعفة السعادة. أما إنفاق المال على سيارة أو ساعة أو حذاء باهظ الثمن فعلى النقيض؛ إذ ليس له سوى أثرٍ عابر على مستوى السعادة. وعلى حدِّ وصف مارتن سليجمان، مدير مركز علم النفس الإيجابي في جامعة بنسلفانيا؛ إذ يقول: «الأغراض المادية كلها مثل مثلجات الفانيلا الفرنسية. رائعة حين تتذوَّقها أول مرة، لكن في المرة السابعة تصير بمذاق الكرتون.»18 بعبارة أخرى: اختر أن تصنع ذكرياتٍ بدلًا من أن تُجدِّد حمَّامك.

من المؤسف أن تقديرات الناس لأنواع الإنفاق التي ستعود عليهم بسعادةٍ أكثر تكاد تكون دائمًا خاطئة. فالناس ينتظرون أن يجعلهم شراء السلع المادية في سعادةٍ أكبر؛ فإننا على كل حال نحتفظ بالأغراض المادية وبذلك نظلُّ نستخدمها مرارًا ونستمد منها المتعة. أما التجارب، فعلى النقيض، زائلة؛ ومن ثَم فليس بإمكانها سوى أن تُعطيَنا سعادة مؤقَّتة بطبيعة الحال.

طلب الباحثون في إحدى الدراسات من أشخاصٍ أن يتأملوا قدْر السعادة التي قد يشعرون بها من عملية شراء معينة.19 اعتقد غالبية الأشخاص أن شراء سلعة مادية سيَجلِب لهم سعادةً أكبر من شراء تجربة. لكن حين سأل الباحثون نفس الأشخاص بعد فترة أسبوعين لأربعة أسابيع عن مدى سعادتهم بما اشتروه، كان الناس أشد سعادة بالتجربة التي اشتروها.

لماذا إنفاق المال على التجارب أفضل من إنفاقها على الأغراض المادية؟ لأنه يتسنَّى لنا أن نترقبها، ونحكيها للآخرين، ونعيشها مرة أخرى.

متعة الترقب

هل سبق أن ذهبت في رحلةٍ ممتعة ظللت تفكِّر فيها وتخطِّط لها قبل السفر بأسابيع وشهور؟ تفكِّر أين ستذهب، وماذا سترى، وما إلى ذلك؟ إن كنت فعلت فأهنئك — فإن ذلك النوع من الترقُّب طريقة رائعة لاغتنام سعادةٍ أكبر من حدث واحد! هذا هو نوع الترقُّب الذي يشعر به الأطفال قبل صباح الكريسماس — إنهم يستمتعون بذلك اليوم لأنهم من ناحيةٍ ظلوا طيلةَ أيام وأسابيع يترقَّبون فرحة فتح الهدايا المذهلة. (حتى إن الألمان لديهم تعبير لذلك — Vorfreude ist die schönste Freude، ومعناه: «الترقُّب هو المتعة الأعظم».)
في سلسلة كتب «ويني الدبدوب» للكاتب إيه إيه ميلن، مقولة رائعة تشير إشارة دقيقة لبهجة الترقُّب:

قال الدبدوب: «حسنًا، أكثر ما أحبه»، ثم اضطُر إلى التوقف والتفكير. فرغم أن لعْق العسل كان طيبًا جدًّا، فإن اللحظة السابقة للعقِه كانت أفضل حتى من الوقت الذي يلعقه فيه فعليًّا، لكنه لم يكن يعلم ما اسم تلك اللحظة.

وكانت الكلمة بالطبع هي الترقُّب.

لكنَّك لست في حاجةٍ للاكتفاء بتصديق زعمي فحسب. فالأبحاث العلمية أثبتت أن الأشخاص الذين يترقَّبون الشيء يشعرون بمتعة أكثرَ ممن لا يترقَّبونه. فعلى سبيل المثال، طلب الباحثون في إحدى الدراسات من طلبةٍ جامعيين أن يُشاركوا في دراسةٍ تهدف إلى «تقييم شوكولاتة».20 طُلِب من نصف الطلاب أن يتناولوا في الحال إما شوكولاتة «كيسيز» أو «هاجز» اللتين تنتجهما شركة «هيرشي»، ثم يحدِّدوا درجةَ استمتاعهم بهذه الشوكولاتة. كذلك طُلِب من الطلاب الآخرين تناول الشوكولاتة ثم تقييمها لكن فقط بعد أن ظلوا مُنتظِرين ٣٠ دقيقة. هل تستطيع توقُّع النتائج؟ أعرب الطلاب الذين اضطروا للانتظار ٣٠ دقيقة عن استحسانهم للشوكولاتة أكثرَ بكثير مقارنةً بمن تسنَّى لهم تناولها في الحال.
إذن فإن من الأسباب التي تجعلنا أكثرَ سعادة من إنفاق المال على التجارب أن ترقُّب التجربة أمتع من ترقُّب سِلعة مادية جديدة.21 تأمَّل البهجة التي قد تشعر بها من ترقُّب رحلة إلى أوروبا لطالما انتظرتها — الأشياء التي سوف تراها، والطعام الذي ستأكله. والآن تأمَّل البهجة التي قد تؤاتيك من ترقُّب الوصول الوشيك لغرضٍ مادي، مثل سيارة، أو تلفزيون بشاشة كبيرة، أو كمبيوتر جديد. عند أغلب الناس، يثير ترقُّب وصول غرض مادي (على غرار «لا أطيق الانتظار للحصول على حقيبتي الجديدة!») سعادة أقل من ترقُّب الرحلة (من قبيل «لا أطيق الانتظار لرؤية ماتشو بيتشو!»).

نتائج هذا البحث أدَّت بي أنا وزوجي إلى تغيير أنواع الهدايا التي نُعطيها لأبنائنا في الكريسماس كل عام تغييرًا جذريًّا. بدلًا من شراء غرض ثمين، صرنا نُنفق المال على تجربة من التجارب. فكانت لأجل ابنتي في أحد الأعوام تذاكر لمسرحية «هاميلتون»، وفي عام آخر كانت تذاكر لجولة برنامج «الرقص مع النجوم». (وقد تبيَّن أن جولة برنامج «الرقص مع النجوم» ليست الاختيار الأنسب لفتاةٍ في الحادية عشرة من العمر.) أما الصبيان، فدائمًا ما تدور هذه التجارب حول الرياضة — تذاكر لبوسطن سلتيكس أو بوسطن بروينز.

من ثَم حين تشتري شيئًا من أجل شخصٍ عزيز، جرِّب أن تستبعد شراء سِلعة مادية أخرى واشترِ بدلًا من ذلك تجربة — يومًا في منتجع، أو تذاكر لحفل، أو كوبون هدية لمطعم مفضَّل.

قوة التجارب المشتركة

من التفسيرات الأخرى لمزايا شراء تجارب أن الناس يُشاركون على الأرجح تجاربهم مع آخرين، في حين أنهم يشترون على الأرجح الأغراض المادية لاستخدامها وحدهم. فقد يكون من الأرجح على كل حال حين تذهب في رحلةٍ أو إلى المسرح أن تَصطحِب صديقًا بدلًا من الذهاب بمُفرَدك، لكنك حين تشتري حقيبةً أو ساعةً أو كمبيوترًا محمولًا جديدًا سيكون غالبًا لاستخدامك الشخصي، وليس لتتشاركه. وقد يكون هذا الميل لتشارُك التجاربِ مع مَن يهمُّنا أمرهم هو التفسير لأثرها الهائل على شعورنا بالسعادة. وكما قال الجوَّال والرحَّالة كريس ماكندليس: «لا تكون السعادة حقيقية إلا عند مشاركتها.»22
تناول الباحثون في إحدى الدراسات هذه المسألة مباشرةً بالمقارنة بين الفوائد النسبية التي تتحقَّق على مستوى السعادة عند إنفاق المال على تجارب في مقابل إنفاقها على أشياء، وكذلك إنفاق المال في أغراض فردية في مقابل أغراض اجتماعية.23 ما الذي كشف عنه هذا البحث بخصوص الطريقة المثلى لإنفاق المال؟

أولًا: أدَّى إنفاق المال في أغراضٍ جماعية لقَدرٍ أكبر من السعادة عن إنفاقه في أغراض فردية، أي إننا نجد سعادة أكبر لشراء شاشة تلفزيونية كبيرة تستطيع الأسرة كلها الاستمتاع بها مقارنةً بحقيبة أو ساعة نهدف لاستخدامها وحدنا. تَنطبِق هذه النتائج على شراء كلٍّ من الأشياء المادية والتجارب؛ الذين يُنفقون المال على تجارب مشتركة اجتماعيًّا — الذهاب إلى حفل مع صديق أو السفر في رحلة مع زوج — أظهروا مستوياتٍ أعلى من الرضا مقارنةً بمن يُنفقون المال على تجارب فردية — حضور حدث رياضي بمُفردهم أو الذهاب في رحلة فردية.

لكن كان الباعث الأفضل على السعادة هو إنفاق المال على تجارب مشتركة اجتماعيًّا — مثل التخطيط لرحلةٍ مع زوج أو اصطحاب الأسرة كلها لمسرحية في برودواي. فللتجارب المشتركة اجتماعيًّا في الواقع، أثرٌ أكبر على السعادة مقارنةً بإنفاق المال على تجارب فردية أو أشياء مادية (فردية أو مشتركة). تشير هذه النتائج إلى الفوائد البالغة التي تتحقَّق على مستوى السعادة من إنفاق المال على التجارب، لا سيما إن كانت تلك التجارب من الممكن مشاركتها مع أشخاصٍ يُهمنا أمرهم.

قوة عيش التجربة مجدَّدًا

تخيَّل أنك ذهبتَ في رحلة رائعة — أسبوع من الاسترخاء في مُنتجَع كاريبي شامل كل الخدمات، أو أسبوع من الإثارة طائفًا بالمتاحف والمواقع الأثرية في روما، أو رحلة تجوال في منتزه يوسيميتي الوطني. والآن تخيَّل أنك أنفقت للتو مبلغًا من المال على مقتنيات — سيارة فارهة جديدة، أو ساعة ثمينة، أو معطف فرو. أي من تلك المشتريات يُرجَّح أن تخبر به الآخرين؟ كما قد تتوقع، الأرجح أننا نحكي عن تجاربنا للآخرين أكثر من أن نحكيَ لهم عن أغراضنا المادية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحديث عن تجاربنا يزيد من استمتاعنا بالحدث الأصلي.24 فإننا نحب أن نصف رحلاتنا للآخرين من ناحية لأنَّنا بالحكي نعيش التجربة مرة أخرى في أذهاننا. هذه القدرة على العودة بالذاكرة إلى التجارب من الأشياء التي تجعل هذه الأحداث عزيزة.

وإننا نجد متعةً أقل كثيرًا في التحدث عن مقتنيات مادية بتكلفة باهظة مُماثلة مع الناس. فقد نذكر مبدئيًّا أننا اشترينا سيارة جديدة، لكنه من المستبعد نوعًا ما أن نسترسِل في وصف شرائها أو تجربة قيادتها للآخرين.

وكما يقول أميت كومار، مؤلِّف هذه الدراسات: «تعيش التجربة في ذاكرتنا وفي القصص التي نحكيها، أما السِّلَع المادية «فتختفي» بمجرد أن نعتاد عليها بطبيعة الحال. فجهاز الووكمان الذي كنا نعتزُّ به من قبل بطُل استعماله، في حين كما قال همفري بوجارت لإنجريد برجمان في فيلم «كازابلانكا»: «سنظلُّ دائمًا مُحتفِظين بذكريات باريس.»»

معضلة تذاكر مباراة كابز في بطولة العالم

ظل شقيقي مات لزمنٍ طويل يحصل على تذكرة مخفَّضة لحضور المباريات الموسمية لفريق شيكاجو كابز للبيسبول. وفي أكتوبر ٢٠١٦ واجه مُعضِلة غير مألوفة بالمرة: ما الذي سيفعله بأربع تذاكر لمباراة بطولة العالم. كان لديه خيار أن يصطحب زوجته وطفليه للمباراة — فمن الواضح أنها فرصة رائعة بحق. الخيار الآخر كان أن يبيع التذاكر ويكسب ١٠ آلاف دولار.

بعد قراءة هذا الفصل، ربما تستطيع أن تتخيَّل نصيحتي لمات. بالاستناد إلى أبحاث في علم السعادة توجد إجابتان مثاليتان. إحداهما هي بالطبع اصطحاب أسرته للمباراة واغتنام التجارب التي سيتشاركونها (وأن يستمتعوا بتلك الذكريات ويتذكَّروها لفترة طويلة). الخيار الصائب الآخر أن يبيع التذاكر ثم يأخذ العائد ليذهب في رحلة عائلية رائعة — إلى ديزني لاند أو جراند كانيون أو هاواي. يفترض أن يؤدي أيٌّ من هذين الخيارين إلى بهجةٍ تفوق تلك البهجة الناتجة عن شراء سيارة جديدة أو أثاث لحجرة المعيشة. وقد ذهبوا إلى المباراة وكانت المعجزة أن شهدوا الفوز الوحيد لفريق كابز في بطولة العالم على ملعب ريجلي.

كان إنفاق المال في الذهاب للمباراة بالنِّسبة إلى شقيقي وأسرته خيارًا أفضل بكثير من ربح ١٠ آلاف دولار سريعًا. فقد كانوا يترقبون الذهاب للمباراة، وحضروها معًا بروح الأسرة، وما زالوا يعيشون هذه الليلة مجددًا حين يحكون لآخرين قصةَ هذه التجربة الفريدة. ذلك هو نوع السعادة الذي يستطيع المال شراءه بحق!

خلاصة القول

نُريد كلنا المزيد من السعادة، لكنَّنا كثيرًا ما نسعى إليها بطرقٍ خاطئة تمامًا. في رسمٍ هزلي رائع في مجلة «نيويوركر» يظهر رجل على فِراش الموت وهو يقول: «ليتني اشتريت المزيد من الأشياء التافهة.» حاولِ التوقُّف عن التأثُّر بالرسائل المُتواصِلة التي تصلنا عن أهمية الأغراض المادية. أعطِ الأولوية بالأحرى للأشياء المهمة بحق — فإنفاق المال على التجارب، لا سيما التجارب المشتركة التي يمكننا ترقُّبها، هو السبيل الحقيقي للسعادة.

إليك بعض الاستراتيجيات البسيطة التي يمكنك استخدامها في حياتك لتجد سعادة أكبر.

الوقت قبل المال

كما أوضحت سابقًا في هذا الفصل، للطريقةِ التي نُمضي بها يومَنا أثرٌ عظيم على سعادتنا. لذلك، فإن التخلُّص من المهام التي تُثبِّط معنوياتنا، كلما أمكن ذلك، لهو طريقة رائعة لتحسين رفاهنا في مجمله. قد يكون ذلك بألا نقدِم كثيرًا على أعمال معينة. فإذا كنت على سبيل المثال تَكره تغيير الملاءات أو التنظيف بالمكنسة الكهربائية، فربما يمكنك القيام بتلك المهام مرة كلَّ أسبوعين بدلًا من مرة كل أسبوع. في حالات أخرى، من الممكن للعزم على الاستعانة بشخص لأداء مهام معينة، مثل تنظيف منزلك أو جز حشائش حديقتك، أن يُعزِّز سعادتك بدرجة كبيرة.

في دراسات شملت طلبةً جامعيين وكبار سن، أعرب الأشخاص الذين يُعطون الأولوية لوقتهم على نقودهم عن درجاتٍ أعلى من الرفاه النَّفسي والرضا عن الحياة.25 وإننا نشهد فوائد إنفاق المال من أجل توفير الوقت في شتى الثقافات ولدى الأشخاص ذوي الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية المختلِفة.
وها هو ذا مثال لنرى كيف أن إنفاق المال لتوفير الوقت يجعلنا في حالٍ أفضل كثيرًا. ففي واحدة من الدراسات، أُعطيَ أشخاص ٤٠ دولارًا في عطلتين أسبوعيتين متتاليتين لكن مع إعطائهم تعليمات صارمة بشأن سبل إنفاق المال.26 إذ طُلِب من الأشخاص في عطلة أسبوع إنفاق المال على شراء أشياء مادية، كتب أو ملابس مثلًا. وفي عطلة الأسبوع الأخرى طُلِب منهم إنفاق النقود على شيء يوفِّر لهم الوقت، مثل استقلال سيارة أجرة بدلًا من السير، أو تناول الطعام في مطعم بدلًا من الطهي.

ثم طلب الباحثون من هؤلاء الأشخاص بعد كل عطلة أسبوع أن يُقيِّموا المستوى العام لضغطهم النفسي ورفاههم. هل تستطيع أن تخمِّن ما الذي وجدوه؟ أفاد هؤلاء الأشخاص بمستويات أدنى من الضغط النفسي والحالة المزاجية السَّلبية ومستويات أعلى من الحالة المزاجية الإيجابية، في الأيام التي طُلِب منهم فيها إنفاق المال في أشياء تُوفِّر لهم الوقت، مقارنةً بالأيام التي اشترَوا فيها أغراضًا. يبدو أن إنفاق النقود من أجل توفير الوقت لأنفسنا يحدُّ من ضغوطات الحياة اليومية؛ ومن ثَم فإنه يمنح قدرًا أكبر من السعادة.

هناك اختيارات متعدِّدة لتوفير الوقت التي يمكننا اتخاذها في حياتنا اليومية:
  • الاستعانة بخدمة تنظيف المنزل، أو كنس أوراق الأشجار، أو جز الحشائش، أو تنظيف ممر السيارة.

  • احصُل على عشاء جاهز بدلًا من الطهي.

  • اذهب في رحلة طيران دون توقُّف باهظة، بدلًا من الرحلة الأرخص التي تستلزم التوقف.

ستجد في العديد من المواقف أن إعطاء الأولوية للوقت على المال هو الحل الأفضل لتعزيز مشاعر السعادة.

التقِط صورًا

تخيَّل أنك تزور مدينة لأول مرة ذاهبًا في جولة بالحافلة لمشاهدة معالمِها الهامة — المتاحف والتماثيل والمباني الشهيرة. هل سيَختلِف استمتاعك بهذه التجربة إن التقطت صورًا؟

ذهب الباحثون في إحدى الدراسات للتحقُّق من هذه المسألة على وجه الخصوص.27 فطُلب من أفراد المجموعة الأولى من الزائرين أن يلتقطوا ١٠ صور على الأقل خلال جولة مدتها ساعة، في حين طُلب من أفراد المجموعة الأخرى أن يتركوا كاميراتهم وهواتفهم المحمولة، فلا يستطيعون التقاط صور. وقد أفاد الذين التقطوا الصور باستمتاعهم أكثرَ بالجولة. لماذا؟ لأن التقاط الصور يجعل الناس يُفيدون باستغراقهم أكثر في التجربة واستمتاعهم بها.

رغم أن هذه الدراسة تعرَّضت فقط لتأثير التقاط الصور على استمتاعهم بالتجربة الفعلية، فمن الممكن أن يكون لالتقاط الصور فائدة إضافية؛ فإن حيازة صورِ تجربةٍ ما يتيح للناس العودة بذاكرتهم إلى تلك التجربة فيما بعد، مما قد يؤدِّي كذلك إلى زيادة مستوى السعادة. حسبك أن تتخيل السعادة التي قد تُساورك عند مطالعتك صور رحلة، أو احتفالك بعيد ميلادٍ مهم، أو توثيقك للحظة تذكارية في طفولتك.

خطِّط لرحلة

التخطيط لرحلة طريقةٌ رائعة حقًّا لزيادة الشعور بالسعادة؛ لأنه يُتيح لنا الترقُّب. وكما عرفنا سابقًا في هذا الفصل، فإن الترقُّب يزيد من الاستمتاع. ومن المهم أن نشير إلى أنه كما هو متوقَّع رغم أن الناس التي تُخطِّط لعطلة تشعر بسعادةٍ أكبر ممن لا يخططون لها، فإنَّ هذه السعادة المضاعفة لا تستمر بعد انتهاء العطلة.28 فرغم أننا قد نجد لحظات سعادة بعد العطلة، بالحديث عن تجربتنا مع أصدقائنا ومعايشتها مرة أخرى من خلال الصور، فإننا بمجرد أن نعود إلى روتين الحياة اليومية، لا تظل سعادتنا مضاعفة إلى الأبد.
إن ترقُّب الرحلة يُثير قدرًا من السعادة يفوق حتى السعادة الناتجة عن تذكُّر رحلة قمنا بها فعلًا.29 فإننا على كل حال لا نترقَّب سوى الشيء الإيجابي؛ الوجبة الشهية التي سنتناولها، المتحف الرائع الذي سنتجوَّل فيه، والحماس لرؤية مدينة جديدة، وما إلى ذلك. لكننا حين نتذكر تتسلل إلى ذكرياتنا بعضُ الوقائع التي لم تكن إيجابية في الرحلة؛ المتاع المفقود، والصفوف الطويلة، وحجرة الفندق المزعجة.

إذن فإن من الأساليب السهلة لتعزيز مشاعر السعادة التخطيطَ لبعض الرحلات. حين تقابلني صعوبة في النوم، أو أشعر بالقلق، ألجأ إلى استراتيجية مضمونة: أتناول دليل سفر وأبدأ في التخطيط لرحلة. أحيانًا يسفِر هذا التخطيط عن رحلة، لكنه في أغلب الأحيان لا يتحقق بالمرة — وإن كنت ما زلت آمل أن أرى شواطئ نورماندي، وأزور أطلال بومبي، وأبحر في جولة في البحر المتوسط يومًا ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤