الفصل الأول

كانط والحداثة

أهمية كانط وإسهاماته

من يقرأ أعمال إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤) يُواجَه بوابلٍ من المصطلحات التقنية، مثل: «الأحكام التركيبية القَبْلِيَّة» و«وحدة الإدراك المتعالي». كيف يتوصَّل المرء من محاولة فهم هذه المصطلحات إلى دور كانط المحوري في أي وصف يتعلَّق بكيفية تغيُّر الفلسفة في العالم الحديث، والكيفية التي يمكن بها للفلسفة تغيير هذا العالم؟ ولكي يدرك المرء هذا الدور، عليه أن يفهم فلسفة كانط على أنها جزء من الصورة التاريخية الكبرى التي هي بمنزلة تعبير عنها. وحتى إذا كنَّا غير موقنين بصحة أفكاره أو معناها، فلا يزال يمكننا قراءة عمله باعتباره استجابةً للتغيُّرات الجذرية التي شهدها العالم في عصره. وقد أصبح الصراع الضمني هنا — بين فكرة أننا ينبغي أن نرسي الحقيقة بشأن فلسفة كانط، وفكرة أننا ينبغي أن نفهم كانط على أنه تعبير عن عصره — في حدِّ ذاته قضيةً في الفترة التي كان كانط يكتب فيها. والسبب في ذلك أن تركيزًا فلسفيًّا جديدًا على كيفية تأثير الممارسات البشرية على الطرق التي يُفهَم بها العالم قد شكك في الافتراض القائل: إن للأشياء جوهرًا عقلانيًّا أبديًّا. وقد تأثَّر التركيز الجديد بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية السريعة في الفترة من النصف الثاني من القرن الثامن عشر فما يليها في أوروبا، وأثَّرَ عليها أيضًا.

إن علاقة كانط بهذه التحوُّلات ليست مباشِرةً — فقد قضى معظم حياته بعيدًا عن مركز الأحداث في كونجسبرج في شرق بروسيا — لكنها لا شك تركَتْ أثرها على عمله. وإذا لم يكن لتأملاته عن الحرية، على سبيل المثال، دَخْل بالثورة الفرنسية لَكان من الصعب أن نعرف كيف نفكِّر فيها بطريقة مادية على أية حال. ومع ذلك، فالأحكام على تلك التأملات ينبغي ألَّا تعتمد على السياقات التي ظهرت فيها فحسب؛ وهذا معناه أن الفلسفة تبدو منطوية على مطالب متناقضة، إلا أننا ينبغي ألَّا نحاوِل بالضرورة استبعادَ تلك التناقضات الفلسفية؛ لأنها يمكن أن تكون تعبيرًا عن الصراعات الموجودة في الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي لا يمكن للفلسفة نفسها حلها. وفي سعي كانط لحلِّ بعض أهمِّ المعضلات الفلسفية لعصره، فإنه يتجاوز بنا تلك المعضلات إلى مشكلات العالم الحديث الأشمل.

السياق الفلسفي

إن المواقِف التي يردُّ عليها كانط هي نفسها تعبيرات عن عوامل تاريخية محورية للحداثة، ﻓ «عقلانية» جوتفريد لايبنتز (١٦٤٦–١٧١٦) وباروخ إسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧)، التي حملها كريستيان فولف (١٦٧٩–١٧٥٤) وآخَرون إلى عهد كانط، تفترض أن النجاح الجديد للعلم الطبيعي المرتكز على أساسٍ رياضيٍّ يقوم على تركيبات متأصِّلة في الطبيعة. ولأن الرياضيات تتألف من حقائق ضرورية لا يمكن تغييرها بالدليل التجريبي، فمن الممكن أن تكون لها منزلة تأسيسية يفتقر إليها أي شكل آخَر من أشكال المعرفة. كما أن منزلتها المطلقة تربطها على ما يبدو بعلم اللاهوت، فالمعرفة التجريبية عرضة للخطأ بالضرورة؛ لذا يمكن النظر إلى عصمة الرياضيات عن الخطأ على أنها امتلاك لمصدر يفوق البشر. لكن العلوم الحديثة — كما أشار الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦) — تعتمد أيضًا على اهتمام جديد ودقيق بالمعطيات التجريبية، وهذه المعطيات تُؤخَذ من الإدراكات الإنسانية؛ ومن ثَمَّ ليست لها حتمية الرياضيات. وقد تمثَّلَ أثر دعاوى هيوم على كانط في إيقاظه من إيمانه «الدوجماتي» بفكرة النظام الكوني المضمن؛ ﻓ «الدوجماتية» بالنسبة لكانط هي الإيمان بالمبادئ الميتافيزيقية الأساسية التي لا تخضع للبحث النقدي، وهو اعتقاد قائم في الفلسفة منذ أفلاطون على الأقل. أما بالنسبة لهيوم، فلا يمكن أن يقال إن مبدأ السببية مُضمَّن في الكون؛ لأن جميع الأدلة على الحتمية السببية تُستقَى من إدراكنا للزوم شيء عن آخَر. ومن ثَمَّ، فأي يقين ظاهِر تولِّده العلوم الجديدة مصحوب بشكٍّ حول ما يضفي الشرعية على ذلك اليقين. ويُحتمَل أن تكون تداعيات وجهة نظر هيوم بالنسبة للدين كارثية؛ فنظام الأشياء الآن يعتمد على ما يدركه البشر كأفراد، وليس على السلطة الإلهية.

fig1
شكل ١-١: إيمانويل كانط، عام ١٧٩٠ تقريبًا.1

يسعى كانط إلى إيجاد حلٍّ للصدام بين العقلانية والتجريبية عن طريق إعادة التفكير في العلاقة بين الحتمية الرياضية والإدراكات المحتمَلة. ومع ذلك، لا ينصبُّ اهتمامُه فقط على نظرية المعرفة؛ فأول أعماله الكبرى «نقد العقل المحض» (١٧٨١، الطبعة الثانية ١٧٨٧) يجعل الحريةَ شيئًا محوريًّا، الأمر الذي سيوضِّحه بالتفصيل بعد ذلك في «النقد الثاني»؛ أعني: «نقد العقل العملي» (١٧٨٨) (وفي كتابه «أساس ميتافيزيقا الأخلاق» (١٧٨٥)). وفي عام ١٧٩٠، نشر كانط «النقد الثالث» له؛ ألا وهو «نقد الحُكم» (١٧٩٠)، الذي يعالج قضية علم الغائية (فكرة وجود تخطيطٍ أو قصدٍ في الطبيعة) والجمال الطبيعي والفني.

كيف إذن تتصل القضايا المختلفة التي يتصدَّى لها كانط بعضها ببعض؟ يميل العلم الحديث إلى التحول لمحمية من فروع معرفية آخِذة في التخصُّص، ومن توابع هذا الأمر أن تحليلَ الطبيعة إلى مكونات معيَّنة يمكن أن يُحدِث شعورًا بالتفكُّك. وقد افترضت الفلسفةُ وعلم اللاهوت في السابق وحدةً ضمنية في تنوُّع الظواهر الطبيعية، وقد حوَّل هيوم مصدرَ هذه الوحدة إلى مسألة فلسفية كبرى؛ ومن ثَمَّ يحاول كانط تأسيسَ أشكال جديدة من الوحدة لتحلَّ محلَّ تلك الأشكال التي لم يَعُدْ بقاؤها ممكنًا. ومع ذلك، فهو لم يكن مهتمًّا فقط بالمعرفة العلمية، بل أيضًا بالأساس الأخلاقي للمجتمع وبالعلاقات مع الطبيعة التي لا يمكن للقوانين العلمية تفسيرها. ويمكن النظر إلى الانتقادات الثلاثة على أنها تعبيرات عن الطريقة التي تصير بها مجالات العلم والقانون والأخلاق والفن أكثر انفصالًا عن بعضها البعض في الحقبة الحديثة، مع أن علاقاتها ببعض قد أصبحت أحد الاهتمامات الحيوية.

المثالية المتعالية

كانت «المثالية» في زمن كانط مرتبطةً بفكرة الأسقف بيركلي عن أن «الوجود إدراك»: إذا لم يُدرَك الشيء فكيف لنا أن نؤكِّد أنه موجود من الأساس؟ لكن كانط يصرُّ على أن مثاليته «المتعالية» هي في الواقع نوع من «الواقعية»؛ لأنها تفترض أن الأشياء توجد بصرف النظر عن إدراكنا لها، ولذلك ربما يبدو معنيًّا بمواقف متناقضة أو متعارضة. وهذا الانطباع تعزِّزه حقيقة أن غاية المثالية المتعالية هي إعطاء أساسٍ «للموضوعية» بلغةِ «الذاتية»، فالحتميات الموضوعية لقوانين الطبيعة تعتمد على «شروطِ إمكانٍ» ذاتيةٍ للمعرفة، هذه الشروط هي ما يعنيه الجانب «المتعالي» من نظرية المعرفة الخاصة به. فالشروط ذاتيةٌ؛ لأنها نتاج تفكيرنا، لكنها يجب أن تنطوي على الحتمية، لا أن تكون اعتباطية على غرار الآراء الذاتية. ومن ثَمَّ، يريد كانط أن يشرح كيف تعتمد المعرفة على أثر العالم علينا وعلى الطرق التي ينظِّم بها العقل ذلك الأثر، مستشهدًا في ذلك بقوانين الحركة لنيوتن.

إن المشكلة الأساسية أن ما ينتمي إلى الجانب الذاتي وما ينتمي إلى الجانب الموضوعي للمعرفة كان إحدى القضايا الأكثر جدلًا في الفلسفة الحديثة، ولا يزال كذلك. فبعض الفلاسفة هذه الأيام يظنون، على سبيل المثال، أن العقل هو جهازٌ يشغل البرنامج اللازم للتفكير، حتى إنه يمكن أيضًا إنشاء مثيل للبرنامج بواسطة آليات الكمبيوتر؛ وبذلك يمكن للجانب الذاتي للمعرفة أن يُفسَّر بطريقة سببية. وعلى الجانب الآخَر، يوحي «القَصْدُ» — الذي يعني أن التفكير يكون «في» أشياء بعينها — بأن الشيء الذي يُدرِكُ عالَمًا من الموضوعات لا يمكن أن يكون هو نفسه موضوعًا كالموضوعات التي يُدركها، وهذا أمر فاصل بالنسبة لكانط. فالجانب القَصْدي يسمح لنا بإنتاج أحكام مختلفة عن شيء ما، الأمر الذي قد «يُنظر إليه باعتباره» عددًا ربما لا نهائيًّا من الأشياء. ومهما تكن حقيقة الحجج الفلسفية هنا، فإن المواقف المتخذة فيما يتعلق بها تؤثِّر على طريقة تفكير البشر في أنفسهم.

فلماذا إذن سِيق كانط إلى مذهب المثالية المتعالية من الأساس؟ السبب مُضمَّن في قولته المأثورة: إن «الأفكار دون مضمون فارغة، والأحداس دون تصورات عمياء»، فالأولى هي الأفكار («الدوجماتية») كتلك المتعلقة بطبيعة الإله القائمة على مجرد تصوُّرات استُخدِمَتْ للحديث عن الإله مثل «الوجود الحتمي» و«الكمال» وما إلى ذلك. «والأحداس» — وهي بالألمانية Anschauungen المشتقة من anschauen بمعنى «ينظر إلى» — هي مادةُ إدراكاتِنا التي يمكن استخدامها كدليل تسويغي. ودون طرقٍ لتنظيم الدليل عن طريق التعريف به بلغة التصورات سيواجه المرءُ تفاصيلَ فوضويةً لا نهائية؛ فما ندركه يختلف دومًا من لحظة إلى لحظة في جانبٍ ما مهما يكن ضئيلًا، ولا يوجد موضوعان متطابقان على نحو قاطع. وعلى الرغم من أن كانط يريد الاحتفاظ بما يقترحه منفصِلًا عن علم النفس، فإن الأبحاث النفسية في الإدراك تثبت أن ما نراه يتشكَّل من خلال تراكيب تصوُّرية نمتلكها بالفعل. وعلى الرغم من المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين معطيات الإدراك وتفكيرنا، فإن كانط لا يشك في أن المعرفة العلمية ممكنة؛ ولذا فالمهمة هي الوقوف على ما يجعلها ممكنةً. إن التماثُل ليس بالأمر الوارد في عالم المعطيات الإدراكية، الذي لا يمكن أبدًا إظهارُه على أنه متطابِق تمامًا ويقع في أماكن وأوقات محدَّدة؛ ومن ثَمَّ فالمثالية المتعالية تزعم أنه يجب أن توجد قواعد عقلية لإدراك العالم، بحيث يتعيَّن أن تسير الموضوعات وفقًا لطرق تفكيرنا لا العكس. وقد رأى كانط هذا التغيُّر في المنظور باعتباره «تحوُّلًا كوبرنيكيًّا»؛ مماثِلًا لما فعله كوبرنيكوس عندما قلب علم الكونيات البطلمي رأسًا على عقب وقال: إن الأرض ليست مركز الكون.

ويسمِّي كانط القواعدَ العامة لفهم الموضوعات «مقولاتٍ»، وهو مصطلح أخذه عن أرسطو الذي نظر إلى المقولات باعتبارها تحدِّد الطرق التي يمكن أن يُعبَّر بها عن الأشياء. وبالنسبة لكانط تحدِّد المقولاتُ «تصوراتِ أي موضوعٍ بوجه عام»، الأمر الذي لا يمكن استمداده من النظر إلى العالم. ومقولات الوحدانية والتعددية هي أساس ما يصطلح كانط على تسميته «الأحكام التركيبية القَبْلية»، وهذه هي الأحكام الرياضية التي كان يُظَن من قبلُ أنها بديهية، لكن يرى كانط أنها تثبت كيف استطاع العقل أن ينمي معرفته عن طريق التفكير المحض. فالعدد ٤ لا يمكن تعريفه مثلًا على أنه ٢ + ٢ فقط؛ لأنه يمكن أيضًا أن يكون مركَّبًا من ٣ + ١ و٤ + ٠ ومجموعات أخرى لا نهائية، من قبيل ٣٫٣٣٣٣ + ٠٫٦٦٦٧، وكلها يمكن أن تزيد معرفتنا بالعدد ٤. (ومن القضايا التي لا تزال محلَّ نزاعٍ حقيقة ما إذا كان يجب التفكير في هذه التراكيب على أنها بالفعل «مضمَّنة في» ٤، حتى إذا لم نكن نحسبها.) وتقدِّم مقولة السببية أفضل طريقة لفهم حجته بشكل عام؛ فإذا كنتُ أظنُّ أنَّ شيئًا علَّةُ شيءٍ آخَر، فسوف أحكم بأن الحدث (ب) يتبع بالضرورة الحدث (أ)، وما أدركه أنا هو (أ) ثم (ب): والتفكير فيهما على أنهما مرتبطان بطريقةٍ سببيةٍ يتطلَّب أكثرَ من تعاقب حدث على آخَر؛ فهو يتطلب كلًّا من مقولة السببية والقدرة على الحكم بأن ارتباط الحدث (ب) مع الحدث (أ) السابق عليه ارتباط ضروري. ويركِّب الحكمُ على نحوٍ فاعلٍ الأجزاءَ المختلفة للتجربة الإدراكية في علاقةٍ بعضها مع بعض. ويرى كانط الأحكام على أنها «تلقائية»: بمعنى أنها — خلافًا لكل شيء في عالم الطبيعة — ليست مسبَّبة عن شيءٍ آخَر. والأحكام تقتضي منَّا اتخاذ موقف بشأنِ إن كان شيء ما هو الواقع القائم أم لا؛ فمادة الإدراك تعطيها لنا «القابلية السلبية للتلقي»، والمعرفة تنتج من التطبيق الفاعل للمقولات والتصورات على تلك المادة. ولعل كانط بطريقة مذهلة (ومحل تساؤل) يصرُّ على أن المكان والزمان هما إطار يقدِّمه تفكيرنا، وليسا خاصيتين للعالم الموضوعي؛ وهذا لأننا إنما ندرك الأشياء في مكان وزمان محدَّدين، حيث لا توجد طريقةٌ لإدراك الأشياء «كلها دفعة واحدة». والحاجة إلى التركيب تأتي بسبب أن التجربة تقع داخل هذا الإطار المحدد، وعلى التفكير أن يربط اللحظات المختلفة للتجربة ليجعلها مفهومة.

الذات الحديثة

يعتمد البناء الكامل لتوصيف كانط للمعرفة على ما يسمِّيه «الوحدة التركيبية للإدراك الواعي». و«الإدراك الواعي» هو القدرة على تأمُّل المرء في أحكامه: بمعنى أنني يمكنني أن أدرك عن وعي بعد ظهيرة اليوم حقيقةَ أنني فكَّرْتُ هذا الصباح في أيام عطلتي؛ ومِن ثَمَّ فقد كنتُ حتمًا موجودًا في لحظة التفكير بشأن أيام عطلتي، وفي لحظة التفكير بشأن التفكير فيها. وهذا التتابع «التركيبي» لذاتي هو أساس الذاكرة. ودون وجود ما يربط لحظاتِ التجربة — والذي يجب من وجهة النظر المنطقية أن يكون هو الشيءَ نفسَه في كلتا اللحظتين — لن توجد طريقةٌ لجمع ما هو مختلف معًا؛ ومن ثَمَّ يقول كانط إنه «يجب أن تكون «أنا أفكِّر» قادرةً على مصاحبة جميع تمثيلاتي.» ولكن الشق المنطقي يمكن أن ينطوي على شيء أكثر تأكيدًا؛ ففكرة العالم المتسق الآن تبدو هي نفسها معتمِدة على وحدة الذات، ومن ثَمَّ يمكن التفكير في هذه الوحدة بطريقتين: الأولى تتضمن فقط الشقَّ المنطقي المبيَّن توًّا، أما في الثانية فيمكن تضخيم الوحدة إلى فكرة النفس باعتبارها «النور» الذي يجعل العالم مفهومًا. وستحظى هذه الحالة الازدواجية للنفس بأهمية بالغة في الفلسفة الألمانية اللاحقة.

تنطوي الحداثة على زيادة هائلة في قدرة الإنسان على تحصيل المعرفة والسيطرة على الطبيعة، وإذا كان أساس هذه القدرة هو حقًّا فاعلية الذات، فمن الممكن إذن رَبْط المشكلات التي تجلبها التغيُّرات العلمية والتقنية بالتفسيرات المختلفة للذاتية. ولأن الذات متناهية وفانية، فإنها تعتمد بطبيعتها على كونها كائنًا طبيعيًّا، ويمكنها أيضًا في الوقت نفسه الهيمنة أكثر فأكثر على الطبيعة الخارجية والداخلية، وربما تؤدي الهيمنة على الطبيعة عندئذٍ إلى محاولات كارثية للتغلُّب على اعتماد الذات على الطبيعة. وعلاوة على ذلك، فإن الذات تبدو في الوقت نفسه جزءًا من الطبيعة الفيزيائية، ولكنها أيضًا ليست جزءًا من الطبيعة؛ لأنها تتمتع بحرية أخلاقية في مقاومة دوافع طبيعية. ويتصدى كانط للإشكاليات التي تنشأ من هذا الوضع الثنائي؛ ومن ثَمَّ يمكن أن تُقرَأ الطُّرُق المتناقضة التي فُسِّرت بها أقوال كانط على أنها تعبيراتٌ عن الطبيعة المنقسمة لرؤية البشر لأنفسهم في الحداثة.

الأشياء في ذواتها

إن الانقسامات في الوجود البشري الحديث هي العنصر الأكثر تجليًّا في تأملات كانط عن الحرية، وتعتمد هذه الانقسامات على تمييزه بين الكيفية التي يظهر بها العالم وكينونة العالم «في ذاته»، وبين العالَم باعتباره «ظاهرةً» والعالم باعتباره «شيئًا في ذاته»؛ فكل شيء في العالم الظاهر خاضع للقوانين الحتمية، بما في ذلك عقولنا وسائر أجسادنا. وفي الوقت نفسه، عندما نقاوِم نزغات غرائزنا التي يمكن تفسيرها على نحو سببي، فنحن نتصرَّف وفق «سببية نابعة من الحرية»؛ فنحن نمنع أنفسنا من فعل شيء لأننا نظن أنه خطأ. وينعكس الجانب غير المعقول من رؤية كانط في حقيقة أن تلك القرارات لا تقع في مكان وزمان؛ لأنَّ كلَّ شيء يقع خاضِعٌ للقوانين الحتمية. أما الجانب المعقول في هذه الرؤية، فإنه ينعكس في حقيقة أن المجتمعات تُحمِّل أفرادَها مسئوليةَ ما يفعلون، ما لم يتأتَّ إظهار أنهم أُكرِهوا على فعله من خلال قوًى خارجة عن نطاق سيطرتهم.

ويرانا كانط أحرارًا «في ذواتنا»، لكن وفقًا للكيفية التي تحدِّدنا بها القوانين الطبيعية على أننا موضوعاتٌ ظاهِرةٌ في الطبيعة. ومع ذلك، فمعنى «الشيء في ذاته» مشاعٌ عنه الغموض؛ فلا يمكننا أن ندرك كلَّ ما يتعلق بموضوعٍ ما دفعةً واحدة، ولذا ربما يعني إجمالي أوجه الموضوع، ولكنه يمكن أيضًا أن يعني أن الطبيعةَ الحقيقيةَ للأشياء مخفيةٌ في جوهرها؛ لأننا إنما نصل إلى الأشياء «بالنسبة إلينا». ويوحي هذا الغموض بشعورٍ حديثٍ بعدم الارتياح بشأن مكان الجنس البشري في الطبيعة. وربما يمكن للمعرفة البشرية الوصول إلى الطبيعة بصورة احتمالية — إن لم تكن فعليةً — في جميع جوانبها، إلا أنه يُحتمَل أيضًا أن المعرفة العلمية تحجب أو تُحدِث طُرُقًا نخفق بها في فهم الطبيعة. وتوجد مجموعة من أهم العلاقات الإنسانية بالطبيعة لا تعتمد على معرفة القوانين السببية، ولكن ربما تكون لها صلة — على سبيل المثال — بالكيفية التي يمكن بها للطبيعة أن تكون مصدرًا للتجديد الروحي، أو أن تكون شيئًا يُصَان ضد صروف التكنولوجيا وسلبياتها. ويرجع السبب في نشأة هذه الأفكار إلى أن ثَمَّةَ علاقة فيما يبدو بين حرية الإنسان والشعور بجانب لا يمكن معرفته من الطبيعة: فلا الحرية ولا الطبيعة في ذاتها جزءٌ من عالم الظواهر.

العقل والحرية

يدرك كانط أن المرء لا يمكنه ببساطة أن يستبعد القضايا التي تثيرها «الميتافيزيقا»؛ أيْ وَضْع صورة عامة عن الكيفية التي يتشكَّل بها العالم. ومهمة «العقل»، في مقابل مهمة «الفهم» المعرفي، هي إرساء مبادئ تجعل أفكارنا مترابطةً. واكتشاف المزيد دومًا من القوانين الجديدة للطبيعة لا يخبرنا عن ماهية ارتباط هذه القوانين بعضها ببعض؛ ولأجل ذلك يحتاج المرء إلى «فكرة» أن جميعَ الظواهر الطبيعية محكومةٌ بقوانين وتؤلِّف نظامًا كليًّا، وهو ليس بالأمر الذي يمكننا التأكُّد منه. وللأفكار مكانة تنظيمية؛ فنحن نحتاج إليها لترتيب الأفكار عن الأشياء بوجه عام، لكن ما تزعمه ليس «جوهريًّا»؛ لأن ذلك سيتضمن زعمًا من النوع الذي يرفضه كانط باعتباره «دوجماتيًّا». ومن ثَمَّ، فجميع التساؤلات المتعلقة بالطبيعة المطلقة للأشياء تصبح مستعصيةَ الإجابة، لكنَّ هذا — كما يصرُّ كانط نفسه — لا يتخلَّص من الدافع لطرحها.

في النقد الأول، يُثبِت كانط — الذي كان هو نفسه مؤمنًا — على نحوٍ هادِم أن البراهين الفلسفية على وجود الإله غير صحيحة؛ ومن ثَمَّ فالدِّين يجب أن يكون مسألةَ إيمانٍ لا معرفةٍ. فأين يدع ذلك الأسئلة «الكبيرة» عن معنى الحياة؟ ترجع صرامة بعض ما توجَّبَ على كانط أن يقدِّمه هنا إلى القيود التي لاحظناها، ويُعَدُّ النقد الثاني وكتاب «أساس ميتافيزيقا الأخلاق» محاولتين لإعطاء أساس للأخلاق دون الاحتكام إلى السلطة الإلهية. وليس بالضرورة أن يكون الاعتقادُ الذي لا يزال شائعًا بأن الأخلاق تحتاج أساسًا مطلقًا من النوع الذي يقدِّمه علم اللاهوت؛ مقنعًا. ولعل كل ما يحتاج إليه المرء من دافع للتصرُّف بأخلاقية هو إدراك أن الآخَرين يمكن أن يعانوا مثلما يعاني. ورغم ذلك، يظل كانط مهتمًّا بإعطاء تبرير حاسِم للمعايير التي يستخدمها المرء للحُكْم على ما ينبغي أن يفعله؛ لأسبابٍ أهمها أنه يرى ضرورة الحصول على طرق لتبرير العقوبات القانونية على الذين لا يطيعون أمر التصرُّف على نحوٍ أخلاقي. والشيء المذهل فيما يقترحه هو أنه لا ينطوي على وصايا أخلاقية ملموسة.

من المعروف عن كانط أنه يرى أن «الإرادة الخيِّرة» وحدها يمكن اعتبارها خيرًا دون قيد؛ فأي شيء نعتبره خيرًا في العالم التجريبي يمكن في ظروف أخرى أن يتحوَّل إلى شرٍّ، أما الإرادة فتقع خارج الطبيعة، حيث كلُّ شيء مُسبَّبٌ عن شيء وسببٌ لشيء آخَر. ومع ذلك، فخيرية الإرادة الخيِّرة لا تعطي أيَّ توجيهٍ فيما يتعلَّق بما ينبغي في الواقع أن نفعله، وما نفعله يعتمد على «أوامر»، فإذا كنَّا نرغب في تحقيق هدف، فعلينا أن نَنْشُدَ الوسائلَ لتحقيق ذلك الهدف، وهذا يقتضي أوامر «افتراضية»، لكن هذه ليس لها مضمون أخلاقي بالضرورة؛ لأنها يمكن أن تتضمن إرادةَ الوسيلة لقتل شخصٍ ما. وتعتمد الأخلاق بدلًا من ذلك على «الأمر المطلَق»: «عليَّ ألَّا أتصرَّف إلا على النحو الذي يمكنني أيضًا أن أريد به لمبدئي أن يصير قانونًا عالميًّا.» لا يُملي كانط على المرء ما ينبغي أن يكون عليه مبدأُ تصرُّفِه، وهذا هو صلب الموضوع؛ فعلى الأفراد أن يقرِّروا أساسَ تصرُّفاتهم، لا أن يتركوها تُفرَض عليهم، وإلَّا فهم فاقدون لما يميِّز ما نفعله عمَّا يحدث في عالم الطبيعة. والاستقلال الذاتي لا يكمن في قدرة المرء على فعل ما يشتهي (ومن ثَمَّ يكون عبدًا لشهواته كما رأى روسو)؛ بل في القدرة على التصرُّف حسب المبادئ المختارة على افتراض أننا ينبغي ألَّا نمنح أنفسنا ما لا نمنحه للآخَرين.

إن استراتيجية كانط هي الإشارة إلى الطرق التي نقرُّ من خلالها بإنسانيتنا المشتركة، مثل مشاركة القدرة على ضبط النفس وفق مبادئ لا تُملِيها المصلحة الشخصية. وربما يبدو هذا ساذجًا: فكيف نعرف ما إذا كنَّا في الحقيقة نتصرف على نحو مستقلٍّ أم لا، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى قدرتنا على خداع النفس؟ يوافِق كانط على أننا لا يمكننا معرفة هذا، وكل ما يمكن الاحتكام إليه هو شعور بأن لدينا «فكرة غرض آخَر أكثر قيمةً للوجود» مما تحكمه السببية الطبيعية. وهذه الفكرة يمكن أن تقودنا إلى إدراك أن الكائنات العاقلة الأخرى ينبغي ألَّا تكون مجرد وسيلة لغاياتنا؛ فالكائنات العاقلة لديها قيمة أصيلة، وهي «الكرامة»، والتي هي أمر لا يُقدَّر ﺑ «ثمن»؛ لأنها غير قابلة للمبادلة بشيء آخَر.

إنَّ احتكام كانط لإنسانية مشتركة يبدو ساذجًا في ضوء ما تتسم به الحداثة من الاستغلال والحرب شبه المتواصلة والقتل الجماعي المستند إلى دوافع عِرقية، وسوف ينتقد هيجل مبدأ «الأمر المطلق»؛ لافتقاده أيَّ جذور في العادات والممارسات الأخلاقية التي تتطوَّر في المجتمعات التاريخية الواقعية. ومع ذلك، فإن تلك الانتقادات لم تجعل مطالبات كانط بالعالمية ضربًا من التكرار؛ فدون المطالبة بفكرة عالمية للإنسانية، يكون القانون الدولي مفتقرًا لوجود مبدأ مؤسِّس. وفي أعقاب النازية، صارت فكرة «الجريمة ضد الإنسانية» ضروريةً في القانون الدولي، وبالطبع يمكن أن يكون تنفيذ القانون الدولي صعبًا على نحوٍ باعث على اليأس، إلا أن جزءًا من غرض كانط من فصل العالم التجريبي عن عالم الحرية، هو الإبقاء على فكرة أنه لا يمكن أبدًا اختزال الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء في الكيفية التي كانت ولا تزال عليها. وغالبًا ما يُنتقَد موقفه من وجهة نظر فلسفية؛ لأن هذا الفصل يتطلَّب فكرة عالم «معقول» من الحرية خارج المكان والزمان. لكن المشكلة الفلسفية في تأسيس نظرية مُتفَق عليها بشأن تلك الأمور لم تُدمِّر فكرة الإنسانية باعتبارها تمتلك حقوقًا متساوية؛ وذلك استنادًا إلى فكرة القدرة الكامنة للبشر على الاستقلال.

الطبيعة والجمال والحرية

يكشف كانط الصعوبات ويطرح احتمالات جديدة تتعلق بكيفية اتصال البشر بالطبيعة، فإذا كانت الطبيعة هي خَلْقَ الإله، فإن محدودية معرفتنا بها ترجع إلى محدودية قدرات الإنسان وعدم معصوميته من الخطأ، أما العلم التام فيُفترَض أنه لدى الإله. ومن ثَمَّ تعتمد الاستجابات الأخرى للطبيعة، كالاستجابات الجمالية، على فكرة أن عجائب الطبيعة وأسرارها تتعلق بالأصل الإلهي لها، كما هو مطروح في فكرة «كتاب الطبيعة»، وإذا لم يَعُدْ لتلك التصورات اللاهوتية أيُّ دعم فلسفي؛ فإن علاقة البشر بالطبيعة تُصبِح مشكلةً. في «النقد» الأول، الطبيعة هي مجرد منظومة من القوانين الحتمية، ولا يمكن أن تُطرَح هنا تساؤلات عن الدلالات الأخرى للطبيعة؛ لأن كلَّ ما يمكننا قوله عن الطبيعة يعتمد على تطبيق المقولات والتصورات على الأحداس. وبالمثل، فإن التصورات «المادية» أو «الفيزيائية» الفلسفية الحديثة تحصر التفسيرات الصحيحة في التفسيرات التي تقدِّمها العلوم، أما الظواهر التي تبدو خارج نطاق التفسير العلمي، مثل الوعي أو المتعة الحسية، فستحظى في النهاية بتفسيرات محكومة بالقانون.

ويرجع أحد أسباب عدم تبنِّي كانط هذه الرؤيةَ الاختزاليةَ إلى أنه حتى المعرفة الكاملة نظريًّا بالطبيعة لا تؤسِّس «غرض» هذه المعرفة. فما هو الغرض من رؤيةٍ موضوعية بالكامل للوجود بالنسبة لبشرٍ واقعيِّين في المواقف الحياتية الملموسة؟ وفي النقدين الأولين، يفصل كانط جذريًّا المعرفي عن الأخلاقي؛ وهذا يؤدي إلى القلق من أن الطبيعة هي حقًّا مجرد آلة محكومة بالقانون. وهنا تنشأ فكرة «العَدَمية» الحديثة، التي هي نتاج فكرة أنه لا توجد قيمة في أي شيء يحدث في الطبيعة؛ لأن الأمر ليس سوى سلاسل من الأسباب لأسبابٍ أخرى. وقبل كانط لم تكن تلك الهموم مُلِحَّةً؛ لأنه كان يُفترض أن الأشياء في الطبيعة لها غاية — «علة غائية» — تتطور باتجاهها. والمزاعم الوضعية بشأن الغائية في الطبيعة «دوجماتية»؛ لأنه لا يمكن تقنينها كمعرفة. لكن كانط لم يكن يرغب في التخلي عن الغائية، وطريقته لمحاولة الإبقاء عليها في النقد الثالث لا تزال محل خلاف؛ فهو يربط الغائية بالجمال الطبيعي والفني.

وعلى الرغم من أن موقفه هنا مُشْكِل جدًّا، فهو تعبير تاريخي مهم آخَر عن تغيُّر الطريقة التي يفسِّر الناس بها العالم. وأثناء النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مرَّ تقدير جمال الطبيعة بتحوُّل جذري في العالم الغربي؛ فبعد رؤيته على أنه تهديد، صارت الطبيعة البرية — مثل جبال الألب — يُنظَر إليها على أنها مورد ذو قيمة؛ لأننا لا يمكننا السيطرة عليها بصورة تامة. فالطبيعة أصبحت ذات قيمة في ذاتها، والعلاقات الأخرى بالطبيعة خلاف المعرفية أو اللاهوتية أصبحت مهمة، وهذا التغيُّر هو جزء مما يُمهِّد لنشأة علم الجمال الحديث. ويربط كانط الجمال الفطري للعالم الطبيعي بالجمال الفني وبالاستجابات غير المعرفية للطبيعة، فشكل الموضوع الطبيعي ليس شيئًا تفسِّره القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تحكمه؛ لأنه يعتمد على العلاقة التبادلية للمكونات المختلفة للشيء. ويزعم كانط أن التماسك العضوي للأشياء في الطبيعة يعني أن الأمر «كما لو أن عقلًا قد اشتمل على أساسِ وحدةِ تعدُّدية القوانين التجريبية [للطبيعة]». وهذه طريقة لاهوتية غير مباشرة للإبقاء على الغائية، رغم أن كانط يقرُّ بأن المرء لا يمكنه معرفة إن كان ذلك «الفهم» موجودًا أم لا. والشيء الأقل خلافًا هو اقتراحه أن المتعة التي ينبغي الحصول عليها من تأمُّل شكل الكائنات الحية في الطبيعة تجبرنا على التفكير بطريقة لا يمكن اختزالها في قوانين علمية.

إن الهدف من كتاب «نقد الحكم» هو البحث في كيفية عمل الحكم «وفق مبدأ ملاءمة الطبيعة لقدرتنا على المعرفة»؛ ومن ثَمَّ، فالمقصود من النقد هو تقديم مبدأ وحدة الجنس البشري والطبيعة المُفتقَد في النقدين الأولَين. ويتيح لنا هذا المبدأ فهم الموضوع الطبيعي ككلٍّ، بدلًا من مجرد تحليل أجزائه، ويتضح في تمتعنا بشكل الموضوعات الطبيعية. وهذه الفكرة مرتبطة بكلٍّ من قدرتنا على الانتقال من فهم الجزئيات إلى صياغة القواعد التي تحكم تلك الجزئيات، وبفكرة أن تقدير الفن ليس ذاتيًّا فحسب؛ فبينما يئول تفضيلُ نوع من الخمر على آخَر إلى ما هو «ملائم» لي أو لك، فإن الأحكام على الجمال تنطوي على الزعم بأن الآخَرين ينبغي أن يوافِقوا على الحكم نفسه. ويعتقد كانط أن ذلك الاتفاق الضمني يشير إلى «شعورٍ عامٍّ» ضمنيٍّ يمكِّننا من مشاركة عالم يمكننا إدراكه بالطريقة نفسها، وهنا يصبح المعرفي والجمالي متلازمين.

من الأمور المحورية في تصوُّر كانط مفهوم «الفكرة الجمالية»، وهي: «تمثيل للخيال يعطي المرءَ الكثيرَ للتفكير فيه، لكن دون وجود أفكار معينة مسبقة؛ أي «تصوُّر» قادر على أن يكون ملائمًا له.» وترمز تلك الأفكار إلى ما لا يمكن للمعرفة الوصول إليه بطريقة أخرى، مثل فكرة الحُسْن، فالوصول إلى الأفكار العليا التي تشير إلى شعور إنساني مشترك بالقيمة لا تصوُّري؛ لأنه لا ينطوي على تطبيق قاعدة على حدس. وبالمثل في تجربتنا مع «السامي»، عندما نتأمل ظواهر طبيعية مُهدِّدة، مثل البرق والبراكين والأعاصير من موضع أمان، فإننا ندرك طريقة أخرى للارتباط بالطبيعة لا يحدِّدها ما نستطيع معرفته. والطبيعة هنا تقهر قدرتنا على فهمها، ويرى كانط أن فكرة الحرية واضحة في شعورنا بحدود ما يمكننا فهمه عقلانيًّا وتجريبيًّا.

قد يبدو كانط فيلسوفًا عقلانيًّا إلى حدٍّ مفرط، يترك مساحةً قليلة جدًّا للاهتمامات التي تعطي معنًى لحياة الناس، لكن في تعيينه لحدودِ ما يمكن للفلسفة أن تزعمه بطريقة مبررة، فإنه يكون مدفوعًا أيضًا باتجاهٍ يتجاوز تلك الحدود. وتكمن أهمية الأفكار التي يُعتزَم تناوُلُها في الفصول التالية في الكيفية التي تساعدنا بها على فهم ما صار أهدافًا مهيمِنةً للعالم الحديث، وأُفول فكرة أن الأهداف الأهم متأصلة في نظام العالم نفسه؛ يعني أن مهمة تأسيس الأهداف تقع صراحةً علينا. فالمعارك الأيديولوجية الكبيرة إبَّان الثورة الفرنسية، التي أدَّت إلى تطور الديمقراطية الحديثة، وإلى كوارث الحداثة التي تمثِّلها النازية والستالينية؛ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقصة الفلسفية التي رأيناها تبدأ بإصرار كانط على استقلال البشر.

هوامش

(1) © akg-images.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤