الفصل السادس

اليوتوبيات الحديثة

يبدو أن موجة المشروعات اليوتوبية التي غمرت القرن التاسع عشر قد أخذت في الانحسار. فاليوتوبيات التي كُتِبت بعد عام ١٩٠٠م تُعدُّ في معظمها أصداءً شاحبة من القرن التاسع عشر، أو لا تخرج في بعض الأحيان عن أن تكون نسخًا من المجتمعات المثالية في الماضي مع التوسع فيها، ولكنها لم تأتِ بشيء جديد يستحق الذكر، ولم تثر من الاهتمام ما أثارته أعمال كابيه أو بيلامي أو موريس في عصرها. وقد كان كتابا كابيه وبيلامي كتابين سخيفين، ولكنهما لفتا انتباه جمهور القراء، لأنهما استطاعا بلورة اتجاه محدد للتفكير الاجتماعي. وقد عجزت اليوتوبيات التي نُشِرت في الخمسين عامًا الماضية عن إحداث أي تأثير مشابه. فاللوحة اليوتوبية التي قدمها أناتول فرانس (١٨٤٤–١٩٢٤م) في كتابه «الحجر الأبيض» لقيت التجاهل الذي تستحقه، إذ كانت من أسخف ما كُتِب، كما اهتم كتاب «إنسان تحت الأرض» ﻟجبرييل تارد G. Tarde بمناقشة أفكار فلسفية أكثر من اهتمامه بتقديم مجتمع مثالي، وأخيرًا كان كتاب سيباستيان فور S. Faure «السعادة العالمية» نوعًا من الدعاية العاطفية ذات التأثير المحدود.
وقد أسهم ﻫ. ج. ولز١ (١٨٦٦–١٩٤٤م) بدور أكبر وأهم في الأدب اليوتوبي بكتابيه «يوتوبيا حديثة» و«بشر كالآلهة»، وإن كان الكتاب الأول — بالرغم من عنوانه — يدين بالكثير ليوتوبيات الماضي.

أعلن ولز، في «يوتوبيا حديثة»، القطيعة مع التراث اليوتوبي، برفضه وصف مجتمع كامل. وهو يقول في ذلك: «لن يكون هناك مكان للكمال في يوتوبيا حديثة، إذ يجب أن تحتوي اليوتوبيا أيضًا على الخلافات والصراعات وهدر الطاقات، وإن كان الهدر فيها أقل بكثير جدًّا مما يحدث في عالمنا.» ويوتوبياه «حالة ممكنة التحقق كما هي في نفس الوقت مرغوب فيها أكثر من العالم الذي نعيش فيه»، ولكنها ستكون «مستحيلة إذا نُظِر إليها بأي معيار يكتفي بالمقارنة بين اليوم والغد».

ظهرت «يوتوبيا حديثة» في عام ١٩٠٥م، أما «بشر كالآلهة» فقد وصف فيها ولز مجتمعًا بلا صراعات أو خلافات أو هدر للطاقة. وربما يكون ولز، على خلاف أفلاطون في شيخوخته، قد أصبح في أواخر حياته أكثر تفاؤلًا مما كان في شبابه، أو ربما يكون قد اعتبر «يوتوبيا حديثة» — أو أفضل دولة بالتقريب — مجرد مرحلة انتقال ضرورية نحو مجتمع كامل.

إننا مع «يوتوبيا حديثة» نترك خلف ظهورنا اليوتوبيات القومية، بل نترك — إذا جاز التعبير — الاتحادات الفيدرالية لليوتوبيات. ويزعم ولز أن عصر الحدود والحواجز اللغوية التي تفصل بين الأمم قد مضى، ولا يمكن أن يفي بالغرض من اليوتوبيا الحديثة إلا كوكب كامل؛ لأن «الدولة التي تبلغ في الظروف الحديثة من القوة ما يكفي للمحافظة على عزلتها، سيكون لديها كذلك القوة الكافية لأن تحكم العالم، وإذا لم تحكمه بشكل إيجابي فعَّال، فسوف تقبل بشكل سلبي المشاركة في كل التنظيمات البشرية الأخرى، ومِن ثَم تصبح مسئولة عنها جميعًا، ولهذا فلا بد أن تكون دولة عالمية.» هذه الدولة العالمية التي ننتقل إليها بفضل مجهود يبذله الخيال، تقع على كوكب مشابه لكوكبنا إلى حد كبير، وكل نهر، أو بحيرة، أو جبل على أرضنا له ما يناظره في يوتوبيا، كما أن كل واحد من سكان الأرض له نظيره بين سكان الكوكب اليوتوبي الذي يقع في مكان ما وراء كوكب الشعرى اليمانية. والاختلاف الوحيد بين يوتوبيا وبين أرضنا هو أن التنظيم الاجتماعي فيها قد تطور، خلال حقبة حديثة نسبيًّا، تطورًا سريعًا، وبلغ مستوًى أعلى بكثير من مستوى التنظيم الاجتماعي على سطح الأرض.

والصورة الخيالية لهذا التنظيم الاجتماعي الجديد تسري فيها معرفة عميقة باليوتوبيات السابقة. وهي تنتقد بعض السمات المميزة لليوتوبيات الأخيرة، وإن لم يكن هذا النقد هو أقل أجزاء الكتاب أهمية؛ إذ إن هناك سمات أخرى متضمنة في مشروع ولز. فأفلاطون وأوجست كونت يقدِّمان جانبًا كبيرًا من بنائها النفسي، بينما يزودها تيودور هرتسكا بالبناء الاقتصادي. ولكن ولز يذهب إلى أن هناك حاجة ماسة إلى مشروع جديد بالكامل، على أساس أن اليوتوبيات السابقة لم تعطِ الفرد الحرية الكافية. وهو يلاحظ بحق «أن اليوتوبيات الكلاسيكية كانت تنظر إلى الحرية بوصفها شيئًا تافهًا نسبيًّا. ومن الواضح أنها اعتبرت الفضيلة والسعادة منفصلين انفصالًا كاملًا عن الحرية، كما تصورت أن كليهما أهم منها بكثير. ولكن وجهة النظر الحديثة، بإصرارها المتزايد على الفردية وعلى أهمية تفرُّدها، لا تنفك تعمِّق قيمة الحرية باستمرار، حتى لقد بدأنا ندرك أخيرًا أن الحرية هي جوهرة الحياة، بل إنها في الحقيقة هي الحياة ذاتها، وأن الأشياء الميتة، أي الأشياء التي لا تملك حرية الاختيار، هي وحدها التي تطيع القانون طاعة مطلقة. إن إطلاق العِنان لفردية الإنسان يعد من وجهة النظر الحديثة هو الانتظار الذاتي للوجود، على اعتبار أن انتصارها الموضوعي يتمثل في استمرار البقاء من خلال العمل الخلَّاق والذرية.» ومن هنا يستطرد ولز مؤكدًا «أن الحرية الفردية في المجتمع ليست دائمًا، كما يتصور علماء الرياضة، ذات سمة أو علامة واحدة. وتجاهل هذه الحقيقة هو الخطأ الأساسي الذي تقع فيه النزعة الفردية الحديثة. فالواقع أن الاتجاه لمنع كل شيء في إحدى الدول ربما يزيد من كمية الحرية، كما أن الاتجاه إلى السماح بكل شيء ربما يقلل منها. ولا يستتبع هذا، كما يحاول هؤلاء الناس أن يوهمونا، أن الإنسان يكون أكثر حرية عندما يعيش في ظل أقل عدد ممكن من القوانين، أو أنه يكون أكثر تقيدًا في ظل أكبر عدد ممكن من القوانين.»

إن الافتراض القائل بأن القانون هو أفضل حارس للحرية يكاد يكون هو القاعدة الأساسية في كل اليوتوبيات تقريبًا. وعلى الرغم من دفاع ولز عن الحرية، فإنه يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه أسلافه من اليوتوبيين بإقحام كمية ضخمة من التشريعات في يوتوبياه. وهو يرى — بسذاجة طفولية — أنه يمكن منع جرائم القتل عن طريق «منع حرية القتل الشائعة»، وكأن الناس سيبدءُون في ذبح بعضهم بعضًا بمجرد إلغاء عقوبة القتل فجأة. وفي حين أكدت معظم اليوتوبيات السابقة أن الهدف من التشريع هو إلغاء «سبب» الجريمة، يرى ولز أن التشريع العقابي هو العلاج الوحيد لها.

والواقع أن مفهوم «ولز» عن الحرية هو في نهاية الأمر مفهوم ضيق جدًّا. فهو يستنكر «قمع فردية الأفراد بردها إلى نمط واحد عام»، كما يستنكر كذلك «المجتمع المثالي القديم الذي كان مجتمعًا له عقيدة واحدة مشتركة، وعادات واحتفالات مشتركة، وسلوك مشترك، وصيغ حياة مشتركة، كان الناس في نفس المجتمع يرتدون نفس الزي، كلٌّ حسب وضعه المحدد أو مرتبته المعترف بها، وكان كل واحد منهم يتصرف بنفس الطريقة، ويحب ويتعبد ويموت بنفس الطريقة.» ولكن لا يكاد ولز يدين هذا النموذج، حتى يبدأ في صياغة نموذج مشابه، حين يصف طبقة حاكمة لها نفس السمات التي ذكرناها الآن. أما حرية الإبداع فهي مقصورة على أولئك الذين تتوافر لهم وسائل خاصة أو يختارون العمل الذي يفيد الدولة. بهذا تكون الحرية عند ولز نتيجة حل وسط يوفق بين الاشتراكية وبين مبدأ «دعه يعمل» الذي تأخذ به الرأسمالية، ومِن ثَم تكون حرية غير كافية ولا مُرضية، شأنها شأن كل الحلول الوسط: «إن كل من يتأمل الفردية والاشتراكية في صورتيهما المطلقتين يجد أن كلتيهما طرفان لتناقض سخيف غاية السخف، فالأولى تجعل الناس عبيدًا للأقوياء والأغنياء، والثانية تجعلهم عبيدًا لموظفي الدولة، أما الطريق الصحيح فهو يسير — ربما بشكل متعرج — في الوادي الذي يقع بينهما … إن الواجب يفرض علينا ألا نحرص فحسب على توفير المأكل والملبس والنظام والصحة، بل يفرض علينا أيضًا أن نوفِّر المبادرة الحرة.»

كان الحل الوسط المثالي بين الفردية والاشتراكية هو كذلك هدف عالم الاقتصاد النمساوي «تيودور هرتسكا» Theodor Hertzka، الذي استُقبلت خطته عن المجتمع الأفضل — التي قدمها في كتابه «الأرض الحرة: رؤية اجتماعية مستقبلية» (نشر عام ١٨٩١م) — استقبالًا حماسيًّا كبيرًا في هذه البلاد (أي في إنجلترا). وقد شرح هرتسكا في تصدير كتابه تلك الصيغة التركيبية التي حاول وضعها بقوله: «إذا استطاع المجتمع أن يوفر رأس المال للإنتاج دون أن يضر بمبدأ الحرية الفردية الكاملة أو بمبدأ العدالة، وإذا أمكن أن يستغني عن المصلحة دون أن يستعيض عنها بالتحكُّم الشيوعي، فلن يقف عندئذٍ أي عائق في طريق النظام الاجتماعي الحر.» واقترح تيودور هرتسكا أن كون الأرض، ورأس المال، ووسائل الإنتاج ملكًا للدولة، وأن يكون لجميع السكان حق متساوٍ في الأرض المشتركة وفي وسائل الإنتاج التي توفرها الدولة. وينبغي أن تتولى رعاية كبار السن والمرضى، وأن تختلف الأجور تبعًا لقيمة العمل، بحيث يُدفَع للعامل الفني أجر أعلى من أجر العامل العادي، وأن تُوزَّع الأرباح على العاملين بالشركات بعد اقتطاع نسبة معينة لسداد رأس المال والضريبة للدولة، وإذا أرادت مجموعة من الناس أن تكرِّس نفسها للصناعة أو الزراعة، فيمكنها الحصول على الأرض ورأس المال بناءً على طلب مقدَّم للدولة. أما الأغراض الشخصية، كالمنازل أو الحدائق، فتُعتبَر ملكية خاصة.

وينطوي مشروع ﻫ. ج ولز على سمات مماثلة: «فالدولة العالمية في هذا المشروع المثالي هي المالك الوحيد للأرض مع الحكومات المحلية الكبيرة … أو المجالس المحلية التي تشارك في ملكيتها تحت إشرافها، بحيث تشبه مُلَّاك الأراضي في عصور الإقطاع. والتفكير الحديث يتجه برمته ضد الملكية الخاصة للأرض أو الأشياء الطبيعية أو المنتجات، لأن هذه كلها ستكون في «يوتوبيا» ملك الدولة العالمية ولا تقبل التحويل لجهة أخرى. وعملًا بالحق المعترف به في حرية الحركة، ستُؤجَّر الأرض للشركات أو الأفراد، ولكنها — بالنظر إلى ضرورات المستقبل المجهول — لن تُؤجَّر لفترة تزيد على خمسين عامًا.» إن الدولة، أو الحكومات والمجالس المحلية، «تملك جميع مصادر الطاقة، وهي تنمي هذه المصادر سواء بشكل مباشر أو من خلال المستأجرين والمزارعين والوكلاء، كما تستثمر الطاقة المتاحة في خدمة الحياة. وسوف تقوم الدولة، أو المستأجرون لمواردها، بإنتاج الطعام، أي الطاقة البشرية، ويدخل استغلال الفحم والقوة الكهربائية، وقوة الرياح والموج والمياه ضمن حقوقها. وسوف تغدق الدولة هذه الطاقة على المواطنين، سواء بالتعيين والتأجير والموافقة، أو بأي وسيلة أخرى، كما تحافظ على النظافة، وتقوم بمد الطرق، وتوفير وسائل النقل الرخيصة والسريعة، وتتكفَّل بجميع شئون الكوكب، وتتولَّى توزيع العمل، وتشرف على جميع المنتجات الطبيعية وتقوم بإدارتها، وتهتم بصحة المواليد ورعاية أجيال عديدة قوية، كما تحافظ على الصحة العامة، وتسك النقود وتضمن سلامة المقاييس والموازين، وتشجِّع البحوث، وتكافئ المشاريع التجارية غير القادرة على الربح باعتبارها نافعة للدولة ككل، كما تموِّل عند الحاجة كراسي الأساتذة في النقد الأدبي والمؤلفين والناشرين وتجمع المعلومات وتتولَّى بثها وتوزيعها.»

على الرغم من أن الدولة هي مصدر كل طاقة، وهي المالك الوحيد، فإن المحافظة على الملكية الخاصة تُعتبَر من الأمور الأساسية، لأن «الإنسان الذي يفتقر إلى الملكية هو إنسان بلا حرية، ومدى ملكيته هو إلى حد كبير مقياس حريته … وسيكون هدف اليوتوبيا الحديثة هو أن تؤمِّن لكل مواطن الحرية التي تهبها له أملاكه المشروعة أي جميع القيم التي كانت ثمرة كدحه أو براعته أو بعد نظره أو شجاعته. وأيًّا كان ما حققه أو حصَّله بالوسائل المشروعة فله الحق في الاحتفاظ به، وهذا أمر واضح تمامًا، ولكن سيكون له الحق أيضًا في البيع والتبادل …» وستضع الدولة حدًّا لحق الإنسان في الملكية عندما تصل إلى الحد الذي تجور فيه حريته على حرية الآخرين وتقمعها. ولم يخبرنا ولز متى يصبح «الاستغلال» «قمعًا»، وفي هذه المسألة، كما في مسائل كثيرة غيرها، يتحمل ولز «مسئولية» تفكيره الفضفاض.

والمال أيضًا شيء أساسي لا غنى للحرية عنه، ويوتوبيا ﻫ. ج. ولز تعكس الاتجاه العام لليوتوبيات التي تعتبر أن المال هو مصدر كل شر، وذلك بدفاعها عن المال بقولها: «إن المال إذا أحسَنْتَ استخدامه، نعمة من نعم الحياة، وهو شيء ضروري للحياة الإنسانية المتمدنة، وبقدر تعقد مناحي استخدامه في أغراضها المختلفة، فهو لازم لنموها الطبيعي لزوم العظام في رسغ الإنسان، ولست أتصوَّر من دونه شيئًا يستحق أن يسمى باسم المدينة. إنه هو الماء الذي يدخل في تكوين الجسد الاجتماعي، وهو يوزع ويستقبل ويجعل النمو والتمثل والحركة والشفاء أمرًا ممكنًا. وهو أساس المصالحة بين اعتماد البشر بعضهم على بعض وبين الحرية.» ويدين ولز بشدة الطريقة المهينة التي يُستَخدم بها الذهب كما صوَّرها السير توماس في يوتوبياه. وفي رأيه أن قروض العمالة، أو الطلب الحر على وسائل الترف والراحة من أحد المخازن المركزية، أو غيرهما من الحيل المشابهة، «تفتح أمام ذلك الخبث الفاسد الكامن في نفس الإنسان فرصًا تزيد بمقدار عشرة آلاف ضعف عن الفرص التي يتيحها استخدام المال. ولا يصلح الذهب، على كل حال، لأن يكون مقياسًا للقيمة، لأن قيمته عرضة للتغير الشديد، ومِن ثَم تستخدم الطاقة الإنتاجية بدلًا منه. وتحسب الطاقة المتاحة بالوحدات الفيزيائية كما تتجه نحو التوحيد بسبب التكييف الآلي لقوة العمل.»

والعمل ضرورة حتمية في «يوتوبيا حديثة»، ولكن فئة قليلة مميزة، كما في مجتمعنا الحاضر، هي التي يمكنها أن تعيش دون أن تضطر للعمل إذا هي أرادت ذلك: «إذا ورث إنسان، في ظل المخطط اليوتوبي المحدد للميراث، مبلغًا كافيًا من المال يغنيه عن الحاجة إلى الكدح، فبإمكانه أن يكون حرًّا في الذهاب إلى حيث يشاء وفي فعل ما يريد.» ويبرر هذا الوضع على أساس أن مصلحة العالم أن «تحيا نسبة معينة من الناس في سعة من العيش، فالعمل الذي يكون الباعث عليه هو الإلزام الأخلاقي إنما يعبر عن أخلاق العبيد، وما دام لا يوجد أحد مرهق بالعمل فوق طاقته، فليس هناك داعٍ للشعور بالضيق لوجود قلة ضئيلة متخففة من عبء العمل.»

ويتمتع العامل في اليوتوبيا الحديثة بفرص كبيرة تتيح له اختيار مهنته، وتزيد بكثير على فرص نظيره في كوكبنا الأرضي، وهو يستطيع أيضًا أن يتنقل بحرية أكبر من مكان لآخر بفضل وسائل الانتقال السريعة. والبطالة غير معروفة؛ لأن الدولة تمتص فائض العمالة كله عن طريق إقامة بعض المشروعات لحسابها الخاص، بحيث تدفع الحد الأدنى للأجور، وتسمح لهذه المشروعات بالتقدم البطيء أو السريع حسبما يمليه مد وجزر العمل، كذلك تستطيع الدولة أن تمتص العمالة الزائدة بتخفيض ساعات العمل اليومية. ومع أن الاتجاه المتزايد لاستخدام الآلة يعمل على زيادة فائض العمالة، فإن الحرص على التحكم الدقيق في الزيادة السكانية يحول دون تعاظم مشكلة البطالة. ومن مصلحة الدولة على كل حال أن يكون لديها باستمرار قدر من العمالة الفائضة التي يمكنها تشغيلها بالحد الأدنى من الأجور.

والدولة قادرة على وضع جميع سكان الكوكب اليوتوبي تحت المراقبة، لأنهم ملزمون بتسجيل وإبلاغ أي تغيير يطرأ على عناوينهم حتى لو كان تغييرًا مؤقتًا. وقد اقتضى ذلك وضع نظام دقيق متقن يقوم بتجميع سجلات ألف وخمسمائة مليون من البشر، مع فهارس أرقامهم، وبصمات أصابعهم، وملاحظات عن تحركاتهم هنا وهناك، وزواجهم، وأنسابهم، وسوابقهم وما شابه ذلك. ويوجد مقر هذا الدليل المركزي الضخم في مجموعة كبيرة من المباني المقامة في باريس أو على مقربة منها، وذلك «تكريمًا لنصاعة العقل الفرنسي». بهذا يتم تسجيل جميع الأحداث التي تمر بحياة الإنسان، وفي النهاية، عندما ينتهي أجل المواطن، يتم آخر تسجيل متعلق به، فيدون عمره وسبب موته وتاريخ ومكان حرق جثته، كما تسحب بطاقته وتنقل إلى السجل الشامل للأصول والأنساب، حيث توجد المعارض المتنامية لسجلات الموتى، ويسود السكون والسكينة العظيمة.

ويرفض ﻫ. ج. ولز أن يُنظَر إلى مخططه على أنه نزوة من نزوات خياله، ويؤكد أن «مثل هذا التسجيل أمر حتمي، إذا أُريد تحقيق يوتوبيا حديثة»، ويبدو أنه يعتقد أنه من دون هذا النظام سيحاول سكان «يوتوبيا حديثة»، الذين تعوَّدوا على التنقُّل والهجرة، منافسة «المسيو فردو»،٢ فيصبحوا رجالًا وضعاء يغذون خيالاتهم المريضة بإيقاع النساء العاديات من حبائلهم، وخيانتهن وإساءة معاملتهن وأحيانًا بقتلهن. وبعد أن يبين لنا ولز بشكل درامي مخاطر اتخاذ أسماء مستعارة، نجده يطمئننا كذلك على أسرار حياتنا الشخصية التي تصونها الدولة. فالدولة وحدها، كما يقول، «هي التي ستطلع على أسرار الفرد الخفية. ولا شك في أن مثل هذا الكشف المنظم من جانب الحكومة كان سيبدو كابوسًا بشعًا كريهًا في نظر ليبرالي من القرن الثامن عشر، أو ليبرالي من النمط العتيق في القرن التاسع عشر، أي في نظر جميع الليبراليين المتشددين الذين تربَّوا على معارضة الحكومة من حيث المبدأ … ولكن لنفترض أننا لا نسلم بأن الحكومة سيئة بالضرورة، وأن الفرد خير بالضرورة — مع العلم بأن الفرض الذي يعتمد عليه نظام حياتنا وتصرفاتنا يلغي البديلين معًا من الناحية العملية — فإننا سنغير الموقف برمته. إن حكومة يوتوبيا حديثة لن تكون امتدادًا للمقاصد الجاهلة التي تحكم العالم الحاضر …»

ومع تقدم معرفتنا بيوتوبيا ولز الحديثة، يتبين لنا أن مخططه عن التسجيل الشامل لا يرجع فقط إلى ولعه الشديد بالملفات المفهرسة، وإنما هو، كما يقول، شيء أساسي لا غنى عنه لمشروعه اليوتوبي. فالدولة لن تكون قادرة على التحكم في سكان العالم إذا لم يكن تحت تصرفها مثل هذا الجهاز الآلي. ثم إنه شيء أساسي، ليس لتنظيم العمل فحسب، بل كذلك للتحكم في زيادة السكان وتحسين نوعية الناس. ويرفض ولز أن تتولَّى الدولة تربية السكان، وهو «الاقتراح الذي كان معقولًا من جانب أفلاطون على ضوء المعرفة البيولوجية في عصره وطبيعة مذهبه الميتافيزيقي الذي اتَّخذ طابع المحاولة الخالصة، أما بالنسبة لأي إنسان يعيش بعد نظرية دارون، فهو اقتراح منافٍ للعقل تمامًا.» وإذا كان ولز يرفض الزواج الإجباري، فإنه يمنح الدولة الحق في مراعاة بعض الشروط العامة المحددة:

«إن الدولة لديها مبرراتها حين تقول لك — قبل أن تضيف أطفالًا جددًا للمجتمع، وتعهد إليها بتعليمهم وإلى حد ما بإعالتهم — عليك أن تكون على مستوًى معين من الكفاءة، وأن تبرهن على هذا بأن تكون في وضع مادي ميسور يكفل لك قدرًا من الاستقلال في هذا العالم، كما يجب أن تكون قد بلغت من العمر سنًّا مناسبة، وحدًّا أدنى من التطور البدني، وأن تكون خاليًا من الأمراض المعدية. كما يجب ألا تكون تلك سابقة في الإجرام، إلا إذا كنت قد كفَّرت بالفعل عن جريمتك.

وفي حالة الإخلال بهذه الشروط البسيطة، كأن تحاول أنت وغيرك أن تتآمر على الدول بزيادة عدد سكانها، فسوف نتولَّى، لأسباب إنسانية، أمر الضحية البريئة لعواطفك، ولكننا سنصر على أنك مدين للدولة بدين واجب السداد، حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة لاسترداده منك، لأن ضمانه في النهاية مرهون بحريتك، حتى إذا تكرر ذلك الأمر للمرة الثانية، أو ثبت عليك أنك أضفت المزيد من المرض أو البلاهة، فسوف نقوم باتخاذ إجراء فعَّال يضمن بشكل مطلق ألا ترتكب أنت وشريكتك هذا الإثم مرة أخرى.»

وعندما يفي المواطنون بالشروط التي وضعتها الدولة قبل السماح بالزواج، كالقدرة على كسب دخل معين، وبلوغ السن الضرورية (التي لا تقل عن واحد وعشرين عامًا للنساء، وستة وعشرين إلى سبعة وعشرين للرجال) والحد الأدنى من النمو الجسماني، والخلو من الأمراض المعدية، تبارك الدولة زواجهم. وتؤدي بطاقة الدليل هنا دورًا مهمًّا، إذ «يتسلم كلا الطرفين المقترح زواجهما نسخة من بطاقة شريكه، مسجلًا عليها عمره أو عمرها، والزيجات السابقة، وأهم الأمراض التي أصيب بها، وأبناؤه، ومحل إقامته، والوظائف العامة التي شغلها، وصحيفة سوابقه، والوثائق المسجلة بأملاكه وهلمَّ جرًّا. ويستحسن إقامة احتفال صغير لكل شريط على حدة في غياب الشريك الآخر، يُتلى فيه السجل في حضور الشهود، مع تقديم نوع من التضحية في شئون الزواج. ثم تقدر فترة معقولة لكلا الطرفين للتدبر في الأمر أو التراجع عنه. فإذا أصر الطرفان على قرارهما، يكون عليهما بعد انقضاء الفترة المحددة إبلاغ الجهات الرسمية المحلية التي تثبت ذلك في السجلات.» والرجال والنساء الذين يتجاهلون هذه الشروط قبل ارتباطهم، تتجاهلهم الدولة، إلا في حالة إنجاب أطفال غير شرعيين.

ومن حق الدولة أن تقرر بالتفصيل «الأمور التي تلزم الرجل أو المرأة بعد الزواج والأمور التي لا يمكن إلزامهما بها، لأن من المهم بالنسبة للدولة ألا تترك هذه الزيجات بغير ضوابط، وألا تكون عشوائية ولا شائعة بين البالغين من السكان، وذلك أولًا لضمان سلامة المواليد، وثانيًا لتأمين ظروف معيشية طيبة.» ولما كان الهدف من الزواج هو التناسل، فإن الزيجات العقيمة يصرح لها بالانفصام بعد مضي عدة سنوات، أما الزيجات التي تثمر أطفالًا فيحق لها أن تستمر، ما دام الأطفال يُربَّون في أفضل الظروف الممكنة عندما يكونون في رعاية الأسرة.

وتعتبر الأمومة في «يوتوبيا حديثة» إحدى الخدمات التي تقدمها الدولة، وتتلقى الأم منحة عند ميلاد الطفل. وتدفع الدولة لها أيضًا على فترات منتظمة مبالغ مالية تكفل لها ولطفلها أن يعيشا في حالة اكتفاء. ويتخيل ولز نظامًا غريبًا للمكافآت تستطيع الدولة بمقتضاه أن تغدق المنح على الأسرة، عندما يُظهِر الطفل نوعًا من التفوق الجسدي أو العقلي الذي يتجاوز الحد الأدنى المطلوب. والهدف من هذه الإجراءات هو جعل الأمومة الصالحة جديرة بالاقتداء، وإذا هبط مستوى الطفل دون الحد الأدنى من النمو الصحي والجسدي والعقلي، فيحق للدولة وقف هذه المكافآت.

وتبذل دولة ولز اليوتوبية كل ما في وسعها للتخلص من أصحاب المستويات المتدنية: «لأن منطق الطبيعة الذي يحكم بأن يقتل القوي الضعيف ببرود سيستعاض عنه بطرق وأساليب الإنسان الحديث.»

إن على المجتمع اليوتوبي أن يتخلص من البلهاء والمجانين، ومن الأشخاص الفاسدين والعاجزين والسكارى ومدمني المخدرات، والمصابين بأمراض معدية، واللصوص والمحتالين والمجرمين، ولكنه لن يطبق عقوبة الإعدام، ولن تكون هناك سجون في يوتوبيا. وسوف ترسل الدولة مواطنيها المنفيين إلى جزر بعيدة وراء المحيط، وتمنعهم من أن ينجبوا أطفالًا، لأن النساء ستُعزَل عن الرجال، وستكون هناك جزر للرهبان وجزر أخرى للراهبات.

ويتطلب تعقد التنظيم اليوتوبي أسلوبًا للحكم أعظم قوة وكفاءة مما يسمح به النظام الانتخابي. وكما أن طبقة الحرَّاس في جمهورية أفلاطون هي التي تتولى مهمة الحكم، كذلك يعهد للساموراي٣ بمهمة حكم البلاد، وهؤلاء لا يحصلون على مراكزهم بالانتخاب أو بالوراثة، وإنما هم مجموعة من «النبلاء المتطوعين».

وتكمن السلطة الحقيقية بأكملها في أيدي الساموراي. فجميع المعلمين وعمداء الكليات، والقضاة والمحامين، والموظفين الممتازين، وكل رجال الطب، والمشرِّعين يجب أن يكونوا من الساموراي، وكل اللجان التنفيذية التي تلعب دورًا مهمًّا في إدارة شئون المجتمع تختار منهم وحدهم بطريقة القرعة. والساموراي متطوعون، «وأي شاب ذكي في حالة صحية جيدة، وفي أيِّ سنٍّ بعد الخامسة والعشرين، يمكنه أن يصبح واحدًا من الساموراي، وأن يشارك بدوره في الحكم العام.» ويجب على الساموراي أن يكون لديهم الاستعداد والقدرة على اتباع القاعدة «للتحكم في الدوافع والانفعالات، وتنمية العادات الأخلاقية الحميدة، ومساندة الإنسان في فترات الإحساس بالقهر، والتعب، والغواية، وتحقيق الحد الأقصى من التعاون بين أصحاب النوايا الطيبة، وتوفير الصحة والكفاءة المعنوية والبدنية لجميع الساموراي.»

وتتكوَّن القاعدة المذكورة من ثلاثة أجزاء، فهناك قائمة بالكفاءات ومنها اجتياز الاختبارات التي تضعها الكليات كدليل على وضوح الهدف والتصميم عليه، وضبط النفس والطاعة. وهناك قائمة بالأشياء التي يجب تجنبها، وقائمة بالأشياء التي يجب فعلها، وتحظر بعض المتع البسيطة التي لا تجلب ضررًا شديدًا، وذلك لتحاشي الانغماس في الملذات. ويتحتم على الساموراي أن يسيروا على نظام غذائي محدد، وأن يبتعدوا عن التدخين والمشروبات الكحولية أو المخدرات. ويُحرَّم عليهم العمل بالتجارة التي تنمي فيهم صفات منافية للحياة الإنسانية والاجتماعية، كما يُمنَعون أيضًا من التمثيل أو سرد القصص؛ لأنها تضعف الروح. وعليهم ألَّا يكونوا خدمًا أو يحتفظوا بالخدم، وألَّا يراهنوا أو يشاركوا في الألعاب الرياضية أو يشاهدوها. وهناك قاعدة للعفة، ولكنها ليست قاعدة للعزوبة، فالزواج بين أشخاص متكافئين هو واجب ملقًى على أكتاف الساموراي نحو جنسهم، ولكن إذا أحب الساموراي امرأة لا تنتمي إلى طبقته، فإما أن يترك الساموراي ليتزوجها، وإما أن يقنعها بقبول القاعدة الملزمة للمرأة. والجزء المخصص من القاعدة للأمور الواجبة على الساموراي يُفرَض عليهم أن يعيشوا حياة بسيطة، بل حياة أسبرطية خشنة، كما يُفرَض عليهم بعض الواجبات المحددة، مثل القراءة في كتاب الساموراي لمدة عشر دقائق على الأقل يوميًّا، وذلك «لحثهم على التعاطف مع غيرهم، وحمايتهم من كل أنواع التبلد الجسدي والعقلي وسيطرة المشاغل والاهتمامات غير الاجتماعية على اختلاف أنواعها عليهم. ويتحتم على الساموراي في كل عام أن يخرجوا لمدة أسبوع إلى الجبال والغابات، أو إلى أي مكان ناءٍ ينامون فيه تحت السماء المفتوحة، ويجب عليهم أن يذهبوا إلى هناك دون كتب ولا أسلحة ولا أقلام أو أوراق أو نقود.» وبذلك يعودون من رحلتهم وقد تزوَّدوا بالقوة الروحية والجسدية.

ولا يتسع المقام لوصف الجوانب الأخرى من «يوتوبيا حديثة»، كنظام التعليم، والمناطق الصناعية والمدن الرئيسية، والتغييرات التي طرأت على العمارة والتصميم الصناعي، والتأليف بين الحضارات والأجناس المختلفة في دولة عالمية واحدة. والملاحظ أن ولز يقدم في جميع هذه الموضوعات اقتراحات طريفة دون أن يحاول فرض حل «وحيد ونهائي»، كما فعل قبله كثير من الكتاب اليوتوبيين. والحق أن يوتوبياه ليست سكونية أو جامدة، بل تعترف باليوتوبيات الأخرى، كما تقول في سطورها الختامية: «سوف تظهر يوتوبيات كثيرة، وسيكون لكل جيل يوتوبياه الخاصة به، وستكون أكثر يقينًا وكمالًا وواقعية، كما تزداد المشاكل التي تعالجها التصاقًا بمشاكل الكينونة المنخرطة في الصيرورة، حتى تنبثق في النهاية من الأحلام يوتوبيات هي في صميمها خطط وتصورات عملية، وينشغل العالم كله بتشكيل الدولة العالمية النهائية، هذه الدولة العالمية العادلة العظيمة المثمرة، التي لن تقتصر على أن تكون يوتوبيا فحسب، لأنها ستكون هي هذا العالم ذاته.»

وقد حقق ﻫ. ج. ولز نفسه هذه النبوءة عندما قدَّم يوتوبيا أخرى هي «بشر كالآلهة»، التي كُتِبت في شكل رواية عاطفية، وتخلَّى فيها عن كثير من الاعتبارات العلمية التي قدَّمها في كتابه السابق. لقد قال في «يوتوبيا حديثة»: «لو كنَّا نملك حرية التصرف في رغباتنا بغير عائق، لكان علينا فيما أعتقد أن نتبع موريس إلى «لا مكانه»، ولوجب علينا أن نغيِّر طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء معًا، وأن نحوِّل الجنس البشري كله إلى حكماء متسامحين، نبلاء، كاملين، فنلوِّح بأيدينا للفوضى الرائعة التي تجعل كل إنسان يتصرف كما يحب، ولا تحبِّب أي إنسان في أفعال الشر، وبذلك نحيا في عالم خير منسجم مع طبيعته الأساسية الخيرة، عالم ناضج ومشمس كالعالم قبل السقوط.» والواقع أن «بشر كالآلهة» تعد بمنزلة «أخبار من لا مكان» كتبها ولز. صحيح أنها «لا مكان» أكثر علمية وانضباطًا من أن يقبله ذوق موريس، إلا أنه قد تخلَّص أيضًا من قدر كبير من البيروقراطية والإكراه والإلزام الأخلاقي الذي يغلب على «يوتوبيا حديثة».

وتقع يوتوبيا «بشر كالآلهة» أيضًا في كوكب آخر شبيه بكوكبنا، وهو عالم توأم لعالمنا، وإن يكن متقدمًا عليه قليلًا من الناحية الزمنية، كما أنه على خلاف «يوتوبيا حديثة» يخلو تمامًا من حكومة مركزية. «وليس فيه مجلس أو مكتب يصدر القرار الأخير في حالات العمل الجماعي الموجه للمصلحة العامة … ولا تُوجَد فيه سيادة ولا سلطة نهائية، ولا تركيز للسلطة … لقد وُجِد كل هذا في الماضي، ولكنه انصهر منذ وقت طويل في الجسد العام للمجتمع. والشعب هو الذي يتخذ القرارات في أي شأن من الشئون الخاصة، لأنه هو الأعلم بحقيقته. وليست هناك قوانين بالصورة التي نعرفها، ولا توجد سلطة لوضعها موضع التنفيذ. وإذا رفض أي شخص أن يلتزم بالتعليمات الخاصة بالصحة العامة مثلًا، فلن يُفرَض عليه تنفيذها، وإذا أُجرِي تحقيق معه عن السبب في عدم التزامه بها، فربما يجد المحققون عذرًا استثنائيًّا، وإذا لم يتوصلوا لشيء فيمكن إجراء فحص لقواه العقلية وحالته الصحية والأخلاقية.»

وطبقة الساموراي الحاكمة ليس لها نظير في هذه اليوتوبيا، حيث جميع الناس بنفس الحقوق والواجبات، وحيث اختفت الملكية التي كانت تعتبر فيما سبق أساسية لقيام الحرية:

«إن جميع الأنشطة في عالمنا، كما يقول الناطق بلسان يوتوبيا، تتآزر لضمان الحرية العامة. ولدينا عدد من أصحاب العقول الذكية الذين يهتمون بدراسة النفسية العامة للجنس البشري، والتأثير المتبادل بين الوظائف الجماعية.»

قال واحد من أبناء الأرض: «ألا تمثل تلك المجموعة من أصحاب العقول طبقة حاكمة؟»

قال اليوتوبي: «ليس بالمعنى الذي يُفهَم منه أنهم يمارسون أي سلطة استبدادية، إنهم يتعاملون مع العلاقات العامة، وهذا هو كل شيء. ولكنهم لا يحتلون لهذا السبب مستوًى أرفع، فليس لهم أولوية على غيرهم إلا بقدر ما يكون للفيلسوف من أولوية على العالم المتخصص.

وقد وجدنا في النهاية أن الملكية الخاصة لكل شيء — باستثناء الأشياء الشخصية جدًّا — مزعجة إزعاجًا لا يطاق للجنس البشري، ولهذا تخلَّصنا منها تمامًا. والفنان أو العالم لهما مطلق التصرف في المواد التي يحتاجان إليها. ونحن جميعًا نمتلك أدواتنا وأجهزتنا ولدينا غرف وأماكن مخصصة لنا، ولكن ليست هناك ملكية للتجارة أو البورصة، لقد تم التخلص من كل أنواع الملكية القائمة على المنافسة والمناورة.»

تحقق هذا المجتمع اليوتوبي بفضل التغيير الذي تم في تفكير الناس:

«بدأ عدد متزايد من الناس يدركون أن المفهوم القديم للحياة الاجتماعية في الدولة، بوصفها صراعًا محدودًا ومشروعًا بين الرجل والمرأة لكي يحصل كل منهما على أفضل ما عند الآخر، قد أصبح — في ظل الطاقات الجبارة التي أطلقها العلم والتنظيم ووضعاها في متناول الإنسان — أخطر من أن يُحتمَل، شأنه في ذلك شأن الرعب المتزايد من الأسلحة الحديثة الذي جعل السيادة المستقلة للأمم أخطر من أن تحتمل. وكان من الضروري أن تنشأ أفكار جديدة وتقاليد جديدة للاجتماع البشري حتى لا ينتهي التاريخ إلى الكارثة والانهيار …

وكانت فكرة التنافس على الملكية، باعتبارها الفكرة المتحكمة في التعامل بين الناس، أشبه بفرن أُسيء التحكم فيه، فأصبح يهدد بإتلاف الآلة التي دفعها في البداية على الحركة. ولذلك حتَّمت الظروف أن تحل محلها فكرة العمل المبدع، كما أصبح من الضروري أن يُوجَّه العقل والإدارة نحو هذه الفكرة إذا أُريد إنقاذ الحياة الاجتماعية. أضف إلى هذا أن الاقتراحات التي بدت في العصور السابقة نوعًا من المثالية المتحمسة قد بدأ الاعتراف بها، لا كمجرد حقائق نفسية متزنة، بل كحقائق عملية وضرورية بشكل ملح.»

ولم يظهر المجتمع اليوتوبي بفعل ثورة مفاجئة. بل بفضل التزايد التدريجي للنور، وإشراق فجر أفكار جديدة. وبدأ التحسن البطيء للجنس البشري من الناحيتين الجسدية والعقلية، واستمر في التحسن بفضل إصلاح الظروف الاقتصادية والتقدم الملحوظ في دراسة تحسين النسل والتعليم.

وقد صُدم أحد أبناء الأرض، الذي وجد نفسه فجأة في يوتوبيا، صُدم بجمال الأجسام العارية لسكانها، ولكنه تأكَّد بعد ساعات قليلة من الحديث معهم أن تفوق أجسامهم لا يقاس بتفوق عقولهم:

«وأفضل ما أبدأ به هو القول بأن عقول أطفال النور هؤلاء قد شبت بغير أن تفسدها تلك الأشكال الفظيعة من النزاع أو الخداع واللبس والجهل، التي عاقت نمو عقول أبناء الأرض. لقد كانوا (أي أبناء يوتوبيا) يتسمون بالوضوح والصراحة والمباشرة، ولم يبدُ عليهم أنهم عرفوا شيئًا عن ذلك الموقف الدفاعي الذي يتخذه التلميذ عندما يتشكك في المعلم ويقاوم التعليم، وهو رد فعل طبيعي لعملية التعليم التي تعد نوعًا من العدوان. لقد كانوا مسالمين وودودين في علاقات بعضهم ببعض، وبدا عليهم أنهم لا يعرفون شيئًا عن التهكم، والمكر، والكذب، والغرور، والادعاء، التي تتسم بها أحاديث أبناء الأرض.»

كان التنظيم الاجتماعي ﻟ «يوتوبيا حديثة» قد كشف عن ارتياب ولز في الطبيعة البشرية و«الحياة الغريزية»، ولكننا نجده في «بشر كالآلهة» يُدين قمع الغرائز الحيوانية والشهوات:

«لقد طورت يوتوبيا ببطء التجانس الحالي بين القانون والتعليم. لم يعد الإنسان معوقًا ولا مكرهًا على شيء، واعترف بأنه حيوان في المقام الأول، وأن حياته اليومية ينبغي أن تشبع الشهوات وتلبي حاجة الغرائز. وقد حيك النسيج اليومي للحياة اليوتوبية من مأكولات ومشروبات متنوعة ولذيذة، ومن تمرينات وأعمال حرة ومسلية، ومن نوم عذب وشغف وسعادة بالعشق المتحرر من الخوف والإرغام. وقد وصل الكف والكبح إلى الحد الأدنى. أما التعليم في يوتوبيا فقد بدأت قوته في الظهور بعد أن تم إشباع الحيوان الغريزي وتلبية مطالبه. والوقاع أن «الجوهرة» التي تزيِّن رأس الأفعى، والتي أخرجت يوتوبيا من فوضى الحياة البشرية، كانت هي حب الاستطلاع والدافع على اللعب الذي تطور عند البالغين حتى أصبح جوعًا لا يشبع للمعرفة، ورغبة مستمرة وملحة في الإبداع. وهكذا صار جميع سكان يوتوبيا كالأطفال الصغار الذين لا يتوقفون عن التعليم والإنجاز.»

ولم يعد التعليم يهدف إلى غرس الانضباط والطاعة في نفس الطفل، وإنما يهدف إلى «إشباع دوافعه الطبيعية للعب والتعليم … ومراقبة وتشجيع النمو المطرد لخياله … بحيث يقبل على العمل الذي يجذبه، ويختار العمل الذي يمتعه.» وليس معنى هذا أن يُسمَح لجميع الغرائز بأن تتبع مسارها الطبيعي، لأن ولز يوظف ما يطلق عليه المحللون النفسيون اسم «التسامي» توظيفًا حرًّا: «إن الانفعالات الجنسية للطفل تحول في الاتجاه المضاد لأنانيته، وحب استطلاعه يُستثمَر في الشغف بالبحث العلمي، وميله إلى العراك يوجه نحو محاربة الفوضى، كما يُوجَّه كبرياؤه وطموحه إلى المشاركة المشرفة في الإنجاز الجماعي من أجل المصلحة العامة.»

وقد حلت «أكثر المناهج التعليمية رهافة» محل مناهج التنظيم الفجة في «يوتوبيا حديثة».

فلا يوجد، على سبيل المثال، عقاب للعاطلين في يوتوبيا؛ لأنهم لن يجدوا من يحبهم، «إذ لا يحب أحد في يوتوبيا أولئك الذين لا يملكون الطاقة ولا التمييز.» ولا توجد هنا قوانين صارمة للزواج، فالعقود تبرم بحرية وتنهى بحرية، ولا تُجبَر النساء على الحمل، ولا يحملن إلا بعد تدبر واستعداد. ولا توجد في يوتوبيا أي قيود. «ويُنظر إلى الحب الجسدي على أنه شيء طبيعي وجميل، ويتكلم عنه الأطفال دون أي إحساس بالوعي الذاتي».٤

كذلك حل التعليم محل الحكومة في يوتوبيا:

«وليس في يوتوبيا برلمان، ولا سياسة، ولا ثروات خاصة، ولا منافسة في المصالح والأعمال ولا شرطة ولا سجون، ولا مجانين أو ضعاف عقول أو معوقون، والواقع أنها خالية من كل هذا لأن فيها مدارس ومعلمين كما ينبغي أن تكون المدارس والمعلمون. إن السياسة والتجارة والمنافسة هي وسائل التوافق أو التكيف في مجتمع مطبوع على الفجاجة والفظاظة. وقد نحيت أمثال هذه الوسائل جانبًا في يوتوبيا لمدة تزيد على ألف سنة. ولا يحتاج اليوتوبيون الراشدون إلى حكم ولا حكومة، لأن كل ما يحتاجون إليه من الحكم والحكومة قد حصلوا عليه في مرحلة الطفولة والشباب.

ويشب الأطفال في ضياع أو منتجعات واسعة يؤمَّنون فيها من الخوف والأفكار الشريرة، والصدمات التي تهز خيالهم، ويُعوَّدون على النظافة، والصدق، ومساعدة المحتاجين، والثقة في العالم، والإحساس بالانتماء للهدف العظيم للجنس البشري. وبعد سن التاسعة أو العاشرة يخرج الأطفال للعالم — إذ كان تعليمهم قبلها في أيدي الممرضات والمعلمات — ويشارك الآباء بدور أكبر في القيام على تربيتهم. وعلى الرغم من أن الآباء من الناحية العملية ليس لهم أي سلطة على أولادهم وبناتهم، فإنهم يقفون بحكم الطبيعة في صف أطفالهم ويصبحون أصدقاء لهم.

ويتعلم كل شاب يوتوبي المبادئ الخمسة للحرية. والمبدأ الأول هو مبدأ الخصوصية: «فجميع الحقائق الشخصية عن الأفراد هي سر بين المواطن والمنظمة العامة التي يأتمنها عليها، ولا تستخدم إلا لمصلحته وبعد موافقته … ومثل هذه الحقائق تقدم للأغراض الإحصائية، ولا يجوز المساس بها كحقائق شخصية وفردية.» وتشتد ضرورة العمل بهذا المبدأ، لأن ولز يصر في «يوتوبيا حديثة» على أن يسجل كل فرد في الدليل، وأن يكون مقر إقامته على الكوكب معروفًا للتنظيم اليوتوبي. ويمكن تلافي الأخطار الواضحة من احتمال تدخل الناس في حقائق الحياة الشخصية الحميمة وتزييفها بالحرص على أن تكون الخصوصية حقًّا مقدسًا للأفراد.

والمبدأ الثاني هو مبدأ حرية الحركة: «فالمواطن الذي يحق له أن يُعفَى من التزاماته العامة، يمكنه أن يذهب لأي جزء من أجزاء الكوكب اليوتوبي دون تصريح أو تفسير، وجميع وسائل النقل تحت تصرفه بالمجان. وفي استطاعة كل يوتوبي أن يغيِّر البيئة المحيطة به، والمناخ والجو الاجتماعي كما يشاء.»

والمبدأ الثالث هو مبدأ المعرفة غير المحدودة: «فكل ما هو معروف في يوتوبيا — باستثناء الحقائق الفردية والشخصية عن الأحياء — مسجل ومتاح بواسطة مجموعة كاملة من الأدلة، والمكتبات والمتاحف، ومكاتب الاستعلام.»

والمبدأ الرابع عن الحرية هو «الكذب هو أشنع الجرائم»؛ والإدلاء بوقائع غير صحيحة أو حتى إخفاء واقعة مادية يُعتبَر من الأكاذيب المشينة في يوتوبيا.

والمبدأ الخامس هو مبدأ حرية المناقشة والنقد، فكل يوتوبي حر في نقد ومناقشة أي شيء في الكون بأسره شريطة ألا يكذب، ويمكنه أن يسيء الاحترام كما يريد، ويقترح أي شيء مهما كان مخلًّا بالنظام والأمن.

وعلى الرغم من أن ولز يضحي بالكثير من مفاهيمه «البرجوازية» في كتابه «بشر كالآلهة»، إلا أنه لم يتبنَّ أي نظام شيوعي. فالنقود في شكل عملات معدنية أو ورقية لم تعد تستعمل، لأن جميع المعاملات تتم عن طريق البنوك. ويتسلم كل طفل عند ميلاده من المال العام مبلغًا من المال يكفي للإنفاق على تعليمه ومعيشته حتى سن الخامسة والعشرين، ولكنه يختار بعد ذلك وظيفة معينة، ويضيف من جديد إلى رصيده. أما المجتهدون والمبدعون فغالبًا ما يتلقون منحًا كبيرة لتنفيذ أعمالهم، ويجمع الفنانون في بعض الأحيان ثروة كبيرة إذا زاد الطلب على أعمالهم. والظاهر أن الاحتفاظ بالأجور يلعب دورًا صغيرًا في يوتوبيا، ويرجع هذا فيما يبدو لعدم استعداد ولز للتسليم برأي الشيوعيين من أمثال وليم موريس.

ومع ذلك يبدو أن ولز قد تنازل في أمر لا يقل عن ذلك أهمية، فهو على الرغم مما قاله من قبل في «يوتوبيا حديثة» قد وصف جنسًا حكيمًا ومتسامحًا ونبيلًا كاملًا، ولا يختلف اختلافًا جوهريًّا عن جنسنا. ففي يوتوبيا كما يقول: «تم القضاء عن عمد، خلال الاثني عشر قرنًا الماضية، على جميع الأنماط القبيحة، والشريرة، والضيقة الأفق، والغبية، والمكتئبة، ولكن الرجل العادي في يوتوبيا، باستثناء ما يستدعيه تحقيق إمكاناته الباطنة، لم يكن يختلف إلا اختلافًا قليلًا جدًّا عن أولئك الناس العاديين النشطين والقادرين في العصر الحجري المتأخر، أو في مجتمع العصر البرونزي المبكر. لقد كانت تغذيتهم وتدريبهم وتعليمهم أفضل بكثير وبغير حدود، وكانت أحوالهم العقلية والجسدية تتسم بالنظافة والكفاءة، ولكن كان لهم نفس الأجساد ونفس الطبيعة التي لنا.»

وتعد «بشر كالآلهة» آخر يوتوبيا في التراث «الكلاسيكي»، وقد يتساءل المرء عما إذا كان ولز هو آخر الكُتَّاب اليوتوبيين. غير أننا نستطيع أن نقول، من جهة أخرى، إن الاهتمام بالأدب اليوتوبي لا يزال في الواقع بعيدًا كل البعد عن الاختفاء. فقد خصص لويس ممفورد دراسة شاملة عن «قصة اليوتوبيات»، جمع فيها بين التحليل النقدي وبعض الاقتراحات المهمة من جانبه.

وقدمت واستقصت إيثيل مانين Ethel Mannin بعده بقليل، في كتابها «خبز وورد»، استقصت المفاهيم المختلفة لليوتوبيات كما أعطتنا رؤية ليوتوبياها الخاصة. واستمرَّ هؤلاء الكُتَّاب يؤكدون إرادة اليوتوبيا، ويرددون صدى عبارة أوسكار وايلد الشهيرة: «إن خريطة العالم التي لا تتضمن اليوتوبيا لا تستحق حتى إلقاء النظر عليها؛ لأنها البلد الوحيد الذي تهبط عليه سفن البشرية دائمًا. وعندما ترسو البشرية هناك، فإنها تتطلع للأفق، وإذا لمحت بلدًا أفضل، بدأت الإبحار من جديد، فالتقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع.» ومع ذلك فإن الاتجاه المتزايد للأدب الحديث قد أصبح مضادًّا لليوتوبيا. ولم يعد ينظر لليوتوبيا كحلم مثالي ومستحيل، لكن باعتبار أنها قد تحققت بالفعل أو في طريقها إلى التحقق، ولم تعد كذلك تنطق بالسعادة، والكمال، والتقدم، لأن الحلم قد تحول في نظر الكثيرين إلى كابوس مروع.
ويبدو أن نبوءة نيقولا برديائيف٥ كادت أن تصبح حقيقة، فقد قال: «يبدو أن اليوتوبيات صارت أكثر قابلية للتحقق مما كانت عليه في الماضي. ونحن نجد أنفسنا في مواجهة مشكلة مثيرة للحزن: كيف يمكننا أن نحول دون تحققها النهائي؟ … ومن الممكن أن تتحقق اليوتوبيات، والحياة تتقدم نحو اليوتوبيا. وربما يكون قرن جديد قد بدأ، قرن يحلم فيه المثقفون والطبقات المستنيرة بالوسائل الكفيلة بتجنب اليوتوبيات والعودة إلى مجتمع غير يوتوبي أقل كمالًا وأكثر حرية.»

ربما يكون من عدم الإنصاف أن نقول إن القرن العشرين يعيش يوتوبيات الماضي، فالعالم الذي خاض غمار حربين فظيعتين خلال فترة من الزمن لا تزيد على الثلاثين عامًا، العالم الذي خربته الأوبئة والمجاعات، تصعب المقارنة بينه وبين اليوتوبيات التي ادعت أنها ألغت الفقر والبطالة، بل أقامت حكومة عالمية ستضع نهاية للحروب. ومع ذلك يصح أن نقول إن بنية المجتمعات التي دعت إليها يوتوبيات الماضي قد أصبحت — إلى حدٍّ كبير — حقيقة واقعة، ولما كانت النتائج التي أسفرت عنها تحمل شبهًا ضعيفًا بالنتائج التي أوحت إلينا بأن نتوقعها، فقد يكون هناك ما يبرر القول بأن البنية نفسها فاسدة. لقد أخفق القرن العشرون إخفاقًا ذريعًا عندما حاول تحقيق الخطط اليوتوبية للماضي، أوجد دولًا جبارة تتحكم في وسائل الإنتاج والتوزيع، ولكنها لم تقضِ على الجوع، دولًا شجعت الاكتشافات العلمية وطورت الإنتاج، ولكنها فشلت في أن توفر للمواطن مستوًى لائقًا للحياة، وزعمت أنها حققت المساواة الكاملة، ولكنها خلقت بدلًا من ذلك طبقات جديدة مميزة وألوانًا من عدم المساواة ربما تكون أفظع مما سبقها، دولًا حولت الناس إلى «ربوتات» خاضعة للآلات التي تقوم على خدمتها، وجعلتهم وحوشًا بتأثير الدعاية، دولًا أوجدت الظروف التي ينظر فيها إلى كل فكر فردي على أنه جريمة، ويتوقف فيها الأدب والموسيقى والفن عن أن تكون تعبيرًا عن الفرد، وتتحول بدلًا من ذلك إلى نفاق للنظام الذي حلت فيه العبودية للدولة وآلهتها الجديدة محل الديانة القديمة.

هل خانت هذه اليوتوبيات بالفعل روح أولئك الذين تصوروها؟ إن هؤلاء الكُتَّاب قد عشقوا السلطة، كانوا مقتنعين بضرورة إبلاغ «الشعب» بما هو في مصلحته، أرادوا النظام بأي ثمن، حتى لو كان هو البيروقراطية، كرهوا الفردية، وكانت عقولهم ضيقة الأفق «غير إنسانية». ويمكننا أن نتخيل «كابيه» وهو يصحب بياتريس وسيدني ويب Beatrice and Sidney Webb في رحلتهما إلى بلاد السوفييت، ومن المرجح أن تقريره كان سيفيض بالحماس مثل تقريرهما. ويشعر الإنسان بأن بيلامي كان من الممكن أن تفتنه مظاهر الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وأنه كان سيُعجَب أشد الإعجاب بالسخرة الصناعية في بريطانيا، وتأميم الصناعة، ونظام البطاقات التموينية وغيرها من التطورات الحديثة.
ولكن هذه اليوتوبيات لم يُنظَر إليها دائمًا بعيون ورثة الكُتَّاب اليوتوبيين في القرن التاسع عشر، ونقصد بها الفابيين٦ أو العقائديين الشيوعيين. لقد نُظر إليها أحيانًا بعيون الصحفيين الباحثين عن الحقائق، الذين كتبوا التقارير عن مهمتهم في يوتوبيا، أو بعيون الكُتَّاب أصحاب المواقف النقدية من القضايا الاجتماعية الذين لم يترددوا، مثل أندريه جيد، عن التعبير عن خيبة أملهم المؤلمة في البلاد التي اعتقدوا قبل ذلك أن «اليوتوبيا ستصبح فيها حقيقة واقعة». لقد أغضبت كتبهم أولئك الذين لا ينفصل حبهم للنظام عن تحيزهم للطغاة.٧

ولكنها (أي الكتب) أشاعت سوء الظن في اشتراكية الدولة التي دافع عنها اليوتوبيون في القرن التاسع عشر.

لقد كان الاتجاه الأساسي للأدب في فترة ما بين الحربين العظميين هو الشك الشديد في قدرة الدولة على تغيير المجتمع. وقد دفع قيام النظم الجديدة، سواء كانت شيوعية صريحة، أو اشتراكية غامضة، وإن كانت في الحالين شمولية وعلى استعداد للتضحية بالفرد في سبيل مصلحة الدولة، دفع المثقفين إلى تبني موقف الخضوع الكامل للدولة مما جعلهم يتحولون إلى مجرد دعاة مأجورين، أو إلى موقف التحدي والدفاع عن الحقوق الفردية.

وقد كان هناك أيضًا اتجاه آخر للتخلي عن الإيمان بحتمية التقدم. فقد اعتقد معظم كُتَّاب القرن التاسع عشر أن الاكتشافات العلمية والتطور الصناعي سيؤديان بصورة آلية إلى زيادة سعادة الجنس البشري، ولكن الأجيال الحديثة تدرك الأخطار التي يمكن أن يأتي بها التقدم كما تدرك مزاياه. فلم يعد ينتظر من الآلات أن تقوم بتحرير البشر عندما تتحول إلى عبيد لهم، كما كان يحلم بذلك أوسكار وايلد، وإنما أصبحت تبدو في معظم الأحيان وكأنها تتحكم فيهم تحكم السادة في العبيد.

والعامل الحديث يتعرف على نفسه في شخص شارلي شابلن الذي يصارع الآلة الجهنمية ﻟ «العصور الحديثة»،٨ بل إننا لنخاف أن يخرج حتى الإنسان الآلي المطيع للورد ليتور عن سيطرتنا، وهو خوف تم التعبير عنه عشرات الروايات، والأفلام السينمائية والمسرحيات، وكذلك في المسلسلات الهزلية من مسرحية شابيك ر. ر. ع Capek’s R. U. R،٩ إلى قصة أمريكية حديثة بعنوان «الأيدي المضمومة» تصف غزو الأرض من قِبَل حشود من الروبوتات (الإنسان الآلي) القادمين من كوكب آخر، الذين يطيعون «الموجه الرئيسي» الذي يجبرهم على تولي كل الأعمال البغيضة والمهام التي يقوم بها البشر عادة، وبذلك يصبح البشر أحرارًا في الركون إلى الكسل والدعة، وإن كان اليأس والقنوط يأخذ بعد ذلك بخناقهم.

ولسنا هنا بصدد مناقشة مشكلة «الإنسان في مواجهة الآلة»، إذ تكفي الإشارة إلى أن الإيمان بالآلة كعامل أساسي في تحقيق السعادة البشرية — وهو الإيمان الذي يقوم بدور مهم في يوتوبيات القرن التاسع عشر — قد حل محله الشك في الآلة إلى حد الخوف منها، كما سلب هذه اليوتوبيات جانبًا كبيرًا من سحرها.

وقد وجه الكُتَّاب المحدثون ضربة أخرى للأدب اليوتوبي بإصرارهم على مناقشة مشكلة «الإنسان في مواجهة الدولة». فقد افترضت أغلبية اليوتوبيات أن مصالح الفرد تتوافق مع مصالح الدولة، وأن الصراع بينهما شيء مستبعد ولا يمكن تصوره، بينما تناول الكُتَّاب المحدثون، على العكس من ذلك كل أنواع الصراعات الممكنة بين الدولة والفرد … قد يكون هذا الفرد واحدًا من آل كافوني Cafoni الذين وصفهم الروائي الإيطالي إجنازيو سيلونه Ignazio Silone، أو واحدًا من الفلاحين الجائعين والمصابين بالملاريا الذين صورهم الأديب الإيطالي كارلوليفي Carlo Levi في جنوب إيطاليا، وقد يكون شاعرًا يفضل الانتحار على أن يصبح شحمًا لتزييت آلة الدعاية، أو يكون الجندي شفايك،١٠ وربما يكون ثوريًّا قديمًا أُجبر على خيانة مثله العليا، أو موظفًا مدنيًّا أو جنديًّا في فرق العاصفة، أو واحدًا من شخصيات كافكا (١٨٨٣–١٩٢٤م) التي تصارع السلطة، وتواجه الغباء الأعمى للقانون والبيروقراطية. ولقد شعرنا جميعًا، في وقت أو آخر، بنفس شعور «ك» — بطل رواية كافكا «المحاكمة» — بالضياع، والعجز الكامل عن فهم الآلة الضخمة التي توجه حياتنا وكثيرًا ما تهيمن عليها. ولم يكن نقد كافكا للمجتمع موجهًا لأي دولة بعينها، ولكن الصراعات التي عاناها «ك» هي نفسها صراعات أي إنسان حديث.

لقد تناسى اليوتوبيون أن المجتمع كائن عضوي حي، وأن تنظيمه يجب أن يكون تعبيرًا عن الحياة لا بناءً ميتًا. وقد دفع الوعي بهذه الحقيقة الكُتَّاب المعاصرين إلى مهاجمة الدولة وكل أشكال السلطة، سواء كانت نابعة من الدين أو من الأحزاب السياسية، كما حفزتهم على الرجوع إلى نموذج التجمعات المستقلة التي يوحد بينها نظام فيدرالي حر، وتتيح أعظم الفرص الممكنة لتطور شخصية الإنسان. وقد أكدوا من جديد الحاجة إلى إيجاد أخلاق حقيقية لا تعلم في المدارس من كتب التعليمات المحفوظة، ولا تقوم على طاعة السلطة، ولا تبرر التضحيات والحلول الوسط «لمصلحة المجتمع»، بل تعزز حق الفرد في أن يفكر لنفسه ويدافع عن حريته، لأن الإنسان الذي يفتقر إلى الحرية لا يستحق أن يكون عضوًا في الجماعة، وإذا هو ضحى بفرديته، وبروح المبادرة والتمرد، فقد أضر بالدولة بدلًا من أن ينفعها.

وهذه الفقرة من كتاب سيلونه Silone «مدرسة الطغاة» — على الرغم من أنها موجهة ضد مؤسسات فعلية — تشبه أن تكون نوعًا من الإدانة لليوتوبيات التسلطية: «إن الآلات تستعبد الإنسان، وكان ينبغي أن تكون أدوات في يده، والدولة تستعبد المجتمع، والبيروقراطية تستعبد الدولة، والكنيسة تستعبد الدين، والبرلمان يستعبد الديمقراطية، والمؤسسات تستعبد العدالة، والأكاديمية تستعبد الفن، والجيش يستعبد الأمة، والحزب يستعبد القضية، وديكتاتورية البروليتاريا تستعبد الاشتراكية.»

ويقول هربرت ريد، بشكل أكثر قوة وإقناعًا: «أعتقد أن الفكرة الوحيدة عن المجتمع التي يمكنها أن تضمن تكامل الشخص الإنساني، هي نفي فكرة المجتمع. فكل تقدم في اتجاه الجماعة يجب أن يقابله تأكيد لحرية الفرد. وكل قانون يجب أن يسمح بالخروج عليه. وأعظم سلطة ممكنة يجب أن تكون من حق أكثر الناس تواضعًا. وكل عمل حكومي يجب أن يتضمن حدود صلاحيته كما يتضمن عدم دوام المنصب أو الوظيفة. وينبغي أن تكون استمرارية الحياة شيئًا غير مرئي مثل اتجاه الريح. لا طبول تقرع، ولا أعلام ترفرف، لا تحيات ولا انحناءات، لا جيوش زاحفة في الاستعراضات ولا جوقات منشدة، بل شيء واحد فقط هو الصوت الوديع الهادئ وقمح الشرق.»

إن السياسيين ورجال الدولة يقربوننا كل يوم من تحقيق اليوتوبيات في الواقع، وذلك بإحكام رقابتهم على حياة الأفراد. صحيح أن الحكومة في هذا البلد (أي إنجلترا) لم تذهب إلى حد إصدار قائمة بالأطعمة التي ينبغي أن يتناولها الشعب أو التي لا ينبغي عليه تناولها، كما حدث في إيكاريا، ولكنها مع ذلك تحدد بدرجة كبيرة — عن طريق تنظيم الحصص التموينية والتحكم في الواردات — ما ينبغي علينا أن نأكله، وقد حددت أيضًا في أثناء الحرب «الموضات» النسائية على أسس نفعية لا جمالية، بل بلغ بها الأمر أن غيرت ملابس الرجال، وعن طريق التحكم في الورق مارست رقابة على المطبوعات، أما عن التعبئة الصناعية، فبالرغم من الثغرات الكثيرة التي تزيد على ما كان يسمح به على اليوتوبيات، فإنها تلزم كل مواطن بالعمل. والتأمينات الاجتماعية تمثل جانبًا آخر من تطبيق المبدأ الأثير عند كل اليوتوبيات، وهو أن المجتمع مسئول عن المريض والمتقدم في السن والعاطل والطفل، وإن كانت هذه التأمينات قد خفضت إلى حد هزيل لكي تتماشى مع مشروع بيفريدج.١١ وفي مجال الصناعة والبحث العلمي وصل مجتمعنا إلى المستوى الذي بشرت به اليوتوبيات، وجاوزه في كثير من الأحيان. ولما كان ينطبع شيئًا فشيئًا بطابع يوتوبي متزايد، فإن نبوءة «برديائيف» قد أوشكت أن تصبح حقيقة: «إن المثقفين يحلمون بتجنب تحقيق اليوتوبيات في الواقع، والعودة إلى مجتمع أقل كمالًا وأكثر حرية».
والكُتَّاب الذين اقتبسنا بعض عباراتهم ليسوا هم وحدهم المكافحين من أجل عالم مضاد لليوتوبيا، ففي فرنسا نجد جان بول سارتر وأندريه بريتون وألبير كامو، وفي أمريكا هنري ميلر وعشرات من الشعراء والكُتَّاب الشبان والكُتَّاب الكاثوليكيين مثل إريك جيل وجورج برنانوس، وعلماء الاجتماع والبيولوجيا مثل لويس ممفورد وباتريك جيريس، وروائيين مثل أ. م. فورستر، وركس وارنر وجراهام جرين، كل هؤلاء خاضوا معركة الفرد ضد الدولة. وقد ذهب البعض إلى حد وضع يوتوبيات نقدية ساخرة، ورؤًى لعالم مستقبلي فقد فيه الإنسان تمامًا الإحساس بتفرده، ومجتمعات كاملة أصبح فيها الناس آلات على مستوى عالٍ من الكفاءة، ولكنهم عاجزون عن تجربة أي عاطفة قوية. وقد يكون من الصعب تقدير مدى توجه هذه اليوتوبيات المضادة للهجوم على يوتوبيات الماضي، أو على الاتجاهات والمؤسسات الفعلية في مجتمعنا الحديث. ولكن من الواضح أن رواية «نحن الآخرون» لزامياتين،١٢ التي ظهرت في روسيا في نهاية العشرينيات، قد استوحت النظام السوفييتي بشكل صريح، كما أن رواية «عالم طريف شجاع» لأولدس هكسلي١٣ (١٨٩٤–١٩٦٣م)، التي نشرت لأول مرة عام ١٩٣٢م، وتشبه رواية زامياتين من نواحٍ عديدة، تهدف إلى السخرية من المجتمع الأمريكي الحديث. أما رواية «مزرعة الحيوانات» لجورج أورول١٤ (١٩٤٥م) فلا يمكن أن تعتبر يوتوبيا ساخرة، إلا في نظر الذين لم يتابعوا تاريخ روسيا خلال الثلاثين عامًا الماضية.

وتعد اليوتوبيا المضادة لزامياتين رؤية مستقبلية. فهو يصف المجتمع الذي يفترض وجوده بعد مرور ألف عام على إقامة الدولة الوحيدة التي تحكم العالم بأسره، وعشية الاستعداد لغزو الكون كله بفضل آلة مرعبة يمكن أن تنطلق إلى الكواكب الأخرى. والحياة في الدولة الوحيدة منظمة بدقة رياضية، وكل شيء فيها قد تحول إلى معادلات رياضية، والرجال والنساء جميعًا يعلقون لوحًا ذهبيًّا لافتًا للأنظار يحمل أرقامهم: «لا يوجد في المجتمع عضو «واحد»، بل واحد بين كثيرين»، أو «واحد من …» لأننا متشابهون إلى حد كبير. والدولة يحكمها «فاعل الخير»، يعتبر وكلاؤه أو «حراسه» ملائكة حارسين، فهم مطلعون على كل حركة بل وكل فكرة تدور في رأس أي مواطن، لأنهم يضطلعون في نفس الوقت بدور الكاهن الذي يتلقى الاعتراف ودور الجاسوس ودور مخبر البوليس.

وقد حل جدول المواعيد محل الأيقونة التي تعلق في كل غرفة، فالعمل، والأكل، والنوم، والمعاشرة الجنسية قد نُظِّمت كلها تنظيمًا صارمًا في جدول المواعيد. وهناك ساعة مركبة في ظهر اللوح الذهبي الذي يحمله كل مواطن، وتكاد هذه الساعة أن تكون مدمجة في جهازه العضوي، حتى ليمكنه أن يقدر الوقت في بضع دقائق، مهما كان واقعًا تحت ضغط الانفعالات الطاغية. ولا يوجد شيء مما يسمى بالحياة الخاصة للفرد، فلا يقتصر الأمر على فتح بريده قبل وصوله إليه، أو على إلزامه بأن يقدم للحرَّاس تقريرًا عن أي شيء غير عادي، بل هناك جهاز سمعي، يتم إخفاؤه بطريقة بارعة، ويسجل لحساب مكتب الحراس جميع الأحاديث التي تجري في الشارع. وقد تم كذلك تبسيط مهمة الحراس إلى حد كبير، إذ بنيت البيوت من حوائط زجاجية لتمكنهم من أن يروا بنظرة واحدة ما يجري في كل شقة سكنية. ويُسمح بإنزال الستائر في الساعة المحددة للمعاشرة الجنسية فقط: «وليس من حقنا استخدام الستائر إلا في الأيام المحددة للمعاشرة الجنسية. أما في الأوقات الأخرى فنحن نعيش دائمًا عيشة مفتوحة داخل حوائطنا الشفافة، التي تبدو كأنها منسوجة من الهواء المتلألئ بالضوء، ونستحم في النور، لأننا لا نملك شيئًا نخفيه، ولأن هذا الأسلوب في الحياة يقلل من إرهاق المهمة الصعبة ﻟ «فاعل الخير». وإلا فمن يدري ماذا يمكن أن يحدث؟ أليس من المحتمل أن البيوت المعتمة التي كان يعيش فيها الناس في العصور القديمة هي المسئولة عن أحوالهم النفسية البائسة المهترئة؟»

وتتم الحياة الجنسية وفق مبادئ علمية. فالمكتب الجنسي يحلل هرمونات كل مواطن وينظم جدول الأيام المخصصة للجنس. ويعلن الشخص بعد ذلك أنه — أو أنها — يريد ممارسة الجنس عددًا معينًا من المرات، ويسلم له — أو لها — كتيبًا به تذاكر وردية اللون، تسمح كل تذكرة منها بساعة واحدة للمعاشرة الجنسية. وهذه التذكرة الوردية يمكن استخدامها لأي عدد، لأن المبدأ المعمول به هو أن الواحد للجميع والجميع للواحد. ولا يسمح للنساء بإنجاب الأطفال إلا إذا توافرت فيهن مستويات معينة، وإن لم يطعن التعليمات يُحكَم عليهن بالموت.

والمثل الأعلى في مجتمع المستقبل هذا هو أن يصبح المرء «كاملًا» مثل «الآلة». ونظام تايلور Taylor لا يطبق على العمل فحسب، بل على الحياة كلها، على كل خطوة، وكل حركة ويأكل الناس طعامًا صناعيًّا، ويرتدون زيًّا صناعيًّا موحدًا، ويتعلمون في المدارس بواسطة الروبوتات (الإنسان الآلي) ويستمعون إلى موسيقى صناعية صادرة عن جهاز قياس موسيقي بحيث يستطيع أي فرد بواسطة إدارة المحول أن يستمع إلى ثلاث إرنينات (سوناتات) في الساعة الواحدة. ولا يزال إجراء الانتخابات قائمًا، ولكننا نستنتج من سياق القصة أن «فاعل الخير» يحصل دائمًا على نسبة مائة في المائة من الأصوات، كما يطلق على اليوم الذي يقام فيه الانتخاب اسم ملائم هو «يوم الإجماع». ولا تعتبر الحرية غير ضرورية فحسب، بل تعدُّ خطرة:

«إن الحرية والجريمة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، كارتباط حركة الطائرة بسرعتها. فإذا كانت سرعة الطائرة صفرًا. فإنها تظل في حالة سكون، وإذا كانت حرية الإنسان صفرًا، فمن الواضح أنه لن يرتكب أي جريمة على الإطلاق. إن الوسيلة الوحيدة لتحرير الإنسان من الجريمة هي تحريره من الحرية.»

وعلى الرغم من مرور ألف عام على تأسيس الدولة الوحيدة، فهناك متمردون ضد النظام، رجال يكسرون القواعد أو يصرحون بأفكار ضالة، ونساء يرغبن في أن يكون لهن أطفال، رغم أنهن لا يوفين بالشروط المطلوبة، ولكن الدولة لا تأخذها أي شفقة بأمثال هذه الانحرافات وإذا لم يعترف أصحابها بجرائمهم فإنهم يوضعون تحت نواقيس ضخمة تُفرغ أحيانًا من الهواء وتُملأ أحيانًا أخرى بغازات خاصة. ويؤدي هذا إما إلى الاعتراف وإما إلى الموت. وتنفذ أحكام إعدام أخرى أكثر إثارة بشكل علني عن طريق آلة «فاعل الخير»، وهي كرسي كهربائي مهول يقلص الجسد البشري إلى بضع قطرات قليلة من الماء في ثوانٍ معدودة. ويشغل هذه الآلة «فاعل الخير» نفسه الذي يقوم بدور الجلَّاد.

ومن أغرب معالم هذه الدولة الوحيدة أن كل مدينة محاطة بسور ولا يسمح لأحد بالخروج منه.

وفي الأرض المحرمة التي تفصل المدن المختلفة بعضها عن بعض يعيش رجال ونساء يبدو أنهم ينتمون إلى جنس مختلف، أو أنهم بقايا الحضارة القديمة. وهم الذين بقوا أحياء بعد انقراض الحياة الحرة الفطرية، كما أن لهم حلفاء يعيشون داخل أسوار المدينة، وهم رجال ونساء يتملكهم الحنين إلى الماضي، والرغبة في تجربة الأخطار، والعذاب، وجيشان الأحاسيس. وعندما يحاول هؤلاء أن يتمردوا، فإن الدولة تطبق عليهم نوعًا من العلاج الطويل الأمد، وهو التدير الإجباري للخيال، وذلك عن طريق عملية بسيطة في المخ تستأصل منه للأبد أي توق للحرية، وأي رغبة غير مشبع، وأي شك أو ندم.

وتتسم سخرية زامياتين بقدر من العنف والمرارة اللذين لا نجد لهما أثرًا في عالم هكسلي الشجاع الطريف، الأمر الذي يرجح القول بأنها تزيد على كونها مجرد رؤية أو توقع أكاديمي. فالدور الذي يؤديه البوليس، ووسائل التعذيب والإعدام، والجو الخانق للمخبرين الرسميين وغير الرسميين، كل هذا قد تم وضعه بطريقة توحي بأنها مستمدة من معرفة حميمة. وعلى الرغم من أن الكتاب ينتهي بالانتصار الكامل للدولة الوحيدة، التي تنجح في تدمير خيال جميع مواطنيها، فإن اللجوء إلى هذا الإجراء العنيف يكشف عن ضعف الحكم الشمولي. لم تنجح ألف سنة من الدعاية في تحويل الناس إلى آلات محضة، ولهذا كانت عملية المخ ضرورية لتحقيق هذا الغرض.

وقد استتب الأمن والاستقرار في «عالم طريف شجاع» لأولدس هكسلي بوسائل أفظع من الوسائل التي ذكرناها، فهناك أولًا عملية التخليق الصناعي للرضع في الزجاجات، ثم هناك التكييف الشرطي عن طريق الهيبنوبايديا Hypnopaedia، أي تلقين التعاليم الأخلاقية أثناء النوم، والتشريط البافلوفي الجديد للأفعال المنعكسة لدى الأطفال، واستخدام السوما Soma مع الكبار، وهو الدواء العجيب الذي يشفي من كل أمراض السخط، وسوء المزاج، والاستياء أو المرارة. والنتيجة المترتبة على هذا هي أن وسائل التصحيح والتقويم يمكن أن تكون أكثر اعتدالًا مما هي في دولة زامياتين الوحيدة، فليس هناك أدوات تعذيب أو جلادون، والمذنبون في حق الدولة يرسلون إلى جزيرة نائية حيث يعيشون حياة كئيبة، ويُقمَع المتمردون باستنشاق غاز السوما وتسجيل أحاديث «البيب».

لقد طال ما أقامت اليوتوبيات جداول زمنية صارمة لسكانها، بل ووضعت خططًا لأوقات فراغهم. ففي «عالم طريف شجاع» نجد أن الإنسان، من الناحية النظرية، حر في استغلال وقت فراغه فيما يتصور أنه مناسب له، ولكنه — بسبب «تكييفه» — غير قادر على الانفراد بنفسه أو السَّعْي بمحض إرادته وراء متعته الخاصة. ولهذا يتم الاستمتاع بكل الملذات بشكل سلبي. وحتى الجهد المطلوب من الخيال للاستمتاع بمشهد حب على الشاشة يصبح جهدًا غير ضروري، لأن الصورة المرئية تتحول بشكل آلي، من خلال جهاز معين، إلى إحساسات ملموسة ومسموعة ومشمومة.

وطبيعي أن يختفي الحب من مجتمع يعتبر العواطف القوية خطرًا على استقرار الدولة، وأن تحل محله علاقات جنسية غير شرعية، تتم لاعتبارات صحية أو لمجرد التسلية الخالصة من أي انفعال عنيف.

ومع ذلك فإن نظام «التكييف» العجيب نفسه لا ينجح دائمًا بصورة كاملة، فهناك عدد قليل من الساخطين على المجتمع، وشخص نادر يريد أن يشعر بذاتيته ويحس بهويته وبأنه ليس مجرد خلية في جسم المجتمع. وهناك أيضًا الهمجي الذي هرب بالمصادفة من بين صفوف الباقين على قيد الحياة من أبناء الحضارة القديمة الذين احتُفِظ بهم خدمة للعلم. والهمجي يشبه بطبيعة الحال الإنسان الحديث المتمدن، ولديه رغبة طبيعية في المعاناة، وإيمان قوي بالإحباط الذي جلبه على نفسه، واحتقار للجسد يدفعه في النهاية إلى الانتحار.

لقد نجح كل زامياتين وهكسلي نجاحًا رائعًا في سخريتهما من السعادة الإجبارية التي تفرضها الدول الشمولية، ولكنهما بدلًا من أن يطالبا بحق الإنسان في السعادة الحرة التي يمكن أن تأتي من تعبيره عن شخصيته، نجدهما يطالبان بحقه في المعاناة. وتكمن تحت انتقاداتهما لليوتوبيا فكرة أن المعاناة والإحباط ضروريان للإبداع، وأن الروح تحتاج إلى أن تُعذَّب. وهما يتمنيان العودة إلى الماضي، أو إلى الحاضر، حيث يؤمن الناس بفكرة التكفير، ويُنظَر إلى الحب الجسدي على أنه خطيئة، وتعمل الغيرة والطموح وغيرهما من الانفعالات الوضيعة على حث الناس على الفعل.

إن هذين الكاتبين ينتقدان اليوتوبيا، لأنها لا تتسع لهاملت أو عطيل، متناسيين أن هناك مكانًا، بين هاملت والإنسان الآلي، للفرد الذي لا يحب أن يكون له مزاج هاملت العصابي، ولا يريد أن يكون إنسانًا آليًّا.

إن اليوتوبيات التسلطية للقرن التاسع عشر هي المسئولة بشكل أساسي عن الاتجاه اليوتوبي المضاد الذي يغلب اليوم على المثقفين. ولكن اليوتوبيات لم تصف دائمًا مجتمعات شديدة التنظيم والانضباط، ودولًا مركزية وأممًا مكونة من روبوتات. لقد قدَّم لنا ديدرو في «تاهيتي»، وموريس في «أخبار من لا مكان»، يوتوبيات يعيش فيها الناس أحرارًا من القهر الجسدي والأخلاقي، حيث لا يعملون من منطلق الضرورة أو الإحساس بالواجب، بل لأنهم وجدوا أن العمل نشاط ممتع، وحيث لا يعرف الحب قوانين تتحكم فيه، ويكون كل إنسان فنانًا. لقد كانت اليوتوبيات في أكثر الأحيان خططًا ومشروعات لمجتمعات تعمل بشكل آلي، وبناءات ميتة تصورها اقتصاديون وسياسيون وأخلاقيون، ولكنها كانت كذلك الأحلام الحية للشعراء.

(لندن: يناير–يوليو ١٩٤٨م)

(١) يوتوبيا عامل شريد:١٥ «جبال كاندي الصخرية العظيمة»

ذات مساء بعد أن مالت الشمس للمغيب
وكانت النار تشتعل في الغابة كالحريق،
جاء «الهوبو» هابطًا الدرب الوعر، وقال لأصحابه:
يا أولاد، أنا لن أرجع أبدًا، يا أولاد،
فأنا الآن أغادركم متجهًا للبلد النائي
الواقع بجوار النافورات البللورية،
هيا يا أولاد، تعالوا نذهب لنراها،
هيا لجبال كاندي الصخرية العظيمة.

•••

هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة،
بلد طيب يتألق بالجمال،
تنمو فيه الصدقات على الأشجار،
وتشبعون كل ليلة من النوم الطويل،
هناك تسير عربات الشرطة فارغة،
وتسطع الشمس المشرقة كل يوم
على أسراب الطيور والنحل وأشجار الدخان،
وتتدفق الينابيع بعصير الليمون ويشدو العصفور الأزرق بالغناء،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة.

•••

في جبال كاندي الصخرية العظيمة
جميع رجال الشرطة يمشون على أرجل خشبية،
وجميع الكلاب الضخمة أسنانها من المطاط،
والدجاجات تبيض بيضات مسلوقات.
وأشجار المزارعين مثقلة بالثمار،
والمخازن مكدسة بالأعلاف.
آه! لا بد أن أذهب إلى حيث لا تتساقط الثلوج،
ولا تسيل الأمطار ولا تهب الرياح،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة.

•••

هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة،
لا تغيِّر أبدًا جواربك القصيرة،
كما أن جداول الخمر الصغيرة
تنساب إليك من فوق الصخور.
هناك يُميل الحراس قبعاتهم (فوق العيون)
والمخبرون في السكك الحديدية عميان لا يبصرون
هناك بحيرة مملوءة بالطبيخ، والويسكي أيضًا هناك،
وتستطيع أن تجدف فيها وأنت في قارب كبير،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة.

•••

في جبال كاندي الصخرية العظيمة،
جميع السجون مصنوعة من الصفيح،
وكلما جروك إليها وفيها حبسوك،
تستطيع أن تنفذ منها من جديد،
هناك لا توجد جواريف بأيدٍ قصار
ولا فئوس أو مناجل أو مناشير،
سأقيم هناك حيث أنام طوال النهار،
وحيث شنقوا الغبيَّ الذي اخترع الكدح والشقاء،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة.

هوامش

(١) هربرت جورج ولز، ولد في بردملي بمقاطعة «كنْت» بإنجلترا عام ١٨٦٦م. من أسرة تقع من طبقات المجتمع في الدرجة الدنيا من الطبقة الوسطى. يدين ولز بمذهب الاشتراكية، وقد كان عضوًا في جمعية «الاشتراكية المعتدلة»، ولكنه انفصل عنها وشق لنفسه طريقًا خاصًّا لنشر آرائه الاشتراكية، وأخذ ينشر تباعًا «الاشتراكية والزواج» و«عالم جديد مكان عالم قديم»، وكتاب «الإنسانية في دور التكوين»، وكتاب «يوتوبيا حديثة». حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها أخذ يفكر في إعادة تنظيم العالم من جديد فأصدر كتابه «الإنسان: عمله وثروته وسعادته». وجدير بالذكر أن أستاذنا المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود قد قدَّم عرضًا شائقًا ﻟ «يوتوبيا حديثة» في كتابه «أرض الأحلام» السابق الذكر. (المترجمة)
(٢) إشارة إلى فيلم مشهور من أفلام شارلي شابلن. (المراجع)
(٣) كلمة مشهورة، تطلق على الفرنسان والمحاربين الأشداء في اليابان في عصورها الإقطاعية، وقد استعارها ولز لتسمية حكامه أو حرَّاسه. (المترجمة)
(٤) ربما يكون المقصود هو خلو الحب الجسدي الصادق من الأنانية، والنرجسية، والرغبة في قهر أحد الطرفين للآخر أو خضوعه الذليل له — كما يحدث فيما يسمى بالسادية والمازوخية — وغير ذلك من مظاهر الوعي من مظاهر الوعي الذاتي الكاذب والفاسد. (المراجع)
(٥) نيقولاي برديائيف (١٨٧٤–١٩٤٨م) فيلسوف روسي ومن أكبر المفكرين الوجوديين المسيحيين ذوي المسحة الصوفية. عاش في بلاده وأيد الثورة البلشفية في البداية ثم انتقدها نقدًا شديدًا أدى إلى طرده منها، حيث سافر إلى برلين ثم لجأ إلى باريس منذ سنة ١٩٢٤م حتى سنة وفاته. تأثرت فلسفته الوجودية بالعديد من المفكرين والأدباء من أهمهم كانط وماركس وكارليل ونيتشه ودوستويفسكي وإبسن. قال بأولوية الحرية على الوجود، ويتجلَّى الوجود من خلال الإنسان الذي خُلق على صورة الله، وبالمعنى الأخير للتاريخ العالمي ونهايته في الأبدية وقيام مملكة الله والخلق المتجدد (وغير ذلك مما تتحدث عنه الأسكاتولوجيا التي عُني بها عناية شديدة)، كما كتب في الأخلاق والاجتماع والشيوعية. من أهم مؤلفاته: معنى التاريخ، العصر الوسيط الجديد، حقيقة الشيوعية وكذبها، أنا وعالم الموضوعات، قدر الإنسان في العالم الحاضر، خمسة تأملات عن الوجد، العبودية والحرية، العقل والواقع، مملكة القيصر، معرفة الذات … إلخ. وقد ترجم المرحوم الأستاذ فؤاد كامل عددًا من كتبه إلى العربية. (المراجع)
(٦) الفابية مصطلح يطلق على جمعية أسستها مجموعة من الاشتراكيين البريطانيين في نهاية القرن التاسع عشر (١٨٨٤م)، اشتقت اسمها من اسم القائد الروماني فابيوس ماكسيماس الذي نجح في هزيمة هانيبال. ويؤمن الأعضاء المؤسسون للجمعية الفابية (ومنهم سيدني ويب وولز وبرناردشو) بأن السبيل الأمثل لتحقيق أهدافهم — وهي تحويل المجتمع إلى الاشتراكية — ليس هو الانقلاب الثوري، وإنما هو الإصلاح التدريجي للمؤسسات ونظم الحكم القائمة بالفعل، ونجحت الجمعية في ضم العديد من المفكرين المشهورين، فأصبح لها وجود واضح في الجامعات البريطانية خاصة أكسفورد. وقد لعبت الفابية دورًا مؤثرًا في تشكيل حزب العمال البريطاني خاصة في فترة ما بين الحربين. (المترجمة)
(٧) توكفيل، عن الديمقراطية في أمريكا، اقتبسه أندريه جيد في كتابه العودة من الاتحاد السوفييتي. (المؤلفة)
(٨) عنوان فيلم شهير لشارلي شالبن أطلق فيه — في الخمسينيات — صيحة التحذير من أخطار الآلية والشمولية والجماهيرية وضياع الفردية والشخصية المنسحقة في ظل النظام الرأسمالي والصناعي الحديث. (المراجع)
(٩) كارل تشابيك (١٨٩٠–١٩٣٨م) كاتب مسرحي وروائي تشيكي معروف، انتزع اعتراف الحياة الأدبية والثقافية الأوروبية منذ سنة ١٩٢٠م عندما ظهرت مسرحيتاه اللتان تصوران قوى التفكك والانهيار التي تعمل عملها تحت سطح الحياة اليومية والحضارية الظاهرة، وهما مسرحية ر. ر. ع (أي روبوتات رسوم العالمية R. U. R. المشار إليها في النص)، ومسرحية الحشرات، وتدور معظم كتاباته حول تحدي الأخطار المهددة للبشرية، سواء من جانب النزعة العلمية والمادية والآلية الحديثة، أو من جانب الوحش النازي الذي ضم بلده تشيكوسلوفاكيا وطمس هويتها في سنة ١٩٣٨م فأصابه هذا العدوان في مقتل. (المراجع)
(١٠) إشارة إلى الملهاة الساخرة «شفايك في الحرب العالمية الثانية» التي كتبها خلال الحرب العظمى الثانية (١٩٤٤م) الشاعر والكاتب المسرحي والاشتراكي ومؤسس «المسرح الملحمي» برتولت بريشت (١٨٩٨–١٩٥٦م). (المراجع)
(١١) هو اللورد وليم هنري بيفريج (١٨٧٩–١٩٦٣م) عالم اقتصاد واجتماع إنجليزي، ولد في رانجبور بولاية البنغال الهندية، ارتبط اسمه بمشروع التأمين الاجتماعي الذي وضعه في سنة ١٩٤٢م، وبمشروع آخر عن التشغيل الكامل للأيدي العاملة في سنة ١٩٤٤م. (المراجع)
(١٢) يفجيني إيفانوفيتس زامياتين (١٨٨٤–١٩٣٧م) روائي روسي وكاتب قصة قصيرة، ولد في بلدة ليبيديان واشتهر بسخريته اللاذعة من الحياة البرجوازية في مدينة بطرسبورج خلال السنوات السابقة على قيام الثورة البلشفية، ومن خير ما كتبه في ذلك قصته القصيرة المطولة «في نهاية العالم» (١٩١٤م). أقام في إنجلترا من ١٩١٦م إلى ١٩١٧م وانتقد تجار الحروب في روايته سكان الجزر (١٩٢٢م)، ولما يئس من النظام البلشفي وأيقن من تحطيمه للفرد وسحقه لحريته بأسوأ مما حدث في ظل النظام القيصري، كتب أشهر رواياته «نحن الآخرون» (١٩٢٤م) التي غادر بعدها الاتحاد السوفييتي ليقيم في فرنسا حتى وفاته، والجدير بالذكر أن الرواية لم تنشر في الاتحاد السوفييتي السابق، وإنما هُرِّبت مخطوطتها إلى إنجلترا حيث تُرجِمت تحت عنوان «نحن» في عام ١٩٢٥م. (المراجع)
(١٣) أولدس هكسلي، كاتب وشاعر إنجليزي ساخر، وُلِد في إنجلترا عام ١٨٩٤م. سخر من التقدم العلمي المذهل، وثار على زيادة نفوذ العلم وسيطرته على حياتنا اليومية. وقدَّم لنا في «عالم طريف شجاع» قصة تخيل فيها أن إنسان المستقبل سوف يتناسل، لا عن طريق الالتقاء الطبيعي بين الرجل والمرأة، بل عن طريق تكوين الأطفال داخل قوارير بأسلوب علمي معقد يدعو إلى الاشمئزاز. وربما كانت هذه الرواية إرهاصًا بما يحدث الآن ويطلق عليه اسم «أطفال الأنابيب». وقام الأستاذ محمود محمود بتعريب الرواية وصدرت عن دار الكاتب المصرية عام ١٩٤٧م. (المترجمة)
(١٤) جورج أورول (١٩٠٣–١٩٥٠م) كاتب وروائي إنجليزي. شارك عام ١٩٣٦م في الحرب الأهلية في إسبانيا فرأى فظائع وأهوال الأحزاب السياسية اليسارية، وعاد بعدها يحذر الأجيال القادمة من طغيانها، ومن المستقبل المظلم للنظم الشمولية. وقد اشتهرت له، بجانب مزرعة الحيوان، رواية «العالم سنة ١٩٨٤م» وهي من أهم روايات ما نطلق عليه اسم اليوتوبيا المضادة، وقد كشف عما يحدث في المجتمعات الشمولية من محاولات بشعة لتشكيل الإنسان ومحاصرة حريته الفردية وحياته الشخصية إلى الحد الذي تصبح جحيمًا مروعًا يديره «الأخ الأكبر» الذي يهيمن على كل شيء حتى تفكير الناس في غرفهم الخاصة. وقد ظهر لهذه الرواية ترجمة عربية بقلم شفيق أسعد فريد وعبد الحميد محبوب ومراجعة عبد الرحيم رشوان. القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٥٦م. (المترجمة)
(١٥) تضمن الأدب الشعبي — المجهول المؤلف — الذي فاض به وجدان المقهورين والمظلومين في كل العصور، أغنيات وحكايات لا حصر لها عن مجتمع لا يعرف الجوع أو القمع. فالعبيد في العصور القديمة تلفتوا إلى عصر ذهبي خرافي تسوده المساواة، والزنوج الأمريكيون في القن التاسع عشر وضعوا في حياة أخرى مستقبلية أحلامهم بالخلاص من الكدح المتواصل الذي لم يكن لديهم أمل في الخلاص منه في هذه الحياة. والواقع أن معظم الفولكلور اليوتوبي مفعم بالجمال الرائع والصدق العظيم، ولكن هذه الأغنية الطريفة التي ينشدها أحد «الهوبو» الأمريكيين، أو العمال المتنقلين في هذا القرن، ليس فيها شيء عن عالم آخر وراء هذا العالم. فالهوبو لا يهتم بالحكومات أو النظم التشريعية. إنه يعرف ما يريده من مجتمعه المثالي الذي لا يجد حرجًا في أن يرسم له صورة مادية بحتة. (المؤلفة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤