حُلم

حبيبي .. قبل أن أبدأ .. اسمح لي أن أكررها: حبيبي، حبيبي .. أتسمع؟ أقول لكَ حبيبي .. منذ ولادتِكَ لم أَقُلها لأحد، أسمعها كل ليلة وأعجز عن قولها .. لستُ أشتاق إليها فهي تُعيدني إلى تلك الحالة المريبة من الانقباض والاشمئزاز من كل شيء .. ولكني طوال الوقت أشتهيها كما تشتهيني كلُّ العيون المكتظة على الأرصفة والمطاعم وفي كل مكان.

أعرفُ بأنكَ تبغضني وأعرف حجم النقمة التي تُعشِّش في صدرك منذ سنين، وأعرف بأنك طوال هذه السنين وأنت تستجمع البصاق لتقذفَه في وجهي، طوال الوقت وأنت تُقحم الكلماتِ العاهرة في معجمك لترشقها الآن في وجهي .. أعرف ذلك حقَّ المعرفة، ستقول عاهرة رفعَت رجلَيها لأول عاهرِ طريقٍ كي تحبل بخطيئتها تسعة أشهر صامدةً صامتةً لتقذفها في نهاية الأمر إلى قاع المدينة المزدحم بالخطايا، ومضَت تُكمل حياتها وكأن وجعًا لم يكن .. ستقول أيضًا بأنني قاسية ملعونة ألقيتُك عن جسدي وكأنك العار، أجل فعلت، حررتُكَ مني وجعلتُك تتخبط في منعطفات الحياة وحدك.

كان يمكن أن أقتلكَ في رحمي، فقد طلب مني أبوك أن أفعل وأُجهضك ولم أشأ، قذفك في رحمي لأقذفك إلى الحياة ثم تركلك بدورها إلى الشوارع والأزقَّة وشارات المرور ومأوى الأيتام ليُعيدوك مجددًا إلى حضني ..

كم أشتهي أن أضمَّك إلى صدري ولكني أخاف أن تصفعني لتُنهيَ بذلك لقاءَنا الوحيد .. لا أريد له أن ينتهيَ، أريده أن يطول لأُخبرك الحقيقة التي أملكها وتفقدها أنت، ولكن الحقيقة بحاجة إلى قوة كي تُقال، قد أموت قيدَ المحاولة البائسة في قولها.

مهلًا لا تهرب .. استمع حتى النهاية، أعرفُ بأنك مشبعٌ بالأفكار عما حدث .. لا تريد أن تُمحَى تلك الصورة المشوهة من رأسك، لا تريد لذلك الحقد الذي توغَّل في صدرك أن ينطفئ .. ستشعر بالعجز عن ضربي وشتمي إن سمعت، ستشعر بالتشوُّه والأسى إن لم تجدني العاهرة التي أردتها لتنتصر على وجعك بضربي.

تستطيع الآن أن تراني جيدًا .. انظر فأنا امرأة جميلة، يقولون إنني أمتلك جاذبيةً ما .. أرتدي ملابس جيدة وأنيقة، وأسرِّح شعري كما ترى، الديدان لا تخرج من أنفي، والعفن لا ينمو من مسامات جلدي، هل ترى؟ رائحتي ليست كريهة كما أنني لا أضحك بصخب فاجر، أتفهم؟

أرأيتَ؟ تقول إنني أنثى الشيطان، أُنجبُ الأطفال لألعنهم .. أُلقي بأطفال شهوتي إلى الجحيم .. تقول بأنني أنام مع عشرات الرجال يوميًّا لأكتنزَ ثروةً هائلةً بحجم ضحايا جسدي .. انتظر فأنت تستطيع أن تسمع الحقيقة فهي بعيدة عنك وعن تصوراتك كلها .. قد تكون موجعة، قد تجعلك عاجزًا وتجمد قبضة يدك التي ستحاول عبثًا لكمي.

الحق أنني أكذب، فأنا أيضًا لا أعرف الحقيقة حقَّ المعرفة .. ما أذكره أنك فعلًا كنت الخطيئة التي ركلَتها أقدامُ مَن عرفوها .. كنتَ الشاهد الوحيد على عارهم وعلى أمومتي .. خبأتكَ بكل ما أوتيتُ من وجع .. ضغطتكَ بالأقمشة والملاءاتِ، شعرتُ بك تختنقُ في بطني وأنا أشدُّك بالمشدِّ في محاولة مني لأن أخفيَكَ وأحميَك، ونجحتُ في أن أراك تُبعَث أمامي إلى الحياة.

عندما أنجبتكَ كنتُ في بداية بلوغي، كان صدري قد نهدَ فأبصرَتْه كلُّ العيون .. كل العيون تُبصر صدري ولكن واحدةً منها لم تُبصر ما في داخل صدري .. حاصرَتني العيون وحملتني من يد إلى أخرى وفي كل رحلة تزداد تشوهات جلدي التي امتدت إلى قلبي.

أنا امرأة شقية يا حبيبي .. كل تلك السنين وأنا في هذه الحالة من الانتظار البائس لألقاك وأُخبرك كم قاسيتُ لننجوَ معًا .. ولكنَّ ما حدث فعلًا هو أنني …

•••

انزلقَت الدمعة الأولى من عينها ولم تواصل حديثها، بل طوَت قطعةَ القماش التي كانت طوال الوقت تُحدِّثها ومسحَت بها دمعتَها .. في تلك الأثناء خرج رجلٌ ثلاثينيُّ العمر من الحمام يجفِّف جسده العاري. وضع لها بعض النقود دون أن ينظر في عينها وراح يرتدي ملابسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤