الفصل السادس

قصائد الشريف الرضي في صريع كربلاء

  • (١)

    للشريف الرضي قصائد كثيرة في مدح أهل البيت، وهي في جملتها من آثار التصوف، وإن كانت العصبية تغلب عليها في بعض الأحيان فتنقلها من رقة الوفاء إلى عنجهية الفخر والخيلاء، من ذلك قوله في رثاء أمه:

    آبَاؤُكِ الْغُرُّ الَّذِينَ تَفَجَّرَتْ
    بِهِمُ يَنَابِيعٌ مِنَ النَّعْمَاءِ
    مِنْ نَاصِرٍ لِلْحَقِّ أَوْ دَاعٍ إِلَى
    سُبُلِ الْهُدَى أَوْ كَاشِفِ الْغَمَّاءِ
    نَزَلُوا بِعُرْعُرَةِ السَّنَامِ مِنَ الْعُلَا
    وَعَلَوْا عَلَى الْأَثْبَاجِ وَالْأَمْطَاءِ١
    مِنْ كُلِّ مُسْتَبِقِ الْيَدَيْنِ إِلَى النَّدَى
    وَمُسَدَّدِ الْأَقْوَالِ وَالْآرَاءِ
    يُرْجَى عَلَى النَّظَرِ الْحَدِيدِ تَكَرُّمًا
    وَيُخَافُ فِي الْإِطْرَاقِ وَالْإِغْضَاءِ
    دَرَجُوا عَلَى أَثَرِ الْقُرُونِ وَخَلَّفُوا
    طُرُقًا مُعَبَّدَةً مِنَ الْعَلْيَاءِ

    فهذا من جيد القول في مدح أهل البيت، ولكنه لم يقصد لمعناه الروحي، وإنما أريد به التمدح بشرف الأنساب كالذي جاء في قصيدة:

    لنا كلَّ يومٍ رنةٌ خلفَ ذاهب

    التي رثى بها خاله أحمد بن الحسين، ومن ذلك ما جاء في بائيته القوية:

    لغير العُلا منِّي القلا والتجنُّب

    إذ قال:

    أُهَذِّبُ فِي مَدْحِ اللِّئَامِ خَوَاطِرِي
    فَأَصْدُقُ فِي حُسْنِ الْمَعَانِي وَأَكْذِبُ
    وَمَا الْمَدْحُ إِلَّا فِي النَّبِيِّ وَآلِهِ
    يُرَامُ وَبَعْضُ الْقَوْلِ مَا يُتَجَنَّبُ
    وَأَوْلَى بِمَدْحِي مَنْ أُعِزُّ بِفَخْرِهِ
    وَلَا يَشْكُرُ النَّعْمَاءَ إِلَّا الْمُهَذَّبُ
    أَرَى الشِّعْرَ فِيهِمْ بَاقِيًا وَكَأَنَّمَا
    تُحَلِّقُ بِالْأَشْعَارِ عَنْقَاءُ مُغْرِبُ
    وَقَالُوا عَجِيبٌ عُجْبُ مِثْلِي بِنَفْسِهِ
    وَأَيْنَ عَلَى الْأَيَّامِ مِثْلُ أَبِي أَبُ
    لَعُمْرُكَ مَا أُعْجِبْتُ إِلَّا بِمَدْحِهِمْ
    وَيُحْسَبُ أَنِّي بِالْقَصَائِدِ مُعْجَبُ
    أُعِدُّ لِفَخْرِي فِي الْمَقَامِ مُحَمَّدًا
    وَأَدْعُو عَلِيًّا لِلْعُلَا حِينَ أَرْكَبُ

    وهذا ليس من التصوف في شيء، وإنما هو زهو بقوة العصبية.

    ومن ذلك قوله في رثاء أهل البيت:

    سَقَى اللهُ الْمَدِينَةَ مِنْ مَحَلٍّ
    لُبَابَ الْمَاءِ وَالنُّطَفِ الْعِذَابِ
    وَجَادَ عَلَى الْبَقِيعِ وَسَاكِنِيهِ
    رَخِيُّ الذَّيْلِ مَلْآنُ الْوِطَابِ٢
    وَأَعْلَامَ الْغَرِيِّ وَمَا اسْتَبَاحَتْ
    مَعَالِمُهَا مِنَ الْحَسَبِ اللُّبَابِ٣
    وَقَبْرًا بِالطُّفُوفِ يَضُمُّ شِلْوًا
    قَضَى ظَمَأً إِلَى بَرْدِ الشَّرَابِ
    وَسَامَرَّا وَبَغْدَادًا وَطُوسًا
    هَطُولَ الْوَدْقِ مُنْخَرِقَ الْعُبَابِ
    قُبُورٌ تَنْطُفُ الْعَبَرَاتُ فِيهَا
    كَمَا نَطَفَ الصَّبِيرُ عَلَى الرَّوَابِي٤
    فَلَوْ بَخِلَ السَّحَابُ عَلَى ثَرَاهَا
    لَذَابَتْ فَوْقَهَا قِطَعُ السَّرَابِ
    سَقَاكِ فَكَمْ ظَمِئْتُ إِلَيْكِ شَوْقًا
    عَلَى عُدَوَاءِ دَارِي وَاقْتِرَابِي

    إلى أن يقول:

    بِكُمْ فِي الشِّعْرِ فَخْرِي لَا بِشِعْرِي
    وَعَنْكُمْ طَالَ بَاعِي فِي الْخِطَابِ
    أَجلُّ عَنِ الْقَبَائِحِ غَيْرَ أَنِّي
    لَكُمْ أَرْمِي وَأُرْمَى بِالسِّبَابِ
    فَأَجْهَرُ بِالْوَلَاءِ وَلَا أُوَرِّي
    وَأَنْطِقُ بِالْبَرَاءِ وَلَا أُحَابِي
    وَمَنْ أَوْلَى بِكُمْ مِنِّي وَلِيًّا
    وَفِي أَيْدِيكُمُ طَرَفُ انْتِسَابِي

    ولا مرية في أن نزعة الفخر أغلب على مثل هذا الشعر من نزعة التصوف، وأصرح منه في الفخر قوله يردُّ على جماعة افتخروا على ولد علي بن أبي طالب:

    وَلَوْلَا عَلِيٌّ مَا عَلَوْا سَرَوَاتِهَا
    وَلَا جَعْجَعُوا مِنْهَا بِمَرْعًى وَمَوْرِدِ٥
    أَخَذْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ وَفَاطِمٍ
    طِلَاعَ الْمَسَاعِي مِنْ مَقَامٍ وَمَقْعَدِ
    وَطُلْنَا بِسِبْطَيْ أَحْمَدٍ وَوَصِيِّهِ
    رِقَابَ الْوَرَى مِنْ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
    وَحُزْنَا عَتِيقًا وَهْوَ غَايَةُ فَخْرِكُمْ
    بِمَوْلِدِ بِنْتِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
    فَجَدٌّ نَبِيٌّ ثُمَّ جَدٌّ خَلِيفَةٌ
    فَمَا بَعْدَ جَدَّيْنَا عَلِيٍّ وَأَحْمَدِ
  • (٢)

    وتظهر طلائع التصوف في قصيدته التي أثنى فيها على رفق عمر بن عبد العزيز بأهل البيت، وقد نقل إليه أن جعفرًا الصادق قال: «كان العبد الصالح أبو حفص يهدي إلينا الدراهم والدنانير في زقاق العسل خوفًا من أهل بيته.» ولنواجه أنفاس الحنان في هذا الشعر الرقيق:

    يَا ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ بَكَتِ الْعَيـْ
    ـنُ فَتًى مِنْ أُمَيَّةٍ لَبَكَيْتُكْ
    غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إِنَّكَ قَدْ طِبـْ
    ـتَ وَإِنْ لَمْ يَطِبْ وَلَمْ يَزْكُ بَيْتُكْ
    أَنْتَ نَزَّهْتَنَا عَنِ السَّبِّ وَالْقَذْ
    فِ فَلَوْ أَمْكَنَ الْجَزَاءُ جَزَيْتُكْ
    وَلَوَ انِّي رَأَيْتُ قَبْرَكَ لَاسْتَحـْ
    ـيَيْتُ مِنْ أَنْ أُرَى وَمَا حَيَّيْتُكْ
    وَقَلِيلٌ أَنْ لَوْ بَذَلْتُ دِمَاءَ الـ
    ـبُدْنِ حُزْنًا عَلَى الذُّرَى وَسَقَيْتُكْ
    دَيْرَ سِمْعَانَ لَا أَغَبَّكَ غَادٍ
    خَيْرُ مَيْتٍ مِنْ آلِ مَرْوَانَ مَيْتُكْ
    أَنْتَ بِالذِّكْرِ بَيْنَ عَيْنِي وَقَلْبِي
    إِنْ تَدَانَيْتُ مِنْكَ أَوْ قَدْ نَأَيْتُكْ
    وَإِذَا حَرَّكَ الْحَشَا خَاطِرٌ مِنـْ
    ـكَ تَوَهَّمْتُ أَنَّنِي قَدْ رَأَيْتُكْ
    وَعَجِيبٌ أَنِّي قَلَيْتُ بَنِي مَرْ
    وَانَ طُرًّا وَأَنَّنِي مَا قَلَيْتُكْ
    قَرَّبَ الْعَدْلُ مِنْكَ لَمَّا نَأَى الْجَوْ
    رُ بِهِمْ فَاجْتَوَيْتُهُمْ وَاجْتَبَيْتُكْ
    فَلَوَ انِّي مَلَكْتُ دَفْعًا لِمَا نَا
    بَكَ مِنْ طَارِقِ الرَّدَى لَفَدَيْتُكْ
  • (٣)

    ولم يظهر توجُّع الشريف على أهل البيت ظهورًا قويًّا إلا في قصائده التي بكى بها الحسين، وقد جمعت بين حرارة العصبية وصدق الوفاء.

    وللشريف الرضي في بكاء الحسين خمس قصائد طوال، الأولى رائية قالها في سنة ٣٧٧ﻫ، والثانية لامية قالها سنة ٣٨٧ﻫ، والثالثة دالية قالها سنة ٣٩٠ﻫ، والرابعة دالية أيضًا قالها سنة ٣٩٠ﻫ، والخامسة مقصورة لم يُذكَر لها تاريخ.

  • (٤)

    بدأ الشاعر قصيدته الرائية بأبيات في وصف ما يغمره من الحزن والقلق، ثم اندفع يذكر ما يساوره لذكرى عاشوراء، فقال:

    وَرُبَّ قَائِلَةٍ وَالْهَمُّ يُتْحِفُنِي
    بِنَاظِرٍ مِنْ نِطَافِ الدَّمْعِ مَمْطُورِ
    خَفِّضْ عَلَيْكَ فَلِلْأَحْزَانِ آوِنَةٌ
    وَمَا الْمُقِيمُ عَلَى حُزْنٍ بِمَعْذُورِ
    فَقُلْتُ هَيْهَاتَ فَاتَ السَّمْع لَائِمهُ
    لَا يفْهَمُ الْحُزْن إِلَّا يَوْم عَاشُورِ
    يَوْمٌ حَدَا الظُّعْنَ فِيهِ بِابْنِ فَاطِمَةٍ
    سِنَانُ مُطَّرِدِ الْكَعْبَيْنِ مَطْرُورِ٦
    وَخَرَّ لِلْمَوْتِ لَا كَفٌّ تُقَلِّبُهُ
    إِلَّا بِوَطْءٍ مِنَ الْجُرْدِ الْمَحَاضِيرِ٧
    ظَمْآن سَلَّى نَجِيعُ الطَّعْنِ غُلَّتُهُ
    عَنْ بَارِدٍ مِنْ عُبَابِ الْمَاءِ مَقْرُورِ٨

    وفي هذه الأبيات يسمِّي الحسين «ابن فاطمة» لتكون الذكرى أوجع، ويذكر أنه مات ظمآن لم يسله عن الماء إلا الدم النجيع، وسنرى كيف يحرص الشاعر في سائر قصائده على هذه الذكرى الأليمة، وهي موت الحسين وهو ظمآن.

    ثم قال في التوجع لمصرع ذلك السبط النبيل:

    كَأَنَّ بِيضَ الْمَوَاضِي وَهْيَ تَنْهَبُهُ
    نَارٌ تَحَكَّمُ فِي جِسْمٍ مِنَ النُّورِ
    للهِ مُلْقًى عَلَى الرَّمْضَاءِ عَضَّ بِهِ
    فَمُ الرَّدَى بَيْنَ إِقْدَامٍ وَتَشْمِيرِ
    تَحْنُو عَلَيْهِ الرُّبَا ظِلًّا وَتَسْتُرُهُ
    عَنِ النَّوَاظِرِ أَذْيَالُ الْأَعَاصِيرِ
    تَهَابُهُ الْوَحْشُ أَنْ تَدْنُو لِمَصْرَعِهِ
    وَقَدْ أَقَامَ ثَلَاثًا غَيْرَ مَقْبُورِ

    وهو يصفه بالكرامة في الممات، فيذكر أن الربا أظلته، وأن أذيال الأعاصير سترته عن العيون، وأن الوحش هابه فلم ينهش لحمه، مع أنه أقام ثلاث ليالٍ غير مقبور.

    ثم قال يذم بني أمية، ويهدد بالثأر لأهل البيت:

    بَنِي أُمَيَّةَ مَا الْأَسْيَافُ نَائِمَةٌ
    عَنْ شَاهِرٍ فِي أَقَاصِي الْأَرْضِ مَوْتُورِ
    وَالْبَارِقَاتُ تَلَوَّى فِي مَغَامِدِهَا
    وَالسَّابِقَاتُ تَمَطَّى فِي الْمَضَامِيرِ
    إِنِّي لَأَرْقُبُ يَوْمًا لَا خَفَاءَ لَهُ
    عُرْيَانَ يَقْلَقُ مِنْهُ كُلُّ مَغْرُورِ
    وَلِلصَّوَارِمِ مَا شَاءَتْ مَضَارِبُهَا
    مِنَ الرِّقَابِ شَرَابٌ غَيْرُ مَنْزُورِ
    أَكُلَّ يَوْمٍ لِآلِ الْمُصْطَفَى قَمَرٌ
    يَهْوِي بِوَقْعِ الْعَوَالِي وَالْمَبَاتِيرِ
    وَكُلَّ يَوْمٍ لَهُمْ بَيْضَاءُ صَافِيَةٌ
    يَشُوبُهَا الدَّهْرُ مِنْ رَنْقٍ وَتَكْدِيرِ
    مِغْوَارُ قَوْمٍ يَرُوعُ الْمَوْتُ مِنْ يَدِهِ
    أَمْسَى وَأَصْبَحَ نَهْبًا لِلْمَقَادِيرِ
    وَأَبْيَضُ الْوَجْهِ مَشْهُورٌ تَغَطْرُفُهُ
    مَضَى بِيَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ مَشْهُورِ
    مَا لِي تَعَجَّبْتُ مِنْ هَمِّي وَنُفْرَتِهِ
    وَالْحُزْنُ جُرْحٌ بِقَلْبِي غَيْرُ مَسْبُورِ

    ومهاجمة بني أمية لا موجب لها في هذا الموطن؛ لأن دولتهم كانت دالت، وإنما يهدد خلفاء بني العباس.

    ثم قال يخاطب الحسين:

    يَا جَدُّ، لَا زَالَ لِي هَمٌّ يُحَرِّضُنِي
    عَلَى الدُّمُوعِ وَوَجْدٌ غَيْرُ مَقْهُورِ
    وَالدَّمْعُ تَحْفِزُهُ عَيْنٌ مُؤَرَّقَةٌ
    حَفْزَ الْحَنِيَّةِ عَنْ نَزْعٍ وَتَوْتِيرِ٩
    إِنَّ السُّلُوَّ لَمَحْظُورٌ عَلَى كَبِدِي
    وَمَا السُّلُوُّ عَلَى قَلْبٍ بِمَحْظُورِ
  • (٥)

    وفي قصيدته اللامية يبدأ فيتحدث عن الدنيا وفتكها بالناس فيقول:

    رَاحِلٌ أَنْتَ وَاللَّيَالِي نُزُولُ
    وَمُضِرٌّ بِكَ الْبَقَاءُ الطَّوِيلُ
    لَا شُجَاعٌ يَبْقَى فَيَعْتَنِقُ الْبِيـ
    ـضَ وَلَا آمِلٌ وَلَا مَأْمُولُ
    غَايَةُ النَّاسِ فِي الزَّمَانِ فَنَاءٌ
    وَكَذا غَايَةُ الْغُصُونِ الذُّبُولُ
    إِنَّمَا الْمَرْءُ لِلْمَنِيَّةِ مَخْبُو
    ءٌ وَلِلطَّعْنِ تَسْتَجِمُّ الْخُيُولُ
    مِنْ مَقِيلٍ بَيْنَ الضُّلُوعِ إِلَى طُو
    لِ عَنَاءٍ وَفِي التُّرَابِ مَقِيلُ
    فَهْوَ كَالْغَيْمِ أَلَّفَتْهُ جَنُوبٌ
    يَوْمَ دَجْنٍ وَمَزَّقَتْهُ قَبُولُ
    عَادَةٌ لِلزَّمَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
    يَتَنَاءَى خِلٌّ وَتُبْكَى طُلُولُ
    فَاللَّيَالِي عَوْنٌ عَلَيْكَ مَعَ الْبَيـْ
    ـنِ كَمَا سَاعَدَ الذَّوَابِلَ طُولُ١٠
    رُبَّمَا وَافَقَ الْفَتَى مِنْ زَمَانٍ
    فَرَحٌ غَيْرُهُ بِهِ مَتْبُولُ
    هِيَ دُنْيَا إِنْ وَاصَلَتْ ذَا جَفَتْ هـَ
    ـذَا مَلَالًا كَأَنَّهَا عُطْبُولُ١١
    كُلُّ بَاكٍ يُبْكَى عَلَيْهِ وَإِنْ طَا
    لَ بَقَاءٌ وَالثَّاكِلُ الْمَثْكُولُ
    وَالْأَمَانِيُّ حَسْرَةٌ وَعَنَاءٌ
    لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهَا تَعْلِيلُ

    وفي هذه القطعة يتكلم الشريف كلام الحكيم المحزون، والحكمة أحيانًا يخلقها الحزن البليغ، والقارئ يعجب من وفرة الخيال في هذه الأبيات: فنعيم الدنيا غيم ألَّفته ريح الجنوب، ثم مزَّقته ريح القبول، والناس يستريحون حينًا ليواجهوا بعد الراحة تعب الموت، كما تستجم الخيول لأيام الطعان، وغاية الناس الفناء كما أن غاية الغصون الذبول، والليالي عون على المرء مع البين، فكأنها الطول في الرماح الذوابل، والدنيا كالحسناء الغادرة تواصل هذا وتجفو ذاك، وكل باكٍ سيُبكَى عليه وإن طال البقاء، وكل ثاكل سيصبح يومًا وهو مثكول، والأماني حسرة وعناء لمن يحسب لجهله أنها لهو وتعليل.

    ثم أخذ في خطاب الحسين ورمى قاتليه بنقض عهد الرسول:

    يَا ابْنَ بِنْتِ الرَّسُولِ ضَيَّعَتِ الْعَهـْ
    ـدَ رِجَالٌ وَالْحَافِظُونَ قَلِيلُ
    مَا أَطَاعُوا النَّبِيَّ فِيكَ وَقَدْ مَا
    لَتْ بِأَرْمَاحِهِمْ إِلَيْكَ الذُّحُولُ١٢
    وَأَحَالُوا عَلَى الْمَقَادِيرِ فِي حَرْ
    بِكَ لَوْ أَنَّ عُذْرَهُمْ مَقْبُولُ
    وَاسْتَقَالُوا مِنْ بَعْدِ مَا أَجْلَبُوا فِيـ
    ـهَا أَأَلْآنَ أَيُّهَا الْمُسْتَقِيلُ؟!
    إِنَّ أَمْرًا قُنِّعْتَ مِنْ دُونِهِ السَّيـْ
    ـفَ لِمَنْ حَازَهُ لَمَرْعًى وَبِيلُ
    يَا حُسَامًا فَلَّتْ مَضَارِبُهُ الْهَا
    مَ وَقَدْ فَلَّهُ الْحُسَامُ الصَّقِيلُ
    يَا جَوَادًا أَدْمَى الْجَوَادَ مِنَ الطَّعـْ
    ـنِ وَوَلَّى وَنَحْرُهُ مَبْلُولُ
    أَتُرَانِي أُعِيرُ وَجْهِيَ صَوْنًا
    وَعَلَى وَجْهِهِ تَجُولُ الْخُيُولُ
    أَتُرَانِي أَلَذُّ مَاءً وَلَمَّا
    يُرْوَ مِنْ مُهْجَةِ الْإِمَامِ الْغَلِيلُ

    وفي هذه الأبيات إثارة لأكرم العواطف الدينية، فالشاعر يذكر أن قاتلي الحسين ضيعوا العهد، وخفروا ذمة النبي، ولم يقاتلوا الحسين في سبيل الحق، وإنما قاتلوه في سبيل الذحول، وليتأمل القارئ دقة هذا البيت:

    إِنَّ أَمْرًا قُنِّعْتَ مِنْ دُونِهِ السَّيـْ
    ـفَ لِمَنْ حَازَهُ لَمَرْعًى وَبِيلُ

    يريد أن الدنيا التي لا تصفو لأصحابها إلا بقتل الحسين دنيا كدرة لن يكون لها صفاء.

    ثم شرع يصف مصرع الحسين، وفزع نسائه يوم ذلك الهول، فقال:

    قَبَّلَتْهُ الرِّمَاحُ وَانْتَضَلَتْ فِيـ
    ـهِ الْمَنَايَا وَعَانَقَتْهُ النُّصُولُ١٣
    وَالسَّبَايَا عَلَى النَّجَائِبِ تُسْتَا
    قُ وَقَدْ نَالَتِ الْجُيُوبَ الذُّيُولُ
    مِنْ قُلُوبٍ يَدْمَى بِهَا نَاظِرُ الْوَجـْ
    ـدِ وَمِنْ أَدْمُعٍ مَرَاهَا الْهُمُولُ
    قَدْ سُلِبْنَ الْقِنَاعَ عَنْ كُلِّ وَجْهٍ
    فِيهِ لِلصَّوْنِ مِنْ قِنَاعٍ بَدِيلُ
    وَتَنَقَّبْنَ بِالْأَنَامِلِ وَالدَّمـْ
    ـعُ عَلَى كُلِّ ذِي نِقَابٍ دَلِيلُ
    وَتَشَاكَيْنَ وَالشَّكَاةُ بُكَاءٌ
    وَتَنَادَيْنَ وَالنِّدَاءُ عَوِيلُ

    وللقارئ أن يتأمل البيت الثالث من هذه الأبيات فهو يذكر أن القلوب لها نواظر هي نواظر الوجد، وفي البيت الرابع يذكر أن الصون بديل من القناع في أوجه من سلبن القناع من نساء الحسين، والتنقب بالأنامل من صور الهول، وكذلك التشاكي بالبكاء، والتنادي بالعويل.

    ولينظر القارئ رقة المناجاة في هذه الأبيات:

    يَا غَرِيبَ الدِّيَارِ صَبْرِي غَرِيبٌ
    وَقَتِيلَ الْأَعْدَاءِ نَوْمِي قَتِيلُ
    بِي نِزَاعٌ يَطْغَى إِلَيْكَ وَشَوْقٌ
    وَغَرَامٌ وَزَفْرَةٌ وَعَوِيلُ
    لَيْتَ أَنِّي ضَجِيعُ قَبْرِكَ أَوْ أَنَّ
    ثَرَاهُ بِمَدْمَعِي مَطْلُولُ

    وعاد إلى المناداة بطلب الثأر، فقال:

    يَا بَنِي أَحْمَدٍ إِلَيْكُمْ سِنَانِي
    غَائِبٌ عَنْ طِعَانِهِ مَمْطُولُ
    وَجِيَادِي مَرْبُوطَةٌ وَالْمَطَايَا
    وَمَقَامِي يَرُوعُ عَنْهُ الدَّخِيلُ
    كَمْ إِلَى كَمْ تَعْلُو الطَّغَامُ وَكَمْ يَحـْ
    ـكُمُ فِي كُلِّ فَاضِلٍ مَفْضُولُ؟
    قَدْ أَذَاعَ الْغَلِيل قَلْبِي وَلَكِنْ
    غَيْرُ بِدْعٍ أَنِ اسْتَطَبَّ الْعَلِيلُ
    لَيْتَ أَنِّي أَبْقَى فَأَمْتَرِقَ النَّا
    سَ وَفِي الْكَفِّ صَارِمٌ مَسْلُولُ
    وَأَجُرُّ الْقَنَا لِثَارَاتِ يَوْمِ الطـَّ
    ـفِّ يَسْتَلْحِقُ الرَّعِيلَ الرَّعِيلُ

    والثأر الذي يدعو إليه في هذه الأبيات لا يقف عند بني أمية، ولكنه يجتاح بني العباس، ألا ترونه يقول:

    كَمْ إِلَى كَمْ تَعْلُو الطَّغَامُ وَكَمْ يَحـْ
    ـكُمُ فِي كُلِّ فَاضِلٍ مَفْضُولُ؟

    وكانت للرضي وثباتٌ نفسيةٌ تسمو به إلى المطالبة بعرش الخلافة الإسلامية، وكان دم الحسين من الوسائل إلى ذلك الإرث المضاع.

    وقد ختم الشريف لاميته هذه بأبيات في الفخر أضاعت روعة البكاء، وإن كنا نستجيد منها هذا البيت:

    أَتْرُكُ الشَّيْءَ عَاذِرِي فِيهِ كُلُّ النـَّ
    ـاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَحَانِي عَذُولُ؟!
  • (٦)

    أما الدالية فقد افتتحها بخمسة عشر بيتًا في النسيب، ثم تخلص إلى بكاء الحسين، فقال:

    شَغَلَ الدُّمُوعَ عَنِ الدِّيَارِ بُكَاؤُنَا
    لِبُكَاءِ فَاطِمَةٍ عَلَى أَوْلَادِهَا
    أَتُرَى دَرَتْ أَنَّ الْحُسَيْنَ طَرِيدَةٌ
    لِقَنَا بَنِي الطَّرْدَاءِ عِنْدَ وِلَادِهَا
    كَانَتْ مَآتِمُ بِالْعِرَاقِ تَعُدُّهَا
    أُمَوِيَّةٌ بِالشَّامِ مِنْ أَعْيَادِهَا
    مَا رَاقَبَتْ غَضَبَ النَّبِيِّ وَقَدْ غَدَا
    زَرْعُ النَّبِيِّ مَظَنَّةً لِحَصَادِهَا
    بَاعَتْ بَصَائِرَ دِينِهَا بِضَلَالِهَا
    وَشَرَتْ مَعَاطِبَ غَيِّهَا بِرَشَادِهَا
    جَعَلَتْ رَسُولَ اللهِ مِنْ خُصَمَائِهَا
    فَلَبِئْسَ مَا ذَخَرَتْ لِيَوْمِ مَعَادِهَا
    نَسْلُ النَّبِيِّ عَلَى صِعَابِ مَطِيِّهَا
    وَدَمُ النَّبِيِّ عَلَى رُءُوسِ صِعَادِهَا

    وهو في هذه القطعة يعيد ما قال من قبل، فيذكر أن بني أمية لم يراقبوا غضب الرسول، فجعلوا زرعه من بعض ما يحصدون، ويذكر أن النبي سيكون خصمهم يوم المعاد، وبئس ما يذخرون!

    ثم أخذ في هجاء بني أمية ومدح العلويين، فقال:

    إِنَّ الْخِلَافَةَ أَصْبَحَتْ مَزْوِيَّةً
    عَنْ شَعْبِهَا بِبَيَاضِهَا وَسَوَادِهَا
    طَمَسَتْ مَنَابِرَهَا عُلُوجُ أُمَيَّةٍ
    تَنْزُو ذِئَابُهُمُ عَلَى أَعْوَادِهَا
    هِيَ صَفْوَةُ اللهِ الَّتِي أَوْحَى لَهَا
    وَقَضَى أَوَامِرَهُ إِلَى أَمْجَادِهَا
    أَخَذَتْ بِأَطْرَافِ الْفَخَارِ فَعَاذِرٌ
    أَنْ يُصْبِحَ الثَّقَلَانِ مِنْ حُسَّادِهَا
    الزُّهْدُ وَالْأَحْلَامُ فِي فُتَّاكِهَا
    وَالْفَتْكُ لَوْلَا اللهُ فِي زُهَّادِهَا
    عُصَبٌ يُقَمَّطُ بِالنِّجَادِ وَلِيدُهَا
    وَمُهُودُ صِبْيَتِهَا ظُهُورُ جِيَادِهَا
    تَرْوِي مَنَاقِبَ فَضْلِهَا أَعْدَاؤُهَا
    أَبَدًا وَتُسْنِدُهُ إِلَى أَضْدَادِهَا
    يَا غَيْرَةَ اللهِ اغْضَبِي لِنَبِيِّهِ
    وَتَزَحْزَحِي بِالْبِيضِ عَنْ أَغْمَادِهَا
    مِنْ عُصْبَةٍ ضَاعَتْ دِمَاءُ مُحَمَّدٍ
    وَبَنِيهِ بَيْنَ يَزِيدِهَا وَزِيَادِهَا
    صَفَدَاتُ مَالِ اللهِ مِلْءُ أَكُفِّهَا
    وَأَكُفُّ آلِ اللهِ فِي أَصْفَادِهَا
    ضَرَبُوا بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ أَبْنَاءَهُ
    ضَرْبَ الْغَرَائِبِ عُدْنَ بَعْدَ ذِيَادِهَا

    وللقارئ أن يتنسم روح الفتوة في هذا الشعر البليغ، وأن يتأمل كيف يكون النجاد قماط الوليد، وكيف تكون ظهور الجياد مهاد الأطفال، وأن يعجب بقوة العزم في هذا البيت:

    الزُّهْدُ وَالْأَحْلَامُ فِي فُتَّاكِهَا
    وَالْفَتْكُ لَوْلَا اللهُ فِي زُهَّادِهَا

    ثم لذعته الذكرى فدمدم بهذه الأبيات وقد عاوده خيال «الطف» و«عاشوراء»:

    قِفْ بِي وَلَوْ لَوْثَ الْإِزَارِ، فَإِنَّمَا
    هِيَ مُهْجَةٌ عَلِقَ الْجَوَى بِفُؤَادِهَا
    بِالطَّفِّ حَيْثُ غَدَا مُرَاقُ دِمَائِهَا
    وَمُنَاخُ أُيْنُقِهَا لِيَوْمِ جِلَادِهَا
    الْقَفْرُ مِنْ أَرْوَاقِهَا وَالطَّيْرُ مِنْ
    طُرَّاقِهَا وَالْوَحْشُ مِنْ عُوَّادِهَا
    تَجْرِي لَهَا حَبَبُ الدُّمُوعِ وَإِنَّمَا
    حَبُّ الْقُلُوبِ يَكُنَّ مِنْ أَمْدَادِهَا
    يَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَمْ لَكَ لَوْعَةٌ
    تَتَرَقَّصُ الْأَحْشَاءُ مِنْ إِيقَادِهَا
    مَا عُدْتَ إِلَّا عَادَ قَلْبِي غُلَّةٌ
    حَرَّى وَلَوْ بَالَغْتُ فِي إِبْرَادِهَا
    مِثْل السَّلِيمِ مَضِيضَةٌ آنَاؤُهُ
    خُزْرُ الْعُيُونِ تَعُودُهُ بِعِدَادِهَا

    ثم قال يخاطبه بمثل ما خاطبه به في الرائية:

    يَا جَدُّ لَا زَالَتْ كَتَائِبُ حَسْرَةٍ
    تَغْشَى الضَّمِيرَ بِكَرِّهَا وَطِرَادِهَا
    أَبَدًا عَلَيْكَ وَأَدْمُعٌ مَسْفُوحَةٌ
    إِنْ لَمْ يُرَاوِحْهَا الْبُكَاءُ يُغَادِهَا
    هَذَا الثَّنَاءُ وَمَا بَلَغْتُ وَإِنَّمَا
    هِيَ حَلْبَةٌ خَلَعُوا عِذَارَ جَوَادِهَا
    أَأَقُولُ جَادكُمُ الرَّبِيعُ وَأَنْتُمُو
    فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ رَبِيعُ بِلَادِهَا
    أَمْ أَسْتَزِيدُ لَكُمْ عُلًا بِمَدَائِحِي
    أَيْنَ الْجِبَالُ مِنَ الرُّبَا وَوِهَادِهَا
  • (٧)

    والدالية الثانية ابتدأها الشاعر أيضًا بالنسيب، وتلك سُنَّة قديمة لم تخلُ منها قصائد الرثاء، والنسيب في أمثال هذه القصائد يخلو من النزق والطيش، ويقف فيه الشاعر عند حدود الشكوى والحنين، كأن يقول عن شاكٍ قليل العوَّاد:

    يُرَاعِي نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْهَمُّ كُلَّمَا
    مَضَى صَادِرٌ عَنِّي بِآخِرِ وَارِدِ
    تَوَزَّعَ بَيْنَ النَّجْمِ وَالدَّمْعِ طَرْفُهُ
    بِمَطْرُوفَةٍ إِنْسَانُهَا غَيْرُ رَاقِدِ
    وَمَا يَطَّبِيهَا الْغَمْضُ إِلَّا لِأَنَّهُ
    طَرِيقٌ إِلَى طَيْفِ الْخَيَالِ الْمُعَاوِدِ
    ذَكَرْتُكُمُو ذِكْرَ الصِّبَا بَعْدَ عَهْدِهِ
    قَضَى وَطَرًا مِنِّي وَلَيْسَ بِعَائِدِ
    إِذَا جَانَبُونِي جَانِبًا مِنْ وِصَالِهِمْ
    عَلِقْتُ بِأَطْرَافِ الْمُنَى وَالْمَوَاعِدِ
    فَيَا نَظْرَةً لَا تَنْظُرُ الْعَيْنُ أُخْتَهَا
    إِلَى الدَّارِ مِنْ رَمِل اللِّوَى الْمُتَقَاوِدِ
    هِيَ الدَّارُ لَا شَوْقِي الْقَدِيمُ بِنَاقِصٍ
    إِلَيْهَا وَلَا دَمْعِي عَلَيْهَا بِجَامِدِ
    وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ لَوْ أَضَاعَهَا
    مِنَ السُّقْمِ غَيْرِي مَا بَغَاهَا بِنَاشِدِ
    أَمَا فَارَقَ الْأَحْبَابَ قَبْلِي مُفَارِقٌ
    وَلَا شَيَّعَ الْأَظْعَانَ مِثْلِي بِوَاجِدِ

    ثم تخلص إلى ذكرى الحسين، فقال:

    تَأَوَّبَنِي دَاءٌ مِنَ الْهَمِّ لَمْ يَزَلْ
    بِقَلْبِيَ حَتَّى عَادَنِي مِنْهُ عَائِدِي
    تَذَكَّرْتُ يَوْمَ السِّبْطِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
    وَمَا يَوْمُنَا مِنْ آلِ حَرْبٍ بِوَاحِدِ

    وتوجع لموت الحسين ظمآن كما فعل في القصائد الماضية، فقال:

    وَظَامٍ يُرِيغُ الْمَاءَ قَدْ حِيلَ دُونَهُ
    سَقَوْهُ ذُبَابَاتِ الرِّقَاقِ الْبَوَارِدِ
    أَتَاحُوا لَهُ مُرَّ الْمَوَارِدِ بِالْقَنَا
    عَلَى مَا أَبَاحُوا مِنْ عِذَابِ الْمَوَارِدِ

    وقال يصف انتقال ميراثهم إلى بني أمية:

    وَيَا رُبَّ سَاعٍ فِي اللَّيَالِي لِقَاعِدٍ
    عَلَى مَا أَرَى بَلْ كُلُّ سَاعٍ لِقَاعِدِ
    أَضَاعُوا نُفُوسًا بِالرِّمَاحِ ضَيَاعُهَا
    يَعَزُّ عَلَى الْبَاغِينَ مِنَّا النَّوَاشِدِ
    أَأَلله مَا تَنْفَكُّ فِي صَفَحَاتِهَا
    خُمُوشٌ لِكَلْبٍ مِنْ أُمَيَّةَ عَاقِدِ
    لَئِنْ رَقَدَ النُّصَّارُ عَمَّا أَصَابَنَا
    فَمَا اللهُ عَمَّا نِيلَ مِنَّا بِرَاقِدِ
    لَقَدْ عَلقُوهَا بِالنَّبِيِّ خُصُومَةً
    إِلَى اللهِ تُغْنِي عَنْ يَمِينٍ وَشَاهِدِ

    وهو في هذا المعنى يكرر ما قاله من قبل.

    ولم يرضه أن يقف عند هجاء بني أمية، فغمز بني العباس بهذه الأبيات:

    وَيَا رُبَّ أَدْنَى مِنْ أُمَيَّةَ لُحْمَةً
    رَمَوْنَا عَلَى الشَّنْآنِ رَمْيَ الْجَلَامِدِ
    طَبَعْنَا لَهُمْ سَيْفًا فَكُنَّا لِحَدِّهِ
    ضَرَائِبَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَالسَّوَاعِدِ
    أَلَا لَيْسَ فِعْلُ الْأَوَّلِينَ وَإِنْ عَلَا
    عَلَى قُبْحِ فِعْلِ الْآخِرِينَ بِزَائِدِ
  • (٨)

    بقيت المقصورة وهي ضعيفة بالقياس إلى هذه القصائد، وقد وصف بها الشاعر مصرع الحسين، وما لقي نساؤه من فزع وهول، واستثار إشفاق الرسول للسبط الشهيد، وتوجع لأهل البيت، وعجب كيف أمهل الله الظالمين فلم تنقلب بهم الأرض ولم ترجمهم السماء.

    وخلاصة القول أن نكبة الحسين كانت ميدانًا لقرائح القُصَّاص والكُتاب والشعراء، ومن آثارها هذه القصائد الخمس. والفتنة والقتل من أسباب البعث في الآداب والفنون.

١  عرعرة كل شيء، بالضم: رأسه ومعظمه. والأثباج: جمع ثبج بالتحريك، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. والأمطاء: جمع مطا، وهو الظهر.
٢  رخي الذيل: هو السحاب الثقيل. والوطاب: جمع وطب، وهو سقاء من جلد.
٣  الغري في الأصل البناء الجيد، وهو هنا موضع بظاهر الكوفة بقرب قبر علي بن أبي طالب.
٤  الصبير: السحاب الذي بعضه فوق بعض.
٥  السروات: الظهور. والجعجعة: تحريك الإبل للإناخة أو النهوض.
٦  السنان المطرور: المحدد.
٧  الجُرد: جمع أجرد، وهو الفرس القصير الشعر. والمحاضير: جمع محضير، وهو الفرس المرتفع في عَدْوه.
٨  مقرور: بارد.
٩  الحنية: القوس.
١٠  الذوابل: الرماح.
١١  العطبول: المرأة الفتية الجميلة الممتلئة الطويلة العنق.
١٢  الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر.
١٣  النصول: جمع نصل، وهو السيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤