الخمر والمخدرات الأخرى

جاءني (في يناير من ١٩٥٦) خطاب مسهب أجتزئ منه ما يلي:

… وأنا شاب في الثامنة والعشرين من عمري وجندي في الجيش، متزوج منذ سبعة أعوام ولي ثلاثة أولاد، وقد أدمنت على تعاطي الأفيون منذ خمسة عشر عامًا، وكل نقودي تذهب في هذا المخدر الملعون الذي تعلقت به من رفاق الصبا، وعندي رغبة شديدة جدًّا في التخلص منه، ولكني لا أستطيع مطلقًا التخلص منه ولو ليوم واحد، وأنا أحب زوجتي وأولادي جدًّا، ومن أجل هؤلاء أريد أن أتخلص منه، فأرجو أن تدلني يا سيدي الكاتب العظيم على الطريق الذي أسلكه. وقد التجأت إليك وأملي عظيم في أن تهديني إلى الطريق الذي أسلكه في التخلص من هذا الداء … وهل هناك أمل في أن أتخلص من هذا المخدر، علمًا بأنني لا أقوى على البعد عن أولادي بدخول مستشفى؟ وإني على استعداد لتنفيذ كل ما تراه لكي أعود إلى حياة جديدة …

هذا واحد من عشرات الألوف الذين يتعاطون المخدرات. ومع أننا قد أوجدنا قوانين قاسية، بل غاية في القسوة، لمعاقبة المتَّجرين بالمخدرات والمتعاطين لها، فإننا ما زلنا نجد لهذه التجارة سوقًا سوداء في أنحاء بلادنا. وهذا برهان على أن قسوة القوانين لا تجدي في الردع، وإنما المجدي هو أن نبحث عن جذور الجريمة ونقتلعها من مكانها.

وجذور الجريمة هنا أننا جميعًا في مجتمعنا المتمدن نكاد نعيش على أعصابنا مرهقين متوترين، ونحتاج إلى المنبهات والمخدرات، ونحن نتناول منها القهوة والشاي والدخان والخمر، وجميعها مخدرات أو منبهات تنعش الجسم أو العقل أو تخدره بعض الوقت، وحكومات العالم المتمدن كله تعارض في استعمالها.

ذلك أن حياتنا الاجتماعية العصرية تحتوي الكثير من التوترات التي لم يكن يعرفها أسلافنا في بيئاتهم الريفية المطمئنة. كما أننا نخلو من إيمانهم المطلق بالقَدر ولا نرضى بالقناعة التي كانوا يرضونها؛ فإننا نحيا بمواعيد، ونصادف مخاطر، ونطمح ونقلق؛ ولذلك نحتاج إلى مخدر أو منبه؛ الأول يهدئنا فننسى همومنا، والثاني ينبِّهنا فنتحمل همومنا.

وجميع الأمم الأوروبية تشرب الخمور فلا تحتاج إلى المخدرات مثل المورفين، أو الكوكايين، أو الهيرويين. وهي تبيع الخمور رخيصة فيجد فيها الفقير مثلما يجد الثري مخدرًا حسنًا يغنيه عن المخدرات الفاتكة.

قد يُقال إن إدمان الخمور يؤذي. وهذا صحيح، ولكن الإدمان وحده هو المؤذي. أما الاعتدال فلا يؤذي. بل الأرجح أنه ينفع شارب الخمر خاصة بعد سن الخمسين والستين؛ لأن الخمر تبسط الشرايين في حين أن القهوة والشاي والدخان تقبضها، ومن مصلحة المسنين أن تكون شرايينهم على الدوام منبسطة يجري فيها الدم، ويصل إلى الأنحاء التي كان يمكن ألا يصل إليها بسبب تصلب الشرايين الذي ينشأ عادة في الشيخوخة ويجعل مسير الدم شاقًّا أو قليلًا.

ورايموند بيرل في كتابه «الكحول» يؤكد أن الخمور تطيل الأعمار إذا تُنولت باعتدال. وهذا هو اختبار جميع الأمم، حتى فرنسا التي يكثر فيها الإدمان المضر يكثر فيها أيضًا المعمِّرون بعد الخمسين.

ونحن تجاورنا سوريا ولبنان وتركيا ويونان وكلها تقريبًا — حتى على المنع بالقانون — تزرع الأفيون والحشيش، ولكن الفلاحين الذين يزرعونهما لا يتعاطونهما لسبب بسيط، هو أنهم يشربون الخمور التي تُباع في بلادهم رخيصة. وليس في الدنيا أسهل من صنع الخمور. ولذلك يصنعها هؤلاء الفلاحون ويشربونها ولا يوجد بينهم مَن يتعاطى الأفيون أو الحشيش اللذين يزرعونهما.

يجب أن نجابه الحقائق بلا عبث أطفال، ولنفكر تفكيرًا عضليًّا.

الحقائق أن حياتنا مليئة بالقلق ونحن نحتاج إلى ما يرفِّه عنا. وإذا كان قلقنا خفيفًا فإننا نقنع بالقهوة والشاي والدخان. ولكن اذا كان هذا القلق مرهقًا، حين نخشى مثلًا الإفلاس في مضاربات البورصة أن نشك في نجاحنا في عمل معين. أو نخاف على أبنائنا أو أنفسنا من مرض، أو نتوقع معاكسات، أو تداخلنا شكوك بشأن صحتنا، أو حين تضطرم الغيرة من المنافسة القاتلة في نظامنا التجاري الاقتنائي في كل هذه الحالات نحتاج إلى ما يخفف عنا توتراتنا بمخدر، والخمر هي خير المخدرات.

وأنا أكتب هذه الكلمات بعقلية مدنية لا شأن لها بالأديان. وقارئ كلماتي إذا كان متدينًا متحمسًا لدينه يستطيع أن يهملها. ولكني أحب مع ذلك أن أنبه إلى أن كثيرين من رجال الدين يستطيعون — كما هو شأنهم على الدوام — إيجاد مخرج بالتأويل الحسن لمصلحة الصحة العامة.

ولذلك أعتقد أنه يجب، وجوبًا قاطعًا، على حكومتنا أن تيسر للشعب شرب الخمور بأن تبيح صنعها وبيعها وإيجاد الحانات، مع الرقابة الدقيقة، حتى تُصنع نقية خالية من الشوائب المؤذية. ولكن أعظم وسائل التيسير أن تُباع رخيصة.

وعندما تصبح الخمور صناعة مصرية عامة فإننا يمكننا أن نزرع نحو ربع مليون فدان أو أكثر من الكروم، تستخدم نحو ربع مليون عامل في زراعتها واستخراج الخمور منها. بل نستطيع أن نصدِّر من الخمور ما تبلغ قيمته ملايين الجنيهات للأقطار الأوروبية التي لا تنضج فيها الكروم كما تنضج في شمسنا وعلى أرضنا.

ثم في الوقت نفسه لا نخشى الأخطار المهلكة من الأفيون والمورفين والكوكايين والهيرويين والحشيش. وأرجو القارئ ألا يعتقد أني هنا جريء مخاطر. فإن الخمور تُباع في كل مكان في مصر ولكن للأثرياء فقط، وذلك لارتفاع أثمانها. أما الفقراء فيعجزون عن شرائها. وليس هذا عدلًا.

فنحن نجيز بيع الخمور للأثرياء الذين يستغنون بها عن المخدرات، ثم نعاقب الفقراء لأنهم يشترون المخدرات المهلكة بدلًا من أن نرخِّص أثمان الخمور حتى يشتروها ويشربوها كما يشربها الأثرياء.

لو أن الخمور كانت تُباع في مصر رخيصة وفيرة لما شقي هذا المسكين الذي شكا إليَّ تعاطيه الأفيون. وهناك آلاف مثله يعانون مثل نكبته التي لا تعود نتائجها على شخصه وحده بل أيضًا على زوجته وأبنائه.

ولست أخيرًا، أنكر أن ما نعانيه من قلق نستطيع أن نتخلص منه بالتحليل النفسي. ولكن مثل هذا العلاج يعد ترفًا لا يطيقه غير الأثرياء؛ إذ هو يتكلف كثيرًا.

والخمور هي، كما قيل، صابون الهموم؛ أي علاج للقلق. وصحيح أنها ليست العلاج الأمثل، ولكنها خير من جميع المخدرات الأخرى. وإذا كانت توتراتنا الاجتماعية تطالبنا بالهروب منها بمخدر ما، فإن الخمر هي خير المخدرات.

وأحسن ما في الخمور أنها لا تطالبنا بزيادة الجرعة، فإذا كنا في سن الخمسين مثلًا نتناول ثلاثة كئوس ونكتفي بها، فإننا نبقى على هذه الجرعة عشرين أو ثلاثين سنة بلا تغيير. وهذا خلاف ما يحدث في المخدرات الأخرى التي نفتأ نستزيد منها حتى نبيت ضحاياها.

لقد جربت أمتان عظيمتان من أعظم الأمم المتمدنة في العالم تجربتين تستحقان التفاتنا في صدد هذا الموضوع.

الأمة الأولى هي الولايات المتحدة التي منعت الخمور منعًا شاملًا وباتًّا أكثر من عشر سنوات، فكان كل مَن يصنعها أو يبيعها يُعاقب بأقصى العقوبات؛ فماذا كانت النتيجة؟!

كانت انتشار المخدرات المهلكة الأخرى … الأفيون والحشيش والهيرويين والكوكايين والمورفين. وكان أيضًا بيع الخمور السيئة، بل السامة، التي يُصنع كحولها من الخشب.

وعادت الولايات المتحدة، وهي نادمة، إلى إباحة الخمور.

هذه تجربة. والتجربة الثانية قامت بها حكومة سويد.

فقد حددت سويد بيع الخمور، وجعلت الحاني — البائع للخمر في الحانة — موظفًا حكوميًّا له حق الامتناع عن البيع إذا وجد أن الشارب قد ثمل، كما جعلت بيع الخمور بالبطاقات؛ ثم ماذا؟

ثم انتهت إلى أن جميع هذه القيود لا تجدي؛ لأن شريب الخمر يستطيع الحصول عليها بألف طريقة وطريقة، فألغتها، وأصبحت الخمور مباحة لجميع أفراد الشعب.

وهنا ذكرى؛ ففي حوالي سنة ١٩٢٠ كان شبابنا قد انغمسوا في الكوكايين المخدر المهلك، فسَنَنَّا قانونًا لمعاقبة المتجرين به. وكان الأجانب المقيمون في بلادنا لا يزالون يستمتعون بامتيازاتهم، وكان من هذه الامتيازات ألا يعاقب أحد منهم على عمل لا يُعد جريمة في بلاده. ووجدنا — وهنا العبرة — أن كثيرين من الأجانب المتجرين بالمخدرات عندنا لا تمكن معاقبتهم؛ لأن بلادهم لا تُعاقب على هذه الجريمة. ولماذا لا تعاقب؟

لأن مواطنيهم يشربون الخمور ويقنعون بها ولا يعرفون المخدرات الأخرى، ولذلك لم تنص قوانينهم على عقوبة لتجارة لا يعرفونها.

هنا تجربتان تحثان على التفكير ثم على العمل.

إني أعرف، بل أؤمن، بأن المستقبل سيؤيدني. ولكن لماذا لا نبدأ من الآن؟

مع كل ما ذكرت عن الخمور والمخدرات أحتاج إلى أن أذكر أيضًا للقراء أن الرغبة فيها جميعها تعود إلى مركبات وتوترات، وأن الرجل السليم، الذي يسلك في الحياة سلوكًا سليمًا ينأى به عن القلق والخوف، وإحساس النقص (بجميع أنواع النقص)، هذا الرجل لا يحتاج إلى خمور أو مخدرات، بل أحيانًا لا يحتاج حتى إلى القهوة والشاي والتدخين. وكل منا يعرف الناس الذين امتازوا بهذه الميزة.

ولكن أكثرنا ليس على هذه الحال.

ثم لست أنكر أننا نستطيع أن نعالج، بالتحليل النفسي، المدمنين على الخمور أو المخدرات، وذلك بأن نستخرج منهم العقد الدفينة التي حملتهم على أن ينشدوا السعادة بالنسيان؛ أي الهروب، وبأن نحملهم على أن ينشدوها بالوعي والتعقل. وفي مجتمع سليم لا يبعث على القلق والخوف نستطيع أن نجد السلام النفسي يعم جميع الأفراد. ولكن للأسف لا يمكن أن نقول إن مجتمعنا الاقتنائي القائم على المباراة القائلة التي تولد الغيرة والخوف، لا يمكن أن نقول إن مجتمعنا هذا سليم.

والخمور هي أقل المخدرات إيذاء للنفس والجسم، وجميع المتمدنين يشربونها في اعتدال، وبأسلوب متمدن لا يجعل منهم حيوانات، ولا يعتم عقولهم ويفسد نفوسهم كما هي الحال في أولئك الذين يتناولون المخدرات. وجميع الأمم التي عرفت الخمور والمخدرات أجازت الأولى ومنعت الثانية. وقد فعلت ذلك حكومتنا، لليقين الثابت بأن الخمور، مهما تجاوز مستعملوها حدود الاعتدال، فإنهم لا يزالون أقل تعرضًا لخطرها من أولئك الذين يستعملون المخدرات. نحن نبيح بيع الخمور في مصر، ولكننا نعاقب بالسجن المؤبد أولئك الذين يبيعون المخدرات. ونحن نبيح لكل مصري تناول الخمور إذا كان قادرًا على أداء أثمانها الباهظة، ولكننا نعاقب مَن يستعمل المخدرات بالسجن خمس أو عشر سنوات.

وفي هذا برهان واضح على أننا نخشى خطر المخدرات ولا نخشى خطر الخمور. ولا أعتقد أن هناك مَن لا تهز ضميره هذه العقوبات القاسية التي يلقاها المتجرون بالمخدرات ومتناولوها. وكان يمكننا أن نستغني عنها لو أن الخمور كانت رخيصة متاحة للحشاشين والأفيونيين. وليس هذا رأيي وحدي وإنما هو رأي جميع رجالنا الذين يكافحون المخدرات في بلادنا أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤