محاولات للنجاة

١

«مرةً أخرى أعيد المحاولة، ومجددًا أمزِّق ما أكتب .. كلَّ يوم أُلقي بعشرات المحاولات لكتابتكِ، ومع كلِّ تمزيق أعرفُ أكثر كم أنا مهزوم .. أحاول أن أُعيدَ ترميم انكساري بكتابتك وصياغة الحرب.

لم يَجُل في خاطري يومًا بأنكِ أنتِ مَن ستكونين الرواية التي لم أكتبها بعدُ .. فالرواية توءَم المأساة وأنت مأساتي، ولو عرفت مسبقًا لتوقفتُ عن الكتابة برهةً بل زمنًا وعانقتكِ، لراقصتكِ حتى الصباح، كنت حتمًا سأتوقف عن متابعة نشرات الحرب، ولقطعتُ التواصل مع الجريدة التي كنت أكتب فيها .. لمنعتُ نفسي من الكتابة عن الحرب والموت وعِشتُ معك دهرًا آخر .. الآن وفقط الآن أُدرك كم أخذ الحبر من حياتي.

اللعنة على هذا القلم، هذا الذي قتلكِ بوفائه لضحايا الحرب وخيانته لكِ .. أنا الذي كنت أظن أن الحرب شيءٌ بشع سقط علينا من مكان ما، سقط على الشوارع والأزقة والأرصفة .. لم أعرف الحرب حقًّا إلا بموتك .. فخسارتك هي الشيء المؤكد الوحيد الذي فتح النوافذ لاستقبالها على طبق من الفاجعة.»

قاطعه صوتُ قرع الجرس، جفل جاد مستغربًا، وتوقَّف عن الكتابة، نهض عن كرسيه متثاقلًا، اقترب بتوجُّس من الباب، نظر من العين السحرية ثم فتح الباب ببطء ولم يرَ أحدًا، همَّ بأن يخرج من عتبة الباب، ولكنه ما لبث أن تراجع، وقبل أن يُغلق الباب سَمِع صوتَ امرأة تُناديه: المعذرة سيد جاد.

التفتَ مجددًا ليجد امرأةً مبتلَّة الشعر والوجه تقترب من الباب، فقال بشيء من الحرج: اعذريني .. لم أركِ جيدًا.

– يبدو أنك استهلكت وقتًا طويلًا في الكتابة هذا اليوم.

راح يتأمَّل ملامحها، وظل صامتًا في محاولة ليتذكر إن كان يعرفها أم لا، إلى أن قال باستغراب واضح في نبرة صوته: هل التقينا قبل الآن؟ .. يبدو أنكِ تعرفينني جيدًا.

كانت لم تزل خارج عتبة الباب ولم يخطُ خطوةً واحدةً صوبَها، فقررَت أن تدخل إليه وتقول ببسمة خفيفة: لا عليكَ .. اسمي هدى .. أعتذر إن كنتُ قد أزعجتُكَ في شيء، ولكن كما ترى قد سقط خزانُ ماء من أعلى البناية أمامي وامتلأتُ بالماء. أريد فقط أن أُعيدَ تسريح شعري .. ألديك منشفة؟

ظل برهةً في حيرته واستغرابه، فقالت وكأن صبرها قد بدأ ينفد: لا تمتلك مرآة أم أنك لا تريد استقبالي؟

أشار إلى جهة الحمام مجيبًا: الحمام من هنا .. أذكر أن فيه مرآة ومنشفة أيضًا.

اتجهَت هدى صوب الحمام فيما عاد جاد إلى مكتبه وراح يمزِّق محاولته بالكتابة لنجاة أو عن النجاة؛ مزَّق الورقة وألقاها بين كومة أوراق أخرى، وبعد بُرهة اتجه إلى الحمام، وقفَ طويلًا أمام بابه ينتظر خروجها؛ عساه يفهم مَن تكون تلك الفتاة وماذا تريد. طرق الباب بتردُّدٍ، ولم يسمع إجابةً، طرَقه بشكل أقوى فانتبه إلى أن الباب لم يكن مغلقًا. فتحه ببطء ولم يجد أحدًا. فعاد إلى مكتبه ليبدأ محاولةً أخرى في تخليد نجاة.

٢

«لطالما اعتقدتُ أني الأكثر عنادًا في هذا العالم، وقد كنت فَرِحًا لعنادي، فلم أتصالح في أي يوم مع العالم وبؤسه، وقد أخبرتكِ بذلك أيضًا ولكنكِ كنتِ أكثرَ عنادًا مني، ربما لأنكِ كذلك، وربما لأنكِ كنتِ مأخوذةً بحالة الحب التي أحاطَت بنا، قلت لكِ حينها: لن تطيقي العيش معي.

وأجبتِ يومها: لن أطيق العيش إلا معك.

أخبرتكِ بل حذرتكِ بأنك سوف تندمين؛ فأنا إنسان يعيش في خياله وأحلامه، فصدح صوتكِ: دَعْنا إذن نُعيد تخيُّلَ تجربتنا الإنسانية ونعيشها من جديد.

شعرتُ بأنني ورَّثتكِ الحلم؛ المرض المعدي الذي جعلني أخسر وظيفتي وحياتي، وجعل الأصدقاء ينفرون مني، الأصدقاء المتورطون بل المفرطون في واقعهم، وخسرتهم واحدًا واحدًا، أما أنتِ فقد فتحتِ ذراعَيكِ ترحيبًا بفيروس الحلم ولم يكن أحدٌ في العالم بأسرِه يعرف بأن حلمنا سيغدو كابوسًا بعد سنين قليلة من بدء حبِّنا لتموتي أنتِ وأنجو أنا، وربما نجوتِ أنت ولم يَمُت غيري .. ربما كلُّ ما أفعله الآن ليس إلا محاولة فاشلة للنجاة من ذاك العذاب الذي يصيبني كلما مسكتُ قلمًا وجرَّبتُ أن أخلدكِ به، هذا الذي ساهم بقتلك كيف يمكن له أن يخلدك؟»

كُسر القلم من فرط ما ضغط عليه، ومرةً أخرى مزَّق المحاولة بنزقٍ عارم، باغتَه صوتُ هدى: أكثيرًا ما تمزق كتاباتك؟

التفتَ إليها مشدوهًا من جلوسها على الأريكة خلف ظهره.

– أنتِ؟ منذ متى و.. كيف دخلتِ؟

– أنتَ من فتح لي الباب هل نسيت؟ ولكنك انشغلتَ عني بالكتابة ولم أشأ إزعاجك.

– ولكن .. لا شيء، ظننتُ أنكِ قد خرجتِ.

– سأخرج لو أردتَ ذلك.

هذه المرة كان شعرُها مسرَّحًا بشكل آسر، ووجهها قد غدَا أكثر إشراقًا، اقترب منها ينظر في ذاك الوميض المنبعث من عينَيها. وأخذ نفَسًا محاولًا أن يتمالك نفسه.

– ألم تنتهِ بعدُ من قصتكَ الجديدة؟ .. لم أقرأ لكَ شيئًا منذ فترة طويلة.

جلس بجانبها يقول: وربما لن تقرئي بعد الآن.

– ما الذي تكتبه إذن؟ أو بالأحرى ما الذي تمزِّقه؟

– أكتبُ هزيمتي الجديدة.

– «كم هزمتنا الحرب!»

– ليست الحرب.

– أنت قلتَ ذلك.

ذهب يتمشَّى في الغرفة ويسترسل: كنت أكذب .. أقصد كنت أكتب، أما الآن فأنا فقط أحاول الشفاء من هزيمة أخرى .. خسارة لا يمكن تعويضها .. أكتب لنجاة؛ زوجتي التي نجت مني لتتركني في برزخ ما بين موتها وسقوطي، حبيبتي التي دفعَتني إلى العزلة عن كل شيء … نجاة التي ماتت وتركَتني محمَّلًا بذنب موتها .. فقد كان في وسعي أن أفعل شيئًا ولكني ..

تدارك نفسَه متوقفًا عن البوح، ثم التفت إلى الأريكة ولم يجد هدى .. وهو ليس من النوع الذي يحكي للآخرين عن أوجاعه الخاصة، لكنه – وربما – كان الآن فقط بحاجة لأن يحكيَ لا أن يكتب، إنه يريد أُذنًا ما تسمعه وتُهدئ من روعه وتُطمئنه، لكن هدى قد رحلت ولم تُعطِه حتى فرصةً للبوح عما يُضمر في قرارة نفسه .. جرَّب أن يُشفى من نجاة دون أن يكتبها ولم يستطع .. لا بد من المحاولة مرةً أخرى إذن.

٣

«رحلتِ إذن وبقيتُ أنا وحدي في ركن مكتبي أتساءل عما إذا قتلتكِ الحرب أم القلم .. قلتِ لي مرةً إن ما أكتبه لا يعني أحدًا في زمن الحروب، والحبر لن يقف في وجه الحرب، وإن صوت اللغة لن يعلوَ فوق صوت القذائف.

نفرتُ منكِ ومن الكآبة السوداء التي أصبحتِ ترتدينها بعد توغُّل الحرب فينا، وزدتُ إصرارًا وكتابةً عن أولئك الذين نزفتهم الحياة من فرط مجازر الحرب، أعدتُ خلقَ حياتهم، رسمتُ واقعهم كما يجب أن يكون لا كما هو كائن، كتبتُ سيرة الحرب كما أفهمها وأُحسها لا كما تحدث .. ظننتُ أنني أعرف تمامًا ما يحدث، عرفتُ أرقام الضحايا يوميًّا، رصدتهم وأحصيتهم وبكيتهم، لكني لم أشعر بمعنى أن تسقط الضحية إلا بموتك .. لم أفهم العلاقات إلا في تلك الحالة من الذهول عندما دوَّت صرختكِ ورأيتكِ تسقطين فيما كنت أحلمُ بهزيمة القلم للدبابة.»

دخلَت هدى إلى المكتب، جلست على الأريكة وبدأت بخلعِ حذائها دون أن تنبس ببنت شفة، التفتَ جاد إليها وكاد يصرخ إلا أنها قاطعَته: لا تقلق لن أُزعجَك أبدًا؛ فأنا متعبة وأريد أن أستريح .. يمكنك أن تواصل الكتابة وتعود إليَّ بعد أن تمزِّق ما كتبت.

ثم استرخت على الأريكة ومدَّت رجلَيها.

– لماذا جئتِ؟

قال، فردَّت ببرود دون أن تنظر إليه: وجدتُ الباب مفتوحًا .. هل كنتَ تنتظرني؟

راح يمزِّق الورقة، ثم قال وهو يستشيط غضبًا: هذا لا يعطيكِ الحق بأن تقتحمي بيتي!

– أنا هنا بملْء إرادتك .. تستطيع طردي متى تشاء.

ذهب يتحرك في الغرفة بشكل عشوائي دون أن يتفوَّه بكلمة واحدة، أما هدى فقد عدلت من جلستها وقالت: أنت لا تريد طردي.

تسمَّر في مكانه وهو يحدِّق فيها، ثم قال: والآن .. ماذا تريدين؟

– هل تظن أنك بالكتابة ستنتصر؟

– ماذا تريدين؟

– وأن الرواية تهزم الحرب وتخلِّد نجاة؟

لم يُجِب جاد، بل شرد بعيدًا يفكِّر، اقتربت منه وسألته بهدوء يعتريه قليل من الحزن: هل مكثَت نجاة طويلًا وهي مختطفة؟

– بقيَت ثلاثين يومًا .. مَن أخبركِ؟

– كلُّ الصحف كتبَت عن ذلك!

جلس على مكتبه متجاهلًا لها، وعاد للكتابة مجددًا، أما هدى فقد استطردت بحرقة: كتبوا أنك صمدتَ رغم كلِّ الضغوطات التي تعرَّضتَ لها، وأنك رفضتَ مساومة الخاطف على قلمك، رغم اختطاف زوجتك، ولكن أحدًا منهم لم يكتب كم قاسَت نجاة أثناء اختطافها .. الكل يقول بأن الكاتب «جاد» يتعرض لابتزازٍ وحصار ومنهم مَن قال مؤامرة وآخرون كتبوا: محاولة لاصطياده، وصحيفة أخرى نشرت بأنَّ «جاد» يتعرَّض لمساومة بشعة، وكلهم ألحقوا الخبر بأن زوجة الكاتب «جاد» مختطفة ولم تذكر صحيفة واحدة اسم نجاة .. نجاة أقصد نجاة نفسها .. نجاة …

– كفى!

صرخَ بملء فمه ومزَّق محاولته الجديدة.

٤

«لستُ أنا، إنها الحرب .. أنا عاجزٌ أمامها يجب أن أعترف، لم أستطع أن أخلصكَ وأخلص نفسي من وجع الفاجعة، وانتظرتُ شيئًا ما يُنقذك ولم يحدث، ومنذ ذلك اليوم وأنا مدفون في مكتبي بين محاولات عاجزة عن تخليدك.

إني أحس بهول فقدانك يستجمع نفسه كغيمةٍ سوداء قاتمة، لقد تقيأتُ الكثير من الدم والحزن هذا اليوم، تقولين بأن هذا الحزن عام، والدم يفترش الطرقات، تلك هي الحرب .. ربما ولكن الحرب التي أخذت السنين الأخيرة من حياتي ليست أكثر من هذا الشعور الآسن بالهزيمة والوجع والفقد المشوب بالوجد».

استيقظ جاد من نومه أو من شروده؛ فقد قضى ليلته في سُهدٍ يتفرس النظر في سقف غرفة نومه، غرفة خيبته وبؤسه .. اتجه إلى المكتب المكتظِّ بالفوضى فوجد هدى تجلس هناك وقد جمعت جميع أوراقه الممزقة لتقرأها، اقترب منها مسرعًا فقالت بهدوء: قرأتها للمرة الثالثة .. أعرف جيدًا كم تحبها، ولكنك لن تستطيع كتابتها.

أخذ المحاولات منها ثم وضعها في سلة القمامة.

– ستمزَّق كلُّ المحاولات إن بقيتَ هنا .. لن تستطيع أن تكتب نجاة وأنت مطوقٌ بأسوار بيتك .. كل شيء يحدث في الشارع .. الحقيقة هي ما يحدث خارج أسوار بيتك فقط.

قال وكأنه ينفجر: لا أستطيع أن أصدق أن الحرب شيء حقيقي وأنها لم تزَل مستمرة!

– تكذيبك لما يحدث لا يلغي حقيقته.

قالتها وذهبت إلى باب الخروج، لَحِقها صوتُه المرتجف: سترجعين .. أليس كذلك؟

– سأخرج .. يمكنك أن تأتيَ معي.

فتحَت الباب ولم يلحقها، فقالت وهي تشدد على الكلمات: لا شيءَ داخل بيتك حقيقي. ولكني غدوتُ أعرف أن حبَّك لنجاة حقيقي جدًّا.

– ابقَي هنا أرجوكِ، ربما لن أستطيع كتابة نجاة، ولكني أستطيع أن أرويَها لكِ .. منذ زمن لم أرَ أحدًا، لم يثبت لي أيُّ آخر أنني لم أزل حيًّا، وكل الآخرين منهمكون هناك في الحرب.

– الآخرون في الشارع، والحرب في الشارع وحبيبتك قُتلت في الشارع، والقاتلون والضحايا هناك .. لقد مررتُ بضحية كادت أن تكون أنا، لقد أخذت مكاني دون أن تعرف، كان القناص يقف على سطوح بناية، ويبحث عن ضحية، وانطلقَت رصاصتُه تمامًا في لحظة ابتعادي واقتراب الأخرى مكاني .. لقد سقطَت أمامي وأدركتُ أن الحرب كلها هي المسافة بين القناص والضحية .. لن ترى شيئًا من هذا إلا إن خرجت .. هناك ستجد أن نجاة كل يوم تسقط.

– ما لا تعرفينه أن نجاة هي التي رفضت المساومة ولست أنا .. لقد أنقذَتني — بموتها — من التورط بالتفكير في الأمر.

خرجَت هدى دون أن تنبس ببنت شفة، تردَّد جاد قبل أن يلحقها ويخرج لأول مرة منذ غياب نجاة، وصل أسفل البناية، بحث عنها ولم يجدها، كان يتوقع ذلك بل يعرف أنها لن تكون وأن عليه هو أن يكون ويرى، وأول ما أدركه أن هدى هي الضحية، ضحية المسافة بينها وبين القناص، وهذا أيضًا لم يكن مفاجِئًا بالنسبة له، ولكن الصادم في الأمر، والشيء الوحيد الذي لم يكن يعرفه حينها أن الشارع الآن هادئ!

٥

«خرجتُ اليوم إلى الشارع، ذهبتُ إلى الطريق الطويل الذي كنا نمشي فيه عادةً قبل أن يسلبوه منَّا ويحوِّلوه إلى ساحة حرب لطرفَين لا يمكن لهما البقاء معًا، على أحدهما أن يموت حتى يبقى الآخر، أو هكذا كنت أظن قبل أن أخرج وأرى الحقيقة.

رأيتُه يرجوه، تمامًا كما فعلت .. كان يحمل بيده سكينًا ويضعه على عنق طفلة لم تتجاوز العامين من عمرها، أما أبوها فكان يقف بعيدًا ويتوسل إليه، تمامًا كما فعلتُ، عجز عن الاقتراب، فقال للخاطف: أرجوك .. إنها طفلة لم تفهم الحرب، ولم يزدحم قلبُها بالعنف بعد .. أرجوك أبقها لي؛ فالجينات لا تحمل في ذاتها الحروب.»

لم يسمع شيئًا، تمامًا كما فعل معنا، وقبل أن يحزَّ عنق الطفلة جاءه اتصال يُبلغه بأن الحرب انتهت، فقطع بالسكين وردةً وقدَّمها للطفلة ثم سلَّمها لأبيها وبدآ يتبادلان أطراف الحديث وكأنَّ حربًا لم تكن.

لقد ذهبوا ثلاثتهم معًا، ولم يَمُت أحد .. كلُّ أطراف الحرب يتسكعون معًا في طريقنا الذي سلبوه منَّا، أما ضحايا الحرب فقد رحلوا قبل أن يعرفوا بأن الحرب ستنتهي بقرار القائدين .. بتصريح واحد. بلحظة .. دون أن يكترث أحدٌ بمن انتصر ومن الذي هُزم .. كل ما في الأمر أن الحرب هزمت الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤