الفصل السادس

«المقارنة سارقة البهجة»: للبيئة أهمية

من الصعب أن نتخيَّل موقعًا للنشأة أروعَ من بالو ألتو، في ولاية كاليفورنيا، تلك البلدة الهادئة في قلب وادي السيليكون في مواجهة جامعة ستانفورد بالضبط. حيث يترعرع الأطفال في بيوتٍ تفوق قيمتها المليون دولار، ويرتادون مدارسَ عامة رفيعة المستوى، ويبدون وقد تمتعوا بكل ميزة قد يدرُّها المال.

بيْد أنه خلال العَقد الأخير أقدم عدد من المُراهِقِين في هذه البلدة ذات الثقافة الرفيعة والثراء على الانتحار — بأن ألقى العديد منهم بنفسِه أمام القطار. في الواقع، يفوق معدل انتحار المراهقين في بالو ألتو المعدَّل المسجَّل على المستوى الوطني بأربعة أو خمسة أضعاف.

رغم تعدُّد العوامل المؤدية للانتحار، فإنه يكاد الجميع يتَّفقون على أن تجرِبة الدراسة الثانوية البالغة الإجهاد في بالو ألتو لها يدٌ في الأمر. فالمنافسة على القبول في أفضل الجامعات شرسة؛ إذ حصل ٦٤ في المائة من الدفعة التي تخرَّجت عام ٢٠١٥ في إحدى المدرستين الثانويتين المحليتين على معدلٍ تراكمي ٣٫٥١ أو أكثر. يَلتحق أغلب الطلاب بفصولٍ تأهيلية متقدِّمة متعدِّدة، ويقضون وقتًا طويلًا في حل واجباتٍ مدرسية والقيام بأنشطة خارج المنهج، ويتعرَّضون لضغط هائل من الأبوين والمدرسين وأقرانهم حتى يتفوقوا.

لكن تريَّثْ لتتأمَّل ما عساه يعنيه «الضغط النفسي» بحقٍّ في هذه البيئة الراقية. فهؤلاء الصغار غير خائفين ألا يجدوا كفايتهم من الطعام أو مكانًا آمنًا للمبيت، أو من تهديدٍ جسدي في مجتمعٍ تجتاحه الجريمة أو تمزِّقه الحرب. الضغط النفسي، الذي يشعر به هؤلاء الطلاب على الأقل، يكاد يكون نابعًا بالكامل من أفكارهم وربما أفكار آبائهم وأقرانهم ومُدرِّسيهم. وما يجعل هؤلاء الطلاب في المرحلة الثانوية يعانون الضغطَ النفسي تحديدًا أنهم اقتنعوا بطريقةِ التفكير التي تخبرهم بأن ارتيادَ جامعة مرموقة هو سرُّ السعادة.

سوف تعرفون في هذا الفصل كيف تجعلنا العواملُ البيئية — ومنها الحي والبلد ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي — نرى أنفسنا بطرقٍ معينة، وكيف تستطيع هذه المواقف الذهنية أن تكدِّر صفونا، ولو في بعض الأحيان على الأقل. كذلك ستتعرَّفون على استراتيجيات مفيدة للحد من تأثير هذه العوامل الخارجية التي تستطيع تثبيط همَّتنا وللانصراف بدلًا من ذلك إلى العثور على السعادة الحقيقية داخل أنفسنا.

مساوئ المقارنة

المقارنة الاجتماعية غريزةٌ بشرية أساسية وتلقائية. فهي تساعدنا على فهمِ موقعنا بين الآخرين، بما في ذلك ما نجيده وما لا نُحسنه. نستخدم هذه المقارنات لتقييم أنفسنا في أي ناحية من النواحي تقريبًا — سواء المظهر أو الدخل أو النجاح أو غير ذلك.

تلك المقارنات تؤدِّي غرضًا مهمًّا بما أننا لا نجد مقياسًا موضوعيًّا واضحًا للعديد من عوامل الحياة. فلنقل مثلًا إن شخصًا ما يتقاضى راتبًا قدره ١٠٠ ألف دولار في السنة. فما بالكم بذلك الراتب؟ في حالة مدرس في ريف أركنساس من الممكن القول بأن هذا الراتب ممتاز بحق، لكن في حالة محامٍ في مانهاتن فمن الممكن اعتباره ضئيلًا. من ثَم فإن المقارنات التي نعقدها مع الآخرين في بيئتنا تمنحنا طريقةً بسيطة لتقييم ظروفنا.

رغم أن المقارنات الاجتماعية من الممكن أن تعطيَنا طريقة مفيدة لنرى مقدارَ نجاح مساعينا، فمن الممكن أن تولِّد أيضًا مشاعرَ الحقد. في واحدة من الرسوم الهزلية المفضَّلة لديَّ يتحدث رجلان معًا، فيقول أحدهما للآخر: «إنني أعد النعم التي حظيت بها، لكنني عندئذٍ أعُد التي حظي بها الآخرون الأوفر حظًّا مني، فيتملَّكني الغيظ.» تصوِّر تلك الرسالة بدقة كيف يمكن للمقارنات أن تجعلنا ناقمين على حياتنا.

في دراسةٍ أخبر الباحثون موظَّفين حكوميين في ولاية كاليفورنيا أن ثمَّة موقعًا على الإنترنت يحتوي على معلوماتٍ دقيقة عن رواتب كل العاملين في الأجهزة الحكومية، مدرجَة بالأسماء.1 وكما قد تتوقَّعون، اختار العديدُ منهم زيارة الموقع لمعرفةِ ما يجنيه زملاؤهم؛ أدَّى هذا البريد الإلكتروني الذي أُرسل إلى آلاف الموظفين إلى ارتفاعٍ واضح في عدد زوار الموقع.

وبعد بضعة أيام، أرسل الباحثون لنفس الموظفين رسالةً إلكترونية للمتابعة. سألتهم هذه الرسالة عن درجةِ رضاهم عن وظائفهم وبخاصَّة مُرتباتهم. وكما تنبَّأ الباحثون، فإن الأشخاص الذين عرفوا لتوِّهم أنهم يتقاضون رواتبَ أقل من زملائهم في نفس الوظيفة كانوا مُنزعجين. كانوا أقلَّ سعادة بوظيفتهم الحالية وأكثر رغبةً في البحث عن عمل جديد، مقارنةً بمن لم يتلقَّوا الرسالة الإلكترونية. فقد أدركوا على كل حال أن رواتبهم لا تُكافئ رواتبَ زملائهم، وهذه المقارنة لم تجعلهم سعداء بالطبع.

إليكم تجربةً افتراضية لاختبارِ مخاطر المقارنة: هل سبق أن تلقيتم واحدًا من خطابات موسم العطلات الحافلة بالتفاخر؟ تعلمون ماذا أقصد — الخطاب الذي يبدو فيه كل أفراد الأسرة في حالٍ من الازدهار، من مواسم رياضية أحرزوا فيها جوائز، لأداء أكاديمي باهر، لترابط أسري رائع خلال رحلات إلى أماكن مبهرة وباهظة التكاليف؟

بماذا تشعرون بعد قراءة خطابٍ على هذه الشاكلة؟ من وجهة نظر أغلب الناس، تفرض هذه الخطابات نوعًا معيَّنًا من المقارنة الاجتماعية التي تجعلنا أشدَّ نقمة على حياتنا المتواضعة. فسماع أن الآخرين يعيشون حياةً ممتازة — رحلاتٍ رائعة وإنجازات مهنية مبهرة وجدولًا اجتماعيًّا حافلًا — يجعلنا أشدَّ استياءً من حياتنا. يُزعم أن تيدي روزفلت قال: «المقارنة سارقة البهجة.»2

تفسير مفارقة الجار الثري

تُسهم هذه المعلومات عن مخاطر المقارنة في تفسيرِ ظاهرةٍ ملحَّة لكن محيِّرة: لماذا لا تُؤدي زيادة المال بالضرورة إلى زيادة السعادة. دائمًا ما نتوقَّع أن يُؤدي المزيد من المال إلى قدرٍ أكبر من السعادة. فالمال هو ما يشتري لنا الأشياء التي يُفترض أن تجعلنا سعداء على كل حال.

مع أن الدخل المُطلق، وهو إجمالي المال الذي نملكه، مرتبِط بمقدار السعادة، فإن الدخل النسبي، أي ما إن كان دخلنا أكثر ممَّن حولنا أو أقل، في نفس أهميته، وربما أكثر أهميةً في تحديد درجة شعورنا بالرضا. لماذا؟ لأن مشاعرنا إزاء ما نَجنيه من مال لا تتوقَّف على ثروتنا الفعلية فحسب، وإنما على المقارنة بين ثروتنا وثروة مَن هم في المجموعة التي نقارن أنفسنا بها.

في دراسةٍ ذكية لتقييم أهمية الدخل النسبي، جعل الباحثون الناسَ يختارون أحدَ خيارين:3
  • الخيار أ: أن يكون دخلك السنوي الحالي ٥٠ ألف دولار؛ ودخل الآخرين ٢٥ ألف دولار.

  • الخيار ب: أن يكون دخلك السنوي الحالي ١٠٠ ألف دولار؛ ودخل الآخرين ٢٠٠ ألف دولار.

يتيح تصميم هذه التجربة خيارًا واضحًا — هل تفضِّل أن تجني المزيد من المال عامةً (الخيار ب)، أم تفضِّل أن تجني مالًا أكثر ممن حولك (الخيار أ)؟ تبدو الإجابة واضحة نوعًا ما — أقصد أننا جميعًا سنفضِّل أن نكسب المزيد من المال بطبيعة الحال، أليس كذلك؟

من المدهش ربما أن أكثر من نصف المشاركين في الدراسة اختاروا الخيار أ؛ أي إنهم يُفضِّلون أن يكسبوا مالًا أقل عامةً، ما داموا سيكسبون مالًا أكثر من الآخرين. هذا المثال يُثبت كم نُدرك أن المقارنة التي نعقِدها تؤثِّر تأثيرًا بالغًا على ما نشعر به.

إنَّ نتيجةَ دَورِ المقارنات في التأثيرِ على سعادتنا تساعد في تفسيرِ لماذا يشعر الناسُ المقيمون في أحياءٍ ثرية بقدرٍ أقلَّ من السعادة.

طلب الباحثون في دراسةٍ أخرى من نحو ثلاثة آلاف شخص في أنحاء البلد أن يحدِّدوا درجةَ رغبتهم بشكلٍ عام في الممتلكات المادية، مستخدمين عباراتٍ مثل العبارات التالية:
  • يعجبني الناس الذين يمتلكون منازلَ وسيارات وملابس غالية.

  • أحب أن يكون في حياتي الكثير من مظاهر الترف.

  • أحب امتلاك الأشياء التي تبهر الناس.

  • ستكون حياتي أفضل إن امتلكت أشياءَ محدَّدة ليست لدي.4

صُنِّفت هذه العبارات على مقياسٍ من ١ (الاعتراض الشديد) حتى ٥ (الموافقة التامة)، ثم جُمِعت النقاط بحيث يدُلُّ المجموع الأعلى على رغبةٍ أكبر في امتلاك الأشياء المادية. كما أنهم قيَّموا إجمالي دخل الأسرة للناس وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية عامة في الأحياء التي يسكنونها بتحرِّي كلٍّ من إجمالي الدخل ومعدَّل الفقر في مناطقهم.

في اتساق مع الأبحاث السابقة، وجد الباحثون أن الناس الذين كانوا يجنون مالًا أكثرَ كانوا أقلَّ اهتمامًا بشراء الأشياء المادية. وهذه النتيجة منطقية؛ لأنَّ الناس الذين يتمتعون بمستوى معيشة رغيد لا بد أن يولوا اهتمامًا أقلَّ للحاجة إلى امتلاك المزيد من الأشياء.

إلا أن الأشخاص الذين كانوا يعيشون في مناطقَ أكثر ثراءً كانوا أشد اهتمامًا بشراء الأشياء المادية. كذلك بدَوا أكثر إقبالًا على الشراء دون تروٍّ وأقل ميلًا للادخار. يعتقد الباحثون أن التعرُّض المستمر لمظاهر الثراء في بيئة الفرد يُولِّد شعورًا بالحرمان النسبي. ومن ثمَّ فإنهم يستجيبون لذلك الشعور بزيادةٍ في رغبتها في امتلاك أشياء مادية، في محاولة على ما يبدو للحفاظ على الوضع الاجتماعي.

إلا أن السعي وراء الأملاك المادية لا يؤدي إلى السعادة. في واقع الأمر، الناس المهتمة اهتمامًا بالغًا بشراء الأشياء المادية — التي غالبًا ما يريدون بها أن يشعر الآخرون بمنزلتهم ووجاهتهم — يعانون تعاسةً أكبرَ في علاقاتهم ومشكلاتٍ نفسية أكثر.

ومشاعر الحرمان النِّسبي تُبدِّد الشعورَ بالسعادة حتى على مستوى الدول. فقد تحرَّت إحدى الدراسات الواسعة النطاق مشاعرَ الرضا عن الحياة والحالة المزاجية اليومية لدى أكثر من ٨٠٠ ألف شخص يعيشون في ١٥٨ بلدًا مختلفًا.5 رغم أن كسْبَ مالٍ أكثرَ لطالَما ارتبط بسعادة أكبر، فإن الأشخاص المقيمين في دولٍ أغنى أعربوا عن مستوياتٍ أعلى من القلق والغضب. فقد تكون وتيرة الحياة أسرعَ في الدول الأغنى والتحوُّل نحو الصناعة أكبر — وفرص قضاء الوقت في الطبيعة أقل — وهي كلها عوامل قد ينجم عنها مستوياتٌ أعلى من التأثير السلبي.

بالإضافة إلى ذلك، لدى الناس الذين يعيشون في الدول الغنية ميلٌ أكبر للانخراط في المقارنات الاجتماعية التي تضرُّ بصفائهم. فحين يعيش الناس في دولٍ غنية، يشعرون بما يُسمَّى فجوة التطلعات، وهو التباين بين ما لديهم وما يتوقون إليه. وكما قد تتوقَّعون، كلما زادت هذه الفجوة، تفاقم الشعور بالاستياء.

ليسوا سعداء كما تظنُّهم

دُعيتُ ذاتَ مرة لإلقاء محاضرة على مجموعة صغيرة من خريجي إحدى الكليات. وصلت إلى منزل المضيِّف، فوجدته بديعًا من الداخل والخارج — من سجاد وأثاث وسجاد ونوافذ مزينة منتقاة بحرفية؛ وحديقة شُذِّبت على نحوٍ جميل؛ وطاقم من مُتعهِّدي المناسبات يطوفون بالمشروبات والطعام على صوانٍ فضية. وكانت الأسرة بنفس الروعة: زوج وزوجة جذابان وطفلان مهندمان ومهذَّبان. كانت الأمسية مبهجة، وحين دلفت إلى سيارتي في نهاية المناسبة، حدَّثت نفسي قائلة: «لا بد أن هذه الأسرة تعيش حياةً مثالية.»

بكل صراحة، قارنت بين هذه الحياة المثالية التي شهدتها وحياتي الأقل من مثالية بكثير: منزلي الفوضوي وحديقتي غير المُشذَّبة وأبنائي الكالحون. لذلك جعلت أقول لنفسي إن هذه الأسرة تعيش حياةً مثالية، ولا يمكن لحياتي أن تُقارن بها أبدًا.

في اليوم التالي، ذكرت حضوري هذا الحدث لصديق، فسألني إن كنت أعلم بتاريخ هذه الأسرة؛ بالطبع لم أكن أعلم به. عرفت عندئذٍ أن هذه الزيجة كانت الأولى للزوج لكنها الثانية للزوجة. كانت قد تزوَّجت صديقها في الجامعة بعد التخرُّج ببضع سنوات؛ وبعد أقل من شهر من زفافهما، مات في الحال حين اصطدمت طائرة بمكتبه في البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي. حتى إنه لم يرَ قطُّ صورَ زفافهما.

لقد تعلَّمت درسًا مهمًّا عن المنطق المغلوط المتأصِّل في عقْد المقارنات، وهو أننا لا نعرف أبدًا القصة الحقيقية لحياة الآخرين. تقوم مقارناتنا على الحقيقة الخارجية التي يقدِّمونها، أو التي يختارون تقديمها في بعض الحالات. وكما يشير عالِم الاقتصاد سيث ستيفينز ديفيدوفيتز، يقضي الناس في غسيل الصحون ستة أضعاف الوقت الذي يقضونه في لعب الجولف، لكن التغريدات التي نجدها على «تويتر» عن لعب الجولف تكاد تبلغ ضعفَ تلك التي عن غسيل الصحون.6 بالمثل، رغم أن فندق سيركس سيركس الاقتصادي وفندق بيلاجيو الفاخر في لاس فيجاس بهما نفس عدد الحجرات تقريبًا؛ فالأشخاص الذين يعلنون عن نزولهم في فندق بيلاجيو على «فيسبوك» أكثرُ بثلاث مرات.
ورغم أن هذه الصور مُبهرة، فإننا لا نعلم أبدًا ما يعايشه الآخرون في الواقع. فكما يقول إيفان إيفانوفيتش بطل قصة تشيخوف: «نرى أولئك الذين يذهبون إلى السوق ليشتروا الطعام، الذين يأكلون نهارًا وينامون ليلًا، الذين يُثرثرون مبتهجين … لكننا لا نسمع ولا نرى أولئك الذين يعانون؛ فالأشياء الفظيعة في الحياة تحدُث في الكواليس.»7
وثمَّة دليلٌ قوي على رؤية تشيخوف الثاقبة. فقد سأل الباحثون في سلسلة من الدراسات طلابًا جامعيين عن عدد المرات التي تعرَّضوا فيها لأحداثٍ سلبية مختلفة (مثل الحصول على تقديرٍ منخفض أو الإعراض عن رفيقٍ كان يود الارتباط به) وأحداث إيجابية (مثل حضور حفلٍ ممتع والخروج مع أصدقاء) خلال الأسبوعين المنصرمين.8 كذلك طُلب منهم تخمينُ تَكرار حدوث نفس الأحداث للطلاب الآخرين.

هل تستطيعون تخمينَ النتائج؟ عند كل حدث سلبي، كان الطلاب يعتقدون أنهم يتعرَّضون لهذه الأحداث أكثرَ من أقرانهم. فعلى سبيل المثال، رغم أن ٦٠ في المائة من الطلاب كانوا قد حصلوا على درجاتٍ سيئة خلال الأسبوعين السابقين، فقد ظنوا أن ٤٤ في المائة فقط من زملائهم تعرَّضوا لهذه التجربة. في المقابل، ظن الطلاب كذلك أن زملاءهم يمرون بأحداثٍ إيجابية أكثرَ مما يمرون هم به. فمثلًا، رغم أن ٤١ في المائة فقط من الطلاب قد أقروا بحضور حفلة ترفيهية خلال الأسبوعين المنصرمين، فقد اعتقدوا أن ٦٢ في المائة من زملائهم قد مرُّوا بهذه التجربة.

المؤسِف أن الإحساس بتلك الفروق — حتى وهي خاطئة — يَقترن بتبعاتٍ سلبية. فالطلاب الذين كان تقديرهم مُقلِّلًا من أهمية الأحداث السلبية التي يتعرض لها زملاؤهم في حين بالغوا في تقدير الأحداث الإيجابية التي يمر بها زملاؤهم أفادوا عن شعور أشد بالوحدة ورضًا أقل عن الحياة.

يحاول العديد من الكليات والجامعات حاليًّا مواجهةَ التبعات السلبية لمثل تلك الاعتقادات الخاطئة بتشجيع الناس على الإفصاح عن إخفاقاتهم. فجامعة سميث كوليدج في نورثامبتون في ولاية ماساتشوستس مثلًا شرعت في برنامجٍ باسم «الفشل الموفَّق»، حيث يحكي الطلاب والأساتذة تجاربهم من الفشل الشخصي والعملي في محاولةٍ لخلق وعي بالأحداث السلبية التي نُواجهها كلنا. وتبنَّت جامعاتٌ أخرى برامجَ مشابهة، منها مشروع «التأقلم» لدى جامعة ستانفورد، ومشروع «النجاح والفشل» التابع لدى جامعة هارفارد، ومشروع «وجوه بنسلفانيا» لدى جامعة بنسلفانيا.

يوهانس هاوسهوفر، أستاذ علم النفس والشئون العامة في جامعة برينستون، ألَّف «سيرة ذاتية للإخفاقات» تسرُد كلَّ المواقف التي لاقى فيها الرفض خلال مسيرته الأكاديمية.9 تضم هذه القائمة برامجَ دراسات عليا نبذته، ومناصب أكاديمية رفضته، ومنحًا لم يحصل عليها. كان دافعه لكتابة هذه السيرة الذاتية وعيه بأن نجاح الناس دائمًا ما يكون جليًّا، أما إخفاقاتهم فليست كذلك. فكما صرَّح هاوسهوفر: «أقابل الفشل في أغلب محاولاتي، لكن غالبًا ما تكون هذه الإخفاقات خفية، في حين تكون النجاحات ظاهرة. وقد لاحظت أن هذا أحيانًا يُعطي الناس انطباعًا بأنني موفَّق في أغلب أموري … هذه السيرة الذاتية للإخفاقات محاولةٌ لخلق توازنٍ وإطْلاع الناس على الأمر من منظور آخر.»

ها هي قائمة ببعض إخفاقاتي المهنية، التي لا تضمُّ حتى القائمة الطويلة بمُحرري المجلات وناشري الكتب الذين رفضوا أعمالي:

برامج دكتوراه لم أُقبَل فيها

  • ١٩٩١ قسم علم النفس في جامعة ييل

  • ١٩٩١ قسم علم النفس في جامعة ميشيجان

  • ١٩٩١ قسم علم النفس في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس

مناصب أكاديمية لم أحظ بها

  • ١٩٩٦ قسم علم النفس، جامعة روتجيرز

  • ١٩٩٦ قسم علم النفس، جامعة ولاية جورجيا

  • ١٩٩٦ قسم علم النفس، جامعة ستانفورد

  • ١٩٩٦ قسم علم النفس، جامعة ميسوري في كولومبيا

  • ١٩٩٧ قسم علم النفس، جامعة مينيسوتا

بوسعنا جميعًا أن نجد سعادةً أكبر بأن نظلَّ متذكِّرين أن ما يُبديه الناس أمام الآخرين لا يخبر أبدًا بالقصة الحقيقية لما يمرُّون به. وكما تقول الكاتبة آن لاموت: «لا تُحاول أن تقارن بين بواطنك وظواهر الناس.»10

مخاطر التكنولوجيا

التقدُّم التكنولوجي — من الإنترنت للهواتف المحمولة ﻟ «فيسبوك» ﻟ «تويتر» ﻟ «إنستجرام» — جعل حياتنا أكثرَ بهجة في بعض المناحي. فهذا النوع من التكنولوجيا، على كل حال، يجعلنا على تواصل بمن نحبُّهم حين تفصل بيننا المسافات.

لكن للأسف ثمَّة أدلةٌ واضحة ومُلحة على أن التكنولوجيا من الممكن أن تحدَّ من شعورنا بالسعادة كذلك. إحدى أوائل الدراسات عن آثار الإنترنت على رفاه الأفراد أجراها روبرت كراوت، الباحث في جامعة كارنيجي ميلون، عام ١٩٩٨. فقد اكتشفت دراسته أنه كلَّما أكثر الناسُ من استخدام الإنترنت، زادت معدَّلات الوحدة والاكتئاب، وقلَّ تواصلهم مع أفراد الأسرة الذين يعيشون في منزلهم، وضاقت دائرتهم الاجتماعية.11 ومؤخرًا، اكتشف استعراض بتاريخ ٢٠١٠ لأربعين دراسة أن استخدام الإنترنت كان له أثرٌ سلبي ضئيل لكن لا يمكن إغفاله على السعادة.12
لدراسة أثر مواقع التواصل الاجتماعي على الوحدة، أقدمت هايون سونج، الأستاذة في جامعة ويسكونسن، وفريقها على تحليل بياناتٍ من دراسات حالية ذات صلة عن العلاقة بين «فيسبوك» والوحدة.13 اختار الباحثون التركيزَ على «فيسبوك»؛ لأنه أكثر مواقع التواصل الاجتماعي شعبيةً حتى الآن، حيث يشكِّل استخدام الفيسبوك ٥٤ في المائة من الوقت الذي يقضيه المستخدمون على الإنترنت على مستوى العالم، و٦٢ في المائة من وقت المستخدمين في الولايات المتحدة.

هذه الاكتشافات، التي دمجت بين نتائج دراسات متعدِّدة عن تأثير استخدام «فيسبوك» على الوحدة، توصَّلت إلى أنه كلما زادت العزلة زاد الوقت الذي يَقضيه الفرد على «فيسبوك». بعبارةٍ أخرى، يحسُّ الناس الذين يشعرون بالوحدة بانجذابٍ أكبرَ لموقع «فيسبوك»، ربما لأن هذا النوع من التواصل الاجتماعي مُريح أكثر للناس الخجولة أو التي تفتقر إلى المهارات الاجتماعية. لكن بكل أسف قضاء هؤلاء الناس وقتًا أكثرَ على «فيسبوك» لا يجعلهم يشعرون بتواصلٍ أكبر مع الناس؛ فهو لا يقلِّل من شعورهم بالوحدة.

تحرَّى الباحثون في دراسةٍ أخرى تأثيرَ استخدام «فيسبوك» على السعادة بإرسال رسائل نصية إلى أشخاصٍ يقيمون في مدينة آن آربور في ولاية ميشيجان، خمس مرات يوميًّا.14 وكانوا كلَّ مرة يسألون السكان عن مقدار استخدامهم «فيسبوك»، ومقدار شعورهم بالقلق والوحدة، وقدر تعاملهم المباشر مع ناسٍ آخرين منذ آخر رسالة.

مرة أخرى، كشفت هذه النتائج عن تأثير سلبي حقيقي لاستخدام «فيسبوك»: فكلما زاد استخدام الناس ﻟ «فيسبوك» بين الرسالتين النصيتين، كانوا أقلَّ سعادة. كذلك كان كلما ازداد استخدام الناس ﻟ «فيسبوك» على مدار الدراسة، تراجع شعورهم بالرضا عن حياتهم بشكل عام مقارنةً ببداية الدراسة. يبدو أنه لا مفرَّ من الاستنتاج — يبدو جليًّا أن «فيسبوك» يجعل الناس أقلَّ سعادة.

لكن ما الذي يسلُب منَّا الشعورَ بالسعادة باستخدامنا موقعَ «فيسبوك»؟

واحد من الأسباب المحتملة أن الاستخدام الزائد لموقع «فيسبوك» يؤدِّي إلى معدلاتٍ مُرتفعة من الحسد. من المرجَّح أن نشعر بالحسد مع الاستخدام المتكرِّر للفيسبوك تحديدًا بما أننا عادةً ما نتواصَل مع أشخاصٍ مشابهين لنا في بعض النواحي. ليس من العجيب أن يكون السماع بنجاحات الآخرين المشابهين لنا شاقًّا جدًّا على أنفسنا.

كذلك قد يجعل «فيسبوك» تجنُّب المقارنات أمرًا بالغَ الصعوبة، وهو ما قد يؤثِّر تأثيرًا سلبيًّا على سعادتنا. تأمَّل فقط الصور المُستمرة التي يشاهدها العديد من الناس لأصدقائهم على «فيسبوك» و«إنستجرام» وهم يقضون أوقاتًا ممتعة حسبما يبدو. لا شكَّ أن حياتنا لا يمكن أن ترقى إليها. (إنني حقًّا ممتنَّة أنني لم أُضطرَّ لرؤية صور حفلات لم أكن مدعوةً إليها على الإنترنت حين كنت في المدرسة الثانوية، وهو ما يُعانيه أبنائي الثلاثة الآن.) هذا النوع من المقارنة المستمرَّة يسهم في إيضاح السبب وراء ارتفاع معدلات الاكتئاب ومحاولات الانتحار بين المراهقين الذين يقضون وقتًا أكثرَ على وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الإلكترونية.15
تعطي دراسة حديثة أدلةً قاطعة على أن استخدام «فيسبوك» خاصةً يضرُّ بصحتنا بالغَ الضرر.16 تقصَّى الباحثون في هذه الدراسة المدة التي يقضيها الناس على «فيسبوك» كلَّ يوم، وكذلك أنواع الأنشطة التي يزاولونها، مثل «الإعجاب» بمنشورات الآخرين، ونشر آخر أخبارهم، والضغط على الروابط. ثم تحرَّوا ما إن كان تَكرار تلك التفاعلات قد اقترن برفاهٍ في عموم أحوالهم بعد عام. اكتشف الباحثون أن الأشخاص الذين يقضون وقتًا أكثرَ على «فيسبوك» لديهم أدنى مستويات الصحة البدنية، والصحة النفسية، والرضا عن الحياة بعد عامٍ لاحق.

لذلك فإن مَن يسعى لمزيدٍ من السعادة، سوف يجد في الانسحاب من عادةِ استخدام وسائل التواصل الاجتماعي استراتيجيةً بسيطة نسبيًّا. فهذا الاختيار يحدُّ من احتمالات عَقد المقارنات الاجتماعية الباعثة على الاكتئاب ويُوفِّر الوقت لقضائه في أشياء أفضل، كما سأشرح في الفصل الثامن. وحين تكون على وسائل التواصل الاجتماعي، حاول أن تعبِّر عن حياتك الحقيقية، وليس الجوانب الطيبة فقط. فإنني أحرص متعمِّدة حين أكون على «فيسبوك» أن أنشر أشياء من قبيل «صغاري جميعًا مُصابون بالقمل». وهو ما حدث حقًّا مرارًا للأمانة.

خلاصة القول

قد تكون الرغبة في مواكبة أقراننا طبيعةً بشرية. إلا أن الضغط المستمر لبلوغ مستوياتٍ وضعها آخرون يجعلنا أشدَّ نِقمةً على حياتنا. فالمستغرقون في عددِ أكبرِ المقارناتِ الاجتماعية أقلُّ سعادة، وأقل رضًا عن حياتهم، وأكثر اكتئابًا.17

إن وجدت نفسك تُجري تلك المقارنات باستمرار، فإليك بعضَ الاستراتيجيات البسيطة التي يمكنك استخدامها لتتحوَّل بطريقة تفكيرك عن الآخرين وتصبَّ اهتمامك على البحث عن السعادة بداخلك.

تجنَّب المقارنات

كتب كيرت فونيجات قصيدةً رائعة يقصُّ فيها حديثه مع الكاتب جوزيف هيلر أثناء حضور حفلٍ أقامه ملياردير. حين سأل فونيجات هيلر عمَّا يشعر به وهو يعلم أن هذا الملياردير يربح في اليوم الواحد أكثرَ مما سيربح هيلر يومًا من مبيعات روايته «الخدعة ٢٢»، أجابه هيلر بأن لديه شيئًا لن يتيسَّر للملياردير أبدًا. سأله فونيجات: «وما هو؟».

فقال هيلر: «العلم بأن لديَّ ما يكفيني.»

تعطي هذه القصيدة مثالًا حيًّا على أن تجاهُل المقارنات هو السبيل الوحيد للعثور على السعادة الحقيقية. وكما يقول اقتباس شهير من التوراة: «مَن هو الغني؟ إنه الراضي عن نصيبه» (فصول الآباء ٤: ١). يتفاوت الناس تفاوتًا كبيرًا في درجة ميلهم لمقارنةِ أنفسهم بالآخرين. هل تريد قياسَ ميولك؟ «مقياس آيوا-هولندا للميل إلى المقارنة» يُتيح للناس قياس درجة نزوعهم إلى مقارنةِ أنفسهم بالآخرين.18 حاول تحديدَ درجةِ اتفاقك مع كل جملة من الجمل الآتية.

اجمع درجاتك في هذه النقاط لترى مقدار ميلك لعقْد مقارنات. إن كان مجموعك مرتفعًا، فهذه إشارة إلى ميلٍ شديد لديك إلى مقارنة نفسك بالآخرين؛ لذلك حاول أن تتوقَّف متى أمكنك.

يمكننا كذلك أن نعتادَ، مع التدريب، عقْدَ المقارنات التي تجعلنا راضين، لا ساخطين. من الأسباب التي تجعل الناس المُشاركين في الأنشطة التطوعية يعربون عن تمتُّعهم بصحةٍ وسعادة أفضل — كما ستَعرفون أكثرَ في الفصل الحادي عشر — أن هذه التجربة تغيِّر طبيعةَ المقارنات التي يعقدونها.19

إن كان التحوُّل باتجاه المقارنات لا يأتيك تلقائيًّا؛ فها أنا أقول لك إنني حسَّنت من قدرتي على تبنِّي ذلك التوجُّه الذي أسفر عن نتائجَ أفضلَ تُحقِّق مزيدًا من السعادة. حين كان ابني، باحثُ اللغة الإسبانية، يعاني صعوباتٍ شديدة، وكنت محبطةً بعض الشيء إزاء مستقبله الدراسي، جعلت أُذكِّر نفسي (أحيانًا كل ساعة) أنه «على الأقل ليس مصابًا بسرطان الدم». أعلم أنها فكرةٌ مقبضة بعض الشيء، لكن هناك في الواقع آباء في كل أنحاء العالم يُفضِّلون لو كان ابنهم يعاني صعوبةً في تعلُّم اللغة الإسبانية بدلًا من معاناته العلاج الكيماوي.

عبِّر عن امتنانك

قد تكون طبيعة بشرية — لدى العديد منَّا على الأقل — أن نَلتفِت إلى السلبي في حياتنا، بدلًا من الإيجابي. لكن كما يقول الفيلسوف إبكتيتوس: «عاقل هو مَن لا يأسى على ما ليس لديه، ويُسرُّ بما يملِك.»20
تُشير الأبحاث إلى استراتيجية بسيطة جدًّا لزيادة سعادتنا: ركِّز على ما تمتن له. في إحدى الدراسات قسَّم الباحثون الناس إلى ثلاث مجموعات:
  • طُلب ممن في المجموعة الأولى أن يكتبوا خمسة أشياء شعروا بالامتنان عليها في حياتهم خلال الأسبوع المنصرم (مجموعة الامتنان)؛ ضمَّت قوائمهم أشياء مثل الرب وعطف الأصدقاء وفريق رولينج ستونز.

  • طُلِب ممن في المجموعة الثانية أن يكتبوا خمسة مكدِّرات يومية من الأسبوع السابق (مجموعة المكدِّرات)، فاحتوت قوائمهم على أشياءَ مثل كثرة الفواتير الواجب سدادها، ومشقة العثور على مكان لانتظار للسيارة، والمطبخ الفوضوي.

  • اقتصرت المجموعة الثالثة على كتابة خمسة أحداث وقعت خلال الأسبوع السابق (المجموعة الضابطة)، ضمَّت قوائمهم حضور مهرجان موسيقي، وتعلُّم الإنعاش القلبي الرئوي، وتنظيف خزانة.21

قبل بدء التجربة، كان جميع المشاركين قد داوموا على كتابةِ يومياتٍ لتدوين حالاتهم المزاجية وصحَّتهم البدنية وعموم أوضاعهم. فاستطاع الباحثون عندئذٍ المقارنة بين التغيُّرات التي طرأت على الأشخاص في هذه المجموعات المختلفة مع الوقت.

ماذا تظنهم وجدوا؟ شعر الذين في مجموعة الامتنان بانشراحٍ أكثر بنسبة ٢٥ في المائة كاملة — إذ كانوا أكثرَ تفاؤلًا إزاء المستقبل وأشد امتنانًا عن حياتهم. وكان من الأشياء الجديرة بالانتباه على وجه التحديد أن الذين في هذه المجموعة مارسوا كذلك التمارين الرياضية أكثرَ من الذين في مجموعة المكدِّرات أو مجموعة الأحداث بنحو ساعة ونصف، وعانَوا أعراضًا مَرضية أقل.

هل يُجدي هذا النوع من المناهج المبسطة مع الشباب والأصحاء نسبيًّا من الناس فقط، الذين لديهم على كل حال العديد من الأشياء ليشعروا بالامتنان لها، والقليل نسبيًّا من المنغِّصات في حياتهم؟ للتأكد من هذا الأمر، استعان الباحثون في دراسة لاحقة ببالغين يعانون الاضطراباتِ العصبية العضلية، التي تُسبِّب ألمًا في المفاصل والعضلات وكذلك ضمورًا للعضلات؛ ومن ثمَّ تؤدي إلى عجز بالغ.

طلب الباحثون من هؤلاء الناس أن يكتبوا يوميًّا على مدار ثلاثة أسابيع عن أحد موضوعين: طُلب من بعضهم أن يكتبوا عن تجارب حياتهم اليومية فحسب (كان هؤلاء في المجموعة الضابطة)، في حين طُلِب من الآخرين الكتابة عن الأشياء التي يشعرون بالامتنان لها في حياتهم اليومية (كانوا هؤلاء في مجموعة الامتنان).

مرةً أخرى، كشف هذا البحث أن الكتابة عن الامتنان أدَّت إلى فوائد عظيمة. فالناس الذين كانوا في مجموعة الامتنان كانوا أكثرَ قناعةً بحياتهم في مجملها وأكثر تطلعًا إلى الأسبوع المقبل. ومما يستدعي الاهتمام أنهم كانوا كذلك يَنعمون بنوم أفضل، وهو اكتشاف بالغ الأهمية بما أن النوم باستغراق غالبًا ما يُؤدِّي إلى السعادة وصحة أفضل كذلك.

على نفس النحو، مريضات سرطان الثدي اللواتي أتمَمْن برنامجًا للامتنان على الإنترنت لستة أسابيع، ظللنَ خلاله يُمضين ١٠ دقائق أسبوعيًّا في كتابة خطابٍ يُعبِّرن فيه عن امتنانهنَّ لشخص في حياتهن، بدا عليهن رفاه نفسي أفضل وتكيُّف أفضل مع السرطان.22 تشير هذه النتائج إلى أن مجرد الكتابة عن الأشياء التي تمتنُّ لها يعود بفوائد بدنية، وليس نفسية فقط، حتى بين مَن يعانون حالاتٍ صحيةً خطيرة، بل وتهدِّد حياتهم.

لذلك امنح نفسك دقيقةً لتضع خطةً تزيد بها من الامتنان في حياتك. أولًا: اكتب قائمةً في الجدول أدناه ذاكرًا الأشياء التي تشعر بالامتنان عليها في حياتك الآن — وليس الأشياء التي ستمتنُّ عليها حين تتقاعد، أو تفوز باليانصيب، أو حين تشتري منزلًا جديدًا.

ثم ضع خطةً للعثور بانتظامٍ على طرقٍ للتركيز على الامتنان. دوِّن في دفترِ يومياتٍ للامتنان قبل الخلود للنوم كلَّ ليلة أو بمجرَّد أن تستيقظ، أو ابدأ في تقليدٍ أُسري بالجلوس حول مائدة العشاء كلَّ ليلة واذكر شيئًا واحدًا تشعر بالامتنان عليه في ذلك اليوم، أو اعتزم إرسالَ بريد إلكتروني أو خطاب شكر كل شهر إلى شخص في حياتك.

ابحث عن المعنى

بدأتُ هذا الفصل بوصف الضغط المتواصِل الذي يُعانيه مراهِقو بالو ألتو أثناء سعيهم للقبول في أرقى الجامعات. لكنَّ هؤلاء الطلاب، وآباءهم وأقرانهم، يبحثون عن السعادة في الأماكن الخاطئة. فلا يوجد دليل على أن الأشخاص الذين يَلتحقون بجامعات مرموقة أو يزاولون أعمالًا مجزية ماديًّا يشعرون بسعادة أكبر.

إذن ما الذي يستحضر السعادة؟ إنه فعْل الأشياء التي تجدها أنت شخصيًّا ذات جدوى، سواء في عملك أو مجتمعك أو أسرتك. يتوقَّف الأمر على مرحلتك العمرية، قد يكون باختيار تخصص تشعر بشغفٍ نحوه في دراستك الجامعية، أو انتقاء نشاط تطوعي في مجتمعك المحلي، أو اختيار مهنة أو مجال مُعيَّن. وكما قالت إميلي أصفهاني سميث، مؤلِّفة كتاب «قوة الهدف: العثور على الرضا في عالم مَهووس بالسعادة»، حين كتبت عن التحديات التي يواجهها الشباب في عالمٍ مليء بالمقارنات: «لن يُصبحوا مارك زوكربيرج التالي. لن يحصلوا على مقالات تنعى وفاتهم في صحف مثل هذه. لكن هذا لا يَعني أن حياتهم معدومة الأهمية والقيمة. فكلنا لدينا دائرة من الأشخاص الذين نستطيع أن نؤثِّر على حياتهم ونجعلها أفضل — ومن الممكن أن نجد معنًى لحياتنا في ذلك.»

لديَّ صديقة ظلَّ زوجها يعمل طوال سنوات في مؤسسة مالية كبرى في وول ستريت. وذات يوم عاد إلى المنزل واعترف لزوجته بأنه يبغض وظيفته ويريد أن يستقيل. رغم أنه كان ما زال أمامهما قروض مصروفات جامعية واجب سدادها، فقد دعمت قراره؛ وهو يعمل الآن رجل إطفاء. حين سألتها كيف تغيَّرت الحياة بعد هذا التحوُّل الكبير في مساره المهني، راحت تصِف بحماسٍ شغفَه بوظيفته. يبدو أنه صار مُقبلًا على عمله لأنه عثر أخيرًا على غايته. وهذا يعود عليه، وعليها، بسعادةٍ أكبر بكثير عن راتبه المرتفع السابق.

تؤكِّد البيانات التجريبية أهميةَ الاشتراك في أنشطةٍ بناءة كعنصرٍ أساسي من عناصر السعادة. فقد كشفت دراسة حديثة مثلًا عن أن محامي الخدمة العامة — محامي الدفاع المجاني، والمحامين المستقلِّين الذين يعملون لصالح المؤسسات غير الهادفة الربح، والمدعين الجنائيين — يُفيدون بحالاتٍ مزاجية يومية ورفاه أفضل من المحامين الذين يعملون في مؤسسات تقليدية (أكثر فخامة).23 فما المسئول عن تلك الاختلافات؟ حسنًا، ربما ليست ساعات العمل هي المسئولة، بما أن المحامين في كلتا المجموعتين يعملون فترات ممتدة (حتى إن كان مَن يعملون في مؤسسات ومضطرين لتسجيل عدد معيَّن من الساعات يُعبِّرون عن مستوياتٍ أدنى من السعادة). ليست المسألة مسألةَ مال بالتأكيد، بما أن محامي الخدمة العامة يُحقِّقُون أرباحًا أقلَّ بكثير ممَّن يعملون في مؤسسات ربحية.

أغلب الظن أن المسئول بحق عن التفاوت الكبير في مستوى السعادة بين هاتين المجموعتين هو نتيجة مباشرة لهدفٍ واهتمام شخصي أسمى يجده محامو الخدمة العامة في وظائفهم. وكما أشار هؤلاء الباحثون: «لا تتوقَّف حياة المحامي السعيدة على التقديرات أو الثراء أو الوجاهة بقدرِ ما تتوقف على العثور على عملٍ يُثير حماسه ويشغل اهتمامه، ويجد فيه رسالة شخصية ويهتم بمد يد العون للآخرين.»

تُعطي المقارنات المستمرَّة في مجتمعنا انطباعًا خاطئًا بأن السعادة تكمُن في السعي وراء أهداف خارجية، تشمل الأغراض المادية والمنزلة والوجاهة. لكن تدلُّ هذه الاكتشافات على أن السعادة الحقيقية تكمُن في الواقع في السعي وراء أهداف داخلية، موجَّهة لنمو الشخصية والتواصل مع الآخرين تواصلًا بنَّاءً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤