جلسة علاج

١

«الطبيب»

مع نهاية الحرب تمامًا كانت الحافلة تمشي ببطء؛ لما يصيبُ الشارع من ازدحام، وكعادتي أجلس في الكرسي الأخير وأقرأ الجريدة فيما صرَّح مسئول ما عبر المذياع أن زمان العنف والحرب انتهى، تردَّدت الأصوات والهتافات في الحافلة وامتدَّت إلى الشوارع والأرصفة التي مررتُ بها لاحقًا.

صدحَت المآذن تُكرِّر، وأحاديث المقاهي بملء الأفواه تعلو، النادل يكرر والزبون والعامل والفلاح والطالب والمثقف، نشرات الأخبار تعيد وتكرر: «هُزمت الحرب .. وانتصرنا.»

تكاد العبارة تقتحم كلَّ شبر أدركَتْه الحرب في البلاد، أما أنا فلم أزَل هناك في المقعد الخلفي ولا أعرف تمامًا لماذا بدأتُ أشعر بمغصٍ قويٍّ في معدتي، ذاك وجعٌ يصيبني في حالات شعورية مختلفة، كأن أخلوَ مع امرأة للمرة الأولى، أو عندما أفقد عزيزًا للمرة الأولى .. أو غيرها من البدايات التي تُسبِّب مغصًا شبيهًا .. على كل حال، الآن أستطيع أن أتوقَّف عن القتال وأذهب إلى المشفى.

٢

«المصاب»

رائحة المعقمات تملأ أنفي، إبرةٌ حادة منغرسة في شريان يدي اليسرى، عتمة متواصلة، صوت خطواتٍ بإيقاع غير منسجم، تنهيدات أنثوية يبدو عليها الملل، تتردَّد وتغيب، أحاديث جانبية متقطعة، ربما أكون أنا الجانبي وهي التي تتصدَّر المشهد، لا أعرف تمامًا، فلست أرى شيئًا.

صوت الباب يُفتح، أحدهم يدخل الغرفة، بل يقترب مني أنا .. نعم الصوت قريب جدًّا، إنه يأخذ شكل الكلمات، ينطق: ألم يستيقظ بعد؟

سمعتُ صوتًا أنثويًّا مرحًا يردُّ: مبارك انتصاركم أيها الطبيب اللطيف.

شعرتُ بيده تتلمس جبيني، وأنا أعني ما أقول، يده وليست يدها، أعرف يدها جيدًا رغم أنها لم تلمسني سوى مرة واحدة كما أذكر، ولكنَّ ملمس يدها ناعمٌ جدًّا، على الأقل أكثر نعومةً من صوتها المكتظ بالحياة والعفوية والمرح، راحَ صوتها ينطلق من جديد: لم أتوقع مجيئك اليوم أيضًا، أنت طبيبٌ مثابرٌ تُواصل عملك حتى بعد سهرة طويلة كالتي حدثت في الأمس.

ردَّ عليها بصوت تغلب عليه الدهشة: حسنًا طوال الوقت وأنا أواظب على علاجه، ولكن لماذا لا آتي؟ أعني .. ما الذي حدث في الأمس؟

شعرتُ بها تقترب منه وتُزيح يده عني وهي تقول: في الأمس احتفلنا.

– حقًّا؟

– احتفلنا وشربنا نخبَ الانتصار ونهاية الحرب.

راحت الأحاديث الجانبية تبتعد عني وتبهَت إلى أن تلاشَت الأصوات تمامًا، كان يجب أن أُحسنَ السمع أكثر؛ فذاك الصوت مألوف جدًّا، أعرف صوتًا كهذا أقل رزانةً وأكثر انفعالًا، قد يكون .. ولكن لا .. لا أعرف .. هذا الصوت دافئ .. لا شيء الآن مؤكد إلا أن الحرب قد انتهت دون أن أعرف إن كنَّا قد انتصرنا أم لا، وكلُّ ما أعرفه أن لحظة النهاية دوَّت في فترة كانت فيها كفة الحرب ترجحُ لصالح الطبيب، أما ما لستُ أعرفه فهو إن كنتُ أقاتل مع طرف الطبيب أم ضده. إجابة هذا السؤال كفيلة لأعرف إن كنتُ منتصرًا أو مهزومًا.

٣

«الطبيب»

إنه يستيقظ أخيرًا.

بقيتُ طوال ذاك الصباح جالسًا بجانبه أنتظره ليفتح عينَيه؛ لأحكيَ معه، ليقول أي شيء، شعرتُ بأنه لا يريد أن يستيقظ، «هل يخاف من شيء ما؟» وبقيت سويعاتٍ منهمكًا في انتظاره أن يصحوَ.

ما إن فتح عينَيه حتى التمعَت ترمقني وكأنه يرى فيَّ عدوًّا شرسًا، ربَّتُّ على كتفه الأخرى، تلك التي لم تُصَب، وخفضتُ صوتي كي لا يلحظَ اهتزاز كلماتي وتوتُّري: أشكر الله أنك بخير.

– أنتَ؟

– ما الغريب؟ عادةً ما نشكر الله على الأشياء الجميلة، الكل يفعل .. أقصد .. المؤمنون جميعهم يقولون هذا.

– أنت هو الطبيب؟

– هل التقينا قبل الآن؟

– أتعرف ماذا حلَّ بي؟

– أُصبتَ برصاصة في كتفك، وكدتَ تموت لولا أني أنا الطبيب الجيد الذي يشرفُ على … كفى يجب أن ترتاحَ الآن.

– ولكني أريد ..

– قلتُ كفى!

كان يجب ألَّا أستطردَ في الحديث معه أكثر، مهمتي أن أعالج الجرحى والمرضى، لا أن أحكيَ لهم القصص، ولا أعرف لماذا صرختُ في وجهه: أنا لستُ «حكواتيًّا» أتفهم؟

ظل يُحملق في وجهي وتوقَّف عن الأسئلة .. لاذَ طويلًا بالصمت بينما لُذتُ أنا بالخروج.

٤

«المصاب»

الآن .. فقط الآن أستطيع أن أرى كلَّ شيء بوضوح، كان ما أحتاجه هو فقط أن أرى لا أن أسمع .. أنا في المشفى إذن .. حسنًا .. المشفى جيدٌ والعناية على أفضل حال، والرصاصة استقرت لبعض الوقت في كتفي .. كانت تكفي لأموت لولا براعة الطبيب، ولولاه أيضًا لما أُصبتُ بالرصاصة .. يا إله التناقضات! كيف يمكن للإنسان أن يَقتل ويعالج «القتيل» في آنٍ؟

ربما لم يعرفني بعدُ .. ولكن كيف يمكن لقاتل أطال التحديق في عين الضحية ألَّا يحفظ ملامحها عن ظهر قلب؟ إنه ولا شك ينتظرني لأُشفَى تمامًا حتى يقتلني .. هذا الوغد القاتل يُحضِّر لأمر خطير .. من المؤكد أنه يعرف جيدًا أننا أعداء.

٥

«الممرضة»

قلت إني والطبيب شربنا نخبَ الانتصار ونهاية الحرب، وما لم أَقُله كوني لم أعرفه البتة. إن نهاية الحرب لا تعني نهاية القتل.

كنتُ أتابع الحدث باحتراق وصَمْت بالغَين: شاب صغير الحجم ممدَّد على السرير، الناربيش ممتدٌّ من شريان ساعدِه الأيسر إلى كيس الدم، أما الطبيب اللطيف ذو الشخصية النبيلة المخلصة فقد كان يقف أمام السرير إلى الأعلى من رأس الشاب المصاب.

كانَا كأنهما يخوضان معركةً صامتة؛ فذاك الصمت الذي خيَّم على غرفة المشفى لم يكن طبيعيًّا، بل كان صارخًا، مشحونًا بصوت الحرب والحقد، إلى أن كسر المصابُ الصمتَ عندما عدَّل من جلسته وطلب من الطبيب أن يجلس بجواره، صمت قليلًا قبل أن يصوِّب عليه بسؤاله الكافي للقتل: أنت مَن أطلق النار على كتفي؟

– أنا؟ ولكن ..

تلعثم الطبيب وهمَّ بالرحيل .. صرخ المصاب بصوت أجش — لا يُشبه حجمه — في وجه الطبيب، ونزَع الإبرة من شريان ساعدِه الأيسر ثم لفَّ الناربيش بشراسة حول رقبة الطبيب المسكين، وصار يشدُّ فيما كانت ذراعه تنزف.

صرختُ كثيرًا حينما شاهدتُ الدم يقطر فوق السرير وعلى الأرض وقميص الطبيب الأبيض، ولكن أحدًا لم يأتِ لحمايتي من هذا المشهد المؤلم، أما المصاب فكاد أن يقع أرضًا وهو يردد: «أنت قاتل .. قاتل …»

ظل يشدُّ إلى أن سقط الطبيب أرضًا وسقط فوقه .. ثم ماتَا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤