القصة الرابعة: سارقة الرخام

السبب الأساسي الذي جعل مارجريت بيلمان مَحطَّ انتباهِ السيد ريدر هو أنها تعيش في شارع بروكلي، ويفصلها عن مسكنه الخاصِّ بِضعةُ منازل. لم يكن يعرف اسمَها لأنه لا يَشغَل باله على الإطلاق بالمُلتزِمين بالقانون، ولكنه يعرف أنها جميلةٌ ذاتُ بشرةٍ بيضاءَ متورِّدة، تلك البشرة التي نادرًا ما تُرى بعيدًا عن أغلفة المجلَّات. إنها مُتأنِّقة في ملبسها، ولو كان هناك ما يَلفِت انتباهَ السيد ريدر إليها أكثرَ من غيرها، لكانت مِشيتها وطلعتُها التي تُرضي على وجه الخصوص أيَّ رجلٍ له ميول نحو الجمال.

في بعض الأحيان، كان يمشي وراءها أو أمامها أو يركب معها السيارة ذاتها من الشارع إلى جسر وستمينستر. تنزل دائمًا عند ناصية الجسر ودائمًا ما يُقابلها شابٌّ حسَنُ الطلعة ويمشيان معًا. كان وجود هذا الشاب مصدرَ رضًا مُستترٍ للسيد ريدر، دون سببٍ مُعيَّن، إلا كونه يمتلك عقلًا منهجيًّا، ويفضل الزهرة عندما يكون لها خلفية من السرخس، وينزعج من مرأى الفنجان دون طبَقِه.

لم يخطر بباله أنه كان محلَّ اهتمامِ وفضولِ الآنسة بيلمان.

قالت: «كان هذا السيد ريدر، أعتقد أنه يعمل لدى الشرطة.»

«السيد جيه جي ريدر؟»

نظر روي ماستر خلفَه باهتمامٍ إلى الرجل في منتصف العمر وهو يركض فزعًا كي يَعبُر الطريق وقُبَّعته الغريبة على رأسه من الخلف ومِظلته فوق كتفه وكأنه فارسٌ يحمل سيفه.

«يا إلهي! لم أتخيَّل قطُّ أنه بهذه الهيئة.»

تشتَّتَت الفتاة عن مشكلتها الخاصة، وسألَت: «مَن هو؟»

«ريدر؟ إنه يعمل في النيابة العامة، أظنُّ أنه مُحقق، أدلى بشهادته في قضية في الأسبوع قبل الماضي. واعتاد أن يكون مع بنك إنجلترا …»

توقفت الفتاة فجأةً ونظر إليها مُتفاجِئًا.

سأل: «ما الأمر؟»

قالت: «لا أريدك أن تمشيَ معي أكثرَ من ذلك يا روي. السيد تيلفير رآني معك البارحة، ولم يُرضِه هذا الأمر البتة.»

قال الشاب ساخطًا: «تيلفير؟ ذلك الحشرة الصغيرة! ماذا قال؟»

ردَّت: «لا شيءَ مُهمًّا.» ولكنه استشفَّ من نبرة صوتها أن هذا «الكلام غير المُهم» كان مزعجًا.

قالت فجأة: «سأترك العمل لدى تيلفير. إنها وظيفةٌ جيِّدة ولن أجدَ وظيفة مثلها — أعني فيما يتعلَّق بالأجر.»

لم يُحاول روي ماستر إخفاءَ سعادته.

قال بحماسٍ بالغ: «يا لسعادتي الغامرة. لا أتخيَّل كيف تحمَّلتِ هذا الجوَّ الخانق كلَّ هذه الفترة.» سأل مرةً أخرى: «ماذا قال؟» ثم قال قبل أن ترُد: «على أية حال، توشك شركة تيلفير على الانهيار. تنتشر شائعاتٌ كثيرة وغريبة حولَها في المدينة.»

قالت مندهشةً: «ولكني كنتُ أعتقد أن الموقف الماليَّ للشركة جيد للغاية!»

هزَّ رأسه.

«كان كذلك، ولكن تصرفاتهم طائشة؛ ما الذي تتوقَّعينه من شركةٍ يُديرها إنسان مخبولٌ معتوه مثل سيدني تيلفير؟ العام الماضي، ضمِنَت الشركة ثلاثَ شركاتٍ لم تكن أيُّ شركةِ وساطة لتقترِب منهم على الإطلاق، وكان عليهم أن يأخذوا جميع الأسهم. إحدى هذه الشركات تعمل في مجال انتشال الكنوز المفقودة لانتشال سفينةٍ شراعية إسبانية غرقت منذ ثلاثمائة عام! ولكن ما الذي حدث حقًّا صباح أمس؟»

قالت: «سأُخبرك الليلة.» ثم ودَّعته على عجَل.

وصل السيد سيدني تيلفير قبل أن تدخُل إلى المكتب الذي لم يُوَفِّه روي ماستر حقَّه حينما وصفه؛ فالمكتب مُجهَّز بأثاثٍ فاخر وسجادة ناعمة وتجهيزات أخرى جميلة.

نادرًا ما كان مديرُ شركة تيلفير كونسوليداتيد يزور المقرَّ الرئيسي في شارع ثريدنيدل. فهو يقول إن الجوَّ العام في المكان يُصيبه بالاكتئاب؛ فالمكان يحوي أشكالَ البشاعة والقذارة وعدم الترتيب كافَّة. تأسَّسَت الشركة على يد جدِّ سيدني، ولكنه مات قبل أن يُولَد سيدني بعَشْر سنوات وترك الأعمالَ لولده المُصاب بمرضٍ مُزمن، الذي مات أيضًا بعد بضعة أسابيع من ميلاد سيدني. انتعشَت الشركة على يد الأوصياء على الرغم من تدخُّلات والدته الغريبةِ الأطوار من وقتٍ لآخَر، وظهرت هذه الأطوار الغريبة جليَّةً في وصيةٍ حرَّرَته من تلك القيود التي تُفرَض بحِكمةٍ على صبيٍّ في السادسة عشرة.

المكتب مُجهَّز بنوافذَ ذات زجاجٍ مُلوَّن وبأثاثٍ فاخر؛ ومن ثَم كان يليق بالسيد تيلفير لأنه كان شخصًا مهندمًا إلى أقصى درجة. كان طويلًا ونحيفًا جدًّا لدرجةٍ لا تجعل رأسه الصغيرَ، بصورةٍ غيرِ طبيعية، يُلاحَظ في البداية. لمَّا دخلت الفتاة إلى المكتب، وجدَته يسعل بلطفٍ في منديلٍ رقيق ناعم، واعتقدت أنه شاحبٌ وبغيض أكثرَ من ذي قبل.

تتبع تحرُّكاتها بنظرةٍ مضجرة ووضعت الخطابات على مكتبه قبل أن يتحدَّث.

«قولي لي. يا آنسة بيلمان، لم تَذكُري كلمة عمَّا قلتُه لك ليلة أمس!»

أجابت بهدوء: «سيد تيلفير، من غير المُحتمَل أن أناقش مسألةً كهذه.»

قال بعباراتٍ متقطِّعة: «أريد الزواج بك وكل شيء، كل ما هنالك أنَّ هناك بندًا في وصية أمي. يمكن تجاوُز هذه المشكلة مع مرور الوقت.»

وقفتْ بجوار الطاولة وهي تستنِد بيدَيها على الحافة.

«لم أكن لأتزوَّجَك يا سيد تيلفير، حتى لو لم يكن هناك بندٌ في وصية والدتك؛ اقتراح أن أهربَ معك إلى أمريكا …»

صحَّح كلماتها بجدِّية: «أمريكا الجنوبية وليس الولايات المتحدة، لم أقترح مُطلقًا الولايات المتحدة.»

كادت أن تبتسِم؛ لأنها لم تغضب من ذلك الشاب الأبلهِ بقدْر ما يحقُّ لها أن تغضب من اقتراحه الغريب.

تابع حديثَه مُتوجسًا: «المُهم، هلَّا أبقيتِ الأمر بيننا؟ ظللتُ قلقًا حدَّ الموت طوال الليل. أخبرتُكِ أن تُرسِلي لي خطابًا تذكرين فيه رأيك فيما عرَضتُه عليك … حسنًا، لا تفعلي!»

ابتسمَت هذه المرةَ بالفعل، ولكن قبل أن تردَّ عليه، واصل حديثه بسرعةٍ بنبرةٍ عالية تفوق طبقةَ الصوت العالي بثلاثة أضعاف، قال:

«إنك فتاة فاتنة الجمال، وأنا مجنونٌ بك، ولكن … هناك مأساةٌ في حياتي … في الحقيقة. مأساة مروِّعة تمامًا. مررتُ بأحداثٍ صعبة للغاية. ولو كان لي عقلٌ من قبل، لأحضرتُ شخصًا كي يعتنيَ بشئوني. وبدأتُ أرى هذا الآن.»

للمرة الثانية في أربع وعشرين ساعةً، صبَّ عليها هذا الشابُّ الذي كان معقود اللسان، والذي لم يتنازَل مُطلقًا ويُلاحِظها، سيلًا من عباراتِ الثقة، وفي إحدى المَرَّتَين، وضع خُطة أذهلَتْها وصدَمتْها، وأصرَّ عليها بجنون. توقف عن الحديث بَغْتة ومسح عينَيه الذابلتَين وقال بصوته الطبيعي:

«اطلبي لي بيلينجهام على الهاتف؛ فأنا أريده.»

بينما كانت أصابعُها مشغولةً بملاحقة الحروف على الآلة الكاتبة، تساءلَتْ إلى أيِّ مدًى تسبَّبتِ الشائعات حول «تزعزع» شركة تيلفير كونسوليداتيد في إثارته وحلِّ عُقدة لسانه.

أتى السيد بيلينجهام، إنه رجل ضئيل الجسم وشاحب الوجه له رأسٌ أصلع وقليل الكلام، ودخل بطريقته الكتومة إلى مكتب صاحب العمل. لم تظهر إشارة في مظهره أو في أسلوبه تدلُّ على أنه كان يُفكر في جريمةٍ نَكْراء. تظهر سِمْنته بسبب قِصَر قامته، وبعيدًا عن عُبوسه المعتاد، يرتسِم على وجهه المُستدير الذي لا تظهر عليه علاماتُ التقدُّم في العمر تعبيرٌ ينمُّ عن حُب الخير.

مع ذلك، ذهب السيد ستيفن بيلينجهام — المدير الإداري لشركة تيلفير كونسوليداتيد تراست — إلى بنك لندن آند سنترال في وقتٍ متأخِّر من بعد الظهيرة في ذلك اليوم، وقدَّم شيكًا يُصرَف لحامله بمبلغ مائةٍ وخمسين ألفَ جنيهٍ إسترليني وصُرِف الشيك ثم أُخِذ إلى شركة كريديت ليلواز. سبق أن اتصل هاتفيًّا كي يذكُر تفاصيلَ مُهمته، ووجد في انتظاره سبعة عشر طردًا وكل طردٍ يحتوي على مليون فرنك، وطردًا أصغرَ يحتوي على مبلغ مائةٍ وستة وأربعين ألفًا. بلغَت قيمة الفرنك ٧٤٫٥٥ وتلقى الثمانية عشر طردًا مُقابل شيكٍ باسم كريديت ليلواز بمبلغ ثمانين ألفَ جنيهٍ إسترليني ومبلغِ مائةٍ وخمسين ألفَ جنيه سحبَها من بنك لندن آند سنترال.

لم يُعرَف سوى القليل من تحركات بيلينجهام منذ ذلك الحين. رآه أحد المعارف وهو يركب في سيارة أجرة بتشيبسايد وتتبَّعَه حتى وصل إلى تشارينج كروس، ثم اختفى هناك. لم يُغادر عبر الجو ولا عبر البحر، ومن ثَم تُخمِّن الشرطة أنه غادر في قطار الليل الذي يقطع رحلته من هافر إلى باريس.

قال المدير المساعد في النيابة العامة: «هذه أكبر عملية سرقة وقعَت منذ سنوات. وإذا استطعتَ أن تدخل في التحقيق من دون أن يشعُر أحدٌ يا سيد ريدر، فسيسُرُّني ذلك. لا تعترِض طريق شرطة المدينة؛ يُصبح أفرادها ودودين في جرائم القتل، ولكنهم سريعو الغضب بعضَ الشيء عندما تتعلق القضية بالأموال. اذهب الآن لزيارة سيدني تيلفير.»

لحُسن الحظ، أمكن رؤية سيدني المُنهَك خارج منطقة سلطة شرطة المدينة. ذهب السيد ريدر إلى المكتب الخارجي ورأى وجهًا مألوفًا لدَيه.

قال: «عُذرًا، أظنُّ أنني أعرفك يا آنستي.» وابتسمتْ وهي تفتحُ له البوابة الخشبية الصغيرة كي تُدخِله.

قالت: «أنت السيد ريدر؛ إننا نعيش في الشارع ذاتِه.» ثم قالت بسرعة: «هل أتيتَ من أجل السيد بيلينجهام؟»

«نعم.» قال بصوتٍ منخفِض وكأنه يتحدَّث عن صديقٍ ميت: «أريد أن أرى السيد تيلفير، ولكن أظن أنَّ بإمكانك إعطائي معلومةً صغيرة.»

لم يكن لديها معلوماتٌ سِوى أن سيدني تيلفير كان في المكتب من الساعة السابعة وأنه في حالةِ انهيارٍ جعلَتها تُرسِل استدعاءً للطبيب.

قالت: «لا أظنُّ أنه في حالةٍ تسمح لك برؤيته.»

قال السيد ريدر بنبرةٍ مُطَمْئنَة: «أنا أتحمَّل المسئولية كاملة. هل السيد تيلفير … اممم … صديق لك يا آنسة …؟»

«اسمي بيلمان.» لاحظ سرعة تورُّد وجنتَيها؛ وهذا يعني واحدًا من احتمالين. «لا، أنا موظَّفة، هذا كل ما في الأمر.»

نبرة صوتها أخبرته كلَّ ما يُريد أن يعرفه. السيد جيه جي ريدر حُجَّة في معرفة صداقات العمل.

همهم قائلًا: «أزعجك قليلًا، أليس كذلك؟» فرمقتْه بنظرةٍ يشوبها التشكُّك. ما الذي عرَفه، وما تأثير الاقتراح المجنون الذي قدَّمه السيد تيلفير على الكارثة الحاليَّة؟ لم تعلم شيئًا البتَّة فيما يتعلق بالوضْع الحالي، وشعرَتْ أنها اللحظة المناسبة للصراحة.

قال السيد ريدر مصدومًا: «أرادك أن تهرُبي معه! يا إلهي! هل هو متزوِّج؟»

قالت الفتاة باقتضاب: «أوه؛ لا، ليس مُتزوجًا. رجل بائس، أنا آسفةٌ عليه الآن. أخشى أن الخَسارة كبيرة عليه؛ مَن كان سيشكُّ في السيد بيلينجهام؟»

تنهَّد ريدر بحُزن: «آه، نعم معك حق!» ثم خلع نظارته ومسحها؛ ربما شكَّت في أن عينيه مُغرورقتان بالدموع. «أعتقد أنني سأدخُل الآن، أليس هذا هو الباب؟»

رفع سيدني وجهه بحركةٍ مفاجئة وحملقَ في الداخل. كان يجلس واضعًا رأسه فوق ذراعَيه لأكثر من نصف ساعة.

سأل بصوتٍ خافت: «يا هذا … ماذا تريد؟ يا هذا … لا أريد أن أرى أحدًا … من مكتب النائب العام؟» ارتفع صوته حدَّ الصراخ تقريبًا. «ما الفائدة من مُقاضاته إذا لم تُستَرَد الأموال؟»

تركه السيد ريدر يهدأ قبل أن يبدأ في طرح أسئلته الحكيمة للغاية.

قال الشاب اليائس: «لا أعرف الكثير عما حدث. أنا مجرد مديرٍ صوري. أحضر بيلينجهام الشيكات إليَّ كي أُوقِّع عليها وأنا وقَّعت عليها. لم أُعطه قطُّ أيَّ تعليمات؛ كانت لديه أوامرُه. لا أعرف الكثير عن الأعمال. أخبرَني، في الحقيقة أخبرَني أنَّ وضع الأعمال سيِّئ وأنها تستلزم نصف مليونٍ أو مبلغًا قريبًا من ذلك قبل الأسبوع القادم … يا إلهي! بعد ذلك، أخذ جميع أموالنا.»

انتحب سيدني تيلفير ومسح دموعَه في كمِّه وكأنه طفل. انتظر السيد ريدر قبل أن يطرَح سؤالًا بألطفِ أسلوبٍ مُمكن.

«كلَّا، لم أكن هنا؛ ذهبتُ إلى برايتون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. وأخذتْني الشرطة من فراشي في الرابعة صباحًا. أصبحْنا مُفلسِين. سأُضطَر إلى بيع سيارتي وأستقيل من النادي المشترك فيه؛ يجب على المرء أن يستقيلَ عندما يُفلِس.»

لم تَحوِ جعبة الرجل المُنكسر الكثير، ثم عاد السيد ريدر إلى رئيسه بتقريرٍ لم يُضف معلومات جديدة إلى ما لديهم. في غضون أسبوع، تخطَّت عملية السرقة، التي ارتكبها بيلينجهام، مجردَ سطورٍ قليلة إلى فِقراتٍ في مُعظم الصحف؛ لقد هرب بيلينجهام بطريقةٍ مثالية.

في المعجم الألمعيِّ للسيد جيه جي ريدر، لا تُوجَد كلمةٌ تعني إجازة. حتى مكتب النائب العام يمرُّ بأوقاتٍ تقِلُّ فيها الأعمال؛ وفي تلك الأوقات، بإمكان صغار المُوظَّفين ونوَّاب المسئولين وحتى النائب العام نفسُه أخذ إجازةٍ وترك المكتب مفتوحًا وبه أحد المرءوسين. لكن السيد جيه جي ريدر يبغض فكرة إضاعة الوقت، ومن عادته أن يملأ الأوقاتَ التي تقلُّ فيها الأعمال بجلوسه في المحكمة والاستماع باهتمامٍ شديد إلى القضايا التي تتسبَّب في سأمِ حتى كاتبِ المحكمة.

جون سميث المُتهَم بالسُّكْر واستخدام لغةٍ بذيئة مع ضابط الشرطة توماس براون؛ وماري جين هاجيت المُتهمة بإعاقة الشرطة عن أداء واجبها؛ وهنري روبنسون الذي أُحضِر إلى المحكمة باعتباره أحدَ المُشتبَه بهم ولحيازته أدواتٍ للسطو على المنازل ومنها إزميلٌ للقطع على البارد ومفكُّ براغي؛ آرثر موزيس المُتهَم بتجاوز السرعة أثناء قيادة السيارة؛ كل هذه شخصيات فاتنةٌ وكأنها من رواياتٍ رومانسية وأسطورية بالنسبة إلى الرجل النحيل الذي يجلس بين الحشود وقفص الاتهام، وبجواره قُبَّعته ذات التاج الدائري وبين رُكبتَيه مظلَّتُه ويظهر على وجهه الحزين تعبيرٌ ينمُّ عن اندهاش بالغ.

ذات صباح باردٍ وضبابي، أخذ السيد ريدر إجازةً من واجباته واختار محكمة ماريليبون كي يقضيَ وقتَ استجمامه. ومن القضايا التي أسَرَت انتباهَ السيد ريدر قضية اثنين ثَمِلَين وسرقة محلٍّ واختلاس، وعندما دخلت السيدة جاكسون إلى قفص الاتهام وصعد شرطيٌّ له وجهٌ أحمرُ إلى منصة الشهود، وأقسم أن يقول الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة وحكى قصته الغريبة.

قدَّم نفسه بطريقةٍ تقليدية قائلًا: «الشرطي فيريمان رقم ٩٧١٧ القسم إل. كنتُ في وقت خدمتي في شارع إدجوير في وقتٍ مبكِّر من ذلك الصباح في تمام الساعة ٣٠ : ٢ صباحًا، وعندها رأيتُ المتهمة تحمل حقيبة سفرٍ كبيرة. لمَّا رأتني، استدارت وأسرعَت في مِشيتها بالاتجاه المعاكس. لمَّا أثارت حركاتُها الشكوك، تبعتها ولمَّا أوقفتُها وسألتها عن صاحب الحقيبة التي تحملها. أخبرتني أنها صاحبة الحقيبة وأنها ذاهبة كي تلحَق القطار. قالت إن الحقيبة تحتوي على ملابسها. ولمَّا كانت الحقيبة قيِّمة إذْ كانت من جلد التمساح، طلبتُ منها أن تُرِيَني ما بداخلها. رفضَتْ أن تُريَني محتوياتها. ورفضت أيضًا أن تُعطيَني اسمها وعنوانها فطلبتُ منها أن تأتي معي إلى قِسم الشرطة.»

ثم تبعه رقيب المباحث.

«رأيتُ السجينة في القسم وفتحتُ الحقيبة في حضورها. احتوَت الحقيبة على كميةٍ كبيرة من رقائق الأحجار الصغيرة …»

قاطعه القاضي مُرتابًا: «رقائق الأحجار؟ هل تعني قِطَعًا حجَرية صغيرة؟ ما نوع الحجر؟»

«رخام يا سيادة القاضي. قالت إنها تُريد أن تصنع مَسارًا صغيرًا في حديقتها وأنها أخذَته من فِناءٍ يخصُّ نحَّاتَ أحجارٍ كبيرةٍ على طريق يوستون. واعترفَت بصراحةٍ قائلةً إنها اقتحمَت البوابة ودخلت إلى الفِناء وملأت الحقيبة من دون عِلم النحَّات.»

اضطجع القاضي على الكرسيِّ واطَّلع على ورقة الاتهام عابسًا.

قال: «لا يُوجَد عنوان بجانب اسمها.»

«ذكرَت عنوانًا ولكن تبيَّن أنه مُزيف يا سيادة القاضي، إنها ترفض تقديم أيِّ معلوماتٍ أخرى.»

التفت السيد جيه جي ريدر على مقعده وأخذ يُحدِّق في السجينة مشدوهًا. كانت ذاتَ قوام طويل وعريضةَ المنكبَين وقوية البِنْية. حجم اليد المُمسكة بقُضبان قفص الاتهام ضِعفُ حجم يدِ أيِّ امرأةٍ رآها من قبل. كان للمرأة وجهٌ ضخم، ولكن على الرغم من أنَّ مظهرها به شيءٌ مُنفِّر، إلا أنها كانت وسيمةً ككلٍّ. عينان بُنِّيتان وغائرتان وأنفٌ كبير يُناسِب حجم وجهها وفمٌ شكله جميل وذقن ولغد؛ هذه الملامح الظاهرية ليست جذَّابةً لمن يرى المرأةَ بصفاتِ جمالٍ مُعينة، ولكن لأن السيد جيه جي ريدر رجلٌ مُنصِف، اعترف بأنها امرأة حسَنة المظهر. عندما تحدثَت، كان صوتها عميقًا بدرجة صوتِ الرجل وجَهْوريًّا وقويًّا.

«أعترف بحماقتي لارتكاب هذا الفعل. ولكن لمعَت الفكرةُ في رأسي قبل أن أخلُدَ إلى النوم مباشرةً ثم تصرَّفت من وحي اللحظة. كان بإمكاني شراء الحجر، كان في محفظتي ما يربو على خمسين جنيهًا وقتَ إلقاء القبض عليَّ.»

«هل هذا صحيح؟» وعندما أجاب الضابط، استدار القاضي بعينَيه اللتين يعتريهما الشكُّ إلى المرأة. وقال: «أنتِ تُقحميننا في مشكلةٍ كبيرة؛ لأنكِ لا تُريدين إخبارنا باسمك وعنوانك. أفهم أنك لا تُريدين أصدقاءك أن يعرفوا عن ارتكابك سرقة حمقاء، ولكن إن لم تُعطينا هذه المعلومات، فسأُضطَر إلى حبسكِ احتياطيًّا لمدة أسبوع.»

إنها مُتأنقة في ملبسها على الرغم من بساطتها. يومِض خاتَمٌ ماسي في إصبَع كبيرة قدَّره السيد ريدر في عقله بمبلغٍ يصِل إلى مائتَي جنيه. كانت السيدة جاكسون تهزُّ رأسها لمَّا نظر إليها.

قالت: «لا يُمكنني أن أذكر عنواني.» ثم أومأ القاضي مُقتضبًا.

قال: «تُحبَس احتياطيًّا لإجراء التحقيقات.» ولمَّا خرجَت من قفص الاتهام، قال: «أريد تقريرًا من طبيب السجن عن حالتها العقلية.»

نهض السيد ريدر فجأةً من على كرسيِّه وتبع المرأةَ والضابط المسئول عن القضية وهما يعبران الباب الصغير المُؤدِّيَ إلى الزنازين.

كانت «السيدة جاكسون» قد اختفَت عندما وصل إلى الممرِّ، ولكن كان رقيبُ المباحث ينحني فوقَ حقيبة السفر الكبيرة الجميلة التي عرَضها في المحكمة ويعكف على كتابة النموذج.

معظم مُوظَّفي المَهامِّ الخارجية في دائرة التفتيش الجنائي يعرفون السيد جيه جي ريدر، ومن ثَم ابتسم الرقيب ميلز ورحَّب به.

«ما رأيُك في تلك القضية يا سيد ريدر؟ إنها قضية جديدة بالنسبة إليَّ! لم أسمع قطُّ عن سرقة نحَّات شواهد الأضرِحة.»

فتح غطاء الحقيبة ومرَّر السيد ريدر أصابعه فوق رقائق الرخام.

قال الضابط: «يزيد وزن الحقيبة ومحتوياتها على مائة رطل. لا بدَّ أنها تتحلَّى بقوةٍ هائلة كي تحملها. كان الضابط البائس الذي حملها إلى القسم يتصبَّب عرقًا حينما وصل.»

كان السيد جيه جي عاكفًا على فحص الحقيبة. كانت جميلةً كما أن المفصَّلات والأقفال مصنوعة من الفضة المُؤكسَدة. لا يظهر اسمُ الشركة المُصنِّعة على الحقيبة من الداخل ولا الأحرف الأولى من اسم المالك على الغطاء اللامع. كانت البِطانة من الحرير ولكنها تقطعَت الآن وابيضَّت بسبب غبار الرخام.

قال السيد ريدر وهو شارد الذهن: «نعم، إنها قضية مُثيرة للاهتمام كثيرًا، مُثيرةٌ للاهتمام للغاية. هل مسموح لي أن أسألَ عما إذا كانت تحمل أيَّ … اممم … مُستندات عندما تم تفتيشها …؟» هزَّ الرقيب رأسه. واستطرد السيد ريدر: «أو متعلقات غير عادية؟»

«لا تُوجَد سوى هذه.»

كان بجوار الحقيبة زوجان من القفَّازات الكبيرة. كانت هذه أيضًا متَّسِخة، ومقطَّعة من أماكنَ كثيرة.

همهم السيد جيه جي: «تكرَّر استخدام هذه القفازات في هذا الغرض. من الواضح أنها تجمع … اممم … مجموعةً من الأغراض بالرُّخام. ألا يُوجَد شيءٌ في محفظتها؟»

«لا يُوجَد سوى الأوراق النقدية: وعليها خاتَم البنك المركزيِّ من الظهر. يُمكننا تتبُّعُها بسهولة.»

عاد السيد ريدر إلى مكتبه، وأغلق الباب وأخرج مجموعةً مُتهالكة من أوراق اللعب من الدُّرج ولعب لعبة سوليتير؛ إذ كانت تلك طريقتَه لكي يُركِّز في التفكير. في وقتٍ مُتأخِّر من بعد الظهيرة، رنَّ جرس هاتفه وتعرَّف على صوت الرقيب ميلز.

«هل يُمكنني أن آتيَ لزيارتك؟ نعم، بخصوص الأوراق النقدية.»

بعد عشر دقائق، وصل الرقيب.

قال الضابط من دون مُقدِّمات: «صدرت الأوراق منذ ثلاثة أشهر للسيد تيلفير وهو الذي أعطاها لمُدبِّرة شئون منزله السيدة ويلفورد.»

قال السيد ريدر بصوتٍ خافت: «أوه، حقًّا؟» ثم أضاف بعد تفكير: «يا إلهي!»

عضَّ على شفتَيه بقوة.

وسأل: «وهل «السيدة جاكسون» هي تلك السيدة؟»

«نعم. جُنَّ جنون تيلفير البائس الصغير حينما أخبرَتْه أنها محبوسة احتياطيًّا وسارع إلى هولواي في سيارة أجرة كي يتعرَّفَ عليها. قضى القاضي بكفالة، وسيُفرَج عنها غدًا. كان تيلفير يُثرثر كالأطفال وقال إنها مجنونة. يا إلهي! ذلك الرجل خائفٌ منها؛ عندما أخذته إلى غرفة الانتظار في سجن هولواي، رمَقَته بنظرةٍ جعلَته يرتعِد. على أية حال، لدينا معلومة عن بيلينجهام ربما تُهِمُّك. هل تعرف أنه على علاقة صداقة حميمية مع سكرتيرة تيلفير؟»

«حقًّا؟» أُثير اهتمام السيد ريدر حقًّا. «هل كانا صديقَين حميمَين؟ جيد، جيد!»

«وضعت شرطة سكوتلاند يارد الآنسة بيلمان تحت المراقبة؛ ربما لا يُوجَد مُسوِّغ لذلك، ولكن في القضايا مثل قضية بيلينجهام، «ابحث عن المرأة» (وقالها بالفرنسية) فغالبًا ما تجد امرأةً لها طرَفٌ في القضية.»

ترك السيد ريدر شفته وأخذ يدلك أنفَه برِفْقٍ الآن.

قال: «عجبًا! هذا تعبير فرَنسي، أليس كذلك؟»

لم يكن في المحكمة عندما وجَّه القاضي تحذيرًا صارمًا إلى سارقة الرخام وأطلق سراحها. كل ما أهمَّ السيد جيه جي ريدر هو معرفة أن المرأة دفعت لنحَّات الرخام أجرَه وأخذت رقائق الرخام خاصَّتها مُنتشيةً إلى المسكن الصغير المنعزِل في الدائرة الخارجية لمُتنزَّه ريجنت. قضى ذلك الصباح في سومرست هاوس وهو يتفحَّص نُسَخ الوصايا وما إلى ذلك؛ وبعد الظهيرة، ترك تلك الأوراق لتتبُّعِ آثار السيدة ريبيكا ألامبي ماري ويلفورد.

تُوفِّي عنها جون ويلفورد الأستاذ بجامعة إدنبرة وأصبحت أرملةً بعد زواجٍ دام لعامَين. حينذاك، بدأت العمل في خدمة زوجة السيد تيلفير — والدة سيدني — وتولَّت وحدَها مسئولية الصبي منذ الرابعة من عمره. عندما ماتت زوجةُ السيد تيلفير، جعلتها هي الوصيَّةَ الوحيدةَ على هذا الشاب. ومِن ثَم أصبحت ريبيكا ويلفورد بدَورها مُعلِّمةً ووصيَّة، وأصبحت هي المُتحكمةَ في مؤسسة هذا الشاب.

شغَل المنزلُ اهتمامَ السيد ريدر بدرجةٍ كبيرة. المنزل مَبنيٌّ على الطِّراز الحديث بالطوب الأحمر، ويتكوَّن من طابقَين وله واجهةٌ على الدائرة الخارجية لمُتنزَّه ريجنت وعلى طريق جانبي. يُطِل المنزل على حديقة كبيرة من الخلف والجانب، ولكنها تخلو من الزهور في هذا الوقت من العام. ربما كان الجو دافئًا بالنسبة إلى فصل الشتاء؛ إذ كانت هناك دفيئةٌ طويلة خلف الحديقة.

كان يتَّكئ على الألواح الخشبية وينظر حزينًا إلى الأرض من فوقِ حاجز الشجيرات المُربَّعة الذي يتداخَل مع السِّياج، وعندها رأى الباب يُفتَح والسيدة الضخمة تخرُج منه. كانت ترتدي مِئزرًا بذراعَين عاريَين. رآها تحمِل صندوقَ ترابٍ في إحدى يدَيها وأفرَغَته في سلة مهملات مَخفيَّة، وتحمل مِكنسةً طويلة في اليد الأخرى.

اختفى السيد ريدر عن الأنظار بسرعة. وبعدها مباشرة انغلق الباب بقوة واختلسَ النظر مرة أخرى. لم يُوجَد دليلٌ على وجود مسار من الرخام. كل الطرُق كانت من الحَصى المُدلفن.

ذهب إلى كابينة هاتف قريبة واتصل بمكتبه.

قال: «ربما أبقى بالخارج طوال اليوم.»

لم يُوجَد أثرٌ للسيد سيدني تيلفير على الرغم من أن المُحقق عرَف أنه في المنزل.

أصبحت شركة تيلفير في أيدي المُصفِّين وانعقد الاجتماع الأول للدائنين. بِناءً على ما ورد من أخبار، ظل سيدني أسيرًا في فراشه، ومن هذا الملاذِ الآمن، كتب مذكرةً إلى السكرتيرة يطلُب فيها حرقَ جميع الأوراق المتعلقة بشئونه الخاصة. كتب حاشية مفادها: «هل لي أن أراكِ بخصوص العمل قبل أن أرحل؟» وتم شطب كلمة «أرحل» وكتابة كلمة «أتقاعد» مكانها. في الحقيقة، رأى السيد ريدر هذا الخطاب، فقد أتت إليه جميع المُراسلات بين سيدني والمكتب بترتيبٍ مع المُصفِّين. وكان هذا هو السبب جزئيًّا وراء الاهتمام الزائد من السيد جيه جي ريدر بالعقار رقم ٩٠٤ المواجه للدائرة الخارجية لمُتنزَّه ريجنت.

في وقتِ الغسَق، وقفت سيارة كبيرة أمام بوابة المنزل. وقبل أن ينزل السائق من فوق كرسيِّه، انفتح باب العقار رقم ٩٠٤ وخرج سيدني تيلفير مُهرولًا إلى السيارة. كان يحمل حقيبةً في كلِّ يد، وأدرك السيد ريدر أن الحقيبة الأقربَ إليه قبضتها مثل قبضة الحقيبة التي حملت فيها مُدبرة شئون المنزل الرخام المسروق.

لمَّا وصل، فتح السائق باب السيارة ووضع الحقيبتَين وتبعه سيدني على عجَل. أُغلِق الباب واختفت السيارة عن الأنظار واستدارت مع منحنى الدائرة الخارجية للمُتنزَّه.

عبَر السيد ريدر الطريق واتخذ موقعًا قريبًا جدًّا من البوابة الأمامية وانتظر هناك.

دخل الغسَق وخيَّم الضباب على حديقة ريجنت. أسدَل الظلام أستاره على المنزل، فلا يُوجَد ضوءٌ إلا مصباح خافت يُضيء في الصالة، ولا يصدر صوت من المنزل. كانت المرأة لا تزال في المنزل؛ زوجة سيدني تيلفير التي كانت بدورها مُعلِّمة ورفيقةً ووصيَّةً وزوجة. زوجة سيدني تيلفير — المدير الخفي لشركة تيلفير كونسوليداتيد — إنها امرأةٌ بارعة ولم تكتفِ بالزواج من شابٍّ ضعيفٍ يصغُرها بعشرين عامًا فحسب، بل استعملت عقلها الذكي — إلا أنه غيرُ متزن — للسيطرة على أعمالٍ لا تفهم فيها؛ ولذا قُدِّر لها أن تغرق في الخراب. أحسن السيد ريدر استغلال وقته في مكتب السجلَّات، ولم يتعَب في الحصول على نسخةٍ من قسيمة الزواج ونسخة من الوصية.

نظر حوله على وجل. بدأ الضباب ينقشِع وهذا ما لم يرغب فيه؛ لأنه ينوي القيامَ بأعمالٍ تتطلَّب أكبر قدْر من الخفاء.

عندئذٍ وقعَت مفاجأة. أتت سيارة أجرة مُتباطئة على الطريق ووقفت أمام البوابة.

قال سائق السيارة: «أظن أن هذا هو المكان يا آنسة.» ونزلت فتاة على الرصيف.

إنها الآنسة مارجريت بيلمان.

انتظر السيد ريدر حتى دفعت الأجرة ومشى السائق، وبينما تمشي نحو البوابة، خرج إليها من المكان المُظلِم الذي يقف فيه.

قالت لاهثة: «أوه! … السيد ريدر، أخفتني كثيرًا! أتيتُ كي أرى السيد تيلفير؛ إنه يُعاني مرضًا خطيرًا … كلَّا، مدبرة شئون منزله هي التي راسلتْني وطلبتْ مني أن آتيَ في الساعة السابعة.»

«هل فعلتْ حقًّا! حسنًا، سأضرب الجرس لك.»

أخبرَتْه أنه لا داعيَ لذلك؛ لأن معها المفتاحَ الذي وصل إليها مع الرسالة.

قالت مارجريت: «إنها بمُفردها في المنزل مع السيد تيلفير لأنه يرفض أن تقترِب منه مُمرضةٌ مُدرَّبة، كما أنه …»

ألحَّ السيد ريدر بصوتٍ خافت: «هلا تكرَّمتِ وخفضتِ صوتك يا آنسة؟ سامحيني على وقاحتي، ولكن إذا كان صديقنا مريضًا …»

اندهشَت في البداية من إلحاحه.

تحدثَت بصوتٍ منخفض وقالت: «لن يُمكنَه سماعي.»

«ربما يفعل … المرضى حسَّاسون للغاية تجاه أصوات البشر. أخبريني، كيف وصل إليك هذا الخطاب؟»

«أتقصد الخطابَ من السيد تيلفير؟ أوصله ساعي البريد المعني بالمنطقة منذ ساعة.»

لم يدخل أحدٌ إلى المنزل أو يخرج منه سوى سيدني. وبسبب خوف سيدني الأعمى، سيُنفِّذ أيَّ تعليماتٍ تُمليها عليه زوجتُه.

فكَّر السيد ريدر دقيقة ثم قال: «وهل يتضمَّن فِقرة مثل هذه «أحضري هذا الخطابَ معك»؟»

قالت الفتاة متفاجئة: «لا، ولكن السيدة ويلفورد اتصلت قبل وصول الخطاب وأخبرتْني أن أنتظر وصوله. وطلبتْ منِّي أن أُحضر الخطاب معي؛ لأنها لا تريد ترك مراسلات السيد تيلفير الخاصة عُرضةً لأن يطَّلع عليها أيُّ أحد. ولكن لماذا تسألني هذه الأسئلة يا سيد ريدر؟ هل هناك خطبٌ ما؟»

لم يُجِب على الفور. دفع البوابة كي يفتحها، ومشى من دون إحداث صوتٍ على الأرض التي تَنبُت فيها الحشائش الموازية للممر.

همس قائلًا: «افتحي الباب، سأدخل معك.» وعندما تردَّدَت، قال: «افعلي ما قلتُ من فضلك.»

ارتعشَت اليد التي وضعت المِفتاح في القُفل، ولكن على الأقل لفَّت المفتاح وفتحت الباب على مِصراعَيه. وجدا مصباحًا ليليًّا مُضيئًا على الطاولة الموضوعة في الصالة العريضة المُغطَّاة بالألواح. على اليسار وبالقُرب من سفح السُّلَّم، وعلى الدَّرَج السُّفلي الظاهر، رأى ريدر بابًا صغيرًا مفتوحًا؛ ولمَّا خَطا إلى الأمام، رأى أنه باب غرفة هاتف صغيرة.

بعد ذلك، سمع صوتًا يتحدَّث من على البسطة العلوية، كان صوتًا عميقًا وجَهوريًّا يعرفه.

«أهذه الآنسة بيلمان؟»

تسارعَتْ ضربات قلب مارجريت وهي تتَّجِه إلى سفح السُّلَّم وتنظر إلى الأعلى.

«نعم، يا سيدة ويلفورد.»

«هل أحضرتِ الخطاب معك؟»

«نعم.»

تسلَّل السيد ريدر بطول الحائط حتى كاد يلمس الفتاة.

قال الصوت العميق: «جيد، هلا اتصلتِ بالطبيب وأعطيته العنوان، الدائرة الخارجية لمُتنزَّه ريجنت رقم ٧٤٣ وأخبريه أن السيد تيلفير انتكس؛ ستجدين غرفة الهاتف في الصالة، أغلقي الباب خلفك لأن الجرس يُقلِقه.»

نظرت مارجريت إلى المُحقِّق وهو أومأ لها.

رغبت المرأة في الطابق العُلوي أن تكسب وقتًا للقيام بشيءٍ ما؛ ولكن ما هو؟

تجاوزَته الفتاة، وسمع صوت الباب المُبطَّن يُغلَق، وسمع نقرةً جعلَته يستديرُ إلى الاتجاه الآخَر. أول شيءٍ لاحظَه هو عدَمُ وجود قبضةٍ في الباب، ثم لاحظ أن فتحة المفتاح مُغطَّاة بقُرصٍ معدني واكتشف فيما بعدُ أنه مُبطَّن باللباد. سمع الفتاة تتحدَّث بصوتٍ خافت ووضع أذنه على فتحة المفتاح.

«الجهاز مفصول … لا يُمكنني فتح الباب.»

لم يتردَّد لحظة، ومن ثَم صَعِد السُّلَّم والمِظلة في يده ولمَّا وصل إلى البسطة، سمع الباب يُغلَق بصوتٍ عالٍ. حدَّد مكان الصوت على الفور. الصوت آتٍ من الغرفة على اليسار فوق الصالة مباشرة. وكان الباب مقفلًا.

قال آمرًا: «افتحي هذا الباب.» وعندها وصلَتْه ضحكةُ الصوت العميق.

سحب السيد ريدر مقبض مِظلته القوي. لمع وميضُ معدِنٍ لما أسقطَ الطرَف السُّفلي وظهر في يده نَصلُ سكينٍ طوله ستُّ بوصات.

اخترقت الطعنة الأولى لوحَ الخشب الرفيع وكأنه مصنوعٌ من الورق. وفي ثوانٍ، أحدثَ فجوةً مُسنَّنة خرجَت منها فوهةٌ سوداء لمُسدَّسٍ أوتوماتيكي.

قال السيد ريدر مُتحذلقًا: «ضعي هذا الإبريقَ من يدك وإلا فجَّرتُ رأسَك وجعلت كلَّ شيء في مكان!»

الإضاءة في الغرفة ساطعة، ويستطيع أن يرى بوضوح. وقفت السيدة ويلفورد بجانب قُمع مُربَّع كبير، ويستقر طرَفُه الضيق على الأرض. كانت تُمسك في يدها إبريقًا حديديًّا كبيرًا مَطليًّا بالمينا، واصطفَّ حولها نحوُ ستِّ أباريقَ أخرى. في أحد أركان الغرفة، يُوجَد خزانٌ دائري كبير مُوصَّل فيه ماسورة نُحاسية كبيرة عند منتصف الخزَّان من حيث الطول.

كان وجه المرأة الذي التفتَ إليه خاليًا من التعبيرات والانفعالات.

قالت ببساطة: «أراد أن يهرُب معها بعد كلِّ ما فعلتُه من أجله!»

«افتحي الباب.»

وضعت السيدة ويلفورد الإبريقَ ومرَّرَت يدها الضخمة على جبهتها.

قالت: «سيدني حبيبي أنا، أنا مَن اعتنيتُ به وعلَّمته، وكان هناك مليون — كلها ذهبٌ — في السفينة. ولكنهم سرَقوه.»

كانت تتحدَّث عن إحدى مشاريع شركة تيلفير كونسوليداتيد التي فشِلت سفينة الكنز المفقودة التي أنفقَت الشركةُ أموالًا ضخمة لاستعادتها. كانت حانقةً من الغضب. خمَّن السيد ريدر نقطةَ ضعف هذه المرأة المُستبدَّة منذ البداية.

«افتحي الباب؛ سنتحدَّث في تلك المسألة. أنا مُتأكد تمامًا من أن خُطة سفينة الكنز خطةٌ مُحكَمة.»

سألت مُتحمِّسة: «هل تعتقد ذلك حقًّا؟» وبعد دقيقة فتحت الباب ودخل السيد جيه جي ريدر إلى غرفة الإعدام تلك.

«أولًا وقبل كلِّ شيء، أعطني مفتاح غرفة الهاتف؛ أنت مُخطئة تمامًا بشأن تلك الفتاة: إنها زوجتي.»

حملقت فيه المرأةُ مشدوهة.

«زوجتك؟» ارتسمَت ابتسامةٌ على وجهها ببطء، فغيَّرت ملامحها. ثم قالت: «عجبًا، كنتُ سخيفة. ها هو المفتاح.»

أقنعها أن تنزل معه، وعندما خرجت الفتاة المُرتعبة، همس إليها ببعضِ كلماتٍ وخرجَت مُسرعةً من المنزل.

سأل: «هلا ذهَبْنا إلى غرفة الاستقبال؟» وتوجَّهَت به السيدة ويلفورد إليها.

سأل برفق: «الآن، هلَّا أخبرتِني عن كيف تعلَّمت … عن الأباريق؟»

كانت تجلس على حافة الأريكة ويداها مُشبَّكتان على ركبتيها وعيناها الغائرتان تُحملقان في السجادة.

«أخبرني جون، إنه زوجي الأول. كان أستاذًا في الكيمياء والعلوم الطبيعية وكذلك يعرف عن الفرن الكهربائي. صَنْعتُه سهلة في حال توافُر الطاقة، ولا نستخدِم سوى الكهرباءِ في هذا المنزل للتسخين وكل شيء. ثم رأيتُ حبيبي البائس يُدمَّر من خلالي، وعلمتُ كم هو المبلغ في البنك، وطلبتُ من بيلينجهام أن يسحب المبلغ ويُحضره لي من دون عِلم سيدني. أتى إلى هنا في المساء. أرسلتُ سيدني بعيدًا، إلى برايتون على ما أظن. أنا فعلت كلَّ شيء، وضعت القفل الجديد على كابينة الهاتف وثبَّتُ العمود من السقف إلى الغرفة الصغيرة، لم يصعُب عليَّ بعثرةُ كل شيء؛ إذ كانت الأبواب مفتوحةً والمروحة الكهربية تدور فوق الأرض …»

كانت تُخبره عن الفرن الارتجاليِّ في الدفيئة عندما وصلت الشرطة ومعها جرَّاح القسم وذهبت معه وهي تنتحِب لأنه لن يكون هناك مَن يربط لسيدني ربطة عنقه أو يخلع له قمصانه.

اصطحب السيد ريدر المُفتش إلى الغرفة الصغيرة وأراه محتوياتِها.

استهلَّ قائلًا: «هذا القُمع يُؤدي إلى كابينة الهاتف.»

قاطعه الضابط: «ولكنَّ الأباريق فارغة.»

أشعل السيد جيه جي ريدر عودَ ثقاب وانتظر حتى اشتعل تمامًا، ثم أنزله داخلَ الإبريق. انطفأ العودُ المُشتعِل بعد نصف بوصة من الحافة.

قال: «أول أكسيد الكربون، يتم تكوينه بنقع رقائق الرخام في حمض الهيدروكلوريك — ستجد الخليط في الخزان. الغاز عديم اللون وعديم الرائحة وثقيل. ومن ثَم يُمكن سكبُه من الإبريق مثل الماء. كان بإمكانها أن تشتريَ الرخام، ولكنها خشيَت من إثارة الشكوك. قُتِل بيلينجهام بتلك الطريقة. جعلته يدخل إلى كابينة الهاتف وربما أغلقَت عليه الباب بنفسِها ثم قتلتْه بدون ألم.»

سأل الضابط المُرتعِب: «ماذا فعلَت بالجثة؟»

قال السيد ريدر: «تعالَ معي إلى الدفيئة وأرجو ألا تتوقَّع أن ترى مناظرَ مُرعبة؛ فالفرن الكهربي يمكن أن يُحلِّل الماس إلى عناصره الأصلية.»

ذهب السيد ريدر إلى منزله في تلك الليلة في حالةٍ من الاضطراب العقلي، وظلَّ يغدو ويروح لمدة ساعةٍ في مكتبه الكبير الكائن في شارع بروكلي.

ظل يُقلِّب المسألة في رأسه مرارًا وتَكرارًا؛ هل يُقدِّم اعتذاره إلى مارجريت بيلمان؛ لأنه قال إنها زوجته أم لا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤