خطايا

في ذاك الليل الغريب الذي يتفتح على خلاياي، كنتُ أجلس في الساحة الواقعة أمام المطعم، أنتظر مديري ليأخذني إلى سكن العاملين، فوحدَه مَن يعرف حقيقة أمري، تأخر قليلًا فأخذتُ أستعيد لحظاتي الجامعية والسنوات الفائتة التي تنبعث منها رائحةُ الطيش والرعونة.

تملَّكني ذعرٌ شديد من أن تُداهم سيارةُ شرطة المكانَ، ويأخذوني إلى السجن فلا يعود للعائلة من مُعيل، وراحَت تتطاير أفكاري اليائسة وتحوم في نسيم هذا الليل من حولي .. كان يجب ألَّا آتيَ إلى هنا ولْأَنتظر أية وظيفة قذرة .. في غمرة ما أحياه من تخوُّفٍ تَهجمُ مثلُ هذه الهواجس وتُشعل فتيلةَ الخيالات المروعة، وما تلبثُ أن تنطفئ إذ تأتي «ديفال»، فهي وحدها القادرة على تخدير عقلي وترويض هواجسي.

انتابني فضولٌ فادح لأنظر إليها في الوراء، وأرى ماذا تفعل تلك الشقراء الروسية التي تبعثُ في ذاك التحفُّز الغريزي المجنون لأقتربَ منها حدَّ الالتصاق .. ترددتُ قليلًا وعقدتُ حاجبيَّ جديًّا لأدع الأمور تجري وتنساب على مهل، كما أنني أحب هذا النوع من المماحكة النسائية الجميلة ولاسيما إن اندلعت من امرأة محترفة مثل ديفال.

شعرتُ بالوقت بطيئًا جدًّا إلى أن تركَت لصوتها الرقيق حرية الانسياب: تبدو نزقًا إلى حدٍّ ما.

ذُهلتُ أول الأمر فنادرًا ما يتدخَّل أحدٌ في شئون الآخر هنا، في حيفا مجمَّع الغرباء، وبعد قليل من الصمت ابتسمتُ وقلتُ في محاولة لاستثارة فضولها: قليلٌ من الشرود وحسب.

وقفتُ بمحاذاتها أنظر في وجهها الحائر وسط هذا الليل الذي يطيب فيه الهواء، وكانت النسمات الرهوة تُداعب شعرها الأشقر، وعنقها يشعُّ متوهجًا .. رمقَتني بنظرة مسروقة وما لبثَت أن أدارت وجهها الشفاف المتألِّق. حرَّكَت في أعماقي موجةً عاتيةً من اللهفة المجنونة ما جعل الأمور تبدو أكثر وضوحًا؛ لأجترعها على مهل، وأنبسُ بكلمة لتشقَّ الطريق إلى ما يريده كلانا: أوشك الفجر على الانبلاج .. قد تتأخرين.

أزاحت بضع شعرات عن عينها الزرقاء، وارتسمت بسمة خفيفة على ركن شفتَيها، ثم قالت: ذهب زوجي في مهمة وقد يغيب أسبوعًا عن المنزل.

نظرتُ متوترًا إلى الخلف ورحت أجوب المكان بعيني باحثًا عن المدير، وباندفاعٍ مرتبك اقتربتُ منها وتقلَّصَت المسافة بين عينَينا حتى أحسستُ بأنفاسها الحارة تغسل خدِّي، وهمستُ: هل نتجول قليلًا؟

ودون أدنى إجابة مشينا في شوارع المدينة التي تسترخي ببطء وكأنها تذوب في الليل، وعدة أضواء متناثرة تتلألأ هنا وهناك، أما الخوف فقد هرب مني وسقط خلفي غير مكترث؛ فرجال الشرطة لا يقبضون عادةً على عشاق آخر الليل.

– تعرفُ أنني متزوجة، أليس كذلك؟

– وأعرف كم أنتِ ..

مرَّت دورية شرطة فلُذْتُ بالصمت قليلًا وابتلعتُ ريقي، ثم حاولت أن أكون طبيعيًّا حتى لا تُدركَ شيئًا عني، رمقَتني بنظرة تكسوها بسمةٌ خبيثة وهي تقول: تبدو خائفًا … هل أنت عربي؟

– أبدًا. ولكن أنا .. لا، لا شيء.

ترددتُ قليلًا وانسلَّ الخوف إلى أضلعي وأطرافي، واجترعتُ الصمت الحائر متوترًا أنتظر فرصةً ما تسنح لي بالتهرُّب منها والاختباء ريثما يطلع الصباح، تأمَّلَت في عينيَّ قليلًا وهي تقول: لا تخَف.

– أنا مضطرٌّ للعودة .. قد نلتقي في يوم آخر.

وهممتُ بالرحيل، فأمسكَت بيدي وجذبَتني إليها لتهمسَ في وجهي: قلتُ لك ألَّا تقلق، فلن أَشيَ بك.

التفتُّ يمينًا ويسارًا وقلت برجفة في لساني: لماذا؟

– لأنني لا أحب الشرطة كما أن زوجي غائب عن البيت كما أخبرتك.

– وما شأنه؟

– العرب أقل حماقةً مما أنت عليه.

تنهدَت وهي ترمقني بنظرة مثيرة، وشعرتُ بحرارة في وجهي الذي بدأ يتعرَّق، وضعتُ يدي برفق على خصرها من أسفل ظهرها ثم نبستُ: سيطلع الصبح بعد أقل من ساعتين.

قالت مستثارةً: ألا تكفي؟

ضحكتُ وطلبتُ سيارة أجرة لتذهب بنا إلى منزلها.

•••

كان الليل قد بدأ يضمحل وبان الخيط الأبيض من الأسود، وبدَت لي أضواء البنايات باهتةً وأقرب إلى الومض الممزق. نزلنا عند مدخل منزلها، وما إن دخلنا وأغلقنا خلفنا الباب حتى اجتاحَتني دفقةٌ من التوتر الغامض مع قليل من الخوف، ورغبة حادة في الهرب، جلستُ على الأريكة وذهبَت ديفال إلى غرفة النوم.

لا أعرف ما هو ذاك الصوت الصاخب الذي كان يصرخ في أعماقي، ربما كان صوتَ أمي، وكلما هممتُ بالخروج كان ثمة ما يشدُّني إلى الأريكة، قد تكون العلاقة الأولى دومًا مرعبةً بهذا الشكل، وأنا لم أَصِل، يومًا، في أية علاقة إلى السرير .. وبقيتُ جالسًا منقبضًا، يتراءى لي شرطيٌّ سمين يخرج من خلف الباب عاريًا ويرفع لي أصبعه الأوسط .. أضحكُ من سذاجتي، أتذكَّر شهادتي، أمي، المنزل، المطعم، المدير …

ثم أطلَّت ديفال من الغرفة رشيقة وقد بدَّلت ملابسها، وكانت كفيلةً لتُجليَ كلَّ ما يجول في رأسي من هواجس، كانت مثيرةً بقميص نوم فضفاض نهدي اللون، ويمتد من منتصف صدرها إلى أعلى رِدْفَيها، تأملتُها طويلًا فاغرًا فمي محملقًا عينيَّ مشدوهًا بما أرى من شفتَيها الشهوانيَّتَين إلى عنقها الوهاج مرورًا بصدرها الناهد والذي يبرز أعلاه من فتحة قميصها الرخوة، وصولًا إلى ساقَيها الممشوقتَين.

اقتربَت لتجلس بجواري، كانت تُحرِّك شفتها السفلى المتهدلة بشكل مثير، وتحدِّق في وجهي المرتبك، فتحفَّزَت أعصابي وأدركتُ أمام سلطة جسدها كم أنا ضعيف!

وبعد هذا الاجتياح المثير بمفاتنها تناثر ضبابٌ مشوش في ذهني ولم أَعُد أرى إلا الطريق القصير إلى السرير، ومثل حفيف ثعبان همسَت في أذني فيما كان هواء فمها الحار يمسح أذني: أنت تُكثر من الشرود والتفكير.

ثم اقتادتني إلى السرير وأنا في غاية من الاستسلام. وهناك بدأ كلُّ شيء وانتهى في بضعة دقائق.

ارتميت على السرير وذهبت ديفال إلى الحمام.

•••

خرجَت من الحمام وهي تجفف شعرها وجسدها، ثم اتجهت إلى خزانة ملابسها دون أن تكلمني، فقد مضى كلُّ شيء بسرعة فائقة. أما أنا فقد انطفأتُ تمامًا، ارتديت ملابسي وقلت بتردد: لنا لقاء آخر.

لم أكن متأكدًا من أني أريد اللقاء الآخر، ولكن كان يجب أن أقول أي شيء لأُهدِّئ من روعها. اقتربتُ أكثر فشاهدتُ في خزانتها قميصًا رسميًّا وبطاقةً ملتصقة بأيسر القميص من الأعلى مكتوبًا عليها بالعبرية، سألتُها عنها فأجابَت ببرود: إنها ملابس زوجي، ألم أُخبرك بأنه ضابط في المخابرات؟

أجبتُها وكأن الأمر لا يعنيني: على الأقل ليس في الشرطة.

خرجتُ صوب الباب، تبعَتني لتفتح لي، سمعنا صوت محرك سيارة، ذهبت مسرعةً إلى النافذة المطلة على الشارع، وعادت هلعةً لتُخبرني بأنه زوجها وقد وصل على حين غرَّة، ولم يكن مني إلا أن أندفع مجنونًا إلى الباب الخلفي، فأسرعَت صوبي وشدَّتني من قميصي وهي تتلعثم: مهلًا .. ولكن .. حسنًا، ثمة مركز شرطة في نهاية هذا الشارع.

تراجعتُ عدة خطوات ثم تسمَّرتُ مرتجفًا في مكاني، وشعرتُ بشيء جنوني يحدث لي لأول مرة، وكل الأشياء الفوضوية صارت تسير في خطٍّ واحد؛ الدراسة، غياب الوظيفة، أمي، المطعم، تصريح العمل، الشرطة، رجل المخابرات .. كلها في خطٍّ واحد تطفو فوق كل شيء ثم تعلو وتنقضُّ منفجرةً على قلبي تمامًا. كنت ألهثُ خوفًا، والعجز اللعين يقتل كل الحلول الممكنة التي بدَت مريبة وتبعث في وجداني ذاك الحقد الأسود على كل شيء.

أن أقف على مفترق مأزقَين: التورط برجل مخابرات أم بدورية الشرطة؟

أما ديفال فقد جلبَت لي قميصَ زوجها وقدَّمَته لي، فلا أحد، كما قالت، يفتش رجال المخابرات، أخذتُه من يدها وارتديتُه سريعًا حائرًا فيما يجري، عدَّلَت لي قبة القميص فكادت تخنقني ومسحَت بيدها بطاقة المخابرات، ثم لُذتُ بالفرار من الباب الخلفي لأسمعَ صوتها يلحقني: لا تنسَ لقاءنا القادم .. وقد غدَا الآن أكثر أهميةً!

وبعد عدة أيام اتصلَت بي وأخبرتني بأنها وزوجها يريدان مقابلتي لأمرٍ هامٍّ للغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤